منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Empty
مُساهمةموضوع: الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"   الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Emptyالخميس 15 ديسمبر 2016, 6:42 pm

...........


عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الخميس 15 ديسمبر 2016, 6:49 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"   الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Emptyالخميس 15 ديسمبر 2016, 6:44 pm

الفساد المالي والإداري (1)


غلول العمال



الحمد لله؛ شرع لعباده ما ينفعهم، ومنعهم مما يضرهم؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، وإحسانا إليهم؛ فله الحمد كما ينبغي له أن يحمد، وله الشكر فلا أحد أحق بالشكر منه عز وجل، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الخلق ورزقهم، وكلف الجن والإنس وهداهم، فمنهم من قبل هداه فاهتدى، ومنهم من أعرض عنه فردى ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ [الأعراف: 30] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، ووضع عنا الأغلال والآصار التي كانت على من قبلنا، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد
: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه حق التقوى، واعلموا أن الدنيا وإن طال أمل الإنسان فيها فهو مفارقها، وإن طاب عيشه فيها فهو ينساها، ولا دار إلا الدار الآخرة؛ فأعدوا لها عدتها، واسعوا لها سعيها واعملوا بعمل الفائزين فيها ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77].

أيها الناس:
إذا صلح الزمان صلحت الذمم والأخلاق، وإذا فسد الزمان فسدت الذمم والأخلاق، حتى ترفع الأمانة، وتكثر الخيانة، وتنتشر الأخلاق الرديئة من الكذب والزور والرشوة والظلم، ويعم الفساد جميع مناحي الحياة، وإنما يصلح الزمان والحال أو يفسدان بصلاح الناس أو فسادهم، ويبلغ الفساد بالناس حدا يعجز أكثرهم عن أداء الواجبات ولو كان أداؤها يسيرا، ولا ينتهون عن المحرمات بل والموبقات، ولو كان البديل حلالا؛ وما ذاك إلا لضعف النفوس، وتسلط الشياطين، وغلبة الشهوات.

ومن أكثر ما تساهل الناس فيه في هذا العصر مع أنه من كبائر الذنوب: غلول العمال، وهو أن يأخذ الإنسان من الأموال العامة ما ليس له، أو يسخر أدوات وظيفته أو نفوذه لنفع نفسه وقرابته، لا لخدمة الناس وهو ما أجلس على كرسيه إلا لأجلهم، وهذا من الظلم العظيم، الذي يجر المجتمع إلى فساد عريض، وصاحبه متوعد بالعقوبة الشديد في الكتاب والسنة.

فمن غل شيئا لا حق له فيه دون المسلمين جاء يحمله على ظهره يوم القيامة ليحاسب عليه ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 161] قال أبو هريرة رضي الله عنه: (قام فينا رسول الله صل الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا أُلْفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح أي الرقيق - فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق - أي الثياب ونحوها - فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت - أي الذهب والفضة- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك) رواه الشيخان[1].

إنه تحذير شديد أكده النبي صل الله عليه وسلم بقوله (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، أي: هي حالة شنيعة ولا ينبغي لكم أن أراكم عليها يوم القيامة[2]، ومعناه لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة[3]، ثم عدد أنواع المال وأخبر أن غالها يحمل ما غل منها على رقبته يوم القيامة، ويؤاخذ به، نسأل الله تعالى السلامة والتخفيف.

وعلى عظم قدر الجهاد في الشريعة، ورفعة منزلة المجاهدين عند الله تعالى، حتى جاء في الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال عند الله تعالى، ومع ذلك فإن من غل شيئا من المغانم فمتوعد بالعذاب في قبره، وقد أخبر النبي صل الله عليه وسلم عن عدد ممن غلوا في زمنه أنهم يعذبون في قبورهم بما غلت أيديهم.

ولو كان ما غلوه قليلا كعباءة يلبسها أحدهم، أو كساء يكتسيه، أو شملة يتزرها، أو سيرا يجعلها في نعله؛ كما روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (كان على ثَقَل النبي صلى الله عليه وسلم أي على متاعه رجل يقال له كَرْكِرَة فمات فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها)[4].

وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القُرى ومعه عبد له يقال له مِدْعَم أهداه له أحد بني الِضباب فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صل الله عليه وسلم شراك أو شراكان من نار)[5].

والشراك سير النعل على ظهر القدم، فإذا كان الغال يؤاخذ بسير النعل الذي لا يساوي شيئا فكيف بما فوقه من المال والمتاع العظيم؟! فيا ويل من استحلوا الأموال العظيمة بمجرد وصولهم إليها، وائتمانهم عليها، ويلهم،ماذا سيحملون يوم القيامة على رقابهم؟ وما جوابهم لربهم حين يسألهم؛ إذا كان سبحانه قد عذب أشخاصا في قبورهم في شملة وعباءة، وسير نعل، فما أعظم الأمر - أيها الإخوة - وقد تساهل الناس به، وما أكثر الواقعين فيه، نسأل الله تعالى الهداية والنجاة لهم ولأنفسنا ولجميع المسلمين آمين آمين.

وفي حديث آخر أكد عليه الصلاة والسلام على وجوب أداء الكثير والقليل، وعدم احتقار الشيء مهما كانت قلته ووضاعته في نفس آخذه ما دام أن لغيره فيه حقا، فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم فلما سلم قام رسول الله صل الله عليه وسلم فتناول وَبَرَة بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخُمْس والخمس مردود عليكم فأدوا الخَيْط والمَخِيْط وأكبر من ذلك وأصغر ولا تغلوا فإن الغُلُول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة) رواه أحمد[6].
 

ولما قال رجل لسلمان رضي الله عنه‏:‏ إني أخذت خيطاً من الغنيمة فخطت به ثوبي قال‏:‏كل شيء وقدره‏[7].

إن القضية ليست في شملة أو عباءة، أو سير نعل، أو خيط أو ما سواه مما يحتقر في العادة، ولكن القضية قضية دين يدين الناس به لربهم، وخلق يتخلقونه، وأمانة يؤدونها، ومن أخذ ما يحتقر أخذ ما فوقه، ومن امتدت يده إلى سير نعل امتدت إلى جام ذهب أو فضة، ومن فتن بقليل المال فاستحله من غير حله، ففتنته بكثيره أحرى وأولى.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على صاحب الغلول مع أنه ما غل إلا شيئا يسيرا لا يكاد يذكر؛ كما في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه يحدث (أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله صل الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم قال فتغيرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال:إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين) رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم[8].

ومن تربيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه، وتأديب المخالف منهم، وتعظيم أمر الغلول في نفوسهم:أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يقبل ممن غل إرجاع ما غل بعد قيام الحجة وانتفاء العذر؛ كما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه فقال: (كان رسول الله صل الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا، قال: نعم قال فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر إليه،فقال عليه الصلاة والسلام:كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك) رواه أحمد[9].

وأعظم من ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام كان مرة في مؤخرة الجيش والناس جوعى، فاجتهد بعض من كانوا في مقدمة الجيش، فذبحوا شياها من الغنائم وطبخوها للجيش، فما قبل عليه الصلاة والسلام اجتهادهم، وأنكر فعلهم أشد الإنكار؛ كما روى البخاري عن رافع بن خديج رضي الله عنه فقال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع وأصبنا إبلا وغنما وكان النبي صل الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور فأمر بالقدور فأكفئت)[10].

وفي رواية لأبي داود عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة)[11] فجعل صل الله عليه وسلم فعلهم نهبة انتهبوها من الغنيمة قبل قسمتها، وأكفأ قدورهم إنكارا عليهم، مع جوعهم وحاجتهم، وأخبرهم أن الميتة أحل من فعلهم.

ولما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم ما في الغلول من الإثم العظيم، والعقوبة الشديدة، والفضيحة في الدنيا الآخرة؛ استعفوا من الولاية، واعتذروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها؛ خوفا من أن يلحقهم شيء من الغلول، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم، وأعفاهم من وظائفهم، كان منهم سعد بن عبادة رضي الله عنه وقصته في صحيح مسلم من حديث عدي بن عميرة الكندي قال سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة قال: فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك، قال: ومالك؟ قال:سمعتك تقول كذا وكذا، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهى عنه انتهى) وفي رواية للحاكم قال عليه الصلاة والسلام: (يا سعد إياك أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، قال: لا آخذه ولا أجيء به فأعفاه)[12].

وممن استعفى من الوظيفة خوفا من الغلول أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله صل الله عليه وسلم ساعيا ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال: إذا لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذا لا أكرهك) رواه أبو داود[13].

وأعظم الغلول غلول الجار أو الشريك؛ لما فيه من خيانته وقد أمنه، روى الإمام أحمد من حديث أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال: أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا اقتطعه طوقه من سبع ارضين إلى يوم القيامة) وفي رواية: (أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع من أرض يكون بين الرجلين أو بين الشريكين للدار فيقتسمان فيسرق أحدهما من صاحبه ذراعا من أرض فيطوقه من سبع أرضين)[14].

أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه إنه سميع مجيب، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ عم فضله وإحسانه كل الورى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،العبد المجتبى، والنبي المصطفى، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أهل البر والتقى، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب النهار والدجى.

أما بعد
: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.

أيها المسلمون
: إذا انتشر الغلول بين الناس، ولم يجد أحدهم حرجا من امتداد يده إلى ما ليس له؛ لضعف ديانته، وفساد خلقه، وجشع نفسه، مع غياب المراقبة والمحاسبة والعقاب؛ فإن أخلاقا رديئة تنتشر في الناس، يأخذ بعضها برقاب بعض، وكل خلق سيء منها يدعو إلى خلق آخر أسوأ منه في سلسلة لا تنتهي من فساد الضمائر والأخلاق، والأنانية والجشع، مما يكون سببا في الظلم والبغي، وينتج عنه الضغائن والأحقاد التي تودي بالناس إلى النزاع والشقاق، ولا سيما عند اتساع الدنيا، وكثرة الموارد؛ ولذا فإن النبي صل الله عليه وسلم أمر بعفة اليد، وخطب في الناس عقب غنمهم لغنائم حنين محذرا إياهم من الافتتان بما يرون من أموال قد تكون سببا في الغلول فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه) رواه أبو داود وفي رواية للبيهقي: (ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم)[15].

وتأملو -أيها الإخوة - قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه) وقارنوه مع حال كثير من المتنفذين في الدوائر الحكومية والشركات والمؤسسات؛ إذ يستحلون ما لا يحل لهم من السيارات وغيرها ويقسمونها في أولادهم وإخوانهم، وكأنها ملك آبائهم، ويعملون بها ما لا يعملون بسياراتهم وأمتعتهم، حتى إذا ما خلقت أو تلفت أعادوها مرة أخرى، وأخذوا بدلا عنها بلا وازع يزعهم، ولا عقاب يردعهم.



ولقد كان المسك يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فيأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما ضرك إن وجدت ريحه؟ فقال رحمه الله تعالى:وهل ينتفع من هذا إلا بريحه؟![16].

إن الفساد الإداري والمالي قد ضرب أطنابه في أكثر بلاد المسلمين، وأدى بهم إلى ما ترون من التخلف والانحطاط، والفقر والحاجة، وضعف الديانة وفساد الأخلاق؛ حتى إن عفيف اليد في بعض المجتمعات المعاصرة غريب بين أقرانه، ولربما قطعت يده أو كفت عن العمل لعفتها، وغاب السؤال المشهور: من أين لك هذا؟ وحل مكانه: فلان ضيع على نفسه الفرصة بمثاليته، ولو كنت مكانه لأصبحت من أثرياء الناس، وأضحى كثير من هؤلاء الذين ضعف دينهم، ومرجت عهودهم، وفسدت ذممهم، هم سراة الناس وقدوتهم بما يملكون من مال وجاه، وكبروا أربعا على مجتمعات يكون أهل القدوة فيهم هم السراق والنهاب، وأكلة الحرام، وأهل الغلول.

وأدى هذا الفساد العظيم إلى تعطيل مصالح العباد في كثير من ديار أهل الإسلام، وظلمهم بغير وجه حق، فمن يملك الوظائف يغلها فيحبسها على بنيه وقرابته، وأهل عشيرته وقبيلته، ولو كان في الناس من هم أولى بها منهم، ومن كانت مقاعد القبول في الجامعات والكليات بيده غلها وحرم منها أكفاء أولاد المسلمين؛ ليحجزها لمن لا يستحقها، ودواليك في أكثر حاجات الناس ومصالحهم.

ألا فتقوا الله ربكم  أيها المسلمون وأدوا ما حملتم من أمانات، وإياكم والغلول فإنه عار في الدنيا والآخرة، ومن أخذ شيئا ليس له فيه حق من أموال المسلمين حمله على رقبته يوم القيامة، وحوسب به، ولا تحتقروا القليل مما ليس لكم كقلم وورقة ومكالمة هاتفية ونحوها؛ فإن العبد يحاسب على القليل والكثير، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والقليل مع القليل يصير كثيرا، ومن عود نفسه على الورع والمحاسبة أعتادت ذلك، وإن من الغبن العظيم، والخسران الكبير أن يجمع المرء مالا عظيما من طرق محرمة ثم يخلفها لوارثه، وحسابها على ظهره، فخسارة له، وخسارة لمن باع آخرته بدنياه، وأشد خسارة منه من باع آخرته بدنيا غيره، وما أكثرهم في الناس وهم لا يشعرون بخطر ما يفعلون بسبب تمكن لدنيا من قلوبهم، وغلبة الشهوات عليهم، فاحذروا - عباد الله - أن تكونوا منهم وأنتم لا تعلمون، أو تتشبهوا بهم، أو تتمنوا أفعالهم، وليكن قدوتكم في عفة اليد، وطيب المطعم، وأداء الأمانة: رسول الله صل الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم، والصالحين من المؤمنين...

وصلوا وسلموا على أفضل الرسل، وخير البشر....


[1] رواه البخاري (29.Cool ومسلم واللفظ له (1831).
[2] فتح الباري لابن حجر (6 /186).
[3] شرح النووي على مسلم (12/ 216).
[4] رواه البخاري (29.9).
[5] رواه البخاري (3993) ومسلم (115).
[6] رواه أحمد (5/ 316- 326) وحسنه ابن كثير في تفسيره (2/ 312)، وله شاهد من حديث عمرو بشعيب عن أبيه عن جده عند النسائي (6/ 262).
[7] رواه ابن أبي شيبة (6/ 422).
[8] رواه مالك (2/ 458) وأبو داود (271.) والنسائي (4/ 64) وابن ماجه (2848) وصححه ابن حبان (4853) والحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره الذهبي (2/ 138).
[9] رواه أبو داود (2712) وأحمد (2/ 213) وصححه ابن حبان (48.9) والحاكم وأقره الذهبي (2/ 138).
[10] رواه البخاري (2356).
[11] رواه أبو داود (27.5) بسند صحيح.
[12] رواه مسلم (1833) وأبو داود (3581) والرواية الثانية للحاكم (1/ 556).
[13] رواه أبو داود (2947) بسند حسن.
[14] رواه أحمد (4/ 14). والرواية الثانية له أيضا (5/ 344) وحسنه الحافظ في الفتح (5/ 1.5) والهيثمي في الزوائد (4/ 174).
[15] رواه أبو داود (27.Cool والدارمي (2488) وصححه ابن حبان (485.) وحسنه الحافظ في الفتح (6/ 256).
[16] رواه البيهقي في الزهد الكبير (919) ونحوه عند أبي نعيم في الحلية (5/ 326).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"   الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Emptyالخميس 15 ديسمبر 2016, 6:45 pm

الفساد المالي والإداري (2)


هدايا الموظفين



الحمد لله وحده ﴿ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف:40] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ الخير بيديه، والشر ليس إليه ﴿ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم:34] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغنا رسالات ربنا، ونصح لنا؛ فلا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه.. تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة:281].

أيها الناس: كلما تقادم عهد النبوة، واقترب الناس من القيامة؛ قلَّ الدين في الناس، وفسدت الأخلاق، ومرجت العهود، وضُيعت الأمانات، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: (إذا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ) رواه البخاري. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة.
 

وإذا فقدت الأمانة بين الناس ضاعت الحقوق، واضمحل العدل، وانتشر الظلم، وحينئذ يرفع الأمن، ويسود الخوف.

والشريعة الربانية قد أكدت على وجوب أداء الأمانة، وحرمت الخيانة، وسدَّت كلَّ الطرق المفضية إليها؛ حتى إنها منعت ما هو مندوب في الأصل إذا أفضى إلى محرم تفسد به الذمم، وتقتطع الحقوق، ويعطى من لا يستحق، ويمنع المستحق؛ كما حرمت الشريعة الهدية لذوي الولايات والوظائف، إذا بذلت لهم لأجل مناصبهم ووظائفهم وجعلتها رشوة، مع أن الهدية مأمور بها شرعا، ومندوب إليها، وفي الحديث: (تَهَادَوْا فإن الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ) رواه أحمد. والرشوة ملعون دافعها وآخذها والساعي بينهما؛ إذ (لَعَنَ رسولُ الله صل الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي) رواه أبو داود.
 

فما أبعد ما بين الهدية المأمور بها، والرشوة الممنوع منها، ومع ذلك كانت الهدية رشوة في المواضع التي تكون سببا لفساد الذمم، وضياع الأمانة، وإهدار الحقوق.

وأصحاب الولايات كالأمراء والوزراء والمحافظين والقضاة والمديرين ووكلائهم والموظفين تحت ولاياتهم صغروا أم كبروا، ممن يحتاج الناس إليهم؛ إنما نُصِبوا في ولاياتهم لخدمة الناس، وإدارة شؤونهم، ورعاية مصالحهم، وإقامة العدل فيهم، ورفع الظلم عنهم، ويأخذون أجورهم على أعمالهم من بيت المال.

وهكذا من يعملون في الشركات والمؤسسات وغيرها إنما يخدمون من شَغَّلَوهم فيها، ويتقاضون أجورهم منهم، فلا بدَّ أن يبذلوا النصح في أعمالهم، ويحقوا الحق، ويؤدوا الأمانة، مراقبين الله تعالى في وظائفهم.

ولما كان الناس محتاجين إلى ذوي الولايات والمناصب والوظائف في قضاء حاجاتهم؛ فإن كثيرا منهم يتوددون لهم، ويتزلفون إليهم، وربما بذلوا في سبيل ذلك الوسائط من الهدايا والأموال والولائم والخدمات وغيرها؛ لنيل حقوقهم منهم، أو للحصول على ما لا حق لهم فيه، أو لتقديمهم على غيرهم، حتى إن بعض أهل المناصب والوظائف يملكون في زمن قليل ثروات طائلة لو استغرقوا أعمارهم كلها في جمعها من أرزاقهم ما جمعوها، ولكنها هدايا الناس وصِلَاتُهم التي لولا مناصبهم ووظائفهم ما ظفروا بشيء منها.
 

وأضحى الخبيرين في هذا الباب يدلون غيرهم على مفاتيح من لهم حاجة عندهم، وكيف تقضى حاجاتهم، وما يناسب بذله لهم من أجل ذلك.

وهذه الهدايا التي تبذل لهؤلاء الموظفين لأجل وظائفهم قد منعت الشريعة منها سواء كانت مالا أم متاعا أم ولائم أم خدمات أم غيرها، ولا حق لهم فيها؛ إذ لولا وظائفهم ما بذلت لهم، فحُرِّم بذلها على الباذلين، كما حُرِّم أخذها على العاملين، ولا يحل لموظف صغيرا كان أم كبيرا أن يماطل في حقوق الناس، أو يؤخر معاملاتهم؛ لأجل أن يبذلوا له شيئا، أو يتقربوا إليه بصنيعة.

كما لا يحل له أن يقبل هدية بذلت إليه ممن له مصلحة عنده ولو لم يشارطه عليها؛ لأنها تؤثر في قلبه، فيقدمه على غيره، أو يتجاوز عن نقص أو خلل في معاملته لأجل هديته؛ وذلك من تضييع الأمانة وغش المسلمين.

والأصل في منع هدايا الموظفين وتحريمها حديثُ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال: (اسْتَعْمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا على صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى بن الْلَّتَبِيَّةِ، فلما جاء حَاسَبَهُ، قال: هذا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إن كُنْتَ صَادِقًا؟! ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قال: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي استعمل الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي الله فَيَأْتِي فيقول هذا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لي أَفَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه وَأُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ؟! والله لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ أو شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتى روي بَيَاضُ إِبْطِهِ يقول: اللهم هل بَلَّغْتُ) رواه الشيخان.
 

وروى بُرَيْدَةُ رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال: (من اسْتَعْمَلْنَاهُ على عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فما أَخَذَ بَعْدَ ذلك فَهُوَ غُلُولٌ) رواه أبو داود.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: (في هذا بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله).اهـ. معالم السنن بحاشية أبي داود3 /355.

هذا؛ وقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يتورعون عن قبول الهدايا؛ خوفاً من الشبهة، وخصوصاً إذا تقلد أحدهم عملاً من أعمال المسلمين، كما عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً لذلك قال فيه: (باب من لم يقبل الهدية لعلة) ثم ساق البخاري قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (كانت الهدية في زمن رسول الله هدية، واليوم رشوة).

وقصة ذلك ما روى عمرو بن مهاجر رحمه الله تعالى قال: (اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فقال: لو كان عندنا شيء من تفاح فإنه طيب الريح طيب الطعم، فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحا، فلما جاء به الرسول قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه! ارفعه يا غلام، وأقرئ فلانا السلام، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث نحب، قال عمرو بن مهاجر: فقلت له: يا أمير المؤمنين، ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة! فقال: ويحك! إن الهدية كانت للنبي صل الله عليه وسلم هدية وهي لنا اليوم رشوة).
 

فإن كانت الهدية لمن يحكم بين الناس كالقاضي ونحوه فالإثم أكبر، والخطر أشد؛ لما يلحقه من تهمة تغيير أحكام الله تعالى، ورفضه للعدل، وإقراره للظلم بسبب ما أهدي إليه.

قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهَدَايَا التي تُهْدَى لِلْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ هِيَ نَوْعٌ من الرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّ الْمُهْدِيَ إذَا لم يَكُنْ مُعْتَادًا لِلْإِهْدَاءِ إلَى الْقَاضِي قبل وِلايَتِهِ لا يُهْدِي إلَيْهِ إلَّا لِغَرَضٍ وهو: إمَّا التَّقَوِّي بِهِ على بَاطِلِهِ، أو التَّوَصُّلُ لِهَدِيَّتِهِ له إلَى حَقِّهِ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِقُرْبِهِ من الْحَاكِمِ وَتَعْظِيمِهِ وَنُفُوذِ كَلامِهِ وَلا غَرَضَ له بِذَلِكَ إلَّا الاسْتِطَالَةَ على خُصُومِهِ، أو الْأَمْنَ من مُطَالَبَتِهِمْ له، فَيَحْتَشِمُهُ من له حَقٌّ عليه، وَيَخَافُهُ من لا يَخَافُهُ قبل ذلك، وَهَذِهِ الْأَغْرَاضُ كُلُّهَا تؤول إلَى ما آلَتْ إلَيْهِ الرِّشْوَةُ، فَلْيَحْذَرْ الْحَاكِمُ الْمُتَحَفِّظُ لِدِينِهِ، الْمُسْتَعِدُّ لِلْوُقُوفِ بين يَدَيْ رَبِّهِ من قَبُولِ هَدَايَا من أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ تَوَلِّيهِ لِلْقَضَاءِ؛ فإن لِلْإِحْسَانِ تَأْثِيرًا في طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ على حُبِّ من أَحْسَنَ إلَيْهَا، فَرُبَّمَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى الْمُهْدِي إلَيْهِ مَيْلًا يُؤَثِّرُ الْمَيْلُ عن الْحَقِّ عِنْدَ عُرُوضِ الْمُخَاصَمَةِ بين الْمُهْدِي وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْقَاضِي لا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن الصَّوَابِ بِسَبَبِ ما قد زَرَعَهُ الْإِحْسَانُ في قَلْبِهِ وَالرِّشْوَةُ لا تَفْعَلُ زِيَادَةً على هذا).اهـ.

ألا فليتق الله تعالى كل عبد ولي ولاية صغيرة كانت أم كبيرة، وليؤد الأمانة في ولايته، وليحذر من بخس الحقوق، واستحلال الرشاوى باسم الهدايا؛ فإن العبرة بالمعاني لا بالمسميات، قال أصحاب جندب بن عبد الله رضي الله عنه له: أوصنا، فقال رضي الله عنه: (إِنَّ أَوَّلَ ما يُنْتِنُ من الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ) رواه البخاري.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....

الخطبة الثانية



الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه عباد الله واعلموا أن كل جسد نبت من سحت في النار أولى به ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:188].

أيها المسلمون: إذا أُهدي للموظف هديةٌ لأجل وظيفته فيجب عليه ردها وعدم قبولها، كما يجب عليه أن ينكر على باذلها، ويبين له أنها رشوة لا يحل بذلها ولا أخذها. فإن لم يستطع الإنكار عليه؛ لقوته ونفوذه وقد يضره فلا يقبلها ولا يحابيه من أجلها، بل يحق الحق ويبطل الباطل، فإن لم يقدر على ذلك استعفى من البت في معاملته لتحال على غيره، وذلك أقل ما يجب عليه لاجتناب الوقوع في الإثم.

فإن قبل الموظفُ هدية أهديت إليه لأجل وظيفته؛ جهلا بالحكم، أو تهاونا بالتحريم؛ فلا يستحلها، ولا يتصرف فيها بل يردها إلى بيت المال؛ لأنها ليست ملكا له دون سائر المسلمين، ويتوب إلى الله تعالى من قبول ما أُهدي إليه لأجل منصبه أو وظيفته؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ على عَمَلٍ فليجيء بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ) رواه مسلم.

وروى مَالِكٌ في الموطأ عن زَيْدِ بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خَرَجَ عبدُ الله وَعُبَيْدُ الله ابْنَا عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ في جَيْشٍ إلى الْعِرَاقِ فلما قَفَلاَ مَرَّا على أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وهو أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قال: لو أقدر لَكُمَا على أَمْرٍ أنفعكما بِهِ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ قال: بَلَى، هَا هُنَا مَالٌ من مَالِ الله أُرِيدُ أن أبعث بِهِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا من مَتَاعِ الْعِرَاقِ ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا، فَقَالاَ: وَدِدْنَا ذلك، فَفَعَلَ وَكَتَبَ إلى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أن يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ، فلما قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فلما دَفَعَا ذلك إلى عُمَرَ قال: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ ما أسلفكما؟ قَالاَ: لاَ، فقال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا، أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ، فَأَمَّا عبدُ الله فَسَكَتَ وأما عُبَيْدُ الله فقال: ما ينبغي لك يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذا، لو نَقَصَ هذا الْمَالُ أو هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ، فقال عُمَرُ: أَدِّيَاهُ، فَسَكَتَ عبدُ الله وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ الله، فقال رَجُلٌ من جُلَسَاءِ عُمَرَ: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو جَعَلْتَهُ قِرَاضًا، فقال عُمَرُ: قد جَعَلْتُهُ قِرَاضًا، فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عبدُ الله وَعُبَيْدُ الله ابْنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ).

أيها الإخوة: لقد استهان كثير من الناس بهذا الباب الخطير، وهو سبب فساد الذمم، وشراء الضمائر، والمماطلة في الحق، والتقاعس عن أداء الواجب إلا برشوة أو هدية يبذلها صاحب الحق.

وتالله إن ذلك لمن أهم أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم؛ إذ لما عمت هذه الأخلاق الرديئة كثيرا من بلدان المسلمين توقف نماؤها، واستشرى فسادها، وخربت إداراتها، وتعطلت مصالحها، وصار المرء يعمل لنفسه لا لبلده وأمته، ويسعى في ملئ خزائنه بالمال، ولو كان في ذلك انتهاك الشريعة ومخالفة النظام، ولو كان فيه خراب الديار والعمران، وعمَّ ذلك مجتمعات المسلمين أو يكاد، ولم يسلم منه قادر عليه صغيرا كان أم كبيرا، إلا من سلمه الله تعالى، وقليل ما هم.

وبسبب ذلك ساد في كثير من الديار السفلة والأراذل الذين يفسدون ولا يصلحون، سادوا بما جمعوا من أموال محرمة جلبت لهم جاها لا يستحقونه، فخربت البلدان بسببهم، وانزوى الأمناءُ المصلحون الناصحون، وخمل ذكرهم؛ لأن البيئات المتلوثة بالرشوة والغش والسحت وأكل الحرام وممارسته وتسويغه لا مكان فيها للأمناء والمصلحين الناصحين.

وما تقدمت بلاد الغرب على بلاد المسلمين بذكاء في عقول أبنائها، ولا بفساد أخلاقها وأعراضها، وتحرر نسائها؛ كما يقول أهل الغش والتدليس والتغريب من دعاة الفساد والإفساد، ولكنها تقدمت بأنظمة صارمة تجاه الغش والرشوة وجميع أنواع الفساد الإداري والمالي، لا محاباة فيها لأحد، ويؤاخذ بها الكبير والصغير على حدٍ سواء.

ولا سبيل لنجاة الفرد من عذاب الله تعالى إلا بمراقبته في السر والعلن، والخوف منه، قبل الخوف من الجهات الرقابية، ولا سبيل لنهضة الأمة وتقدمها، وانتشالها من الجهل والتخلف إلا بإقامة العدل، ورفع الظلم، واستعمال الأمين، وإقصاء الخائن، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء، ومحاسبة المقصر، وعدم محاباة أحد في ذلك، كبيرا كان أم صغيرا، وإلا كان المزيد من التخلف والانحطاط والذل والتبعية، ولن يكون حالنا إلا كحال بني إسرائيل من قبل: إذا سرق فيهم الشريف قطعوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

ألا فاتقوا الله ربكم أيها المسلمون وراقبوه في وظائفكم ومكاتبكم؛ فإنه مطلع على سركم وعلانيتكم، ومحاسبكم على أعمالكم ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقَّة:18].

فأعدوا لما ستسألون عنه جوابا، وإنكم لمسئولون عن أموالكم من أين اكتسبتموها، وأين أنفقتموها، ولا تنظروا إلى من تخوضوا في المال الحرام كم جمعوا؛ فإنهم زائلون عن جمعهم، وأموالهم تثقل ظهورهم، ومن اغتصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين فاحذروا ثم احذروا.

وصلوا وسلموا على نبيكم....

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"   الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Emptyالخميس 15 ديسمبر 2016, 6:47 pm

الفساد المالي والإداري (3)


[size=36]هدايا الموظفين[/size]

الحمد لله وحده، {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الخير بيديه، والشر ليس إليه؛ {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغنا رسالات ربنا، ونصح لنا، فلا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صل الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أيها الناس:
كلما تقادم عهد النبوة واقترب الناس من القيامة، قلَّ الدين في الناس، وفسدت الأخلاق، ونُقِضت العهود، وضُيِّعت الأمانات، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه؛ روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: ((إذا ضُيِّعتْ الأمانة فانتظر الساعة))؛ رواه البخاري، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة.

وإذا فُقِدت الأمانة بين الناس ضاعت الحقوق، واضمحلَّ العدل، وانتشر الظلم، وحينئذ يرفع الأمن، ويسود الخوف.

والشريعة الربانية قد أكَّدت على وجوب أداء الأمانة، وحرمت الخيانة، وسدَّت كلَّ الطرق المفضية إليها؛ حتى إنها منعت ما هو مندوب إليه في الأصل إذا أفضى إلى محرم تفسد به الذمم، وتقتطع الحقوق، ويعطى مَن لا يستحق، ويمنع المستحق.

كما حرمت الشريعة الهدية لذوي الولايات والوظائف، إذا بذلت لهم لأجل مناصبهم ووظائفهم وجعلتها رشوة، مع أن الهدية مأمور بها شرعًا، ومندوب إليها، ويُروى في الحديث: ((تهادَوا فإن الهدية تُذهِب وَغَر الصدر))؛ رواه أحمد.

والرشوة ملعون دافِعها وآخذها والساعي بينهما؛ إذ لعن رسولُ الله - صل الله عليه وسلم - الرَّاشي والمرتشي؛ رواه أبو داود.

فما أبعد ما بين الهدية المأمور بها والرشوة الممنوع منها، ومع ذلك كانت الهدية رشوة في المواضع التي تكون سببًا لفساد الذمم، وضياع الأمانة، وإهدار الحقوق.

وأصحاب الولايات؛ كالأمراء والوزراء والمحافظين، والقضاة والمديرين ووكلائهم، والموظفين تحت ولاياتهم، صغروا أم كبروا، ممن يحتاج الناس إليهم - إنما نُصِبوا في ولاياتهم لخدمة الناس، وإدارة شؤونهم، ورعاية مصالحهم، وإقامة العدل فيهم، ورفع الظلم عنهم، ويأخذون أجورهم على أعمالهم من بيت المال.

وهكذا مَن يعملون في الشركات والمؤسسات وغيرها إنما يخدمون مَن وظَّفوهم فيها، ويتقاضون أجورهم منهم، فلا بُدَّ أن يبذلوا النصح في أعمالهم، ويحقوا الحق، ويؤدوا الأمانة مراقبين الله - تعالى - في وظائفهم.

ولما كان الناس محتاجين إلى ذوي الولايات والمناصب والوظائف في قضاء حاجاتهم، فإن كثيرًا منهم يتودَّدون لهم، ويتزلَّفون إليهم، وربما بذلوا في سبيل ذلك الوسائط والصنائع من الهدايا والأموال والولائم والخدمات وغيرها؛ لنيل حقوقهم منهم، أو للحصول على ما لا حق لهم فيه، أو لتقديمهم على غيرهم، حتى إن بعض أهل المناصب والوظائف يملكون في زمن قليل ثروات طائلة، لو استغرقوا أعمارهم كلها في جمعها من أرزاقهم ما جمعوها، ولكنها هدايا الناس وصِلاتُهم التي لولا مناصبُهم ووظائفهم ما ظفروا بشيء منها.

وأضحى الخبيرون في هذا الباب يدلون غيرهم على مفاتيح مَن لهم حاجة عندهم من ذوي المناصب والوظائف، وكيف تُقْضَى حاجاتهم، وما يناسب بذله لهم من أجل ذلك.

وهذه الهدايا التي تُبْذَل لهؤلاء الموظفين لأجل وظائفهم قد منعت الشريعة منها، سواء كانت مالاً أم متاعًا، أم ولائم أم خدمات أم غيرها، ولا حق لهم فيها؛ إذ لولا وظائفهم ما بذلت لهم، ولو قعدوا في بيوتهم لما وصلت إليهم، فحُرِّم بذلها على الباذلين، كما حُرِّم أخذها على العاملين، ولا يحل لموظف صغيرًا كان أم كبيرًا أن يماطل في حقوق الناس، أو يؤخر معاملاتهم؛ لأجل أن يبذلوا له شيئًا، أو يتقربوا إليه بصنيعة.

كما لا يحل له أن يقبل هدية بذلت إليه ممن له مصلحة عنده، ولو لم يشارطه عليها؛ لأنها - ولا بُدَّ - تؤثر في قلبه، فيميل إلى صاحبها، ويقدمه على غيره، أو يتجاوز عن نقص أو خلل في معاملته لأجل هديته، وربما لا يشعر بما فعل؛ وذلك من تضييع الأمانة وغش المسلمين.

والأصل في منع هدايا الموظفين وتحريمها حديثُ أبي حُمَيد الساعدي - رضي الله عنه - قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً على صدقات بني سليم يدعى بن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: ((فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا!))، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تيعر))، ثم رفع يده حتى رُئِي بياض إبطه يقول: ((اللهم هل بلغت))؛ رواه الشيخان.

ويروى في الحديث الآخر: ((هدايا العمال غلول))؛ رواه أحمد.

وروى بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: ((مَن استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك، فهو غلول))؛ رواه أبو داود.

قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: "في هذا بيان أن هدايا العمال سُحْتٌ، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله". اهـ.

هذا؛ وقد كان سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى - يتورَّعون عن قبول الهدايا؛ خوفًا من الشبهة، وخصوصًا إذا تقلَّد أحدهم عملاً من أعمال المسلمين؛ كما عقد البخاري - رحمه الله تعالى - في "صحيحه" بابًا لذلك قال فيه: (باب مَن لم يقبل الهدية لعلة) ثم ساق البخاري قول عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى -: كانت الهدية في زمن رسول الله هدية، واليوم رشوة.

وقصة ذلك ما روى عمرو بن مهاجر - رحمه الله تعالى - قال: اشتهى عمر بن عبدالعزيز تفاحًا فقال: لو كان عندنا شيء من تفاح فإنه طيب الريح طيب الطعم، فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحًا، فلما جاء به الرسول قال عمر: ما أطيبَ ريحَه وأحسنه! ارفعه يا غلام، وأقرئ فلانًا السلام، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث نحب، قال عمرو بن مهاجر: فقلت له: يا أمير المؤمنين، ابن عمك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فقال: ويحك، إن الهدية كانت للنبي - صل الله عليه وسلم - هدية، وهي لنا اليوم رشوة.

فإن كانت الهدية تبذل لِمَن يحكم بين الناس كالقاضي ونحوه، فالإثم أكبر، والخطر أشد؛ لما يلحقه من تهمة تغيير أحكام الله - تعالى - ورفضه للعدل، وإقراره للظلم بسبب ما أهدي إليه.

قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: والظاهر أن الهدايا التي تُهْدَى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة؛ لأن المهدي إذا لم يكن معتادًا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض؛ وهو: إما التقوِّي به على باطله، أو التوصُّل لهديته له إلى حقه، والكل حرام، وأقل الأحوال أن يكون طالبًا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه، ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه، أو الأمن من مطالبتهم له، فيحتشمه مَن له حق عليه، ويخافه مَن لا يخافه قبل ذلك، وهذه الأغراض كلها تؤول إلى ما آلت إليه الرشوة، فليحذر الحاكم المتحفِّظ لدينه، المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا مَن أهدى إليه بعد توليه للقضاء؛ فإن للإحسان تأثيرًا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب مَن أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلاً يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك ويظن أنه لم يخرج عن الصواب؛ بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه والرشوة لا تفعل زيادةً على هذا".اهـ.

ألا فليتقِ الله - تعالى - كل عبد ولي ولاية صغيرة كانت أم كبيرة، وليؤدِّ الأمانة في ولايته، وليحذر من بخس الحقوق، واستحلال الرشاوى باسم الهدايا؛ فإن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، قال أصحاب جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - له: أوصنا، فقال - رضي الله عنه -: إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمَن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل؛ رواه البخاري.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.


[size=36]الخطبة الثانية 
[/size]

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا أمن إلا للمؤمنين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صل الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعلموا أن كل جسد نبت من سُحْت فالنار أَوْلَى به؛ {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

أيها المسلمون:
إذا أهدي للموظف هدية لأجل وظيفته، فيجب عليه ردُّها وعدم قبولها، كما يجب عليه أن ينكر على باذلها، ويبين له أنها رشوة لا يحل بذلها ولا أخذها، فإن لم يستطع الإنكار عليه لقوته ونفوذه، وقد يضره، فعليه أن لا يقبلها ولا يحابيه من أجلها؛ بل يحق الحق ويبطل الباطل، فإن لم يقدر على ذلك استعفى من البتِّ في معاملته لتحال على غيره، وذلك أقل ما يجب عليه لاجتناب الوقوع في الإثم.

فإن قبل الموظف هدية أُهْدِيت إليه لأجل وظيفته؛ جهلاً بالحكم أو تهاونًا بالتحريم - فلا يستحلها، ولا يتصرف فيها، بل يردها إلى بيت المال؛ لأنها ليست ملكًا له دون سائر المسلمين، ويتوب إلى الله - تعالى - من قبول ما أهدي إليه لأجل منصبه أو وظيفته؛ لعموم قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره))؛ رواه مسلم.

وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبدالله وعبيدالله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلاَ مرَّا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة، فرحَّب بهما وسهَّل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمرٍ أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما، فقالاَ: وددنا ذلك، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدِمَا باعَا فأربحَا، فلما دفعَا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالاَ: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أَدِّيَا المال وربحَه، فأما عبدالله فسكت، وأما عبيدالله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمنَّاه، فقال عمر: أَدِّيَاه، فسكت عبدالله وراجعه عبيدالله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضًا، فقال عمر: قد جعلته قراضًا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبدالله وعبيدالله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال؛ رواه مالك في "الموطأ".

أيها الإخوة:
لقد استهان كثير من الناس بهذا الباب الخطير، وهو سبب فساد الذمم، وشراء الضمائر، والمماطلة في الحقوق، والتقاعس عن أداء الواجبات، إلا برشوة أو هدية أو خدمة يبذلها صاحب الحق.

وتالله إن ذلك لمن الظلم العظيم، وهو من أهم أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم؛ إذ لما عمت هذه الأخلاق الرديئة كثيرًا من بلدان المسلمين توقف نماؤها، واستشرى فسادها، وخربت إداراتها، وتعطلت مصالح أبنائها، وصار المرء يعمل لنفسه لا لبلده وأمته، ويسعى في ملء خزائنه بالمال، ولو كان في ذلك انتهاك الشريعة، ومخالفة الأنظمة، ولو كان فيه خراب الديار والعمران، وفساد الذمم والأخلاق، وعمَّ ذلك مجتمعات المسلمين أو يكاد، ولم يسلم منه قادر عليه، صغيرًا كان أم كبيرًا، إلا مَن سلمه الله - تعالى - وقليل ما هم.

وبسبب ذلك ساد في كثير من ديار المسلمين وبلدانهم السفَلة والأراذل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، سادوا بما جمعوا من أموال محرمة جلبت لهم جاهًا لا يستحقونه، فخربت البلدان بسببهم، واستشرى الفساد، وانزوى الأمناء المصلحون الناصحون وخمل ذكرهم؛ لأن البيئات المتلوثة بالرشوة والغش والسُّحْت وأكل الحرام وممارسته وتسويغه - لا مكان فيها للأمناء والمصلحين الناصحين.

وما تقدمت بلاد الغرب على بلاد المسلمين بذكاء في عقول أبنائها، ولا بفساد أخلاقها وأعراضها، ولا بتحرر نسائها كما يقول أهل الغش والتدليس والتغريب من دعاة الفساد والإفساد، ولكنها تقدمت بأنظمة صارمة تجاه الغش والرشوة وجميع أنواع الفساد الإداري والمالي، لا محاباة فيها لأحد، ويؤاخذ بها الكبير والصغير على حد سواء.

ولا سبيل لنجاة الفرد من عذاب الله - تعالى - إلا بمراقبته في السر والعلَن، والخوف منه، قبل الخوف من الجهات الرقابية، ولا سبيل لنهضة الأمة وتقدمها، وانتشالها من الجهل والتخلف والانحطاط إلا بإقامة العدل، ورفع الظلم، واستعمال الأمين، وإقصاء الخائن، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء، ومحاسبة المقصر، وعدم محاباة أحد في ذلك، كبيرًا كان أم صغيرًا، وإلا كان المزيد من التخلف والانحطاط والذل والتبعية، ولن يكون حال المسلمين إلا كحال بني إسرائيل من قبل: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

ألا فاتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - وراقِبوه في وظائفكم ومكاتبكم؛ فإنه مطَّلع على سرِّكم وعلانيتكم، ومحاسبكم على أعمالكم؛ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].

فأعدُّوا لما ستُسْأَلون عنه جوابًا، وإنكم لمسؤولون عن أموالكم من أين اكتسبتموها، وأين أنفقتموها، ولا تنظروا إلى مَن تخوَّضوا في المال الحرام كم جمعوا؛ فإنهم زائلون عن جمعهم، وأموالهم تثقل يوم القيامة ظهورهم، ومَن اغتصب شبرًا من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرَضين، فاحذروا ثم احذروا.

وصلوا وسلموا على نبيكم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"   الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Emptyالخميس 15 ديسمبر 2016, 6:48 pm

الفساد المالي والإداري (4)


ضياع الأمانة وبيع الذمة


الحمد لله العليم الحكيم، يبتلي عباده بالسرَّاء والضرَّاء؛ ليظهر الشكور من الكفور، والصبور من الجزوع؛ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، نحمده على ما منحنا وما منعنا، ونحمده على ما ابتلانا وما وقانا، فهو المحمود في كل الأحوال، فالخير بيديه، والشر ليس إليه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظيم في ربوبيته وألوهيته، حكيم في أفعاله وأقداره، لا يقضي قضاءً للمؤمنين إلا كان خيرًا لهم، ولا يعذب عباده إلا بما كسبت أيديهم؛ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30].

وأشهد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، والناصح لعباده، لا خير إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرَّ إلا حذَّرها منه، تركنا على بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا بالحق قائمين، وللقسط مقيمين، وللظلم دافعين، الأنصار منهم والمهاجرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعرفوا حقه عليكم؛ فإنه - سبحانه وتعالى - خلقكم ورزقكم وهداكم وعلمكم؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

أيها الناس:
حين تضعف الديانة تضمحلُّ الأمانة، وتظهر الخيانة، وتُباع الذِّمَم، وتسترخص أرواح الناس، وتُستباح حقوقهم، وينتج عن ذلك فساد الأحوال، وتأخُّر العمران، وتقهقر الحضارة؛ إذ يسود أهل الجهل والغش، ويؤخَّر أولو العلم والنصح، وذلك من أمارات الساعة.

وإذا كانت الخيانة وعدم أداء الأمانة تضرُّ ضررًا بالغًا بالحقوق الخاصة، فكيف إذا كان انعدام الأمانة والتلطُّخ بالخيانة يصل إلى الأمور العامة التي يتأثر بها الجمع الكثير من الناس؟!

إن الأمانة لا توجد إلا حيث يوجد العدل، وإذا ساد الظلم ولدت معه الخيانة، وبالعدل والأمانة تزدهر الحضارة، وتتقدم الدول والأمم، ويعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، وفي القرآن نجد الأمر بالأمانة، والنهي عن الخيانة، والتشديد في ذلك، كما نجد اقتران الأمر بالأمانة مع الأمر بالعدل؛ لأنهما صنوان، كما أن الخيانة والظلم أخوان: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ} [النساء: 58]، فأمر - سبحانه - بالعدل والأمانة.

وامتدح - عز وجل - أداء الأمانة، وجعله من أوصاف المؤمنين، ومن أوصاف المصلين؛ {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

ونهى - سبحانه - المؤمنين عن الخيانة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، وفي القرآن أيضًا: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، وفيه أيضًا: {وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ} [يوسف: 52]، وتعوَّذ النبي - صل الله عليه وسلم - من الخيانة فقال: ((وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة))؛ رواه أبو داود.

وجاء في الحديث نفي الإيمان عن الخائن؛ لأن الإيمان يدعو صاحبه للأمانة، وينهاه عن الخيانة؛ قال أَنَسٌ - رضي الله عنه -: "ما خَطَبَنَا نبي الله - صل الله عليه وسلم - إِلاَّ قال: ((لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ له...))"؛ رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

ولعظيم أمر الأمانة في صلاح الأمة واستقامة أحوالها وازدهار عمرانها؛ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسِّخ الأمانة في قلوب أصحابه بذكر قصص الأمناء من الأمم السالفة؛ كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: ((اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك منِّي؛ إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا))؛ رواه الشيخان.

وفي حديث آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صل الله عليه وسلم -: "أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركبًا فأخذ خشبةً فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا"؛ رواه البخاري.

إن ذكر هاتين القصتين العظيمتين من أخبار السابقين في أداء الأمانة هو لأجل أن يقتفي سامعهما وقارئهما أثر الأمناء، ويتأسوا بهم، فيتخلَّقوا بالأمانة في أمورهم كلها.

وفي صدر هذه الأمة نماذج مضيئة لمتانة الديانة، وأداء الأمانة، والبعد عن الخيانة، وفي خَلَفها ثُلَّة منهم؛ فالخير لا يزال في أمة محمد - صل الله عليه وسلم - تولوا ولايات كانت الأموال العظيمة تحت تصرفهم، وفي متناوَل أيديهم، فما أخذوا شيئًا ليس لهم، ولا بخسوا الناس حقًّا هو لهم، وجيء بكنوز كسرى لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فعجب عمر والمسلمون من كثرتها وتنوعها، وبُهروا بها، فقال عمر - رضي الله عنه -: "إن قومًا أدوا هذا لأمناء، فقال له علي - رضي الله عنه -: إنك عفَفْتَ فعفَّت رعيتُك، ولو رتعتَ لرتعتْ".

وولي عياض بن غَنْمٍ - رضي الله عنه - ولاية في الشام لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما تولى قَدِم عليه نفرٌ من أهل بيته يطلبون صلته ومعروفه، فلقيهم بالبِشر فأنزلهم وأكرمهم، فأقاموا أيامًا ثم سألوه في الصلة، وأخبروه بما تكلَّفوا من السفر إليه رجاء معروفه، فأعطى كلَّ رجل منهم عشرة دنانير - وكانوا خمسة - فردوها وتسخَّطوا ونالوا منه، فقال: "أي بني عم، والله ما أُنكر قرابتكم ولا حقَّكم ولا بُعد شُقَّتكم، ولكن والله ما خلصت إلى ما وصلتكم به إلا ببيع خادمي وبيع ما لا غنًى لي عنه فاعذروني، قالوا: الله، ما عذرك الله، إنك والي نصف الشام وتعطي الرجل منَّا ما جُهده أن يبلغه إلى أهله، فقال: فتأمروني أن أسرق مال الله، فوالله لأن أُشَقَّ بالمنشار أو وأُبرى كما يُبرى السَّفَن أحب إليَّ من أن أخون فلسًا أو أتعدى وأحمل على مسلم ظلمًا أو على معاهد..."؛ رواه ابن الجوزي وابن عساكر.

قارنوا - رحمكم الله تعالى - هذا حال هذا الأمين - رضي الله عنه - بواقع المسلمين اليوم حين نظروا للولاية نظر تشريف، ولم ينظروا إليها نظر تكليف؛ فبذل كثير منهم في سبيلها دينهم ومروءتهم، ودفقوا من أجلها حياءهم وأراقوا لها ماء وجوههم، ثم لما حصلوها حازوا الولاية أو الوزارة أو الإدارة لأنفسهم وأولادهم وقرابتهم، وحرموا مستحقيها منها؛ فوظائفها وميزاتها وأموالها وسياراتها حكر عليهم وعلى قرابتهم وعلى مَن يتملَّقون لهم، وعقود المناقصات فيها ترسى على شركات زوجاتهم وشركائهم حتى لا يُكشف أمرهم، والمسابقات فيها صورية، والإخلال بمواصفات العقود متحقق؛ لأن المستلم للمشروع هو المنفذ له والمنتفع به، حتى تقع كارثة من الكوارث بعد زمن فتضيع دماء ضحاياها بين دوائر شتَّى قد نخر الفساد الإداري والمالي فيها، وكل طرف منها يلقي باللوم على غيره، ومع تعاقب الفساد بتعاقب الأجيال، فلا أيسر من رمْي اللوم على الأموات للتخلص من تبعات الكوارث.

ولكن إن ضاع حق في الدنيا فلن يضيع عند الله - تعالى - وستجتمع الخصوم يوم القيامة على حكمه - سبحانه - وهو الحكم العدل، فليتقِ الله - تعالى - كل مَن ابتُلِي بولاية صغرت أم كبرت، وليؤدِّ الأمانة فيها، وليقم بحقوق الناس؛ فإنه إن غشَّهم حرمت عليه الجنة؛ كما في الحديث، وإن حقوقهم مبنية على المشاحة، كما أن حقوق الله - تعالى - مبنية على المسامحة، ولن يضيع حق عند الله - عز وجل.

وأقول قولي هذا......

الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، والزموا الأمانة فإنها عنوان الديانة، ودليل الإيمان، وهي سبيل إصلاح أحوال الأفراد والمجتمعات.

وقد أخبر النبي - صل الله عليه وسلم - عن ذهاب الأمانة في آخر الزمان في حديث حذيفة - رضي الله عنه - وجاء فيه: ((فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا))؛ رواه الشيخان.

وسأله - عليه الصلاة والسلام - رجل عن وقت الساعة فأجابه قائلاً: ((فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))؛ رواه البخاري، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة".

وحقيقٌ بهذا الزمن أن يكون زمن تضييع الأمانة، وقلة المراقبة، وضعف المحاسبة، وهذا هو السبب الأعظم في تخلف بلاد المسلمين وتقهقرها، حين فشا الظلم، وضُيِّعت الأمانة، وانتشرت بسبب ذلك الأخلاق الرديئة؛ من الرشوة والغش، والتدليس والتزوير، والكذب والمطل، في قائمة طويلة سببت أمراضًا اجتماعية وحضارية في أمة الإسلام أعاقت نهوضها، ومكَّنت للصوص من نهبها.

كما أن السبب الأكبر لتقدم الغرب الكتابي والشرق الوثني هو فرض العدل، وأداء الأمانة، وشدة المحاسبة على الإخلال بها؛ حتى صارت طبعًا لأهلها يتخلقونه وإن لم يحتسبوا الأجر الأخروي فيه.

وفي العالم المتخلِّف الذي ضُيِّعت فيه الأمانات ينتج عن الحوادث الكونية الاعتيادية كوارث ضخمة تخلِّف وراءها قتلى ومصابين، وتُهدَر بسببها أموال عظيمة يتأثر بها الضعَفة والمساكين، وإلا مَن كان يظن أن أمطارًا اعتيادية تُغرِق أحياء كاملة، وتُهلك بشرًا كثيرًا، وتتلف مالاً عظيمًا، لولا الجشع والطمع والفساد من أصحاب البطون الممتلئة بالحرام، حيث لم يراعوا الأمانة وخانوا الأمة، وأسكنوا الناس في مجاري المياه وبطون الأودية، ولم يجعلوا للمياه مصرفًا.

إن ما وقع في جدة ليس ريحًا عاتية، ولا إعصارًا مدمرًا، ولا فيضانًا مغرقًا، ولا مدًّا بحريًّا لا يرده شيء، ولكنه غيث مبارك امتدَّ ساعات ففضح أهل الإهمال والخيانة، الذين نهبوا الأموال الطائلة باسم المشروعات الضرورية، ولم يقيموها.

وفي بعض الدول الإسلامية المتخلفة التي استشرى الفساد فيها سقطت بنايات على رؤوس أصحابها من سوء البناء والغش في المقاولات، فأُبِيدت أُسَر كاملة تحت الأنقاض.

وفي بلاد أخرى تهتزُّ الأرض هزة يسيرة فتهلك بشرًا كثيرًا بسبب سوء التخطيط والبناء.

وفي بلاد كثيرة يُغري الغشاشون الرأسماليون الناس بمساهمات معينة، حتى إذا بلغت أَوْج ارتفاعها انسحبوا منها فسقطت إلى القاع، وخلَّفت وراءها جموعًا من الفقراء والمعدمين وأصحاب الديون والعاهات، وقائمة أعمال أكَلة الحرام وقتَلة الناس تطول، ألا وإن من أعظم أسباب تفشِّي هذا الفساد المالي والإداري في بلاد المسلمين قلةَ الاحتساب على أصحابه بالنصيحة والتذكير والمحاسبة، حتى أَمِنوا العقوبة، فملؤوا أرصدتهم بالأموال على حساب حياة الناس وضروريات عيشهم، ولإيقاف هذا الفساد الذي خلَّف هذه الكوارث؛ فلا بُدَّ من الاحتساب في هذا الشأن العظيم كما يُحتسب في سائر المنكرات الأخرى، وليس ما يقع على الناس من ضرر في ضروريات حياتهم بأقل مما يقع عليهم من ضرر في أخلاقهم وأفكارهم؛ لأن العبد لا يتأتى له القيام بالعبودية الحقة لله - تعالى - إلا عند تحصيله لضروريات العيش الكريم، وإلا كانت الأخلاق الرذيلة، والمصائب العظيمة.

وعلى مَن أصيبوا في هذه الفاجعة الأليمة بموت حبيب أو تلَف دار أو مال أن يسلِّموا أمرهم لله - تعالى - وأن يرضوا بقدره؛ حتى لا يذهب أجرهم مع ذهاب أحبتهم وأموالهم، وعلى المسلمين مواساتهم والوقوف معهم في مصابهم؛ فان المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، و((مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى)).

وصلوا وسلموا على نبيكم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"   الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار" Emptyالخميس 15 ديسمبر 2016, 6:49 pm

الفساد المالي والإداري (5)


رباعية الفساد


 

الحمد لله العليم الحكيم؛ أمر بالعدل والصلاح، وأثنى على المقسطين المصلحين، ونهى عن الظلم والفساد، وذم الظالمين والمفسدين، ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170] ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وعطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالفقر والغنى وبالمال والشرف؛ ليميز الأمين من الخائن، والغشاش من الناصح، وقويَ النفس من ضعيفها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ حذر أمته من استحلال الأموال والحقوق، والغش في المعاملات، وبين أن ذلك يستوجب النار؛ نصحا لأمته، وخوفا عليها، ورحمة بها، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
 

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في الأموال والأعمال، وفي كل الشئون والأحوال؛ فإنكم محاسبون على خير أعمالكم وشرها بمثاقيل الذر، فلا يحقرن عبد قليل خير فلعل نجاته به، وقد دخلت الجنة امرأة وأعتقت من النار بتمرة واحدة شقتها بين ابنتيها، ولا يحقرن عبد قليل الشر؛ فإن محقرات الذنوب إذا أخذ بها صاحبها أهلكته ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
 

أيها الناس: يشيب ابن آدم وقلبه شاب على طول الأمل وحب المال، فليس إدباره عن الدنيا مزهدا له فيها، وليس إقباله على الآخرة مرغبا له فيها، إلا من جعل الله تعالى غناه في قلبه، وهم في الناس قليل.
 

ولأجل ما فطر الناس عليه من حب الدنيا، والرغبة في المال، والتعلق بالشرف، تضعف ديانة كثير منهم في هذه المواطن، وتضمحل أمانتهم، وتشره نفوسهم، ويعظم حرصهم، فلا يشبعهم شيء، فيتخوضون في مال الله تعالى بغير حق، ويستحلون حقوق غيرهم، ويلجون أبواب الفساد، ويأتون أنواع الحيل؛ لتنمية أموالهم، والإبقاء على مكانتهم.
 

ورباعية الفساد المالي والإداري في الدول والأمم هي: الرشوة والاختلاس والتزوير والخيانة، وبينها روابط في الإثم، من قارف واحدة منها تلطخ بجميعها؛ ذلك أن الإثم يجر بعضه إلى بعض، والفساد ينتشر في القلوب التي تتلطخ بشيء منه.
 

فأما الرشوة: فإن الراشي يدفع الرشوة للمرتشي ليمنحه ما ليس من حقه؛ فإن مُنح مالا كان نوعا من الاختلاس مكنته الرشوة منه. وإن مُنح بالرشوة وظيفة لا تنطبق عليه، أو مكانة ليست له، أو شهادة لا يستحقها، أو مناقصة لا يفي بشروطها، فهذه كلها خيانة؛ لأن الشخص أعطي ما ليس له، أو وضع في مكان لا يليق به، وهذا أشد جرما وإثما، وأعظم ضررا وخطرا على الناس؛ لأنه من إيساد الأمر إلى غير أهله، فيمتد ضرره على كل من تعامل معه.
 

وقد لا يستطيع بالرشوة وحدها أن يصل إلى مراده لوجود شروط أخرى ليست في الراشي، وعقبات لا بد من تجاوزها، فيلجأ الراشي والمرتشي إلى التزوير؛ لإكمال الشروط، وتجاوز العقبات.
 

وفي الرشوة لعن؛ فقد «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ» وهي من كبائر الذنوب، وما نتج عنها من مال أو هدايا أو نحوها فهو سحت يأكله صاحبه، وقد جاء في الحديث «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ»رواه أحمد وصححه ابن حبان.
 

وأما الاختلاس فلا يكون إلا من شخص تولى ولاية يكون المال تحته، فيختلس منه ما يقدر عليه، وقد يطالب بميزانيات لا تحتاجها دائرته ولكن لتصل إلى حسابه في النهاية، إما بأعمال وهمية غير صحيحة، أو صحيحة ولكنها لا تكلف عشر الأموال المرصودة لها كدورات وتدريب ونحو ذلك. أو إنشاءات تكون المناقصة فيها صورية لتجاوز عقبة النظام، وتمنح لأفراد أو شركات بمبالغ طائلة جدا، لا تكلف المنشئات عشرها، والبقية يقتسمها صاحب المشروع مع صاحب الوظيفة.
 

ويعظم ضرر الاختلاسات إن تعلقت بها حقوق الناس، ولا سيما الضعفة منهم، كالأموال المرصودة لإعاشة الجند يخفضها القائم عليها لأخذ ما تبقى منها، أو لصرفها في مجالات أخرى، وكالأموال المخصصة للأدوية أو أجهزة المرضى في المستشفيات، فيتصرف القائم عليها بشراء أجهزة رديئة أو أدوية بديلة أقل سعرا، ويسجلها بأسعار عالية ليأخذ الباقي، أو يخفض كمية الدواء أو عدد الأجهزة فيتضرر المرضى وربما يموتون بسبب هذه الاختلاسات. وكثيرا ما يظلم صغار الموظفين من كبارهم، وتبخس حقوق عامة الناس بسبب خاصتهم؛ إذ يختلس القائم على حقوقهم بعضها، أو يشارطهم على شيء منها، فلا يأخذون حقهم منه إلا بإعطائه بعضه، ويقع شيء من ذلك في تخليص الحقوق والمستحقات، والتوظيف والنقل وغيرها.
 

واختلاس المال حرام سواء كان من المال العام أم كان من أموال الشركات والمؤسسات، بل حتى شركات الكفار لا يجوز لمن يعمل فيها أو يتعامل معها أن يختلس شيئا منها، فكفر الكافر لا يبيح غشه ولا سرقته، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه البخاري.
 

وأما التزوير فهو تغيير الحقيقة بقصد الغش، ويسري في الأوراق النقدية، والأوامر الكتابية، والمعاملات الرسمية، كما يكون في الشهادات والأختام ونحوها، ومنه شهادة الزور التي تقتطع بها الحقوق، أو يعاقب بها أبرياء، أو يفك بها مجرمون، وهذا من كبائر الذنوب؛ كما روى أَبُو بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -ثَلاَثًا- أَوْ: قَوْلُ الزُّورِ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ"رواه الشيخان.
 

وأما الخيانة فهي: أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح، وهي الأصل الجامع لكل فساد مالي وإداري؛ لأن من انعقد قلبه على الخيانة ارتشى واختلس وزور، وفعل كل أمر محرم؛ لنيل الجاه، أو كسب المال.
 

وكل ولاية أو وظيفة يتقلدها الإنسان فإما أن يكون أمينا فيها وإما أن يكون خائنا، ولا منزلة بين الاثنتين؛ فإن راقب الله تعالى فيما أسند إليه من عمل، وأدى حقوقه، ولم يأخذ ما ليس له، وعدل بين الناس فلم يحاب أحدا لقرابة أو صداقة أو نفوذ يرجو من ورائه نفعا قريبا أو بعيدا؛ فهذا أمين يؤجر على أمانته وإن ذمه الناس لما يرون من سلبيته؛ فإن الناس يطلبون ما ليس لهم، ولا يعفون عما تناله أيديهم، ولا يمنعهم من الحرام إلا عجز أو عقوبة، وقليل منهم من تحجزه مخافة الله تعالى عن الحرام.
 

وحينما يسود أهل الخيانة، ويبعد أهل الأمانة، يكثر الفساد في الأمة ويستشري، ويعسر القضاء عليه؛ لأن منافع المناصب والوظائف يتداولها المفسدون فيما بينهم، ويمنعون عامة الناس منها وهي من حقوقهم؛ فكل واحد منهم يخون لصاحبه في دائرته من أجل أن يخون له الآخر في مصلحة أخرى، وبهذا تحتكر الوظائف والترقيات والمناقصات والميزات في كل مرفق حكومي، ويتداولها المفسدون من أصحاب المصالح والمنافع، بل ويحاربون الأمناء الذين لا يشاركونهم في فسادهم. وهذا مصداق ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "... فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" رواه الشيخان.
 

فالحذر الحذر -عباد الله- من كل ذلك، ولنا عبرة وعظة في عظماء وأغنياء جمعوا مالاً عظيماً، وملؤوا الدنيا ضجيجاً، دفنوا حين دفنوا بأكفانهم كما يدفن الفقراء، ولم يأخذوا من الدنيا شيئاً، وبقي عليهم حساب ما جمعوا؛ فإن الإنسان جماع لغيره، ولا يجمع لنفسه، قال عبدالرحمن بن القاسم وكان أفضل أهل زمانه: مات عمر بن عبدالعزيز وخلف أحد عشر ابناً، فبلغت تركته سبعة عشر ديناراً، كُفن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً. ومات هشام بن عبدالملك، وخلف أحد عشر ابناً، فورث كل واحد منهم ألف ألف درهم، ثم إني رأيت رجلاً من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله تعالى. ورأيت رجلاً من أولاد هشام يسأل أن يُتصدق عليه. علق أبو البقاء الدميري على ذلك فقال: وهذا أمر غير عجيب فإن عمر وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دنياهم فأفقرهم مولاهم.
 

بارك الله لي ولكم في القرآن...
 

الخطبة الثانية


الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
 

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
 

أيها المسلمون: وازع الشرع يجب أن يرد المؤمن عن الحرام، ويحجزه عن الخيانة، ويوصله للأمانة. ولكن ليس كل الناس يردعه الشرع عن الرشوة أو الاختلاس أو التزوير أو الخيانة، فلا بد من رادع السلطان، وإنزال العقوبة بمن ثبتت خيانته حتى يكفى الناس شره، ويرتدع غيره؛ ذلك أن الفساد إذا دخل دولة وسُكت عليه أنهكها وأهلكها، وسلب أمنها ورزقها، فإذا ولج الفساد سوق المال والأعمال أفقر الناس لثراء رجال الأعمال، وإذا دخل الشرط أذهب الأمن، وإذا دخل دوائر القضاء أزال العدل، وإذا دخل دوائر الصحة والمشافي أهلك المرضى، وإذا دخل التعليم أورث الجهل، وإذا دخل الإعلام أفسد العقول والفطر، وما من مجال يدخله الفساد إلا خلف مصائب لا عافية منها إلا باجتثاث المفسدين.
 

وللمفسدين دلائل يعرفون بها؛ فمنها منع الناس حقوقهم، والمماطلة في معاملاتهم، وحجب الناس عن الوصول إليهم، والثراء بعد المنصب أو الوظيفة، وضعف الإنجاز والإنتاج في دوائرهم.
 

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب من ولاته - القادمين إلى المدينة - أن يدخلوها نهاراً، ولا يدخلوها ليلاً، حتى يظهر ما جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب. وكان رضي الله عنه يطلب من الولاة أن يرسلوا وفوداً من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، وعن الخراج المفروض عليهم ليتأكد بذلك من عدم ظلمهم، وكان يأمر عامل البريد عندما يريد العودة إلى المدينة أن ينادي في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والي البلد.. ولما رأى أحد عماله وسع على نفسه بالمال، وأظهر ما هو فيه من الجاه، استدعاه فعزله، وأعطاه غنما كلفه برعيها، حتى انكسرت كبرياء نفسه، ثم أعاده للولاية فكان بعد هذا التأديب من خيرة الولاة.
 

فعلى كل من ولاه الله تعالى ولاية صغرت أم كبرت أن يتقي الله تعالى فيما ولي، وأن يتقن عمله، ويقوم بحقه، ويؤدي أمانته، ويعدل في رعيته، ويجتهد في نفع الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلن يأخذ شيئا من ماله أو جاهه إلى قبره، ولن يبقى له في الدنيا بعد موته إلا ذكر الناس ودعائهم؛ فإما ذكروه بخير ودعوا له، وإما ذكروه بشر ودعوا عليه، والناس شهداء الله تعالى في الأرض.
 

وصلوا وسلموا على نبيكم..

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الاستخلاف المالي في الإسلام "المفهوم، والأسس، والثمار"
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الاستخلاف المالي في الإسلام
» "الإسلام دين الدولة.. إشكالية المفهوم والتطبيق".
»  العلمانية بين معنى المفهوم ومآلاته
» سؤال العنف في فكر طه عبد الرحمن .. المفهوم والتجليات والعلاج
» أخلاقيات الحرب في الإسلام.. (الإسلام والقانون الدولي الإنساني)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: الدين والحياة-
انتقل الى: