الدولة البويهية الشيعية
قامت الدولة البويهية الشيعية في الجزء الغربي من إيران وفي العراق، وأسستها أسرة بني بويه. وأشهر رجال أسرة بني بويه الحاكمة ثلاثة هم: عليّ والحسن وأحمد أبناء بويه. وتعود أصول هذه الأسرة إلى الفرس، وكان والدهم (بويه) يتعيّش من صيد الأسماك.
وكان علو شأنها على يد الأخ الأكبر علي بن بويه؛ فقد ولاّه مرداويج الزياري بلاد الكَرَج، فاستطاع بفضل مقدرته العسكرية والإدارية وحسن معاملته لأتباعه من بناء جيش قويّ انتزع به معظم بلاد فارس في خلال فترة قصيرة، واتخذ مدينة شيراز قاعدة لحكمه. وبعد مقتل مرداويج سيطر البويهيون على أصفهان والري وهمذان والكرج وكرمان والأهواز.
كانت الحالة في العراق مضطربة، كما كانت الخلافة واقعة تحت نفوذ الأتراك، وظهر عجزها في إقرار الأمور في العراق، فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي؛ نتيجة لذلك تطلع الناس إلى هذه القوة الجديدة التي ظهرت بالقرب منهم لتنشلهم من الفوضى، ومن ثَمَّ كاتب القواد في بغداد أحمد بن بويه، وطلبوا منه المسير للاستيلاء على بغداد، استجاب أحمد لهذا الطلب فدخل بغداد في عام 334هـ/ 945م بعدما خرج الأتراك منها، واستقبله الخليفة المستكفي بالله واحتفى به، وخلع عليه وعيَّنه أميرًا للأمراء، ولقبه مُعِزّ الدولة، ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة، كما لقب أخاه حسن ركن الدولة.
لقد كان أهل بغداد قبل الدولة البويهية على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، فلما جاءت هذه الدولة - وهي متشيعة غالية - نما مذهب الشيعة ببغداد.
وكان سلطان معز الدولة بالعراق مبدأ خرابه بعد أن كان جَنَّة الدنيا؛ فلم تمضِ سنة حتى اشتد الغلاء ببغداد، فأكل الناس الميتة والسَّنَانير والكلاب، وأكل الناس خروب الشوك؛ فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم.
وقد أصيب نفوذ البويهيين بضعف شديد في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين بسبب ضعف سلاطينهم، وتنازع الأمراء فيما بينهم، وقد ازداد نفوذ الجند الأتراك، وتدخلوا في تولية وعزل سلاطين بني بويه، وحملوهم على طاعتهم.
وعندما ظهر السلاجقة على مسرح الأحداث كان نجم البويهيين يأخذ في الأفول، فلم يجد السلاجقة صعوبة في دخول بغداد عام 447هـ/ 1055م، وإسقاط دولة بني بويه.
الدولة البويهية في سطور
حدود الدولة البويهية
ظهر بنو بويه على مسرح الأحداث في أوائل القرن الرابع الهجري، وأسسوا دولاً انفصالية في فارس والأهواز وكرمان والرَّيِّ وأصفهان وهمذان، وبسطوا هيمنة فعلية على العراق، فشاركوا الخلافة العباسية في حكمه، وعظم نفوذ هذه الأسرة حتى سمِّي باسمها عصر من عصور الخلافة العباسية، هو العصر العباسي الثالث[1]. وتمتد هذه المرحلة من (334- 447هـ/ 946- 1055م) أي مدة ثلاث عشرة ومائة سنة، وتعاقب في هذه المدة أربعة خلفاء من بني العباس هم: المطيع لله، والطائع لله، والقادر بالله، والقائم بأمر الله.
وامتازت هذه المرحلة بسيطرة آل بويه الذين يعودون في أصولهم إلى الفرس، وسكنت هذه الأسرة بلاد الدَّيْلَم فعُرفوا كأنهم منهم، وكانوا من الرعية العاديين، وأول من برز منهم أبو شجاع بويه، وكان من صيادي السمك في بحر الخزر، وكان له ثلاثة أولاد هم: علي وحسن وأحمد[2]. وقد اشتهرت هذه الأسرة على يد الأخ الأكبر من الإخوة البويهيين الثلاثة، وهو عليّ بن شجاع بن بويه الذي ولاّه مرداويج الزياري[3] بلاد الكَرَج[4]. ويبدو أن عليًّا كانت تراوده نزعات تتعدى الاستقلالية إلى التوسع على حساب جيرانه، إضافةً إلى الطموح السياسي الذي تحقق له سريعًا، حيث ما لبث أن أصبح صاحب شوكة في هذه النواحي، واستمال الناس بحسن سياسته، وتمكّن بفضل مقدرته العسكرية والإدارية وكرمه وحسن معاملته لأتباعه من بناء جيش قوي انتزع به معظم بلاد فارس في خلال فترة قصيرة، واتخذ مدينة شيراز قاعدة لحكمه[5]. وبعد مقتل مرداويج سيطر البويهيون على أصفهان والري وهمذان والكرج وكرمان والأهواز.
لم تقف الخلافة العباسية مكتوفة اليدين إزاء هذه التطورات السياسية والعسكرية؛ لذلك انتهزت فرصة الصراع البويهي - الزياري، وحاولت استعادة الأهواز، ولكنها لم تستطع ذلك، وأضحى نزولهم من الأهواز إلى العراق أمرًا ميسورًا، فراحوا يراقبون الأحداث في عاصمة الخلافة حتى تسنح لهم الفرصة لدخولها.
كانت الحالة في العراق مضطربة، كما كانت الخلافة واقعة تحت نفوذ الأتراك، وظهر عجزها في إقرار الأمور في العراق، فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي.
نتيجة لذلك تطلع الناس إلى هذه القوة الجديدة التي ظهرت بالقرب منهم لتنشلهم من الفوضى، كما تطلع بعض القادة المغلوب على أمرهم إلى قوة البويهيين النامية، آملين أن يحصلوا بواستطها على الامتيازات التي حُرِموا منها أو أبعدوا عنها. وأخيرًا مال الخليفة المتقي لله لطلب المساعدة من البويهيين، فدعا الخليفة أحمد بن بويه وطلب منه دخول بغداد، كما كاتبه بعض القادة للغاية نفسها، فسار إليها في عام 332هـ/ 944م ، ودخلها في عام 334هـ/ 945م بعدما خرج الأتراك منها، واستقبله الخليفة المستكفي بالله واحتفى به، وخلع عليه وعيَّنه أميرًا للأمراء، ولقبه مُعِزّ الدولة، ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة، كما لقب أخاه حسن ركن الدولة[6]. وهكذا أسس البويهيون في فارس والعراق والأهواز وكرمان والرَّيِّ وهمذان وأصفهان إمارات وراثية دامت حتى عام 447هـ/ 1055م، وقد أدى نظام الوراثة هذا إلى إيجاد نوع من الاستقرار السياسي في دولة الخلافة العباسية، سيطر البويهيون أثناءها على مقاليد الأمور، وتصرفوا بشكل مطلق، لكن هذا الاستقرار كانت تشوبه بعض الاضطرابات الناتجة عن النزاعات المذهبية بفعل تشيُّع الأسرة البويهية[7]. شجرة الحكام
أ- في فارس:
1- عماد الدين أبو الحسن علي بن بويه (320- 338هـ/ 932- 949م).
2- عضد الدولة أبو شجاع خسرو (338- 372هـ/ 949- 982م).
3- شرف الدولة أبو الفوارس شيرزاد (372- 379هـ/ 982- 989م).
4- صمصام الدولة أبو كاليجار المرزبان (379- 388هـ/ 989- 998م).
5- بهاء الدولة أبو نصر (388- 403هـ/ 998- 1012م).
6- سلطان الدولة أبو شجاع (403- 415هـ/ 1012- 1021م).
7 -عضد الدولة أبو كاليجار المرزبان (415- 440هـ/ 1024- 1048م).
8 -الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز (440- 447هـ/ 1048- 1055م).
ب- في العراق والأهواز وكرمان:
1- معز الدولة أبو الحسين أحمد (320- 356هـ/ 932- 967م).
2- عز الدولة بختيار (356- 367هـ/ 967- 977م).
3- عضد الدولة أبو شجاع خسرو (367- 372هـ/ 977- 982م).
4- شرف الدولة أبو الفوارس شيرزاد (372- 379هـ/ 982- 989م).
5- بهاء الدولة أبو نصر (379- 403هـ/ 989- 1012م).
6- سلطان الدولة أبو شجاع (403- 412هـ/ 1012- 1021م).
7- مشرف الدولة أبو علي (412- 416هـ/ 1021- 1025م).
8- أبو طاهر جلال الدولة (416- 435هـ/ 1025- 1043م).
9- أبو كاليجار مرزبان (435- 440هـ/ 1043- 1048م).
10- الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز (440- 447هـ/ 1048- 1055م).
ج- في الرَّيِّ وأصفهان وهمذان:
1- ركن الدولة أبو علي حسن (320- 366هـ/ 932- 976م).
2- مؤيد الدولة أبو منصور (366- 373هـ/ 976- 983م).
3- فخر الدولة أبو الحسن علي (373- 387هـ/ 983- 997م).
4- شمس الدولة أبو طاهر (في همذان فقط) (387- 412هـ/ 997- 1021م). 5- مجد الدولة أبو طالب رستم (في الري فقط) (387- 420هـ/ 997- 1029م). 6- سماء الدولة أبو الحسن (في همذان فقط) (412- 414هـ/ 1021- 1023م)[8]. علماء الشرع في الدولة البويهية
علماء القراءات في الدولة البويهية:
أبو الحسين أحمد بن بويان (ت 344هـ)، ومحمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون الموصلي البغدادي النقاش (ت 351هـ) الذي صنَّف كتابًا في القراءات، وعبد الغفار بن عبيد الله السري الكوفي (ت 367هـ)، وعمر بن إبراهيم بن أحمد بن كثير البغدادي (ت 390هـ)، وعبد الغفار بن عبد الله بن السري أبو الطيب الكوفي (ت 390هـ)، وإبراهيم بن أحمد الطبري المالكي البغدادي (ت 393هـ) صاحب كتاب (الاستبصار)، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري (ت 393هـ)، ومحمد بن أحمد بن علي البغدادي (ت 399هـ)، وعبد الملك بن بكران أبو الفرج النهرواني (ت 404هـ)[9]. علماء التفسير في الدولة البويهية:
محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم أبو بكر البغدادي (ت 354هـ)[10]، وأبو القاسم هبة الله بن سلامة البغدادي (ت 410هـ)[11]، والحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي (ت 377هـ) صاحب كتاب (القرآن ومعانيه)[12]، وأبو بكر بن محمد بن الحسين الموصلي (ت 351هـ)، وعلي بن عيسى بن علي الرُّمَّاني الواسطي (ت 384هـ)، ومحمد بن الطيب الباقلاني (ت 403هـ)، ومحمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الشريف الرَّضِيّ (ت 406هـ)[13]، وعبيد الله بن جرو الأسدي (ت 387هـ)[14]، وأبو بكر أحمد بن علي الجصَّاص (ت 370هـ)[15]. علماء الحديث في الدولة البويهية:
أبو محمد دعلج بن أحمد السجستاني البغدادي (ت 351هـ)[16]، ومحمد بن محمد بن يعقوب بن إسماعيل بن الحجاج أبو الحسين المعروف بالحجاجي (ت 368هـ)[17]، ومحمد بن العباس بن أحمد بن عصم أبو عُصم أبو عبد الله ويعرف بالعصمي (ت 378هـ)[18]، ومحمد بن المظفر بن موسى بن عيسى أبو الحسين البزاز (ت 379هـ)[19]، ومحمد بن علي بن الحسين بن الحسن العلوي يُكْنَى أبا الحسن (ت 395هـ)[20]. والحافظ أبو علي سعيد بن السكن البغدادي (ت 353هـ)[21]، والإمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ)[22]، والحافظ أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل البغدادي (ت 348هـ)[23]، وأبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري (ت 360هـ)[24]، والحافظ أبو الحسين أحمد بن عبيد بن إسماعيل البصري الصفار (ت 340هـ)، وأبو محمد دعلج بن أحمد السجستاني البغدادي (ت 351هـ)[25]، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد ربه البغدادي البزاز (ت 354هـ)[26]. علماء الفقه في الدولة البويهية:
أبو الحسن الكرخي (ت 340هـ)[27]، وأبو بكر أحمد بن علي الرازي (ت 370هـ)[28]، والحسن بن القاسم الطبري الشافعي أبو علي (ت 350هـ)[29]، وأبو الفرج المُعَافَى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود المعروف بابن طراف الجريري النهرواني القاضي (ت 390هـ)[30]، والحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله الوراق الحنبلي (ت 403هـ)[31]، وأحمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الفقيه الإسفراييني (ت 406هـ)[32]. علماء اللغة والأدب في الدولة البويهية:
ابن جني (ت 392هـ)[33]، وأبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد (ت 345هـ)[34]، وأبو علي القالي البغدادي (ت 356هـ)[35]، وأبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم (ت 354هـ)[36]، وأبو الحسن الأسدي بن الكوفي (ت 378هـ)[37]، وأبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي (ت 368هـ)[38]. الأدباء في الدولة البويهية:
محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول أبو بكر الصولي (ت 335هـ)[39]، وأبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون الصابئ (ت 384هـ)[40]، وأبو علي المحسن بن علي بن داود التنوخي (ت 384هـ)[41]. الشعراء في الدولة البويهية:
أبو القاسم علي بن إسحاق بن خلف الزاهي (ت 360هـ)[42]، وأبو الحسن محمد بن محمد بن لنكك البصري (ت 360هـ)[43]، وأبو الحسن عقيل بن محمد الأحنف العكبري (ت 385هـ)[44]، وأبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد القرشي المخزومي السَّلاَمِيّ (ت 393هـ)[45]، وأبو الحسن محمد بن الحسين الملقَّب بالشريف الرَّضِيّ (ت 406هـ)[46]. علماء الحياة في الدولة البويهية
أ- علماء التاريخ في الدولة البويهية:
علي بن الحسين بن علي الهذلي البغدادي المؤرخ المسعودي (ت 346هـ)[47]، وأبو الفرج قدامة بن جعفر (ت 337هـ)[48]. ب- علماء الجغرافيا في الدولة البويهية:
أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإصطخري (ت 346هـ)[49]، وأبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الموصلي (عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري )[50]، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346هـ)[51]. جـ- علم الكلام في الدولة البويهية:
أبو عبد الله الحسين بن علي بن إبراهيم المعروف بالكاغدي (ت 399هـ)[52]. د- علم التصوف في الدولة البويهية:
أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري (ت 371هـ)[53]، وأبو طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي (ت 386هـ)[54]. هـ- علم الطب في الدولة البويهية:
أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي الأشعث (تُوفِّي في 360 ونيف)[55]، وأبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة (ت 363هـ)[56]، وثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني أبو الحسن (ت 395هـ)[57]، وعلي بن العباس المجوسي (ت 384هـ)[58]. و- علم الصيدلة والكيمياء في الدولة البويهية:
ماسويه المارديني (ت 406هـ)[59]. ز- العلوم الرياضية في الدولة البويهية:
أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني (ت 338هـ)[60]، وعلي بن أحمد العمراني الموصلي (ت 344هـ)[61]، وأبو حامد أحمد بن محمد الصاغاني (ت 379هـ)[62]. أعلام السياسة في الدولة البويهية
1- معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه (320- 356هـ/ 932- 967م):
كان سلطان معز الدولة بالعراق مبدأ خرابه بعد أن كان جَنَّة الدنيا، فإنه لما استقرت قدمه فيه شغب الجند عليه وأسمعوه المكروه، فضمن لهم أرزاقهم في مدة ذكرها لهم، فاضطر إلى ضبط الناس وأخذ الأموال من غير وجوهها، ولم تمضِ سنة حتى اشتد الغلاء ببغداد، فأكل الناس الميتة والسَّنَانير والكلاب، وأكل الناس خروب الشوك، فقد كانوا يسلقون حَبَّه ويأكلونه؛ فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم، وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة، فمات أكثرهم في الطريق، وبيعت الدور والعقارات بالخبز[63]. كان أهل بغداد قبل الدولة البويهية على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، فلما جاءت هذه الدولة وهي متشيعة غالية؛ نما مذهب الشيعة ببغداد، ووجد له من قوة الحكومة أنصارًا، فقد كُتِب على مساجد بغداد سنة 351هـ ما صورته: (لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فَدَكًا، ومن منع من أن يُدفن الحسن عند قبر جَدِّه صل الله عليه وسلم، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى). فأما الخليفة فكان محكومًا عليه، لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك.
فلما كان الليل حَكَّه بعضُ الناس، فأراد معز الدولة إعادته، وأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما مُحِيَ: لعن الله الظالمين لآل رسول الله صل الله عليه وسلم. ولا يذكر أحدًا في اللعن إلا معاوية، ففعل ذلك[64]. وفي عاشر المحرم سنة 352هـ أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يُظهِروا النِّياحة، ويلبسوا قبابًا عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشَّرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما. ففعل الناس ذلك، ولم يكن لأهل السُّنَّة قدرة على المنع لكثرة الشيعة؛ ولأن السلطان معهم[65]. 2- عز الدولة بختيار (356- 367هـ/ 967- 977م):
هو ابن معز الدولة أحمد بن بويه ولي العراق بعد وفاة أبيه، واستمر في سلطانه إلى أن خلعه ابن عمِّه عضد الدولة سنة 367هـ، فكانت مدته 11 سنة، كانت البلاد في سلطانه أسوأ حالاً منها في سلطان أبيه، فإنه اشتغل باللهو واللعب وعشرة النساء والمغنيين[66]. 3- عضد الدولة أبو شجاع خسرو (338- 372هـ/ 949- 982م):
لقد ساهم البويهيون في تقدم وازدهار بلاد العراق وفارس التي خضعت لحكمهم، وخاصةً في عهد عضد الدولة بن الحسن بن بويه (338- 372هـ/ 949- 982م) الذي وصلت الدولة في عهده إلى أوج عزِّها ومجدها؛ إذ نجح هذا الملك في التفوق على إخوته وأبناء عمومته وتوحيد فارس والعراق تحت سلطته، كما وطَّد علاقته بالخليفة العباسي الطائع لله (363- 381هـ/ 973- 991م) إذ تزوج الخليفة الطائع ابنته، وتزوج هو ابنة الخليفة.
وبالرغم من ذلك فقد حرص عضد الدولة البويهي على توثيق الروابط بينه وبين الخليفة الفاطمي العزيز بالله في مصر، وقد أشار ابن تَغري بَرْدِي إلى الرسائل الوُدِّية المتبادلة بين العاهلين في سنة 369هـ/ 979م[67]. وقد اعترف الملك البويهي في خطابه للعزيز بإمامة الفاطميين، وبفضل أهل البيت، مُظهِرًا طاعته ومحبته له، وردَّ العزيز بالله على عضد الدولة برسالة كلها شكر وتقدير وامتنان للملك البويهي.
والجدير ذكره في هذا المجال هو أن رسالة الخليفة الفاطمي قُرِئت في حضرة الخليفة العباسي، كما أرسلت رسالة عضد الدولة إلى مصر بعلم الخليفة، فإن دلَّ ذلك على شيء إنما يدل على مدى ضعف الخلفاء العباسيين زمن سيطرة البويهيين، فقد كانوا رمزًا لا حول لهم ولا قوة[68].
إنجازات الدولة البويهية
لقد أنشأ مُعِزُّ الدولة البويهي بيمارستانًا ببغداد سنة 355هـ[69]. كما تمكَّن عضد الدولة البويهي خلال فترة حكمه الطويلة (35 سنة) أن يضمن للدولة العباسية استقرارًا وازدهارًا بفضل المشاريع العمرانية التي قام بها، مثل (السد العظيم) الذي شيَّده عند مدينة شيراز بفارس، وعُرف باسم (باندي أمير) أي سدَّ الأمير، و(سد السهيلة) بالقرب من بلدة النهروان في العراق. ومن أعماله العمرانية أيضًا المشهد العظيم الذي شيده على قبر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمدينة النجف، والمارستان العضدي الذي بناه في الجانب الغربي من بغداد لعلاج المرضى، وفرغ من بنائه سنة ثمانٍ وستين وثلاثمائة، وأنفق عليه مالاً عظيمًا، يقول عنه ابن خلكان: "وليس في الدنيا مثل ترتيبه،... وأعدَّ له من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه"[70]. كما اهتمَّ عضد الدولة بترميم بغداد وإعادة بناء ما تهدم من مساجدها وأسواقها، ووزَّع الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقُرَّاء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وأنشأ الحدائق والمنتزهات، وأمر بتنظيف مجاري الأنهار، وبناء الجسور، وحفر الترع والأخاديد، وأقام المسنيات (آلات لتوجيه المياه)، وفتح أقنية جديدة فسال الماء يروي الأرض؛ لكي يمنع الناس من الاستبداد بالأقنية والمياه، ووضع عليها الحرَّاس بحيث لا يعتدي أحد على حق غيره. كذلك اهتم بإقامة العدل بين الناس والفلاحين، فأبطل الضرائب المزيدة على الفلاحين ورفع الظلامات، وأجاب شكوى المشتكين، ولم يراعِ بذلك الجند، بل طلب منهم تأدية ما عليهم. ثم إنه نظر في حال المزارعين، فوجد أنهم لا يستطيعون تأدية الضرائب في المواعيد المحددة؛ لأن المحصول كان يأتي بعد هذه المواعيد؛ فأخرها إلى ميعاد سماه (النيروز العضدي)، وهو يأتي في وقتٍ يكون محصول الأرض فيه قد ظهر وبان.
كما أقام قصورًا له، منها قصرٌ في شيراز فيه ثلاثمائة غرفة، وهو قصر عظيم، وفيه خزائن كتب هائلة مفتوحة للعلماء. وأصلح الطرقات وبخاصة طريق العراق - مكة، وأذن لوزيره النصراني نصر بن هارون في بناء وترميم الكنائس والأديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم[71]. والحضاري ص154، 155. د/ يوسف العش: تاريخ عصر الخلافة العباسية ص195.
الحياة العلمية والأدبية في عهد الدولة البويهية
ازدهرت الحياة العلمية والأدبية في عهد بني بويه ازدهارًا كبيرًا، ومما يدل على ذلك أن عضد الدولة أمر بتوزيع الجرايات على الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنَّسَّابين والأطباء والحسَّاب والمهندسين[72]. كما بالغ في إكرام العلماء والإنعام عليهم حتى تضاعفت في أيامه المصنَّفات الرائعة في مختلف العلوم، مثل: كتاب الحجة في القراءات السبع لأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي، والكناش العضدي في الطب لعلي بن العباس المجوسي، وكتاب التاجي في أخبار بني بويه لأبي إسحاق إبراهيم الصابي الذي لم يجد في تاريخ الديالمة من المفاخر والأمجاد ما يرضي كبرياء بني بويه؛ فعمد إلى التلفيق واصطناع الأخبار المزيفة ليرضي عضد الدولة، وكان هذا من أسباب غضب السلطان عضد الدولة عليه فيما بعد وسجنه. وصنَّف له الشيخ أبو علي الفارسي كتاب الإيضاح والتكملة في النحو، كما عمل له العالم الفلكي أبو الحسين بن عمر الرَّازي كرة تمثِّل السماء بما فيها من أجرام ونجوم.
وكان عضد الدولة فاضلاً محبًّا للعلماء؛ فقصده فحول الشعراء في عصره، ومدحوه بأحسن المدائح، منهم أبو الطيب المتنبي، وَرَد عليه وهو بشيراز في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وفيه يقول من جملة قصيدته المشهورة الهائية:
وقد رأيتُ الملوك قاطبةً ... وسرتُ حتى رأيت مولاهـا
ومَن مناياهـم براحتـه ... يأمرها فيهـم وينهاهــا
أبا شجاع بفارس عضد الـ ... دولة فناخسرو شهنشاها
أساميـًا لم تزده معرفـةً ... وإنما لـذةً ذكرناهــا[73] وعمل الوزراء في دولة بني بويه على تشجيع الحركة العلمية في البلاد، ومن هؤلاء الوزراء أبو الفضل بن العميد (ت 360هـ/ 970م)، فقد وَزَر ابن العميد للملك ركن الدولة صاحب الرَّيِّ وهمذان وأصفهان، فأشرف على تربية وتعليم ولده عضد الدولة، الذي لقبه الأخير بالأستاذ الرئيس[74]. ووصف ابن خلكان الوزير بقوله: "كان أبو الفضل بن العميد متوسِّعًا في علوم الفلسفة والنجوم،... وكان يسمَّى الجاحظ الثاني،... كان يقال: بُدِئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد"[75]. والوزير الصاحب بن عبَّاد الذي ترك رسائل منشورة[76]، وكذلك له كتاب في الأعياد وفضائل النوروز، وقد مدحه شعراء العرب والأعاجم بحسب قوله هو نفسه: "مدحتُ - والعلم عند الله - بمائة ألف قصيدة شعر عربية وفارسية"[77]. الثورات والحروب في الدولة البويهية
الثورات في الدولة البويهية:
حدث في عهد معز الدولة خلافات بين جنده من الأتراك والديلم، فقد كان بينهم غَيْرة ومنافسات، ومنازعات شديدة كانت تعود بالضرر على الناس، حيث تقف حركة التجارة لخوف الناس على ما بيدهم من المال، وقد كادت هذه المنازعات تؤدي سنة 335هـ إلى خلع معز الدولة بيد الديلم، فإنهم لما رأوا تقدم الأتراك ثاروا به، ومقدمهم قائد منهم اسمه روزبهان بن ونداد خورشيد، ولكن معز الدولة انتصر عليه بقوة الأتراك فاصطنعهم دون الديلم، وأمر بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثم أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضهما مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد، ونهبوا الأموال، وصار ضررهم أكبر من نفعهم[78]. الحروب في الدولة البويهية:
كان أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي أميرًا على البصرة باسم معز الدولة، ولكن نفسه كانت تطمح إلى الاستقلال بها، فكان لا يرسل إلى معز الدولة خراجًا[79]. وفي سنة 335هـ اختلف معز الدولة بن بويه وأبو القاسم البريديّ والي البصرة، فأرسل معز الدولة جيشًا إلى واسط، فسيَّر إليهم البريدي جيشًا من البصرة في الماء، وعلى الظهر، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب البريدي، وأُسر من أعيانهم جماعة كثيرة.
وفي سنة 336هـ سار معز الدولة ومعه المطيع لله إلى البصرة لاستنقاذها من يد أبي القاسم البريدي، وسلكوا البرية إليها، فأرسل القرامطة من هَجَر إلى معز الدولة ينكرون عليه مسيره إلى البرية بغير أمرهم، وهي لهم، فلم يجبهم عن كتابهم، وقال للرسول: قل لهم من أنتم حتى تُستأمروا؟! وليس قصدي من أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تلقون مني.
ولما وصل معز الدولة إلى الدرهمية استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم إلى هَجَر، والتجأ إلى القرامطة، وملك معز الدولة البصرة[80]. كما كان معز الدولة وناصر الدولة بن حمدان يتنازعان السلطان، وكلٌّ يريد الإغارة على ما بيد الآخر؛ ففي سنة 337هـ سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل قاصدًا الاستيلاء عليها، فلما سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين، ووصل معز الدولة فملك الموصل في شهر رمضان، وظلم أهلها وعسفهم، وأخذ أموال الرعايا، فكثر الدعاء عليه.
وأراد معز الدولة أن يملك جميع بلاد ناصر الدولة، فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان والرَّيّ، ويستمده ويطلب منه العساكر؛ فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة، فترددت الرُّسل بينهما في ذلك، واستقر الصلح بينهما على أن يؤدِّي ناصر الدولة عن الموصل وديار الجزيرة كلها والشام كلَّ سنةٍ ثمانية آلاف ألف درهم، ويخطب في بلاده لعماد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة بني بويه، فلما استقر الصلح عاد معز الدولة إلى بغداد[81]. كما حدثت قوة جديدة زادت من متاعب معز الدولة ومشاغله، وهي قوة عمران بن شاهين (329- 369هـ) الذي كان في أول الأمر جابيًا؛ فقد جَبَى جبايات ثم هرب إلى البَطِيحة، وهي أرض واسعة