تقع سرقسطة في شمال شرق الأندلس على ارتفاع 184 متراً عن سطح البحر، وهي قاعدة الثغر الأعلى الذي كان يواجه برشلونة ومملكة نافار (منطقة أرغون Aragon اليوم).
تقع سرقسطة على ضفاف نهر إبرو (Ebro) الذي يحاذي سورها من الشمال إلى الجنوب. وهناك عدة أنهار أخرى ترويها هي: نهر جلق شرق المدينة، ونهر شلون، ونهر وربه الذي يجري من الغرب إلى الشرق، ونهر فنتش الذي يجري من الغرب إلى الشرق أيضاً، وهي أنهار غزيرة المياه.
بنيت سرقسطة على شكل الصليب، وأحيطت بسور كله مبني بالرخام الأبيض، ومعقود في داخله بالرصاص، وهو من الكذان المنحوت المدخل ذكراً في أنثى. وفي سورها أربعة أبواب روعيت في أماكنها منه حركة الشمس: فباب إذا طلعت الشمس في الصيف قابلته عند بزوغها، فإذا غربت قابلت الباب الذي يليه من الغرب. وإذا طلعت في الشتاء قابلت الباب الجنوبي فإذا غربت قابلت الباب الذي يليه.
وتحدق بسرقسطة الجنات والبساتين من كل جانب حيث تمتد ثمانية أميال من سورها، فهي كثيرة الزرع والضرع والفواكه، حتى لا يكاد يأكل أهلها فاكهة يابسة لكثرة الفواكه عندهم، وخاصة: التين والتفاح والإجاص.
ومن خواص سرقسطة «أنها لا تدخلها عقرب ولا حية إلا ماتت من ساعتها .. ولا يتسوس فيها شيء من الطعام ولا يعفن. ويوجد فيها القمح من مائة سنة، والعنب المعلق من ستة أعوام ... ويوجد فيها الفول والحمص من عشرين سنة وأكثر، ولا يتسوس فيها شيء من خشب ولا ثوب من صوف ولا حرير ولا قطن». ويبدو أنها اكتسبت هذه الخواص لوجود الملح الذراني فيها، وهو ملح أبيض صافٍ أملس لا يوجد في غيرها، أدخله أهل سرقسطة في أبنيتهم، وله فعالية ضد الحشرات.
مدينة، يلفظ اسمها بفتح أوله وثانيه، ثم قاف مضمومة وسين مهملة ساكنة، وطاء مهملة. وهو مشتق من أغسطس قيصر الرومان، وهو الذي بناها سنة 23 ق.م. وتسمى أيضاً المدينة البيضاء. ويبدو أنها أخذت هذا الاسم من الرخام الأبيض الذي كثر فيها، فأسوارها مبنية منه، كما بني منه محراب جامعها، وكان من حجر واحد من الرخام الأبيض. وتسمى أيضاً: عروس الإبرو لوقوعها على هذا النهر. وقد شبهها موسى بن نصير بجلق الشام.
ويذكر الزهري أنها سميت: المدينة البيضاء «لأنها تبيضّ وعليها نور أبيض لا يخفى على أحد في ليل ولا نهار»، ويزعمون أن ذلك النور عليها منذ بنائها. ويقول المسلمون إن النور عليها منذ دُفن فيها الرجلان الصالحان حنش بن عبدالله الصنعاني، وعلي بن رباح اللخمي، وهما من أجلاء التابعين، وموضع قبريهما معروف بمقبرة باب القبلة بسرقسطة. وحنش هو الذي بنى جامعها، وأقام محرابه.
وقد أورد ابن سعيد وصفاً دقيقاً لسرقسطة فقال: «أحدقت بها من بساتينها زمردة خضراء، والتفت عليها أنهارها الأربعة، فأضحت بها رياضها مرصعة مجزعة، ولا نعلم في الأندلس مدينة يحدق بها أربعة أنهار سواها، وكأن كل جهة تغايرت على إتحافها، فأهدت إليها نهراً يلثم من أعطافها، وأشهرها نهر جلق. وشرب موسى بن نصير فاتح الأندلس من ماء نهر جلق، فاستعذبه، وحكم أنه لم يشرب بالأندلس ماء أعذب منه، وشبه ما عليه من البساتين بغوطة دمشق».
افتتح سرقسطة موسى بن نصير وطارق بن زياد بعد التقائهما، وكان طارق يتقدم على رأس الجيش، وموسى خلفه. وقد تم افتتاحها بعد ماردة، ويرجح أنها افتتحت أواخر عام 94هـ/713م أو أوائل عام 95هـ/714م، وهو العام الذي رجعا فيه إلى دمشق ملبيين أوامر الخليفة الوليد بن عبد الملك. ولم يكلف فتح سرقسطة جهداً كبيراً، إذ لا تذكر المصادر أن المسلمين حاصروها، أو واجهوا قوات عسكرية على مشارفها أو فيها، فقد دخلها المسلمون دون عناء يذكر، ولما استقروا فيها قام حنش الصنعاني بإنشاء مسجد جامع للمدينة.
ولم تورد المصادر أخباراً تذكر عن سرقسطة في عهد الولاة (95-138هـ/714-755م) سوى ما وقع أثناء ولاية بلج بن بشر بن عياض القشيري الذي ولي الأندلس نحو أحد عشر شهراً من سنة 124هـ/742م، ففي عهده قتلت طالعة بلج عبد الملك بن قطن الفهري بثأر قديم، ثم حشد ابنا عبد الملك: أمية وقطن جيشاً كبيراً في نواحي سرقسطة، وجاءا إلى بلج طالبين بثأرهما، وهما في حوالي مائة ألف من العرب، فخرج إليهما بلج، واقتتل الطرفان قتالاً شديداً انهزم على أثره ابنا عبد الملك. وقد ذهب ضحية هذه الفتنة –كما يذكر عذاري- أحد عشر ألف قتيل. وفي آخر عهد الولاة ثار في سرقسطة تميم بن معبد وعامر بن عمرو بن وهب على يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 137هـ/754م فتولى محاربتهما الصميل بن حاتم، ثم خرج إليهما يوسف نفسه في السنة التالية، فحاصرهما في سرقسطة ثم ظفر بهما، وقتلهما.
وفي عهد الأمويين في الأندلس كثر سكان سرقسطة والمولدين والمستعربين، وتتابعت ثوراتهم، ففي عهد الأمير عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) (138-172هـ/755-788م) ثار فيها سليمان بن يقظان الكلبي سنة 164هـ/780م، وقد تمكن جيش الأمير الأموي بقيادة حسين بن يحيى من قتله. وفي السنة التالية (165هـ/781م) ثار في سرقسطة حسين بن يحيى بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي قضى على ثورة ابن يقظان الكلبي، فغزاه الأمير عبد الرحمن سنة 167هـ/783م، وحاصره فيها، وقتله، وتغلب على المدينة.
وثار على الأمير هشام بن عبد الرحمن (172-180هـ/788-796م) سعيد بن حسين الأنصاري الذي قدم إلى سرقسطة من إقليم طرطوشة «فأخرج منها واليها، وضرب بين الناس، ودعا إلى نفسه وإلى الفتنة، فأرسلها مضرية ويمانية». ثم أقبل موسى بن فرتون إلى سرقسطة فأخذها، وكان على دعوة المضرية، فالتقى مع اليمنيين، وكانت بينهم حرب، فقتل منهم جماعة، ودخل سرقسطة. ثم قدم مطروح بن سليمان بن الأعرابي فتغلب على وشقة وسرقسطة والثغر كله، وظل فيها حتى سنة 175هـ/791م حيث تمكن الأمير هشام من القضاء عليه.
وثار على الأمير الحكم بن هشام (الربضي) (180-206هـ/796-822م) في سرقسطة بهلول بن مرزوق المعروف بأبي الحجاج، إذ دخل سرقسطة وملكها، ولكن الأمير عبدالله ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية قضى عليه أثناء توجهه إلى الشمال للجهاد. كما ثار في سرقسطة على الحكم فرتون بن موسى بن فرتون، فقتله الحكم فيها في ذي الحجة من سنة 186هـ/802م.
وهكذا ظلت الثورات في سرقسطة تتوالى على الأمراء والخلفاء من بني أمية في الأندلس، وكان من أخطرها ثورات التجيبيين الذين ظلوا يقضون مضاجع الأمويين عهدهم، بل استمروا بعده. فعندما سقطت الخلافة الأموية في الأندلس، وأخذت الفتنة البربرية تمزق أوصالها كان يحكم سرقسطة منذر بن مطرف بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي، وقد استبد بها وتلقب بالمنصور، وظل يحكمها حتى وفاته سنة 414هـ/1023م، فحكمها بعده ابنه المظفر إلى أن تغلب عليه أبو أيوب سليمان بن محمد ابن هود الجذامي وقتله سنة 431هـ/1039م.
وكان أبو أيوب سليمان بن هود مؤسس مملكة سرقسطة في أيام الطوائف، وقد تلقب بالمستعين بالله، وحكم سرقسطة نحو سبع سنوات (431-438هـ/1031-1046م)، وحكم سرقسطة بعده ابنه أبو جعفر أحمد الملقب بالمقتدر بالله (438-474هـ/1046-1081م) الذي ينسب إليه قصر الجعفرية في سرقسطة الذي يعد من أبرز ما تركه المسلمون من آثار في الأندلس، وكان طوله من الشمال إلى الجنوب ثمانين متراً، وعرضه من الشرق إلى الغرب ثمانية وستين متراً، ويحيط به ستة عشر برجاً أسطوانياً.
وتوفي المقتدر بن هود بعد أن حكم سرقسطة خمساً وثلاثين سنة، وقد قسم مملكته قبيل وفاته بين ولديه أبي عامر (المؤتمن)، وأخيه المنذر. ونشبت حروب بين الأخوين، واستعان كل منهما بالنصارى ضد الآخر، وقدم لهم الأموال، وتخلى لملوكهم عن الحصون الإسلامية نظير دعمه ضد أخيه، وقد حارب السيد الكمبيطور، المغامر النصراني إلى جانب المؤتمن الذي توفي سنة 478هـ/1085م فخلفه ابنه أبو جعفر الملقب بالمستعين بالله. وفي عهده حاول ألفونسو السادس، ملك قشتالة احتلال سرقسطة وذلك سنة 497هـ/1104م فاستغاث بالأمير المرابطي يوسف بن تاشفين. وقد أمدّه ابن تاشفين بألف فارس بقيادة أبي عبدالله بن فاطمة، وتمكنت هذه القوات من دحر ألفونسو عن المدينة.
وظل المستعين بن هود يقارع النصارى حتى سنة 503هـ/1110م، ففي تلك السنة جرت بينه وبين قوات النصارى بقيادة: الرّنك البرتغالي، وألفونسو الأول- المحارب، ملك أرغون، معركة شديدة استشهد فيها، وذلك في يوم الاثنين الأول من رجب سنة 503هـ/1110م. وفي عهد خلفه ابنه أبو مروان عبد الملك الملقب عماد الدولة خضعت سرقسطة للمرابطين.
وظلت سرقسطة في أيدي المرابطين حتى سنة 512هـ/1118م، ففي الرابع من رمضان تلك السنة سقطت في يدد ملك أرغون ألفونسو الأول (المحارب) بعد حصار دام تسعة أشهر.
جَيّانُ Jaen
ازدهرت في العهد الأموي، وقد بنى فيها الأمير عبد الرحمن بن الحكم مسجداً جامعاً سنة 210هـ/825م
مدينة، يلفظ اسمها بالفتح ثم التشديد، وآخره نون. وتسمى أيضاً جيان الحرير، لكثرته فيها. كما تُسمى: قنسرين، ذلك أن أبا الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، والي الأندلس (125-128هـ/743-746م) أنزل فيها جند قنسرين لشبهها بها، وسماها: قنسرين.
تقع جيان إلى الشرق من قرطبة، وبينهما خمسة أيام، أو سبعة عشر فرسخاً. وتبعد عن وادي آش مرحلتين وعن بسطة ثلاث مراحل. والمسافة بينها وبين غرناطة الواقعة جنوبها سبعة وتسعون كيلومتراً، وبينها وبين بياسة عشرون ميلاً.
وجيان في سفح جبل يسمى: جبل كور، وقد وصفه الحميري بأنه عال جداً. وأشار الإدريسي إلى ارتفاعه الشاهق عندما ذكر أن قصبة المدينة «من أمنع القصبات وأحصنها، يرتقى إليها على طريق مثل مدرج النمل».
وكورة جيان واسعة، لها أقاليم عدة. وهي من أشرف الكور، وتتصل بكورة إلبيرة، وتمتد منها إلى ناحية الشمال، وتشبهها «في طيب بقعتها، ووفور غلتها، ورفع بذرها، وكثرة خيرها».
ومدينة جيان كثيرة المياه، ففيها عيون جارية، وينابيع مطردة، منها عين غزيرة عذبة، عليها قبو قديم من بناء الأوائل، ولها بركة كبيرة عليها حمام يدعى حمام الثور، لأن فيه نقشاً لصورة ثور. ومن عيونها: عين البلاط، وعين سطرون التي تسقى بمائها الغزير الأراضي الواسعة. ويشق مزارع جيان وبساتينها نهر يدعى نهر بلون، وهو من روافد نهر الوادي الكبير، ويبعد عن جيان نحو ميل.
وتكثر في جيان الأرحاء الطاحنة، وقد أتاحت كثرة المياه الغزيرة إقامة هذه الأرحاء على أبواب المنازل.
ويمكن القول إن جيان جمعت كثيراً من المحاسن، فهي وافرة الخصب، طيبة الأرض، غنية التربة، رخيصة الأسعار، يكثر فيها الحرير، وتحيط ببيوتها الجنات، وتجود حقولها بغلات القمح والشعير والباقلاء.
وأتاح لجيان موقعها وسورها حصانة ومتانة، وخاصة قصبتها التي تعد من القصاب الموصوفة بالمنعة.
فتح مدينة جيان وكورتها طارق بن زياد سنة 92هـ/711م، فبعد أن فرق جيوشه من إستجة إلى مالقة وقرطبة وغرناطة «سار هو في معظم الناس إلى كورة جيان» فافتتحها.
وأصبحت جيان وكورتها بعد الفتح منزلاً لجند قنسرين، كما ذكرنا، وذلك وفقاً لتخطيط والي الأندلس أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي. وقد كان في جيان –عندما عزم عبد الرحمن الداخل على الجواز إلى الأندلس- كثير من الأمويين، مما مهد الطريق أمامه لإقامة الإمارة الأموية هناك.
ازدهرت جيان في العهد الأموي، وقد بنى فيها الأمير عبد الرحمن بن الحكم (206-238هـ/822-852م) مسجداً جامعاً سنة 210هـ/825م، وهو مسجد «مشرف يصعد إليه على درج من جميع نواحيه، وهو من خمس بلاطات، على أعمدة رخام، وله صحن كبير حوله سقائف».
وبعد انهيار الخلافة الأموية في الأندلس، وتغلب زعمائها كل على ما في يده «أصبحت جيان تابعة لمملكة غرناطة التي انتزى بها باديس بن حبوس الصنهاجي»، ثم استولى على جيان المعتمد بن عباد، وذلك في سنة 466هـ/1074م من يد عبدالله بن بلقين بن باديس.
وفي عهد المرابطين تولى جيان الأمير أبو الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين شقيق الأمير المرابطي علي بن يوسف (500-537هـ/1106-1142م). ولما دالت دولة المرابطين دخل الموحدون الأندلس، وملكوها بما في ذلك جيان، إلى أن هزمهم النصارى في معركة العقاب سنة 612هـ/1212م. وقد التاث أمرهم بعد تلك المعركة، وعادت الأندلس إلى التمزق والفرقة، وانتزى بأنحائها المتنفذون مرة أخرى، ومنهم أبو عبدالله محمد ابن يوسف بن هود الملقب بسيف الدولة، والمتوكل على الله، والمستعين الذي أعلن أهل جيان وغيرها من مدن الأندلس مثل: إشبيلية، وماردة، وبطليوس انضمامها إليه.
وظهر في تلك الأثناء محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، الذي تغلب على شرق الأندلس، وبويع سنة 629هـ/1232م. وقد أطاعته جيان سنة 630هـ/1233م، وظلت في يده حتى سنة 643هـ/1246م، ففي تلك السنة هاجمها نصارى قشتالة بقيادة فرديناند الثالث، وحاصروها حصاراً شديداً استمر سبعة أشهر. وقد حاول ابن الأحمر إنقاذها إلا أنه لم يستطع، بل خشي أن تجتاح جيوش النصارى مملكته الفتية، فسعى إلى مصانعتهم، وعقد مع فرديناند الثالث هدنة لمدة عشرين سنة، وسلم جيان – بموجب هذه الهدنة – للملك النصراني في تلك السنة (643هـ/1246م).