يحبون الله ويعصونه، ويبغضون الشيطان ويطيعونه
د. محمد المجالي
عجيب حقا أمر بني آدم في معظمهم، كيف يتصرفون وقد خلقهم الله لعبادته: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وأقام عليهم الحجة بمبعث المرسلين المؤيَّدين بالمعجزات، وإنزال الكتب التي تبيّن ما لهم وما عليهم، والوعد الأكيد بحتمية الرجوع إليه في يوم لا ريب فيه، ثم المصير الأكيد، إما نعيم أو جحيم، وهم يعلمون من خلال رسلهم أن الله أمهل إبليس إلى يوم القيامة ابتلاء لهم وفتنة، وأن دوره لا يعدو كونه وسوسة وتزيينا للباطل، وإلا فمن اعتصم بالله حماه وتولاه وهداه إلى صراط مستقيم.
ومع البيان الواضح لطريق الحق وطريق الباطل، والمصير المحتوم لكل فريق، إلا أن الإنسان أحيانا يضل طريقه، ويقتحم ما به حتفه، ويأبى على نفسه إلا متابعة ما يُسخط الله تعالى، ويُفرح الشيطان وأتباعه، وهنا يروى أن إبليس نفسه يقول: عجبا لبني آدم، يحبون الله ويعصونه، ويبغضونني ويطيعونني! وهذه حقيقة واقعة منتشرة، فغالبية الناس يحبون الله، ولكنهم لا يطيعونه فيما أمر ليفعلوه، وفيما نهى ليجتنبوه، بل هم واقعون في المعاصي رغم حبهم لله. وفي المقابل يعلنون بغضهم للشيطان، وربما يستعيذون منه، ولكنهم منقادون له مطيعون، وربما عابدون.
والشيطان أذكى من أن يُضل الإنسان مباشرة ليحرفه عن الجادة مرة واحدة، بل ينقله من الإيمان والالتزام إلى الكفر والضلال والانحلال خطوة خطوة بالتدرج، حتى لا يشعر أنه ضل أو زل أو انحرف، وفي هذا يقول الله تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان، ومن يتّبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر.."، ويقول سبحانه عن حيَل الشيطان ووسوسته وأهدافه: "إن يدعون من دونه إلا إناثا، وإن يدعون إلا شيطانا مريدا. لعنه الله، وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلّنهم ولأمنّينّهم ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام، ولآمرنّهم فلَغيّرنّ خلق الله، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا. يعِدهم ويمنّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا"، وغير ذلك من المواضع في القرآن.
فهو يعِدهم ويمنّيهم، ويأتي كل صنف من البشر بما يلائمه، يصرف العالم عن الحق بتخويفه من الرياء، ويأتي العابد ويشككه في نواياه، ويأتي التائب ييئسه من رحمة الله بعظم ما قدمت يداه، ويغري قليل الطاعة بالمعصية وأن الله توّاب رحيم، ويفسد بالوسوسة ما بين الزوجين والأخوين والعشيرتين والفئتين، فقال الله في موضع آخر من القرآن: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأُغوينّهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلَصين. قال هذا صراط عليّ مستقيم، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين...".
ويبين الله تعالى أن كل أمر الشيطان وسوسة ليس إلا، لكن توقيتها قاتل، وأثرها حالة الضعف فاعل، إن كان هذا الإنسان غير متذكر لله، وغير معتصم به، وغير منتسب بالعبادة له تعالى، ودليل أن الشيطان لا يملك إلا الوسوسة هو قوله تعالى: "وقال الشيطان لما قُضي الأمرُ إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان ليَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمُصْرِخيّ، إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل، إن الظالمين لهم عذاب أليم"، فيأتي هذا الاعتراف مؤلما لمن اتبع إبليس؛ حيث يتبرّأ منهم، فما فعل إلا أنه دعاكم (بالوسوسة) فاستجبتم، فلا تلومنني، بل لوموا أنفسكم، فلا أنا منقذكم من النار، وما أنتم بمنقذي منها كذلك، فهو الذي كفر بالله من قبل، وتعلمون أنني كافر به، ومع ذلك أطعتموني.
يا لها من خيبة وخسارة وندم حيث لا ينفع الندم، فهو عدو الله الواضح الفاضح، ولكن الأسوأ منه من يتبعه وهو يعلم حقيقته، ومن يعرف الله وربما يحبه، ولكنه يؤثر متعة عاجلة وشهوة آنية على حساب نهاية مُهلِكة ونار حامية.
يحبون الله ويعصونه: قد يكون سبب هذا طمعهم في رحمته من دون أن يقدموا شيئا من طاعة، أو الجهل بحقوق هذا الحب وهذا الإيمان، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو تكاسلا عن أداء الطاعة، فهذا كله يمهّد للسير في اتجاه آخر، فالشيطان لهم بالمرصاد ليغريهم ويمنيهم. هم ربما يبغضونه، ولكنهم يطيعونه لأن بشاشة الإيمان لم تخالط قلوبهم، ولذة الطاعة لم تلامس عقولهم ولا كيانهم.
أعداؤك أيها الإنسان ثلاثة: (شيطان) وقد تحدثنا عن شيء من أفعاله، و(أصدقاء سوء) يجرونك إلى مهاوي الردى، وقد قال صل الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، ويقال: الصاحب ساحب، و(نفسك التي بين جنبيك) إن لم تلجمها وتلمها، فهي نفس أمّارة بالسوء: "إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.."، ونتجنب الشيطان باللجوء إلى الله والاعتصام به وموالاته، ونتجنب أصدقاء السوء بحسن الاختيار، ونلجم النفس بمخافة الله وطاعته والأُنس به ومحبّته لترتقي إلى النفس اللوامة ثم المطمئنة.
هي مشيئة الله وحكمته في اختبار عباده، من يتبعه رغم المحن والابتلاء من مرض أو فقر أو مصيبة حلت به، من يصبر ومن يضجر، من يرضى بقضائه ومن يسخط، فهي دنيا فيها ما فيها من المنغّصات، ولكن فيها أيضا من المساحة الهائلة التي يعيش فيها العبد في لذة الطاعة وشعور المعية مع الله تعالى والرضا عنه، فسلوى العبد في دنياه رغم المنغصات هي هذه الطاعة وما يقدمه من خير يعامِل به الآخرين، وما يحمله من أخلاق يستشعر معها رُقِيّه وتواضعه وكرامته وإنسانيته.
طوبى لعبد عرف نفسه وتقصيره فانتبه، وعرف ربه وسعة رحمته فالتجأ، وعرف الشيطان ووساوسه فاجتنب، ليخرج من هذه الدنيا إلى الجنة، ويا لخسارة عبد لا يملك في الآخرة من الجنة شيئا رغم أن عرضها السماوات والأرض، فاللهم عفوك ورحمتك وتثبيتك.