جولات الحوار واستقرار الجوار 1-2
مقالات أخرى للكاتبأتابع تواتر الزيارات الرسمية إلى الخارج محاولة استقراء ما قاد إليها وما تسعى إليه, لعله يوضح ما ستأتي به مستقبلاً لنا في الداخل والخارج. والمتابعة ظاهرياً ليست صعبة فوسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية توافينا بآخر المستجدات وقت حدوثها؛ تحمست مع تفاصيل زيارة خادم الحرمين الشريفين والوفد المرافق له لآسيا, حيث قوبل باحتفاء كبير رسمياً وشعبياً في ماليزيا وإندونيسيا لا يقل عن الاحتفاء الذي قوبل به في جولته الخليجية مؤخراً, ولا شك أن اتفاقيات التعاون والاستثمار بينياً ترسخ العلاقات الإيجابية. ولكن تقوية العلاقات لدعم الهوية الإسلامية الإيجابية، والتحالف ضد الإرهاب وضد محاولات إثارة الفوضى وعدم الاستقرار, لا تقل أهمية عن الجانب الاقتصادي. وسأعود لاحقاً إلى الجولة الملكية الآسيوية التي ستستمر لثلاثة أسابيع أخرى.
وفي زيارات مهمة أقرب جغرافياً, أتابع تحركات الرئيس الإيراني روحاني وتصريحاته حول الرغبة في علاقات جوار تخلو من التوتر, كما قام معالي وزير الخارجية عادل الجبير بزيارة لبغداد, والتقى مع رئيس الوزراء العراقي. وهي الزيارة الأولى بعد انقطاع منذ ربع قرن مع مفاجأة غزو صدام للكويت, العدوان الغادر الذي قاد إلى عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من براثن أطماعه.
والعراق الذي فقد تماسكه وهويته العربية أمسى ساحة فوضى مع تراجع أوضاعه الأمنية وتسلل سموم طموحات وتمدد النفوذ الإيراني عابراً إلى سوريا ولبنان, تطور خطير على السلام في المنطقة مهدداً بإذابة وشائج الانتماء العربي مع تنامي هوية انتماء مذهبي يتسامح مع هيمنة إيران فكرياً وعسكرياً. كل ذلك أجج صراعات طائفية وتطرف مضاد وانفصامات داخلية في الجوار كله. ولم يتوقف نشاط التمدد في الجوار المباشر بل امتد إلى الأبعد في اليمن ودول أفريقيا الشرقية والشمالية.
الجبهة الوحيدة التي ظلت تقاوم هذا التمدد بفاعلية هي المملكة العربية السعودية متصدية لمحاولات استثارة الخلافات الداخلية وتجنيد منشقين وإرهابيين محليين. دول الخليج مدعمة باستقرارها مجتمعياً واقتصادياً إلا أنها تفتقر إلى الثقل السكاني. وإصرار المملكة على حماية الجوار ودول مجلس التعاون الخليجي من أي اعتداء أدى إلى تطوير مفهوم التعاون ليصبح رابطة أقوى وأقدر, إذ يشمل التحالف العسكري للدفاع عن أي دولة عضو في حالة أي اعتداء.. وقد جسدت المملكة فعلاً دورها كدرع الجزيرة العربية حين تدخلت بقوة حاسمة في البحرين قبل أن يطولها لهيب الربيع العربي المشؤوم.
الآن وقد انفضحت خطط إيران في شمال الجزيرة وجنوبها, وتدخلها السافر في شؤون اليمن بدعم الانقلابيين وتهريب السلاح واضح أنها سعت وما زالت تسعى لمحاصرة المملكة وهدم استقرارها بالعمل العدواني في الداخل والخارج على كل حدود المملكة.
وفي حين أن هناك إشارات متضاربة من الجانب الإيراني حول تحسين العلاقات مع الجانب الخليجي, إلا أنه لا يمكن القبول بسلام إلا إذا كان الاتفاق مربوطاً بشرط عدم التدخل في شؤون الآخرين وتهييج الداخل وافتعال المشاكل. ليس لدى المملكة نيات عدوانية أو طموحات تمدد على أراضي الآخرين, ولكن هذا المبدأ السعودي يتوازن أيضاً مع ضرورة حماية سيادة المملكة وكل جوارها العربي من خطط ومبدأ تصدير الثورة الذي ما زالت إيران متمسكة به كشعار يبرر ما ترتكبه في الجوار.
المملكة العربية السعودية مهتمة بتقوية علاقاتها الآسيوية, وبناء تحالف شامل متكامل مبني على الإيجابية والاعتدال والوقوف معا ضد الإرهاب والتدخل والهيمنة على مصائر الدول بقلقلة استقرارها سياسياً واقتصادياً.
وما لم تع إيران مصيرية هذا الالتزام بأدب الجوار وتثبت جديتها في مد يد التفاهم والمصافحة, ستظل المملكة جادة في السعي لتقليم مخالب إيران وأي شر يترصد الاستقرار في المنطقة العربية والآسيوية والأفريقية.
جولات الحوار و استقرار الجوار 2/2
ليست الحوارات المحلية فقط ما يبدو في كر وفر مع بطء وضبابية في تلمس وتحقيق نتائج واضحة التفاصيل ومضمونة التنفيذ والنتائج. المداولات الأممية حول مصير الملايين في سوريا وفي اليمن تتعثر ولا يبدو أنها تحقق تقدماً. فحتى حين يكاد القرار حول تجريم هذا العدوان أو ذاك مما يصطلي به المواطنون في سوريا أو اليمن بفعل الصراعات المحلية، يأتي فيتو من دولة كبرى ليوقف إصدار قرار التجريم، ناهيك بقرار فعل يتدخل لإنهاء تدفق الدماء.
ومع هذا، واضح أن العالم يقف ممسكاً أنفاسه مصراً على الحوار، وليس الشرق الأوسط محور اهتمامه الوحيد، فهو على شفير غير مطمئن من الشحن العاطفي السلبي بسبب تنامي مناطق الصراع والجوع والإرهاب الداعشي المستشري، ومستجدات اقتصادية وبيئية ما زالت تحمل كوارث الزلازل والأعاصير والفيضانات لكثير من بقاع العالم، عدا ما يضيفه البشر من تواصل صراعات عسكرية مدمرة، وتنافر إيديولوجي. نواجه جميعاً نتائج تواصل عقدين أو أكثر من التراكمات الهادمة ولدت ملايين اللاجئين والهاربين من أوطان تحترق بفعل داخلي وتخطيط خارجي، وآلاف الضحايا الأبرياء بما في ذلك الأطفال.
لا اتفاق بالإجماع و لا في أي بلد على ما هي الخيارات الأفضل للأغلبية ديموقراطياً في مواجهة الصراعات الحزبية. وبينما تتشارك المجتمعات في خوفهم من الإرهاب، يختلف المواطنون في كل بلد منها حول تفضيلاتهم في العلاقات الثنائية والدولية.. وفي أمريكا خلاف حول نتائج الانتخابات الرئاسية وانتقال الحكم الى الحزب الجمهوري، وفي روسيا استمرار لتوجه استعادة موقع هيمنة عالمية فقدته بعد تمزق الاتحاد السوفياتي. وفي الشرق الأوسط لم تتوقف العواصف منذ الخمسينيات محتدمة بتيارات التمزق والتحالف مدفوعة بمتغيرات العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
لعل منطقة الخليج الأوضح وجهة بين الدول في الجوار العربي والإقليمي، بينما منطقة الشرق الأوسط من تركيا شمالا إلى السودان والصومال واليمن جنوباً، ومن الخليج شرقاً إلى المحيط غرباً، تجد نفسها لا تزال تكافح لتثبيت أو استعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي، واستدامته. وبعد تساقط الأنظمة واحتشاد الشوارع وشعارات الغضب واستثارة وحش الطائفية وتغوّل داعش وتكشّف خطط الهيمنة وأحلام الأممية المتدثرة بأقنعة دينية، يأتي تغير توجهات القوى العظمى في الولايات المتحدة وروسيا ليضيف إلى الصراعات والأحداث المحلية في كل من آسيا وأفريقيا وحتى أوروبا بعداً آخر من التجاذبات والضبابية وفي متوقعات المرحلة القادمة.
منطقة الهلال الخصيب ومجرى الفرات، تجد نفسها في هذه الأوضاع الحرجة في تأججات داخلية تتجسد عسكرياً، وما سبقها من ميراث الربيع العربي المدمر يثير ليس فقط الشبهات والتكهن بأصابع خفية تلعب بمصير وخريطة المنطقة لتغييرها وإعادة رسمها، بل ويثير التخوف والاستنفار الفعلي لتجنب الدمار والتفتت الكامل. ومنطقة الخليج تتفادى أن تسقطها موجات الصراع في المستنقع المحيط بها في الجوار الذي لم يعد آسنا بل يفور بالدموية والدمار.
حتى الآن ونحن في الخليج بخير ونحقق من التوازن والتكاتف والتساند ما يمكننا من ليس فقط إبقاء رؤوسنا عالية سالمة، وشوارعنا فوق الماء المتعكر المتفجر، بل ومد يد العون إلى الأقربين لكيلا تسحبهم الدوامات إلى اللجة.
الرؤية القائمة يدعمها التوجه للعمل مع الجميع كفريق قوي مستمر في الفعل الإيجابي والاستعداد لكل احتمال قادم. وأهم أولوية أن نعيد الوئام والاستقرار للجوار، ونحبط أي خطة لتصعيد ونشر الدمار. الجدية والإصرار ضروريان لدفع الوضع إلى الأفضل اقتصادياً ومجتمعياً وسياسياً، ولا بد أن نسعى إلى تحقيق ذلك بالفعل الإيجابي الباني والعمل المركز على الأمل والعمل، وإيقاف التقاذف بالكلام المسمم والجدل.