منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:23 pm

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والمسيحية



  •  •  •  •  •  •  •



مقدمة تاريخية:
يقول برنارد شو في كتابه "حيرة الطبيب"[1]: "إن الكتاب المقدس صريح جدًّا بموضوع علاج الأمراض، فرسالة جيمس الإصحاح الخامس تحتوي على الإشارات الواضحة الآتية رقم 14 - 15:
"أيوجد بينكم شخص مريض، فليدع شيوخ الكنيسة، وليصلوا عليه، وليدهنوه بالزيت باسم الرب، ثم إن صلاة الإيمان سوف تبرئ المريض، ولسوف يرفعه الرب إلى أعلى، وإذا كان قد ارتكب أوزارًا فسوف تغفر له".
ثم يستطرد برنارد شو قائلاً: وأبناء العائلة الإنجيلية المسيحية يطيعون هذه التعاليم طاعة عمياء، فكانوا يستغنون عن الأطباء، ويوكلون العلاج إلى العناية الإلهية؛ لأنهم يأخذون الكتاب المقدس مأخذ الجد التام، ولم يمكن التخلص من هذا الاعتقاد الذي كان سائدًا في المسيحية في بريطانيا حتى القرن التاسع عشر، إلا بسن قانون يقضي بحبس الأب الذي يموت ولده دون أن يعرضه على الطبيب، ويعاقب بالحبس مدة ستة أشهر".
ثم يقول: إن ديننا لسوء الحظ ضعيف من الناحية الصحية، ذلك بأن إحدى النكبات الكبرى التي ابتليت بها المسيحية هي تلك الحرب المضادة التي شنتها المسيحية على عادة الاستحمام الجسدي الشهواني، التي كانت منتشرة بين الرومان، مما جعل العادات الشخصية القذرة تؤلف جزءًا لا يتجزأ من المسيحية والورع المسيحي، وفي بعض البلاد السيئة الطالع مثل: "جزر السندوتش" كان دخول المسيحية يعني في نفس الوقت انتقال الأمراض والأوبئة إليها، وسبب ذلك أن القائمين على قواعد الدين المحلي الذي كان سائدًا قبل دخول المسيحية (يقصد الإسلام)، كانوا يتمتعون بما يتمتع به محمد رسول الإسلام من حظ كبير من التنور والفهم والإدراك، مما جعله يفرض الكثير من الإجراءات الصحية؛ كأنها فروض وواجبات دينية مثل: الوضوء، والعناية كل العناية بالتخلص من فضلات الجسم بكل عناية واحترام، حتى قلامات الأظافر والشعر، فلما دخل مبشرونا المسيحيون، جاؤوا بكل غفلة وغباء، فنددوا بهذه التعاليم المقدسة، وبتلك العادات الإلهية دون أن يأتوا بشيء يحل محلها، وسرعان ما حل مكانها الكسل والإهمال، ودخلت الأوبئة مع دخول المسيحية.
وتذكر الدكتورة سيجريد هونكة في كتابها الرائع "شمس العرب تسطع على الغرب" [2]: "كانت العناية بالصحة والمرض في العصور الوسطى منوطة برجال الكنيسة والأديرة، فكان الرجال المثخنون بالجراح المدماة يضطرون إلى الانتظار طويلاً؛ استعدادًا للتقرب من سر الاعتراف، وللإقرار بخطاياهم وذنوبهم جميعًا، وتناول الخبز الذي يسمونه جسد الرب قبل أن ينالوا إسعافًا أوليًّا، أو يكتنفهم مأوى أو ملجأ، وكان الكهنة يمرون على المرضى، ويرشونهم جميعًا بالماء المقدس، ويصلون عليهم، ويأمرونهم بتصفية أمورهم الدينية والدنيوية بالاعتراف بآثامهم التي أدت إلى مرضهم، فإذا شفي المريض لأي سبب جاء إلى الكاهن الذي يقول له: "هأنت قد عوفيت، فلا تخطئ مرة أخرى لئلاَّ يصيبك ما هو أعظم".
وقد تسلطت فكرة أن المرض شيطان يتلبس الإنسان في أوربا إلى حد أن الكهنة كانوا يتصورون أن لكل مرض شيطانًا خاصًّا به يختلف عن الآخرين، ولذلك تخصص الكثير من الرهبان والراهبات في علاج أنواع معينة من الأمراض بالدعاء، ولكل قديس منهم نوع معين من الأمراض يعالجه دون غيره، فالقديسة سانت بلير لشفاء أمراض الحلق، والقديسة برناردين لشفاء أمراض الرئة... وهكذا.
وقد ظلت فكرة الربط بين الشيطان والمرض والخطيئة تسيطر على الطب المسيحي؛ حتى بداية القرن التاسع عشر، فتقول د. سيجريد هونكة: "إن الدكتور فيرشمان الأستاذ بجامعة لايبزج كتب سنة 1824 عن مرض تسلط الشيطان، وإثم المرض، وطرق الشفاء القائلة بطرد الشيطان بالقوة وبالدعاء والصلاة للقديسين، ثم يقول: إن الطبيب الذي يجهل هذه الحقيقة ويجهل طرق طرد الأرواح الشريرة شر طردة، فإنما يجهل أهم وسيلة علاجية".
وبناء على هذه النظرية فقد كانت الكنيسة تعتبر أن من يحاول اللجوء إلى الطب والعلاج كافر بالله، وكانت تحارب العلماء والأطباء، وتتهمهم بالسحر والشعوذة والهرطقة، وكانت إحدى أهم وسائل العلاج هي ضرب المريض بالعصا لإخراج الشيطان من جسمه، وكثيرًا ما يؤدي الضرب إلى الوفاة.
كان هذا يحدث في أوروبا منذ سيطرة الكنيسة المسيحية فيها، وحتى عهد قريب من بداية النهضة الحالية، فماذا كان الحال في العالم الإسلامي في نفس الفترة.
فتقول الدكتورة سيجريد هونكة تحت عنوان "مستشفيات مثالية وأطباء لم ير العالم لهم مثيلاً"، - وذلك في وصف الطب والعلاج في المستشفيات الإسلامية منذ ألف عام -: إن الأوضاع كانت تشبه إلى حد بعيد ما نراه اليوم في قرننا العظيم العشرين، فقد كانت المستشفيات تبنى بكثرة في كل المدن العربية الكبيرة الواقعة ما بين جبال الهملايا، وجبال البيرينية، وكان في مدينة قرطبة وحدها خمسون مستشفى في أواسط القرن العاشر، وكانت المستشفيات تتمتع بموقع تتوافر فيه كل شروط الصحة والجمال، وتقدم خدماتها للفقراء والأغنياء بدون تمييز... إلخ".
والمسلمون أول من بنى مستشفيات متخصصة للمعوقين والمجانين؛ لأن الإسلام اعتبرهم مرضى وغير مسؤولين عن أفعالهم، فالله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، والشريعة الإسلامية تعفي المجنون والمعتوه من أي مسؤولية، ولا يقام عليه الحد.
وقد جاء في صك الأوقاف التي حبس ريعها لصالح مارستان النوري في حلب أن كل مجنون يختص بخادمين، فينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء، ثم يلبسانه ثيابًا نظيفة ويحملانه على أداء الصلاة، ويسمعانه القرآن، ثم يفسحانه في الهواء الطلق، ويسمح له بالاستماع إلى الأصوات الجميلة والنغمات الموسيقية المطربة.
أما في أوربا في نفس الفترة فكان المجانين يُحرمون من دخول المستشفيات، ويُقَيَّدون بالسلاسل في بيوت الجنون، وهي أقرب إلى السجون، وكان الدواء الوحيد الذي يقدم إليهم أن يحضر الكاهن كل يوم ليضربهم بالسياط لإخراج الشيطان منهم، وهذه الصورة المقابلة من كتاب تاريخ الطب لأول طبيب في أوروبا في القرن الثامن عشر يعلن بطلان هذه الأفكار، ويأمر بفك السلاسل عن المجانين، ومنع ضربهم فيما اعتبر في وقتها ثورة ضد أفكار الكنيسة وتعاليمها.
مفهوم المرض والعلاج في التوراة والإنجيل والقرآن:
كانت تلكمقدمة لا بد منها؛ لكي نفهم الفارق الكبير بين الأديان الثلاثة في مفهوم المرض والعلاج.
 - فالإسلام يختلف اختلافًا جذريًّا في نظرته إلى هذه القضية.
- فالمرض في نظر اليهودية والمسيحية عبارة عن شيطان يدخل جسم الإنسان؛ بسبب معصية يرتكبها في حق الله، في حين أن الإسلام يعتبر أن المرض من قضاء الله وقدره، يصيب الطيب والشرير، والمخطئ والمصيب، وأنه لا علاقة له بالشيطان، وأن الشيطان لا يستطيع التأثير على جسم الإنسان، أو التسبب في مرض معين.
وبناء على هاتين النظريتين المختلفتين؛ فلا بد أن يحدث اختلاف بَيِّن في أسلوب ومفهوم العلاج:
- ففي اليهودية والمسيحية يعتمد العلاج على الصلاة والدعاء لطرد الشيطان.
- بينما في الإسلام يعتمد العلاج على الطب والدواء.
- وفي الحالة الأولى يقوم بالعلاج الكاهن أو رجل الدين.
- وفي الحالة الثانية يقوم بالعلاج الطبيب المختص، ولا علاقة لرجل الدين بذلك.
 وهذه مقارنة بين ما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن في هذه القضية:
ففي العهد القديم: نسمع قصة نبي الله سيدنا أيوب الذي أصابه الشيطان بالأمراض المختلفة، فقد جاء في سفر أيوب الإصحاح الأول: فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؛ لأنه ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر؟ فأجاب الشيطان الرب، وقال: هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سبحت حوله وحول بيته، ثم يقول الشيطان للرب: ولكن أبسط يدك الآن، وامسس كل ما له فإنه في وجهك يحدق عليك، فقال الرب للشيطان: هو ذا كل ماله في يدك؛ وإنما إليه لا تمد يدك، ثم خرج الشيطان من أمام وجه الرب. "الكتاب المقدس" أيوب الإصحاح الأول 8 ص 792.
وبناء على هذا الإذن من الله، أخذ الشيطان يتلف كل شيء عند أيوب فحرق الزرع، وقتل الغنم والبقر، وجاء بريح قوية هدمت زوايا البيوت؛ فتهدمت على أولاده وبناته فقتلتهم، ومع ذلك فقد صبر أيوب، ولم يكفر بالله، فعاد الشيطان يطلب من الله أن يأذن له ليصيب أيوب في جسده بالأمراض، ثم تقول التوراة: فخرج الشيطان من حضرة الرب، وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شقفة ليحك بها وهو جالس في وسط الرماد، ومع ذلك فلم يكفر أيوب بالرب وصبر على بلائه، فأمر الرب الشيطان أن يترك أيوب فشفي في الحال.
فارتباط المرض بالشيطان واضح لا لبس فيه، وهو ارتباط عضوي، وليس مجرد وسوسة ولا إيحاء.
أما في المسيحية فإن الارتباط بين المرض والشيطان والخطيئة أقوى بكثير، فالمسيحية تعتبر أن المرض شيطان يدخل جسم الإنسان؛ بسبب ارتكابه للخطايا في دنياه، وبذلك يكون العلاج الوحيد للمرض هو الصوم والصلاة، فإذا لم يأت هذا بنتيجة فمعنى ذلك أن إيمان الرجل ضعيف، وأن ذنوبه كبيرة فلا يقبل الله له الغفران، ولا بد في هذا الحالة من تدخل رجال الكنيسة؛ لكي يقرؤوا عليه الصلوات، ويدهنوه بالزيت المقدس.
وفي الإنجيل نجد دائمًا ارتباطًا وثيقًا بين المرض وتلبس الشيطان، وبين المرض والخطايا وضعف الإيمان، فقد جاء في "متَّى" 8 / 14: "وعند حلول المساء أحضر إليه الناس كثيرين من المسكونين بالشياطين، فكان يطرد الشياطين بكلمة منه، وشفي المرضى جميعًا".
وجاء في "متَّى" 9/ 32: "جاء بعضهم بأخرس يسكنه شيطان، فلما طرد الشيطان تكلم الأخرس، فقال الفريسيون: إنه يطرد الشياطين برئيس الشياطين.
وجاء في "مَتَّى" 12/ 22: "ثم أحضر إليه رجل أعمى وأخرس يسكنه شيطان، فشفاه حتى أبصر وتكلم".
وتحت عنوان "عودة الروح النجس"، يتحدث الإنجيل عن عودة المرض إلى جسم المريض بعد شفائه منه، فقد جاء في "مَتَّى" 12/ 43: "مَتَى خرج الروح النجس من إنسان يسكنه يهيم في الأماكن القاحلة طالبًا الراحة، فلا يجد؛ فيقول: أرجع إلى مسكني الذي فارقته فيجده فارغًا مكنوسًا مزينًا، فيذهب ويحضر معه سبعة أرواح أخرى أكثر منه شرًّا فتدخل جميعًا، وتسكن ذلك الإنسان فتكون آخرته أسوأ من حالته الأولى".
أما عن ربط أسباب المرض بالخطايا وبضعف الإيمان: فقد حاول تلاميذ المسيح أن يشفوا طفلاً مصابًا بالصرع بالقراءة عليه ففشلوا، فجاء المسيح وزجر الشيطان، فخرج من الصبي وشفي من تلك الساعة، فسألوه: "لماذا عجزنا نحن أن نطرد الشيطان؟ فأجابهم: "لقلة إيمانكم".
وجاء في "متَّى" 17/ 21 عن المرض: "أما هذا النوع من الشياطين فلا يطرد إلا بالصلاة والصوم".
الطب والعلاج في نظر الإسلام:
لقد جاء الإسلام بمفاهيم جديدة تختلف كل الاختلاف عن المسيحية في نظرته إلى المرض، فنفى أن يكون المرض شيطانًا أو روحًا نجسة تصيب الإنسان، وأنكر أن يكون المرض بسبب خطيئة يرتكبها الإنسان بحق الله، ونفى كل الطقوس المسيحية التي يقيمها الرهبان لشفاء المرض وإخراج الشيطان من جسم المرض؛ بل إنه نفى أن يكون هناك رجل دين أصلاً بالمفهوم المسيحي؛ ليكون واسطة بين الله والإنسان، ومن حقه غفران الذنوب أو شفاء المرض.
والمفهوم الإسلامي عن المرض يساير النظرة العلمية الحديثة، ويسبقها بعشرات القرون، فالإسلام يعتبر أن المرض هو قضاء الله وقدره، وأنه لا علاقة له بالذنوب والخطايا؛ بل هو يصيب الإنسان الصالح كما يصيب الشرير، لا فارق بينهما في المرض، وأنه لا بد من وسيلة للشفاء يعرفها أهل الذكر، وهم هنا العلماء والأطباء، أما عن دور الدعاء والصلاة فهي لرفع معنويات المريض وتقوية عزيمته على مقاومة المرض؛ ولكنها لا تغني عن الطب والدواء.
وكثيرًا ما كان الصحابة يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكي يشفي مرضاهم، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور المريض، ويدعو له بالشفاء، ثم يقول لهم: ادعوا له الطبيب، فكانوا يتعجبون من ذلك، ويقولون له: "وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟"؛ أي أنت أيضًا تطلب منا استدعاء الطبيب، ولا تشفي المريض بيدك، فيقول لهم - صل الله عليه وسلم -: ((نعم، تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له الدواء، علمه من علم، وجهله من جهل، فإذا أصاب الدواء الداء برأ المريض بإذن الله))؛ رواه الترمذي، والدرامي، وابن ماجه، وابن حنبل.
وكان الرسول - صل الله عليه وسلم - نفسه يمرض ويزوره الأطباء؛ كأي بشر، ويكتبون له الإنعات؛ أي الوصفات الطبية، ويتناول الدواء حسب أوامرهم، وكان الصحابة يسألونه: أتمرض مثلنا يا رسول الله؟، فيقول لهم: ((إني أوعك - أي أعاني من المرض - مثل رجلين منكم)).
والإسلام يرد بكل صراحة ووضوح على القدريين الذين يدعون أن اللجوء إلى الطب والدواء معناه: محاولة الهروب من قدر الله، فقد جاء جماعة من الصحابة يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، هل في دواء نتعاطاه ووقاية نتخذها، هل تمنع هذه من قدر الله؟ فقال - صل الله عليه وسلم -: ((بل هي من قدر الله))؛ رواه الترمذي، وأحمد، والحاكم.
ومن أعظم الإنجازات في ميدان العلاج التي انفرد بها الإسلام عن كل المفاهيم السابقة له، أنه أعلن لأول مرة في التاريخ الإنساني أنه لا يوجد أي مرض يصيب البشر إلا وله دواء لمكافحته، وأن على العلماء والمختصين في كل عصر أن يجتهدوا حتى يكتشفوا الأدوية الجديدة الفعالة. وفي ذلك يقول الرسول - صل الله عليه وسلم -: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء))؛ رواه النسائي، وابن ماجه، والحاكم، وروى مسلم: ((لكل داء دواء علمه من علم، وجهله من جهل، فإذا أصاب الدواء الداء برأ المريض بإذن الله))، فهذا المبدأ الذي جاء به الإسلام منذ عدة قرون أصبح شعار الطب الحديث في عصرنا الحاضر، وتتبناه الدول المتقدمة، فترصد ميزانية ضخمة للأبحاث العلمية والمعملية لاكتشاف علاج جديد لكل مرض مستعصٍ، تحت شعار أنه لا يأس من الشفاء، حتى آخر لحظة من عمر المريض.
وخلاصة القول: إن الاختلاف بين الإسلام والديانات الأخرى حول مفهوم الطب كبير جدًّا، وهذا يقودنا إلى النتيجة الحتمية وهي: أنه في العصور الوسطى التي سادت فيها المسيحية، وحكم الكنيسة في أوروبا، وطبقت هذه المفاهيم، تأخرت مهنة الطب وتخلفت؛ بينما نجد في نفس الفترة عندما طبقت المفاهيم والتعاليم الإسلامية، أنه قد ارتقى الطب في العالم الإسلامي حتى بلغ الذروة.
الإسلام ومفهوم الشيطان:
علاقة الشيطان بالمرض:
رأينا في الديانات الأخرى أن الشيطان يستطيع أن يفعل بالإنسان أي شيء يريده، وأن تأثيره مادي ومباشر، فهو يدخل جسم الإنسان فيحدث به الدمامل، والقرح، والحمى؛ كما جاء في التوراة، وهو يستطيع أن يحرق الزرع، ويقتل الماشية والأطفال، وفي الإنجيل نجده يسبب الأمراض كلها من برص، وعمى، وشلل، وجنون، والإنسان إزاء هذا كله لا حول له، ولا قوة أمامه إلا أن يصلي ويصوم ويدعو الله.
أما في الإسلام فإن تأثير الشيطان على الإنسان لا يتعدى الوسوسة، والإيحاء بالشر، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 - 6].
وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} له دلالة كبيرة وهي أن وسوسة الشيطان لا تختلف عن وسوسة أي إنسان آخر يحرض غيره من البشر على الشر، وفي جميع آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تأثير الشيطان على الإنسان، نجد أن هذا التأثير المعنوي معنوي وأخلاقي فقط، وليس تأثيرًا ماديًّا، فمن ذلك قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24]، وقوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]. 




[1]   حيرة الطبيب - برنارد شو - دار الفكر العربي - ترجمة عمر إبراهيم مكاوي
The Doctor's Dilemma, George Bernard Show.
[2]   كتاب: "شمس العرب تسطع على الغرب"؛ دكتورة سيجريد هونكة - ترجمة المكتب التجاري – بيروت.
Allahs Sonne Uber, Dem Abendland, Unser Arabisches Enbe (Sigrid Hanke).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:26 pm

تاريخ علم الطب عند المسلمين

 
لم تُعدَّ الجزيرة العربية - قبل الإسلام - مدارس في أيِّ فرع مِن فروع المعرفة، فلقد كانت الأمية مُتمكِّنة مِن سكانها، وكانت معارفهم بشتى العلوم المُنتشِرة في البلاد المُجاوِرة، ذات المدارس العريقة، كانت ساذجة ويسيرة جدًّا، ولا يختلف الحال بالنسبة للمعرفة الطبية التي كانت تُبنى في غالب الأمر على تجربة مقصورة على بعض الأشخاص، توارثوها عن مشايخ الحيِّ وعجائزه، وربما صح منه البعض، وقد وجد مَن اكتسى شيئًا من المهارة في التداوي والتطبيب، وفي الجراحة، ووجد كذلك مَن اكتسب خبرة في أمراض العين، وأمراض الأسنان، ومعرفة في بعض الأمراض الأخرى؛ كالحمى، واليرقان، ووجع الكبد (الكباد)، ووجع القلب (القلاب)، والنملة (قروح في الجنب كالنمل).
 
كذلك عرف بعضهم أمراضًا تُصيب الحيوان؛ كالعضد (داء في أعضاء الإبل)، والجرب، ولقد كانت الحجامة والكيُّ أكثر الوسائل استعمالاً بين سكَّان الجزيرة، وكان يُقال: أول الطب الكي، والكيُّ يَشفي مِن كل الأمراض.
 
خلافًا لذلك فقد كانت هناك مدارس طبية عريقة في بعض البلدان المُجاوِرة، مِن أهمها وأبرزها: مدرسة الإسكندرية، التي بُنيت مع بناء الإسكندرية عام 331 ق.م، وقد كان جالينوس من أطبائها، الذي ذاع صيته، وأثَّرت كتبه وكتب أبقراط أعظم تأثير على الطب عند المسلمين، كذلك تخرج منها أهرون الطبيب، صاحب الكناش الطبي المعروف، الذي ربما كان أول كتاب طبي نُقل إلى اللغة العربية، كذلك كانت هناك مدرسة نصيبين، ومدرسة أنطاكية، أخيرًا مدرسة جنديسابور، التي كانت ملتقى لعلماء يونان نزحوا مِن أثينا، علماء سريان وعلماء مِن الهند وعلماء من فارس، وقد نجَم عن هذا الملتقى في مدرسة جنديسابور نشاط علمي، كان له أهمية في تقدُّم الطبِّ فيها، وظهور عدد كبير مِن الأطباء ذوي المكانة العِلمية والمعرفية، ساعد على ذلك التشجيع المادي والمعنوي الذي أتاحه كِسرى أنوشروان (ملك الفرس)، ومِن تشجيعه أنه أرسل أطباء إلى الهند ليَبحثوا عن الكتب الطبية، ولينقلوها إلى اللغة الفهلوية، كما أنه كان عضوًا في ترجمة عدد من الكتب اليونانية الطبية إلى الفارسية أو إلى السريانية، وقد قيل: إن الحارث بن كلدة كان أول من تلقى دراسة عِلمية من معشر العرب في مدرسة جنديسابور.
 
هكذا كان الوضع الطبي باختصار، في الجزيرة العربية وما حولها من البلدان المجاورة، فالفرق - كما هو واضح - شاسع جدًّا في المستوى الطبي، لكنه سرعان ما اختلف بعد مدة قصيرة مِن انتشار الاسلام، فما هو السرُّ في ذلك يا ترى؟
 
لا شك أن السرَّ يَكمُن في تعاليم الإسلام التي نزلت من السماء على قلب خاتم الأنبياء محمد - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - فلقد جاءت هذه التعاليم لتُنقذ البشرية جمعاء من طريق الضلالة، ولتسلك بها سبيل الرشاد.
 
إن الإنسان - وهو محور رسالة الإسلام - مِن أكرم مخلوقات الله على الله، فلا غَروَ أن يكون موضع التفضيل على كثير ممن خلق الله، ولا غرو كذلك أن يُسخِّر الله له جميع ما في الكون.
 
وبدهي أن تأتي تعاليم الإسلام لتحفظ له هذه الكرامة في بدنه وعقله وروحه، وما على الإنسان إلا أن يتبع هذه التعاليم ليرقى بأوضاعه الصحية، والعقلية، والفِكرية، والروحية، والاجتماعية إلى مستوى مرموق، المستوى الذي يُحقِّق له الفوز بتلك الكرامة التي جعلته سيدًا على مكوِّنات هذا الكون.
 
إن عناية الإسلام بالنظافة والصحة جزء لا يتجزأ مِن عنايته بقوة المسلمين المادية والأدبية، فهو يتطلب أجسامًا تجري في عروقها دماء العافية، ويَمتلئ أصحابها قوة ونشاطًا، فللجِسم الصحيح - كما هو معلوم - أثر لا في سلامة التفكير فحسب، بل في تفاعل الإنسان مع الحياة والناس، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها، وأصلب في كيانها مِن أن تحيا الأمة مُرهَقة موبوءة عاجِزة.
 
وقد وفَّر الإسلام أسباب الوقاية بما شرع من قواعد نظافة دائمة، وبما رسم مِن حياة مُنظَّمة، يلتزم المسلم المُتتبِّع أوامر دينه السير عليها، فهو يستيقظ مع الفجر، ويَبتعد عن السهر، ويتحامى مزالق الشهوة، ويَقتصِد في أطعمته، ويَستعف في معيشه وسيرته، ويُجدِّد نشاطه بالصلوات في اليوم، والصيام في كل عام، وإن بُعْد المسلم عن المعاصي والمُوبِقات - التي انتشرت في كثير من شعوب الأرض انتشار الطاعون - حصانةٌ من الأمراض الخبيثة، والعلل الفتاكة.
 
ومع كل هذا، فإن وقع الإنسان في براثن مرض من الأمراض، فلم يدعْه الإسلام يُعاني ويلاته، بل ألزمه أن يعالجه حتى ينجو منه - بإذن الله؛ فقد ورد في صحيح البخاري: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً))، وفي رواية: ((أنزل له دواءً)).
 
وورد في "صحيح مسلم": ((لكل داء دواء، فإن أصيب دواءُ الدواء برأ بإذن الله - عز وجل)).
 
واضح مِن الحديثَين الشريفَين أن تعاليم الرسول - صل الله عليه وسلم - تفتح الأمل على مصراعيه بالنسبة للمرضى، والأطباء بالشفاء مِن الأمراض، وأنه يَستحقق يومًا من الأيام العثور على الدواء، إذا لم يُكتشف بعد؛ ولهذا كان حريًّا بالناس أن يَلتمسوا الأدوية الناجعة لِما يَحيق بهم من أمراض وآلام.
 
ولطالما نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن إرهاق البدن؛ فلقد جعل له حقًّا يَنبغي على صاحبه أن يُراعي هذا الحق، مِن ذلك قوله - صلوات الله وسلامه عليه - في الحديث المشهور لعبدالله بن عمرو بن العاص، وقد بلغ أنه يقوم الليل ويصوم النهار ولا يأتي أهله: ((صُمْ وأفطر، ونمْ وقمْ؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزَوْجك عليك حقًّا...)).
 
فالإسلام لم يُهمِل أيًّا مِن الجانبين: الروح أو البدن.
 
وبالطبع لا تَقتصِر تعاليم الإسلام الصحية على الفرد، بل تشمل المجتمع أيضًا؛ لهذا فقد كانت أوامره - عليه الصلاه والسلام - أن يَتحرَّى المجتمع أنجع الوسائل في البُعْد عن مواضع وأماكن الهلاك؛ يقول الرسول الكريم - عليه صلوات الله وسلامه - في مناسبة انتشار مرض مُعدٍ: ((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخرجوا منها فرارًا منه))؛ متفق عليه.
 
وبهذا ألزم هذا الدِّين السماوي العظيم أتباعه بضرب الحصار الشديد، إذ منع الدخول والخروج من الأرض الموبوءة، ويَروي البخاري قوله - صل الله عليه وسلم -: ((فِرَّ مِن المجزوم فرارك من الأسد))، بل يفرض على صاحب الإبل المريضة بالجرَب أن يُجنِّبها الاختلاط بالإبل السليمة ساعة ورود الماء؛ حيث يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يُورِدَنَّ مُمرِض على مُصحٍّ))؛ متفق عليه.
 
ومِن تعاليم هذا الدين الكريم محاربة ما يُسمى بالطبِّ الروحاني، أو طب الكهنة والسحرة وأمثالهم من المتاجرين بعمل التعاويذ والتمائم والودَع، وغيرها مما شاع في الجاهلية، ولقد كان مِن هدْي الإسلام وتعاليمه أن حارب الأدعياء الذين يَتزيَّنون بهيئة أهل الطبِّ وليسوا من أهله، وحمَّلهم مسؤولية أخطائهم في التشخيص والعلاج؛ يقول رسول الله - صل الله عليه وسلم -: ((مَن تطبَّب ولم يُعلم منه طبٌّ فهو ضامن))؛ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
 
لأنه - كما يقول ابن القيم - تعاطى علم الطب، وعمله ذلك يتقدَّم له بعد معرفة، فقد هجَم بجَهلِه على إتلاف الأنفس، أقدم بالتهوُّر على ما لم يعلمه.
 
علاوة على ذلك، فإن الهدْي النبويَّ الشريف يُفيد أن يَستعين المريض بالطبيب الحاذق، وفي "الموطأ" أن رجلاً من الصحابة أصيب بجرح فاحتقن الدم، فدعا النبي - صل الله عليه وسلم - رجلَين من بني أنمار، فنظر إليهما فسألهما: ((أيكما أطب؟))، استنبط ابن القيم أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذقِ مَن فيها؛ فالأحذق إلى الإصابة أقرب.
 
إن الهدْي الكريم هيَّأ أفضل مناخ نفسي وعقلي وعملي واجتماعي، أبدع الإنسان فيه في الطبِّ وفي غير الطب، ولا غرو فقد نهض الطب في البلاد التي حكمها الإسلام نهضة رفيعة، قام على أساسها في عالم الإسلام طبٌّ نظَريٌّ وعملي، كانت كتبه مراجع لأوروبا وغيرها عدة قرون، كما سيتبيَّن فيما بعد.
 
فما إن قامت دولة الإسلام، وتمَّت الفتوحات شرقًا وغربًا، حتى شرَع الكثير مِن محبي العلوم الكونية في البحث عن الكتب المفيدة للقيام بترجمتها، شجَّعهم على ذلك موقف أولي الأمر مِن العلم بشكل عام، ومِن علم الطب بشكل خاص، يذكر ابن جلجل أن ماسرجويه - وقد كان في زمن بني أُمية - تولى ترجمة كتاب أهرن إلى العربية من السريانية؛ إذ وجد عمر بن عبدالعزيز الكتاب في خزائن الكتُب، فأمر بإخراجه ووضعه في مُصلاه، واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلما تمَّ له في ذلك أربعون صباحًا أخرجه إلى الناس، وبثَّه في أيديهم، وهكذا بدأ التطبيب - منذ مطلع العهد الأموي - يتأثَّر بالمدرسة اليونانية، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن عبدالملك بن أبجر الكناني، الذي أسلم على يد عمر بن عبدالعزيز في مصر، كان طبيبًا ماهرًا، درس في مدرسة الإسكندرية، ثم في أنطاكية وحران، أن عمر بن عبدالعزيز - بعد أن أفضت الخلافة إليه - كان يَستطبُّ ابن أبجر، ويَعتمد عليه في صناعة الطب، وقد كان غير ابن أبي أبجر أطباء ماهِرين، من أمثال: ابن أثال - طبيب معاوية بن أبي سفيان الخاص - وأبي الحكم الطبيب النصراني، وابنه الدمشقي، وكان يَلحق بأبيه في معرفته بالمُداواة والأعمال الطبية، والصفات البديعة، وتياذوق وكان طبيبًا فاضلاً، وله نوادر وألفاظ مُستحسَنة في صناعة الطب، وله كناش كبير في الطب ألَّفه لابنه.
 
وهكذا بدأ اتصال المسلمين بالطبِّ اليوناني، ولأول مرة في العصر الأُموي، ولكنه اتصال يَسير، ازداد على أشده مع الزمان في العصر العباسي؛ إذ بدأت حركة الترجمة المنظمة على أشدِّها للكتُب العلمية بوجه عام، والكتب الطبية بوجه خاص.
 
لقد كانت لغة معظم الكتب الدراسية العِلمية التي سادت حتى أواخر القرن الثاني الهجري (النصف الأول من القرن التاسع ميلادي) اللغة السريانية؛ حيث نقلها السريان عن الكتب اليونانية، وما إن بدأ نجم هذا القرن بالأفول حتى احتلَّت الكتب العربية مركز الصدارة وزاد انتشارها.
 
وقد اتَّضح مع الزمان أن الترجمة السريانية لم تفِ بالغرض، ولم تُعطِ النصَّ حقَّه مِن الفهم والإدراك، لما ورد في أصول الكتب اليونانية، لذلك انكبَّ بعضهم - وقد أتقن اللغة اليونانية والسريانية والعربية معًا - على ترجمة الكتب عن اليونانية مباشرة، وكان إسحاق[1]، وابن اخته حبيش، وقد كان كل مِن إسحاق وحبيش أذكى تلاميذ حنين، وعن طريق حنين وابنه وابن أخته نُقل معظم التراث العِلمي الضخم الذي خلفه جهابذة اليونان إلى اللغة العربية، وانتشر في العالم الإسلامي[2].
 
وقد اقتصرت ترجمة حنين وحبيش على الكتب الطبية، أما بقية المترجمين مِن أمثال ثابت بن قرة وابنه سنان، فقد انصرفوا إلى ترجمة البحوث الفلَكية والطبيعية والرياضية والفلسفية الإغريقية.
 
تشف المخطوطات التي تعود إلى حنين عن حرية التصرُّف في الترجمة، وعن مَقدِرة عجيبة للمترجم في اللغة العربية، فأسلوبها سهل المتناول، خالٍ مِن التعقيد، إذا ما قورن بأصله اليوناني، مع دقة في التعبير وخلوٍّ مِن الحشو والركة، لقد قام بالترجمة - كما لوحظ - رجال مِن النصارى أو السريان أو الصابئة؛ فهؤلاء كانوا أعرف باللغات الأجنبية من جهة، ولأن المسلمين من جهة أخرى شُغلوا بنشر الإسلام وإيصال دعوة الله إلى الشعوب الأخرى، فما كان وقتهم ليتَّسع - وهم حملة هذه الدعوة السماوية المُبارَكة - إلى الالتفاف إلى تعلم اللغات الأجنبية؛ كاليونانية، أو السريانية أو القِبطية، أما وقد نشر الإسلام في شرق البلاد وغربها، فقد تغيَّر الوضع، فانصرفت طائفة مِن ذوي المواهب إلى العلوم الكونية؛ كالطبِّ، والفلَك، والرياضيات، والصيدلة، والكيمياء، والفيزياء، و(الميكانيك)، والنبات، والحيوان، وغيرها مما يعود بالنفع على الإنسان.
 
وفي الوقت نفسه اتَّجهت طائفة أخرى مِن ذوي المواهب العالية والذكاء الحادِّ إلى دراسة علوم خاصَّة بالمسلمين فحسب، وساروا فيها شوطًا كبيرًا، ووضعوا لها أصولاً مُستقِرَّة ومناهج واضحة، وكان هذا مِن عملهم وحدهم على غير مثال سابق، مِن ذلك عِلمهم بالفقه وأصوله، وعِلمهم بالحديث والجرح والتعديل، وتمكُّنهم منهما، الأمر الذي يتطلب نضجًا في الفكر وحِدَّة في الذِّهن، وكذلك عِلمهم باللغة والنحو والعَروض، ولهم فيها جميعًا بحوث عميقة وافيَة، وقواعد مُستقِرَّة، وشروح مُستفيضَة.
 
وما إن استوعب المسلمون تلك الكتُب المُترجَمة وهضموها، حتى شرعوا بالتأليف - وكان ذلك في بحر القرن الثالث الهجري - في فروع المعرفة كافة، وكان لمؤلفاتهم الرائدة وأعمالهم الجليلة دور مُهمٌّ جدًّا في تطور العلوم جميعها وتقدمها في العالم، وعلى الأخص أوروبا؛ إذ كانت مؤلفاتهم غاية في الجودة، مِن حيث تبويبها، ووضوح قضاياها، واستقرار مَنطِقها، وهكذا احتلَّت المؤلَّفات العربية الطبية مركز الصدارة، وزاد انتشارها، وأصبحت هي المصدر الجديد الوحيد للنهضة الطبية، وصحب هذه الظاهرة اختفاء معهد جنديسابور وانتقال جميع العلماء والأطباء تدريجيًّا إلى بغداد وسامراء، المصيف الزاهر للخلفاء العباسيين.
 
وقد بدأ انتقال الأطباء إلى بغداد منذ عهد المنصور (ت 158هـ/775م)، وقد قيل: إنه لما مَرض أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، استقدَم الطبيب جورجيس، رئيس أطباء جنديسابور، المُنحدِر مِن أسرة بختيشوع، فقام بخدمة المنصور، ثم جاء ابنه بختيشوع، من جنديسابور، وخدم هارون الرشيد، ومِن بعده جاء جبرائيل بن بختيشوع الذي ظل في خدمة الرشيد، ثم الأمين والمأمون، وقد جمع جبرائيل هذا من ممارسة الطب ثروةً هائلة، ووضع كتبًا كثيرة، وقد ظلَّ أفراد هذه الأسرة في خدمة بلاط العباسيين على امتداد ثلاثة قرون، كان أفرادها موضع تكريم وحَفاوة لدى الخلفاء.
 
هذا وساعد الخلفاء العباسيون بسلطانهم، وساهموا بأموالهم في حركة الترجمة والتأليف، فكان لاعتنائهم واهتمامهم بالطبِّ الأثر الأعظم في التطور السريع الذي حَظي به الطب بخاصة، والعلوم الأخرى بعامة؛ فقد أُنشئ "بيت الحِكمة" في عهد الرشيد، وهو مكتبة هائلة، كانت خزانتها تحتوي على أعظم الكتُب في مختلف العلوم والفنون.
 
أما عملية التأليف والتصنيف فقد بدأت في وقت مُبكِّر، قام بها المترجمون أنفسهم، إلا أنها لم تكن في أغلبها إلا اقتباسًا ونقلاً عن المعارف اليونانية القديمة، ولم يكن فيها مِن الأصالة إلا القليل.
 
بيد أن الأمر اختلف مِن مطلع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ إذ بدأت حركة التأليف المبنيَّة على الإضافة والإبداع، الأمر الذي ظهر فعله وتأثيره في النهظة الطبية الأوروبية، ولا يَخفى أن وظيفة الطبِّ وهدفه عند المسلمين أن يحفظ الصحة على الأصحاء، ويَردَّها - بإذن الله - إلى المرضى؛ لذا فلا غرو أن كان نحو ثلث مؤلفات المسلمين في الوقاية مِن الأمراض والمحافظة على الصحة، ومِن دلالات هذا الاهتمام بحفظ الصحة، أن يُخصِّص علي بن عباس المجوسي في كتابه: "الصناعة الطبية" أو الكتاب الملَكي، واحدًا وثلاثين فصلاً في حفظ الصحة وتدبيرها بالرياضة والاستحمام والغذاء والشراب والنوم والجماع والهواء النقي، والتحرز من الأمراض الوبائية، بل يتحدث عن الأمراض النفسية وغير ذلك مما يدخل فيما نُسمِّيه اليوم بعلم صحة المجتمع، ومثل ذلك في كتُب غيره؛ ذلك لأن الأطباء في العهود الإسلامية كانوا يُجاهرون بأن حفظ الصحة والوقاية مِن الأمراض أهمُّ مِن مداواة المرض وأكثر نفعًا؛ لأن الصحة في الأصحاء موجودة، وفي المرضى معدومة، وحفظ الشيء الموجود أفضل مِن طلب الشيء المفقود.
 
ولم يقتصر التطبيب على فرع خاص مِن الطب، بل تشعَّب - خلال العهود الإسلامية الزاهرة - فروعًا، تخصص في كل منها فريق مِن الأطباء؛ يقول ابن قيم الجوزية في كتابه "زاد المعاد" والطبيب في هذا الحديث - أي: حديث رسول الله صل الله عليه وسلم ((مَن تطبَّب ولم يُعلَم منه الطبُّ قبل ذلك فهو ضامِن)) - يَتناول مَن يطبُّ بوصفه وقوله، وهو الذي يختص باسم الطبائعي، وبمِروَده وهو الكحال - أي: طبيب العيون - وبمِبضَعه ومراهمه وهو الجرائحي - أي الجراح - وبموساه وهو الخاتن، وبريشه وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومشرطه وهو الحَجَّام، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المُجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكَوَّاء، وبقربتِه وهو الحاقن، وسواء كان طبه لحيوان بهيم - بيطري - أو إنسان، فاسم الطبيب يُطلق لغة على هؤلاء كلهم.
 
المصدر: لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:27 pm

الطب الإسلامي



حينما نريد الحديث عن الطب الإسلامي يجب أن نُحدِّد بَدْءًا المقصود بهذه التسمية، وهل هو رديف الطب العربي؟
وهل يشمل الأطباء غير المسلمين الذين ساهموا في الحضارة الإسلامية؟
وهل هو في حدود الدين الإسلامي الذي هو النسبة بينهما؟
لقد كثر الحديث عن تعريفِ الحضارة العربية أو الإسلامية، وعن الفلسفة العربية أو الإسلامية، وعن التصوف الإسلامي، وكثر ما ينسب إلى الحضارة الهندية وما يشبهها من ممارسات سبقت التصوف الإسلامي، لكل ذلك وغيره مما يدور في فلكه، فإن تحديد مصطلح الطب الإسلامي الذي نقصده هنا يفرض علينا مفاهيمه وحدوده.
 
إن إعطاء الصفة الإسلامية كهُوِيَّة للطب يعني قبل كل شيء أنه الطب الذي ينبع من الإسلام كدين له تاريخ محدد وهُوِيَّة محدَّدة، وبالتالي فإن كل الذي سبق الإسلام من طب عربي أو غير عربي يخرج من دائرة التعريف والتحديد هذا.
 
كذلك يخرج منه ممارسات وعلوم الأطباء الذين نقلوا علوم اليونان الطبية، وعلوم الهند الطبية، وغيرها من علوم طبية، سواء كان ناقل هذه العلوم الزائد عليها مسلمًا أو غير مسلم، وهذا يعني خروج ممارسات الأطباء المسلمين الذين اعتمدوا الطب القياسي في علومهم وممارستهم وتجاربهم.
 
يبقى من المصطلح الطب القرآني والطب النبوي وما بني عليهما من اكتشافات وعلاجات؛ أي إن الطب الإسلامي هو طب الوحي أولاً وقبل كل شيء، وكل ما بني عليه من اجتهادات لعلماء المسلمين وأطبائهم، على أن يبقى المرجع الأساس في كل تلك الاجتهادات هو نص قرآني أو حديث نبوي، أو فعل فعله الرسول صل الله عليه وسلم.
 
إن حدود الطب العربي قبل الإسلام معروفة، والممارسات الطبية ذات الطابع الشعبي المرتبطة بالصفة التجريبية والتي أصبحت عادة وعرفًا طبيًّا معروفة أيضًا، وبالتالي فإن الإسلام حينما يقر بعض هذه الممارسات والعلاجات الطبية، فإنما يقرُّها على أساس موقعها الشرعي فقط، فهي لم تنبع من الإسلام كدينٍ، ولكن من المجتمع العربي الذي حمل هذا الدين وتوجَّه هذا الدين إليه، أي إن العلاج الطبي السابق على الإسلام - عربيًّا أو غير عربي - هو ليس من الدين الإسلامي؛ لأنه لم ينبع من الوحي أساسًا قرآنًا أو سنةً.
 
وكما أن الفلسفة لا يجب أن توصف بأنها إسلامية إلا إذا نبعت من القرآن وانبعثت من مفاهيمه، كذلك باقي العلوم الأخرى، ومنها الطب وهو أخصها جميعًا، وقد كانت هذه المسألة مطروحة كثيرًا في الدراسات القديمة والحديثة.
 
لقد جاء في مقدمة ابن خلدون أن ليس هناك أساس للطب النبوي؛ لأنه ليس من الوحي، وأن حديث النبي صل الله عليه وسلم اجتهاد دنيوي كمسألة تأبير النخل[1].
 
أما السيوطي، فقد جاء في مقدمة مخطوطة كتاب (المنهج السوي والمنهل الروي في الطب النبوي)[2]:
"فائدة: قال الخطابي: اعلم أن الطب على نوعين:
الطب القياسي، وهو طب اليونان الذي يستعمل في أكثر البلاد.
 
وطب العرب والهند، وهو طب التجارب، وأكثر ما وصفه النبي (صل الله عليه وسلم) إنما هو على مذهب العرب، إلا ما خُصَّ به من العلم النبوي من طريق الوحي، فإن ذلك يخرق كل ما تدركه الأطباء وتعرفه الحكماء، وكل ما فعله أو قاله في أعلى درجات الصواب، عصمه الله أن يقول إلا صدقًا وأن يفعل إلا حقًّا).
 
وإذا ما جئنا إلى الكتَّاب المعاصرين نجد أن الدكتور "أحمد القاضي" عبر جولة صحية في الإنترنت يقول في هذا الصدد:
(هناك العديد من الآراء ووجهات النظر حول: ما هو الطب الإسلامي؟
أهو علم طبي خاضع تمام الخضوع لمراد الله؟
أم هو فن العلاج الذي ينتهجه المسلمون في أفضل صورة عندما يكون المسلمون في أفضل أحوالهم؟
أم أنه الطب الأكثر حداثة، المهتدي بالتعاليم الإلهية، والمتطابق تمام التطابق معها؟
وأي تلك التعريفات المختصرة سيكون صائبًا؟
 
إننا نحتاج إلى بعض المعايير بهدف الوصول إلى فهم مشترك).
 
وبعد أن يعدِّد الدكتور ستَّ خصائص أساسية للطب الإسلامي، كما اقترحها في المؤتمر الدولي الأول للطب الإسلامي الذي عقد عام 1981، وهي:
• ضرورة خضوعه للتعاليم والآداب الإسلامية.
 
• وضرورة أن يكون منطقيًّا في الممارسة.
 
• وضرورة أن يكون شاملاً في اهتماماته، بحيث يعطي أهمية متساوية للجسد والعقل والروح.
 
• وضرورة أن يكون عالميًّا وعلميًّا.
 
• أما الخصيصة السادسة، فهي (ضرورة أن يكون ممتازًا ومتميزًا، مُحقِّقًا ما عجزت عن تحقيقه فنون العلاج الأخرى).
 
يرى الدكتور أن الخصيصة السادسة هي التي ستأخذ حيَّزها تلقائيًّا إذا تم الالتزام بتلك الخصائص، وهكذا يُعَنْوِن موضوعه هذا (الطب الإسلامي ليس حفرية في أرض الدراويش)، إذًا فهو يرى أن الطب الإسلامي يعالج ما عجز الطب الإكلينيكي عن علاجه أساسًا.
 
ويتحدَّث "محمد عبدالحميد البوشي" في كتابه (الإسلام والطب) بشكل عام؛ حيث يؤكد على صفة خاصة فيه كطب إسلامي، يقول[3]:
(إن الدين الإسلامي جرَّد علم الطب من خرافاته، وفرض على الآخذين به جميع الأصول التي يعتبرها الطب الرسمي اليوم؛ من التمييز بين الطب المقرر المستمر من العلوم والتجارب وبين الدجل الذي يدَّعيه بعض الناس لاستدرار أموال الناس بالباطل).
 
إننا إذ نقول: إن الطب الإسلامي هو الطب كما تحدَّث عنه القرآن والسنة، فإن هذا القول لا يجعل هذين المنبعين للدين عمومًا كتبًا طبيةً مباشرة، ورغم أن هناك من الباحثين مَن أعدُّوا رسالة دكتوراه عن عَلاقة الطب في القرآن، فإنهم لم يقولوا أبدًا: إن القرآن هو كتاب طبي، بل نجد أن مؤلفَي كتاب (مع الطب في القرآن) يقولان في بداية كتابهما[4]:
(صحيحٌ أن القرآن لم ينزل كتابًا في الطب، أو في أي فرع من العلوم، وهو قبل كل شيء منهج للإنسان وعقيدة للحياة، ولكنه منهج كامل، فيه (تبيان لكل شيء)، ضرب الله فيه للإنسان من كل الأمثال، ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]، ولذلك فلا عجب أن نجد أن الله قد بيَّن فيه للإنسان ما يهمه لحفظ صحته، وأرسى لذلك أسسه العريضة).
 
كذلك نجد الحديث عن السنة النبوية الشريفة والطب النبوي لا يقف عند حدود معيَّنة، فنحن نعرف مستوى الطب في عهد الرسول صل الله عليه وسلم، حتى وصفها الدكتور "عبدالرزاق نوفل" بقوله[5]:
(ففي فترة حياة سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وما قبلها - بل وما بعدها إلى أجيال عديدة - لم يكن العالم بأجمعِه يعرف من هذا العلم شيئًا؛ بل ظل إلى عهد قريب وفترة غير بعيدةٍ لا يصل إلى ما قال به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لم يعرف العالَمُ قدرَ أحاديثه صلى الله عليه وسلم وما فيها من طب وصحة وعلم وحكمة، وما تتضمنه من أسباب الشفاء، وتصفه من دواء، حتى نهضة العلم الحديث في جيلنا الحالي، وفي السنين القليلة الأخيرة، ووصل في وثبته الكبرى وبثورته العظمى إلى بعض ما قال به صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولا تقتصر أحاديثه صلى الله عليه وسلم الطبية على فرع من علم الطب دون غيره، بل إنه صل الله عليه وسلم تحدث في فروع الطب المختلفة).
 
ولو أخذنا منظورًا آخر للطب الإسلامي، وهو مشروعيته في الإسلام، لرأينا أن الدين الإسلامي يُؤسِّس نظرته الطبية على حقيقة واقعية.
 
يقول الدكتور "محمود ناظم النسيمي" في كتابه (الطب النبوي والعلم الحديث)[6]:
(إن تعاطي الدواء والأخذ بوسائل الطب والصحة موافقٌ للعقل والشرع:
أما العقل، فلأن في ذلك جلبًا للمنافع ودفعًا للمضار.
وأما موافقتها للشرع، فللأحاديث الكثيرة المتعلقة بالطب النبوي الوقائي والعلاجي).
 
ويضيف:
(الأدوية أسباب خلقها الله تعالى وسائل للشفاء من الأمراض، فالأخذ بها أخذ بسنة الله في كونه، قال الرسول صل الله عليه وسلم: ((إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً، فتداووا))، وفي رواية: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمه مَن علِمه، وجهِله مَن جهِله))؛ أي: لم يحدث الله داءً إلا أحدث له دواءً).
 
لقد حدَّد الرسول صل الله عليه وسلم كثيرًا من العلاجات والأدوية، ولم يكن طبيبًا أو دارسًا للطب، وبعض هذه الأدوية لم يعرف حتى عند اليونانيين وأطبائهم، وهم المعروفون بأنهم مؤسِّسو علم الطب، كما أن منها ما لم تعرفه العرب في وقته عليه الصلاة والسلام، فكيف نستطيع أن نفهم هذه الممارسة الطبية الجسمية خاصة، وكيف نستطيع أن نعرف حقيقتها الكيماوية أو الفارماكولوجية والصيدلانية؟! كل هذا وغيره جعل السؤال يُطرَح أمام الباحثين في الطب الإسلامي والطب النبوي خاصة[7]، (فهل الأدوية الواردة على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام نتيجة إلهام ووحي من الله تعالى، أم نتيجة معارف دنيوية لطب العرب في عصر الرسالة؟).
إن الجواب يكمن فيما قاله ابن قيم الجوزية في كتابه (الطب النبوي)، فهو بعد أن سرد مصادر الطب عند الأطباء القدامى:
فمنهم مَن يقول: هو إلهامات ومنامات وحدس صائب.
ومنهم مَن يقول: أخذ من ممارسات الحيوانات البهيمية التي تعالج نفسها.
ومنهم مَن يقول: هو قياس.
 
يعود للقول مقارنًا بالطب النبوي[8]:
(وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره؟ فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتدِ إليها عقولُ أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم؛ من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جرّبتها الأمم - على اختلاف أديانها ومِلَلِها - فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علمُ أعلم الأطباء، وهذا جارٍ على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجًا عنها، ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء، ومدبِّر الطبيعة ومُصرِّفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد عنه المُعرِض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونَا على دفع الداء وقهره).



[1] جاء في مقدمة ابن خلدون ص494: (أنه صل الله عليه وسلم إنما بُعِث ليُعلِّمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم))، فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع).
[2] الطب النبوي والعلم الحديث ص41.
[3] الإسلام والطب ص 31.
[4] مع الطب في القرآن الكريم ص11.
[5] السنة والعلم الحديث ص65.
[6] الطب النبوي والعلم الحديث ص7.
[7] الطب النبوي والعلم الحديث ص40.
[8] الطب النبوي ص12.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:28 pm

أثر الطب الإسلامي في الحضارة الإنسانية



لكي ندرك الأثر الحضاري على أوروبا في الطب الإسلامي نورد هنا قصة طبيب (ريتشارد) قلب الأسد، الذي كان يُعالَج بالوسائل البدائية لتخرج منه الجن، وكاد يموت لولا أن أرسَل إليه عدوُّه صلاح الدين الأيوبي - بدافع من دينه وإنسانيته وفروسيته - طبيبَه الخاص ليعالجه بالعقاقير، ويصل به إلى درجة الشفاء.
 
كما أن صفحات الحروب الصليبية تضمُّ قصصًا طبية تدل على أن الصليبين لم يكن لدى أطبائهم إلا ضرب المريض أو قطع عضوه المريض، وغالبًا ما يموت المريض أثناء العلاج نظرًا لعدم استعمالهم التخدير.
 
ونظن أنَّ الحروب الصليبية في فتراتها - سلمِها وحربها - الطويلة، بالإضافة إلى الأندلس والترجمة، كانت أهم معابر الطب العربي الإسلامي إلى أوروبا وغيرها.
 
لقد تُرجمت الآثار الطبية للزهراوي؛ خلف بن عباس (ت 1107هـ) الأندلسي، الذي عاش في عصر الخليفة عبدالرحمن الثالث، وابنه الحكم الثاني (300 - 366هـ)، إلى اللغات الأوروبية، ودرست في معاهد الطب، كما تأثر به الجراحون واقتبسوا عنه، معترفين له باختراعاته لآلات جراحية عديدة.
 
قال ابن أبي أصيبعة عن الزهراوي في طبقات الأطباء: (كان طبيبًا فاضلًا، خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، ومع أنه اشتَهَر خصوصًا بالجراحة؛ فإننا نراه قد جمع بين فروع الطب والصناعة، وكان فيها جميعًا ماهرًا؛ فصحَّ فيه القول: هو أشهر أطباء العرب الثلاثة، وصِنْوَاه: الرازي وابن سينا)[1].
 
وإلى جانب هذا التأثير في الطب ثَم تأثير آخر؛ فقد تُرجم الكثير من الكتب الطبية، فترجم (بارافاكي) "Bravaci" كتاب التيسير للزهراوي سنة 1381م، وطُبع طبعات عدة، وفي الوقت الذي كان العرب فيه يمارسون الجراحة للماء الأزرق في العين، كانت مقرِّرات الجراحة ممنوعة في الغرب حتى عام 1163م، وقد دخلت المناهج بعد أن توافرت لديهم تراجم الكتب الطبية العربية، وبعد خبرة عملية في الطب الإسلامي إلى جانب التدريب العملي في المستشفيات، وكانت المدارس العربية في مراكز يقصدها طلبة العلم من كل أنحاء العالم؛ فأوروبا - بطبيعة الأمور - مدينة للعرب في الحقل العلمي.
 
وقد تخصَّص عدد من المترجمين في ترجمة الكتب الطبية[2]؛ مثل: قسطنطين الإغريقي، وجيرارد الكرموني، وأسطفان البيزاني الأنطاكي الذي ترجم خلاصة كتاب علي عباس، وظهرت أعداد مِن المدارس الطبية؛ مثل مدرسة (مونبلييه) "Montpelier" عام 1137م، وكان فيها عدد من المعلِّمين العرب حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، وارتبطَتْ أسماؤهم بالطب العربي وتدريسه في جنوب إسبانيا؛ حيث انتقل عن طريق هذه الدراسة الكثيرُ من الطب العربي إلى أوروبا[3].
 
وقد ثبت لدَى كثير من المنصِفين - من مستشرقين وعلماء - أن للمسلمين فضلًا كبيرًا في إنقاذ الطب من الضياع، وثبت لديهم أن أوروبا إنما تقدَّمت بالإضافات الكبيرة التي أضافها المسلمون للطب، والتي نُقلت إلى أوروبا، وكان لها دورها في تقدم المدنية الأوروبية، ويؤيِّد هذا (كمستون) "Camesten" في قوله: (إنه لو لم يكن للمسلمين غير هذا الفضل في الإنقاذ لكفاهم خدمة وفخرًا (أي في الإنقاذ من الضياع)، لقد رفع المسلمون شأن الطب، ولهم الفضل في جعل الجراحة قسمًا منفصلًا عنه، وفي إنشاء المستشفيات والتنقُّل فيها، وفي التصريح الشرعي لممارسة الطب والصيدلة.
 
وكذلك في الصيدلة طوَّروها وخدموا أسسها، وهم أول مَن أنشأ مدارسها، واستنبطوا أنواعًا من العقاقير، وامتازوا في معرفة خصائصها وكيفية استخدامها لمداواة المرضى، كما أعطوا من النبات موادَّ كثيرةً للطب والصيدلة[4].
 
يقول الدكتور غوستاف لوبون "Gustav Lebon": (إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة وعلم الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة...، والطب مَدِين للعرب بعقاقير كثيرة...، والطب مَدِين - كذلك - بطرق طريفة في المداواة، عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة، بعد أن نسيت زمنًا طويلًا؛ وعلم الجراحة مَدين للعرب أيضًا بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلَّت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جدًّا)[5].



[1] محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام (1/ 48 - 50).
[2] غنيمة: ميادين الحضارة الإسلامية (1/ 352).
[3] ينظر في موضوع الطب العربي وأثره في الغرب في الحضارة الإسلامية: عباس محمود العقاد: مرجع سابق ص (33 - 42).
[4] قدري حافظ طوقان: العلوم عند العرب ص (9).
[5] حضارة العرب (ترجمة عادل زعيتر) ص (488)، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:29 pm

الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية



إن الإحاطة بمآثر العرب ومنجزاتهم في علمَي الطب والصيدلة أمرٌ شاقٌّ جدًّا لا تتَّسِع لإبرازه هذه الدراسة الموجزة؛ ولذا فسوف نقتصر على إيراد بعض هذه المآثر أو المنجزات، وذلك فيما يلي:
أولًا: في مجال الطب:
أ- الالتزام بالمنهج التجريبي: سواء في التأليف والبحث، أم عند التطبيق والممارسة العلمية، ويقصد بالمنهج التجريبي في علم الطب (مجموعة الطرق والأساليب والقواعد، التي اهتدى إليها الأطباء المسلمون والعرب من خلال ممارستهم للمهنة)، فلم يكتفوا بالخبرة العملية، وما ورِثوه عن الأوائل، وإنما اعتمدوا على التشريح وعلم وظائف الأعضاء، كما استخدموا أسلوب التشخيص، بالإضافة إلى منهج العلة والمعلول واختبار الأدوية.
 
وينقسِم الأطباء المسلمون من هذه الزاوية إلى مجموعتين:
الأولى: مجموعة الممارسين الذين اهتموا في المقام الأوَّل بتشخيص المرض وعلاجه؛ معتمِدين على المشاهدات والملاحظات، وتأتي الفلسفة عندهم وسيلة لبلوغ هذه لغاية، ويمثل هذه المجموعة أبو بكر الرازي (المتوفى 320ه/ 932م)، وكان رئيس البيمارستان ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279 - 289ه/ 892 - 901م).
 
أما الفريق الثاني: فهم الذين درَسوا الطب على أنه جزء من المعرفة لا غنى عنه، وسَعْيُهم إلى استكمال المعرفة هو الذي دفعهم إلى تحصيل الطب بأسلوب منطقي؛ ولهذا أطلق عليهم "الفلاسفة الأطباء"، ويمثلهم ابن سينا (المتوفى 428ه/ 1036م)، وكلا الفريقين اتَّبع المنهج العلمي التجريبي، بصرف النظر عن كونه غاية أو وسيلة.
 
وإمعانًا من الأطباء العرب والمسلمين في عصر النهضة الإسلامية، وتقديرهم لأهمية الطريقة العملية - إلى جانب الدراسة النظرية في تعليم الطب والوصول إلى الحقائق العلمية - فإنهم لم يكونوا ليسمحوا بممارسة الطب إلا بعد اجتياز امتحان في كتب التخصص المعروفة في ذلك العصر، والتأكد من سَعَة ثقافة الطلاب النظرية والعملية في مجال تخصُّصهم، والوثوق من مهارتهم ومقدرتهم على التشخيص والعلاج، مثال ذلك ما ذكره ابن أبي أُصَيْبعة في "عيون الأنباء" أن الخليفة العباسي المقتدر بالله (295 - 320ه/ 907 - 932م) عهِد في عام (319ه/ 931م) إلى الطبيب سنان بن ثابت بن سنان بن قرة الحراني البغدادي بامتحان المتطبِّبين في بغداد، إثر وفاة أحد العامة نتيجةَ جهل أحد الأطباء، "وحدَّد لكلِّ واحد منهم ما يصلح له، وما يمكن أن يتصدى له، وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة ونيفًا وستين رجلًا، سوى مَن استُغني عن محنته (امتحانه) باشتهاره بالتقدُّم في صناعته، وسوى مَن كان في خدمة السلطان".
 
هذا، وقد اهتمَّ كبار الأطباء المسلمين بتأليف كتبٍ خاصة بامتحان الأطباء، وممن صنف في ذلك الطبيبُ الكبير والمترجِم القدير حُنين بن إسحاق العبادي البغدادي (المتوفى 260ه/ 873م)[1].
 
(ب) الميل إلى التخصص في أحد فروع الطب:
فكان مِن بين الأطباء المسلمين متخصصون في مداواة الأمراض الباطنية، ويسمون "الطبائعيين"، ومتخصصون في الجراحة يطلق عليهم "الجرائحيون"، ومتخصصون في علاج العظام وتجبيرها يسمون "المجبِّرين"، وهناك مَن تخصص في طب العيون وهم "الكحالون"، أو في طب الأسنان، أو في طب النساء، إلى غير ذلك من فروع التخصص المختلفة.
 
وفيما يلي إشارة سريعة إلى تخصصينِ من هذه التخصصات؛ هما:
طب العيون:
تناول أطباء (بغداد/ المشرق) أمراضَ العيون بكلِّ عناية واهتمام؛ حتى قيل: "إن طب العيون من اختراع العرب"؛ حيث بلغ هذا العلم ذروته، بجهودهم التي ظلت الحجة الأولى خلال عصور طويلة، فلم يطاوِلهم في هذا الميدان لا اليونان من قبلهم ولا اللاتين الذين عاصروهم أو أتَوا من بعدهم.
 
ولا شك في أنَّ علماء العرب والمسلمين اعتمدوا على معلومات الإغريق (اليونان) في هذا العلم المهم، وقد ظهر أثر ذلك واضحًا في مؤلفاتهم، ولكنهم توصَّلوا بتجاربهم الخاصة إلى تطورات جديدة، مما جعل هذا الفرع يتطور على أيديهم تطورًا هائلًا، وأثمر مؤلفات هامة يأتي في مقدمتها كتاب "العشر مقالات في العين"، الذي صنَّفه الطبيب والمترجِم الكبير حنين بن إسحاق العبادي البغدادي (المتوفى 260ه/ 873م)، وهذا الكتاب اكتسب شهرةً واسعة في مجال الكحالة، بدليلِ أن المحتسب كان لا يسمح لأحدٍ بممارسة هذه الصنعة قبل التأكُّد مِن معرفته بمضمون هذا الكتاب[2].
 
وقد صنَّف علي بن عيسى الكحال (المتوفى سنة 430ه/ 1039م) كتاب "تذكرة الكحالين"، وهو مِن أشهر كتب العراقيينَ التي سطرت في هذا المجال.
 
قال عنه ابن أبي أصيبعة: "وهو الذي لا بد لكل مَن يعاني صناعة الكحل (طب العيون) أن يحفظه، وقد اقتصر الناس عليه دون غيره من سائر الكتب التي ألفت في هذا الفن وصار معروفًا عندهم".
 
ويتضمَّن هذا الكتاب معلومات قيِّمة عن تشريح العين وطبقاتها، ووصفًا مفصلًا لمائة وثلاثين مرضًا من أمراض العين، وعلاماتها، وطرق مداواتها بمائة وثلاثة وأربعين دواءً، كل ذلك ضمن ثلاث مقالات يتكون منها الكتاب: الأولى في تشريح أعضاء العين ووظائفها، والثانية في أمراض العين الظاهرة، والثالثة في الأمراض الباطنة للعين.
 
طب الجراحة:
حيث برع المسلمون في إجراء العمليات الجراحية، وأبدَوا مهارة فائقة في التعامل مع الأجزاء الدقيقة من جسم الإنسان؛ كالأعصاب، والعيون والأسنان، واستطاعوا تفتيت الحصيات داخل المثانة، واستئصال الأورام بأنواعها المختلفة؛ مستخدِمين في ذلك كلِّه الآلات والأدوات الجراحية المناسبة، والخيوط المصنعة من أمعاء الحيوانات، في تخييط الجروح بعد العمليات الجراحية.
 
ويرتبط التشريح بالجراحة ارتباطًا وثيقًا؛ ولذلك اشترط الأطباء العرب والمسلمون - على اختلاف تخصصاتهم - أن تكون لمَن يريد مزاولةَ الطب معرفةٌ بعلم التشريح ووظائف الأعضاء، وكان منهم مَن زاول التشريح بالفعل؛ إما للغاية العلمية، أو ابتغاء معرفة العلل والأمراض، وقد اختلفوا مع أطباء اليونان في كثير من آرائهم حول تشريح الأعضاء.
 
ويُعَدُّ الرازي (المتوفى 320ه/ 932م) مِن أوائل الأطباء المسلمين الذين كتبوا في علم التشريح ومارَسوه عن دراية واقتدار، وكان يؤكد على أن الطبيب يحتاج - لمعرفة علل الأعضاء الباطنة - إلى العلم بجواهرها أولًا، بأن تكون شوهدت بالتشريح، وإلى العلم بمواضعها من البدن، والعلم بأفعالها (الفسيولوجيا)، وبما تحتوي عليه (المورفولوجيا)، وبفضولِها التي تدفع عنها (طبائع الأمراض)؛ "لأن مَن لم يعرف ذلك لم يكن علاجه على صوب".
 
وممن مارَس التشريح على الحيوانات، الطبيب البغدادي يوحنا بن ماسويه (المتوفى 234ه/ 857م)، فقد قام بتشريح قردٍ كبير، وسجَّل ما توصل إليه من نتائج في كتاب له، قال عنه: "لم يوضع في الإسلام مثله"، وقد ذكر له ابن أبي أصيبعة من بين كتبه الطبية الكثيرة كتابًا يحمل عنوان "التشريح".
 
ج- بناء البيمارستانات:
عُنِي المسلمون عنايةً فائقة ببناء "البيمارستانات" لا في بغداد وحدها، ولكن في مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ تأسيسًا على إيمانهم بأن الرعاية الطبية حق لكل المواطنين، فقاموا بإنشاء البيمارستانات المتنقلة بجانب البيمارساتانات الثابتة، وملؤوا بها بقاع الإمبراطورية الإسلامية من بغداد شرقًا إلى بلاد المغرب والأندلس غربًا، كما عمَّت هذه المستشفيات بلاد الشام ومصر، حتى السجون كان الأطباء يدخلونها لعلاج المرضى فيها، وكانت البيمارستانات تنقسم إلى قسمين: ثابت ومتنقِّل؛ فالثابت ما كان يشيد في مدينة من المدنِ أو حي من الأحياء، وأما المتنقل، فهو الذي يُحمل ويُنقل مِن مكان إلى مكان بحسب الظروف والأمراض والأماكن المنتشرة فيها الأوبئة، وكذلك ظروف الحرب، فقد كانوا يُقيمون مستشفيات متنقِّلة في ميدان القتال في الخطوط الخلفية.
 
وقد شهِدت بغداد حاضرة العباسيين البداية الأولى لبناء البيمارستانات، ثم ما لبثت سائر المدن الإسلامية الكبرى أن تأثَّرت بها شرقًا وغربًا، وكانت تلك البيمارستانات مُعَدَّة لعلاج المرضى على اختلاف حالاتهم؛ فضلًا عن تدريس الطب فيها نظريًّا وعمليًّا، من خلال نخبة متخصصة من الأطباء والصيادلة.
 
وهكذا فلم تكن تلك البيمارستانات مؤسسات علاجية فقط، وإنما كانت معاهد علمية لتدريس الطب بالمعنى الصحيح، يَفِدُ إليها الطلاب من كل ناحية، يتلقَّون فيها العلوم الطبية، ويستمعون إلى شرح الأساتذة في حلقات تعقد في قاعات خاصة ملحقة بالبيمارستانات، أو في قاعات المرضى لملاحظة ما يقوم به الأطباء من تشخيص الأمراض، وإعطاء الأدوية اللازمة، وإجراء العمليات الجراحية.
 
مخطط البيمارستان:
بغضِّ النظر عن سَعَة البيمارستان التي تختلف من بيمارستان إلى آخر، ومقدار الزخرفة، ومساحة الحدائق الملحقة، وعدد النوافير الذي قد يختلف أيضًا؛ فإن البيمارستانات العربية الإسلامية كان لها مخطط أساسي يحتوي على:
1 - أقسام خاصة بالرجال، وأخرى خاصة بالنساء منفصلة عن الأولى.
 
2 - قاعات مرضى حسب التخصصات؛ فهناك قاعات أو عنابر مخصصة للمرضى المصابين بالحمَّى، وأخرى للأمراض العقلية والنفسية، وغيرها لمرضى الرمد، وهكذا.
 
3 - عنابر خاصة للناقهين من المرضى إلى أن يتم شفاؤهم، تحكى لهم فيها الحكايات المسلية.
 
4 - غرف للأطباء، للكشف على المرضى غير المنومين "عيادات خارجية".
 
5 - غرف لرئيس الأطباء وبقية الإداريين.
 
6 - قاعة محاضرات، يُلقِي فيها رئيس الأطباء دروسه، ويجتمع فيها مع تلاميذه.
 
7 - مطبخ لطبخ الأغذية الصحية؛ حيث كان الغذاء أحد طرق العلاج الرئيسية، وكذلك لطبخ الأشربة وغيرها من المواد العلاجية.
 
9 - صيدلية لتحضير الأدوية.
10 - مخازن.
11 - قاعة لغسل الموتى.
12 - مصلى "مسجد".
13 - مراحيض وحمامات.
 
بالإضافة إلى الباحات والأفنية والحدائق التي تحتوي على الأشجار والشمومات والمأكولات، وكثير من هذه البيمارستانات كانت تحتوي على سكن للعاملين فيها[3].
 
أما عدَّة الأطباء بالبيمارستان؛ فكانت تتوقَّف على سَعَته؛ فقد يكون به أربعة أو ستة أو عشرة أطباء أو كثر من ذلك، ويذكر أن البيمارستان المنسوب إلى عضد الدولة البُوَيهي في بغداد كان يضم أربعة وعشرين طبيبًا، ما بين طبائعيين وكحالين ومجبرين للعظام، وأطباء عيون، وذلك فضلًا عن الموظفين الإداريين، والفراشين والطباخين، وخدم المرضى، والصيادلة.
 
وكان الأطباء يتناوبون العمل في البيمارستان، فكان لكل طبيب وقت معين لزيارة قاعته التي يقوم فيها بمعالجة المرضى، وكان بعضهم يلازم البيمارستان يومًا واحدًا في الأسبوع، أو يومين، أو أكثر حسب عدد الأطباء، وربما لازم بعضهم البيمارستان ليلًا ونهارًا.
 
أقسام البيمارستان:
حيث إن الغاية من تشييد هذا البيمارستان تقديم الخدمات العلاجية للمحتاجين إليها، من الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم وسائر أمراضهم؛ من أمراض الأجسام قلَّت أو كثرت، اتَّفَقت أو اختلفت، وأمراض الحواس خفَّت أو ظهرت، واختلال العقول، التي حفظها أعظم المقاصد - فإن البيمارستان يحتوي على جميع التخصصات المتوفرة، ويقسم مبناه إلى أقسام حسب هذه التخصصات؛ ليحتوي كل قسم على عدة عنابر لإيواء مرضاه، وبحيث تكون عنابر النساء منفصلة عن عنابر الرجال.
 
نظام المعالجة في البيمارستان:
تتم المعالجة في البيمارستان والحصول على العلاج بإحدى ثلاث طرق:
1 - العلاج الداخلي:
إذا رأى الطبيب المعالج أن حالة المريض تستدعي التنويم في البيمارستان لتلقي العلاج، تعرض الحالة على رئيس الأطباء، الذي بعد موافقته يتم تحويل المريض إلى القسم المختص لحالته؛ حيث يقيم فيه لتلقي العلاج.
 
2 - العلاج الخارجي في عيادات البيمارستان:
هنا يتم حضور المريض إلى البيمارستان؛ حيث يقوم الطبيب المعالج بالكشف عليه في الأماكن المخصصة لذلك، ثم يصف له الدواء المناسب، ويقوم المريض بصرفه من صيدلية البيمارستان.
 
3 - الزيارات المنزلية:
في الحالات التي يصعب فيها نقل المريض إلى البيمارستان يتم تقديم العلاج للمريض في منزله؛ علمًا بأن الأولوية في العلاج للمرضى المقيمين، وقد ورد في وقفية الأمير عبدالرحمن كتخدا: "ومَن كان مريضًا في بيته وهو فقير، كان للناظر أن يصرف ما يحتاج إليه من حاصل هذا البيمارستان، والأشربة والأدوية والمعاجين وغيرها، مع عدم التضييق في الصرف على مَن هو مقيم (بالبيمارستان)".
 
يتم تسجيل المرضى المنومين (المقيمين) في ملَّفات خاصة بذلك.
 
قال ابن جبير في وصف البيمارستان النوري بدمشق: "وله قومة وبأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى".
 
وعلى جميع أطباء البيمارستان أن يقوموا بعد الكشف على المريض، سواء في العيادات الخارجية أو في عنابر الأقسام، بتدوين نتائج كشفهم، وما يستجد في حالته، وما يصرف له من علاج وغذاء وشراب، في دستور المريض (ملفه الطبي).
 
البيمارستانات الشهيرة في بلاد الإسلام:
يقول الدكتور "جوزيف جارلند" في كتابه (قصة الطب): "... وقد أسس العرب عددًا من المستشفيات الممتازة جعلوها مراكز لدراسة الطب ولعلاج المرضى، كأحدث المستشفيات، وقد بلغ عدد هذه المستشفيات أربعة وثلاثين، موزَّعة بين أنحاء الإمبراطورية، وإن كان أهمها مستشفيات بغداد ودمشق، وقرطبة والقاهرة".
 
البيمارستانات في بلاد الإسلام:
أول مستشفى ثابت أقيم في بلاد الشام كان في دمشق، أمر بإقامته الخليفة الأموي (الوليد بن عبدالملك).
 
بيمارستان أنطاكية: بناه المختار بن الحسن بن بطلان، الذي توفي عام (455ه).
 
البيمارستان الكبير النوري: بناه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وقد توفي هذا الملك عام (569ه)، واشترط أن يخصص للفقراء والمساكين، ولكنه إذا وجد فيه دواء ليس موجودًا في البلاد، فلا يمنع عن الأغنياء حالة تعذُّر حصولهم عليه، وقد جاء وصف هذا البيمارستان في كتاب "رحلة ابن جبير"، قال: "دخلت دمشق عام (580ه) وبها مارستانان: قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الدواء والغذاء.
 
وفي مدينة "حلب" بنى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بيمارستان داخل باب أنطاكية، ووقف عليه الأموال لنفقات المرضى والأطباء، وقد عمل في هذا البيمارستان الطبيب ابن بطلان، وهاشم بن محمود ناصر السروجي الحسيني.
 
وفي "القدس" بنى الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي بيمارستان كبيرًا، وقد عمل فيه من الأطباء: يعقوب بن صقلاب المقدس، ورشيد الدين أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري.
 
وبيمارستان عكا، فقد أمر الناصر صلاح الدين الأيوبي أن تكون أسقف عكا (بعض الأماكن التي هجرها الصليبيون) مستشفى لعلاج المواطنين.
 
وفي شبه الجزيرة العربية: كان يوجد في مكة بيمارستان يعرف بالبيمارستان المستنصري العباسي، وبيمارستان المدينة، وقد خدم فيه بأمرِ الملك الظاهر بيبرس الطبيبُ محيي الدين أحمد بن الحسين بن تمام.
 
وفي الريِّ وجد بيمارستان، وعمل فيه الرازي صاحب كتاب "الحاوي"، وهناك بيمارستان محمد الفاتح الذي أنشأه الفاتح بالقسطنطينية.
 
وفي بلاد العراق: بيمارستان بغداد الذي أمر ببنائه هارون الرشيد، وسماه بيمارستان الرشيد، وقد تولى إدارته: ماسويه الخوزي، انتدبه الرشيد لذلك من جنديسابور، وتولَّى مراقبته جبرائيل بن بختيشوع، وبيمارستان أبي الحسن علي بن عيسى الجراح، وبيمارستان بدر، غلام المعتضد بالله تعالى، أنشأه من ماله الخاص، وكذلك علي بن عيسى أنشأه من ماله الخاص.
 
وبيمارستان السيدة أم المقتدر التي توفيت عام (321ه)، وقد تولى رعايته الطبيبُ سعيد بن سنان بن ثابت.
 
والبيمارستان المقتدري؛ وذلك أن سنان بن ثابت بن قرة أشار على الخليفة المقتدر بالله أن يبني مستشفى للمرضى وتسمى باسمه، ومن الأطباء الذين علموا فيه: جبرائيل بن بختيشوع، ويوسف الواسطي.
 
وبيمارستان ابن الفرات وزير المقتدر، وبيمارستان أبي الحسن بجكم؛ الذي توفي عام (329ه).
 
والبيمارستان العضدي: أنشأه عضد الدولة البُوَيهي عام (732ه)، وعين فيه الأطباء والخدم للعناية بالمرضى، ومن الأطباء الذين عملوا فيه: جبرائيل بن عبدالله بن بختيشوع ونظيف الرومي، وأبو الحسن علي بن بكس، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو الحسن بن كشكرايا، وأمين الدولة بن التلميذ، وجمال الدين أبو الغنايم سعيد بن هبة الله بن أثردي، وأبو الفرج بن الطيب.
 
ومن البيمارستانات بالعراق: البيمارستان الفاروقي، وبيمارستان الموصل الذي بناه الأمير مجاهد قايماز، نائب قلعة الموصل عام (572ه).
 
وفي بلاد المغرب والأندلس:
كان لوصولِ التراث العلمي الطبي عند الأمم القديمة إلى الأمة العربيةِ عن طريق الفتوحات الإسلامية - أثرٌ كبير في تطوير الطب في الدولة الإسلامية، فنبغ عدد كبير من الأطباء في مختلف العصور والبلدان:
ففي "قرطبة" ولد رائد علم الجراحة الطبية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي عام (936م)، وكان مِن أعظم الأطباء الذين ساهموا بعلمهم في النهضة الطبية، واعتبره علماء الشرق والغرب أستاذَ علم الجراحة، فهو أول مَن جعل الجراحة علمًا حقيقيًّا، وكان له الفضل في تلخيص جميع المعارف الجراحية في عصره.
 
وفي مدينة "إشبيلية" من بلاد الأندلس برز أبو العلاء زهر بن عبدالملك بن محمد بن مروان بن زهر، المتوفى عام (525ه).
وفي مراكش نبغ أبو بكر محمد بن مروان بن زهر الحفيد، المتوفى عام (596ه).
وفي القيروان ولد أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد الجزار، أحد مفاخر بلاد تونس والمغرب العربي والعالم الإسلامي.
 
وفي هذه البلدان تتابع إنشاء المستشفيات، وكانت تُعرف "بالبيمارستانات"، وكثر عددُها، ويذكر أن قرطبة وحدَها كان فيها خمسون مستشفى.
 
وبالمغرب الأقصى بيمارستان مراكش، الذي بناه المنصور أبو يوسف، وكان كل يوم جمعة بعد الصلاة يخرج ويذهب إلى المرضى، ويسألهم عن أحوالهم، وما زال مستمرًّا على هذا حتى توفي عام (595ه).
 
وفي تونس:
بيمارستان "تونس": ومن الأطباء الذين عمِلوا فيه الطبيب محمد الشريف الحسني الزكراوي، المتوفى عام (874 ه).
ومن بيمارستانات بلاد الأندلس أيضًا، بيمارستان "غرناطة" الذي بدأ السلطان محمد الخامس في بنائه عام (767 ه).
 
وفي مصر:
بيمارستان زُقاق القناديل، من أزقَّة فسطاط مصر، وبيمارستان المعافر في حي المعافر بالفسطاط قرب القرافية، بناه الفتح بن خان في أيام الخليفة المتوكل على الله.
 
والبيمارستان العتيق: أنشأه أحمد بن طولون عام (259ه) في مدينة الفسطاط، وسمي أيضًا "المارستان الأعلى"، واعتبره بعض المؤرخين أولَ بيمارستان أنشئ في مصر، وأوقف عليه ابن طولون دخل بعض الأبنية، منها دُوره في الأساكفة، والقيسارية، وسوق الرقيق، وشرط ألا يعالج فيه "جندي ولا مملوك"، وجعل له حمَّامينِ: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وأدخل ابن طولون في هذا البيمارستان ضروبًا من النظام، جعلته في مستوى أرقى المستشفيات في الوقت الحاضر، فكان إذا دخله مريض تنزع ثيابه، ويودع ما معه من المال عند أمين البيمارستان، وتقدم له ثياب خاصة من البيمارستان، وكان المرضى يتناولون الأدوية والأغذية مجانًا، ويظل المريض في البيمارستان حتى يتم شفاؤه، فيقدم له فرُّوج ورغيف، فإذا أكلهما أذن له بمغادرة البيمارستان، بعد أن تُرَد إليه ثيابه ونقوده.
 
وبلغ من عناية أحمد بن طولون بهذا البيمارستان أنه كان يتفقَّده بنفسه يومًا في كل أسبوع، كان في الغالب يوم الجمعة، فيطوف على خزائن الأدوية، ويتفقَّد أعمال الأطباء، ويشرف على سائر المرضى، ويعمل على مواساتهم وإدخال السرور عليهم، بما في ذلك المحبوسين من المجانين، حتى غافله في يوم أحدهم ورماه برمانة كادت تقضي على ابن طولون، فلم يعاود البيمارستان بعد ذلك.
 
ولعلَّ أشهر البيمارستانات في العصرين الأيوبي والمملوكي، تلك التي أُنشئت في عهد كل من صلاح الدين الأيوبي، والمنصور قلاوون، فقد افتتح السلطان صلاح الدين الأيوبي ثلاثة بيمارستانات:
الأول في إحدى قاعات القصر الفاطمي الكبير، وهو البيمارستان العتيق.
كما أمر بإعادة فتح مارستان الفسطاط القديم.
وفي أثناء زيارته للإسكندرية عام (577 ه/ 1182م) أمر بإقامة مدرسة، وألحق بها بيمارستانًا.
وتولَّى الإنفاق على هذه البيمارستانات ديوانُ الأحباس (الأوقاف)، على اعتبار أن الرعاية الصحية في ذلك العهد كانت من أعمال البر والخير، أكثر منها من مهامِّ الدولة الحاكمة.
 
أما في العصر المملوكي، فمِن أشهر البيمارستانات التي أُنشِئت في ذلك العهد، وذاع صِيتها في أنحاء مصر وخارجها، وحَظِيت برعاية سلاطين المماليك، وأمرائهم، البيمارستان المنصوري الذي أنشأه الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، وذلك في موضع قاعة ست الملك ابنة الملك العزيز بالله الخليفة الفاطمي، والتي عُرِفت فيما بعد باسم دار الأمير فخر الدين جهاركس، ثم دار موسك، ثم عُرفت بالدار القطبية، نسبة إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فقد ظلت في ورثته حتى أخذها السلطان قلاوون من ابنة الملك العادل مؤنسة خاتون، وعوَّضها عن ذلك بقصر الزمرد برحبة باب العيد، في 18 ربيع الأول (682 ه/ 1283م)، ورسم السلطان بعمارتها مارستان وقُبَّة ومدرسة، وتولَّى الإشراف على هذه العمارة الأمير علم الدين سنجر بن عبدالله الشجاعي، فأبقى القاعة على حالها، وجعلها مارستان[4].
 
وتجدر الإشارة إلى أن الأطباء المسلمين قاموا بوضع مؤلَّفات خاصة بتشييد البيمارستانات، وبيان نظام العمل بها، وطرق إدارتها، ولعلَّ أشهر هذه المؤلفات: كتاب "صفات البيمارستان" لأبي بكر الرازي الطبيب البغدادي (ت 320ه/ 932م)، وقد سجَّل فيه ما كان يلاحظه من أحوال المرضى الذين كانوا يُعالَجون تحت يدَيْه في البيمارستان الذي كان يشرف عليه ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279/ 289 ه - 892/ 901م).
 
ثانيًا في مجال الصيدلة:
أ- بالإضافة ما تقدَّمت الإشارة إليه من اهتمام الصيادلة والأطباء المسلمين بتحضير الأدوية المفرَدة والمركبة، وأنهم قد عرَّفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصلية، أما الأدوية المركبة فسموها الأقرباذين، وقد أشاروا في مؤلفاتهم إلى وسائل تحضير هذه الأدوية؛ مثل: (الطبخ، والنقع، والسحق، والدق، والإحراق "التحميص"، والتبريد، والغربلة)، وغير ذلك.
 
ب - ابتكار المعالجة المعتمدة على الكيمياء الطبية؛ حيث لجأ الأطباء والصيادلة إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض يحدثه دواء معين، ويعد الرازي رائد هذا الاتجاه.
 
ج - إجراء البحوث والاختبارات على الأدوية قبل استخدامها؛ لمعرفة خصائصها، ومدى صلاحيتها وتأثيرها، وآثارها الجانبية، وقوتها الشفائية.
 
ويعني هذا أن الأطباء والصيادلة المسلِمين قد اعتمدوا على التجرِبة أساسًا لاختبار الأدوية ومعرفة خصائصها، بل كانت التجرِبة هي الطريقة الوحيدة لتحضير الأدوية المركبة.
 
د - إنشاء الصيدليات العامة والخاصة؛ ففي بغداد أُنشئتْ أول صيدلية سنة (149ه - 766م) في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، وهناك كذلك الصيدليات المتنقلة التي ألحقت بالبيمارستانات المتنقلة المصاحبة للجيوش أثناء المعارك الحربية، أو تلك التي كانت تَجُوب المناطق النائية والسجون أثناء انتشار الأمراض والأوبئة.
 
ه - إخضاع مهنة الصيدلة لرقابة الدولة وتفتيش حوانيتها بشكل دَوْري، كما اقتضت المصلحة العامة فرض امتحان، ومنح ترخيص بمزاولة مهنة الصيدلة لكل مَن يريد الاشتغال بها، كما كان الحال مع الأطباء[5].



[1] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (216، 217).
[2] المرجع السابق، ص (218، 219).
[3] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (69، 70).
[4] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (80 - 88).
[5] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (234، 235).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:31 pm

الطبيب المسلم

 
لقد وَضعتِ النقابات الطبِّيَّة آدابًا لسلوك الأطبَّاء فيما بينهم، مستَرْشدين بما تَعارَف عليْه النَّاس فيما سمَّوه الخُلُق الحسَن، ومُستَرْشِدين بالعُرْف والتَّقاليد، والتَّجارب الَّتي مرَّت عليْهِم وعلى أسلافِهِم.
 
ومِن هذه التَّعليمات ما يتعلَّق بالمهنة نفسِها في زيارة الطَّبيب لزميلِه ومعالجتِه وذَويه، وكيفيَّة استشارة أحدِهم الآخرَ، وأسلوب المراسَلة بيْنهم، وإحالة المريض إلى ذَوي الاختِصاص أو المحلِّلين، وكلُّ ذلك مُدَوَّن في تعاليم النقابات؛ بل قد أوْجبتْ بعضُ النِّقابات - لحماية المهنة ومنْع الإساءة - أنْ يُخبر الطَّبيبُ عن زميله الغاشِّ للمَرْضَى أو المسيء للمِهنة - بأيِّ شكل مِن أشكال الإساءة - كما جاء ذلك في المادَّة الرَّابعة من الآداب الطبِّيَّة لنقابة الأطبَّاء الأمريكان[1].
 
والطَّبيب المسلم قد جاءه مِنَ الله نورٌ وكتابٌ مبين، يَهْدي به الله مَن اتَّبع رضوانه، فهو غنيٌّ عن أن يتكفَّف القوانين الوضعيَّة؛ إذ جاءتْه الشَّريعة الإسلاميَّة بأحسنِ أدبٍ ورَد في القرآن الكريم وفي السُّنَّة المطهَّرة، فهو حين يَفتح عيادتَه يَزور زملاءه وجيرانَه، ويُعاملهم أفضلَ معامَلة، يَزُورهم فيستفيد مِن خبرتِهم في المنطقة، ويَسترْشِد بنُصْحهِم، وفي الوقْت نفسِه يكُون قد أظهَر حُسنَ نيَّته تِجاههم، وهو يَعلم أنَّ نبيَّه الكريم قد أوْصى بالجار حتَّى قال عليه السَّلام: ((ما زال جبريلُ يُوصيني بالجار حتَّى ظننتُ أنَّه سيورِّثُه))[2].
 
ولعلَّ مِن المشاكل التي تَعترِض العلاقة بين الأطبَّاء المنافسةَ على المرْضَى، والسَّعْي للحصول على المال، فإذا كانت الجاهليَّة قد جَعلتْه غايةً، وبرَّرَت الوسيلة إليْه، فالإسلامُ قد حلَّ المشكِلة مِن أساسها، فمع اعتِراف الإسلام بغريزة التملُّك؛ إلَّا أنَّه هذَّبها، كما فعل بكلِّ الغرائز في البشر، فالمالُ في الإسلام هو مالُ الله، وإنَّما يكُون الإنسانُ مُستخلَفًا فيه، ومحاسبًا عليْه: مِن أين اكتسبَه، وفيمَ أنفَقَه؟
 
ولذلك؛ فلن يكُون المالُ عند المسلِم غاية أبدًا؛ بل وسيلةٌ لحياة طيِّبة للمسلم، ولبذْلِه إرضاءً لله، ونشرًا لعقيدتِه، وإذًا لا يكُون المسلمُ حسودًا شَرِهًا في جمْع المال، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾[3]، والله تعالى يقول أيضًا: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[4]، فالسَّعادة عند المسلِم لا بالمال وكثْرة العَرَض؛ بل بالعمل لرضاء الله، وهكذا يعيشُ المسلِم مع زملائِه في أخوَّة صادقة، الأخوَّة هي أخوَّة الدِّين، وشروطها ثلاثة: التَّوبة مِن الشِّرْك، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾[5].
 
ويكفي فخرًا أنْ يَسمع الطَّبيبُ المسلمُ قوْلَ نبيِّه الكريمِ محمَّد صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((لا يؤْمِن أحدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِه))[6].
 
ولا بدَّ مِن كلِمة حوْل الشَّركة بين الأطبَّاء، فأرى أنْ يُدَوَّن كلُّ شيء بصورة مفصَّلة: الأمور الماليَّة والفنِّيَّة والإداريَّة، ولا يَعتمِد الأطبَّاء على الذَّاكرة أو الصَّداقة أو المودَّة بينهم؛ فقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾[7].
 
وأذكِّر الطَّبيب المسلمَ بأنَّ الله مع الشَّريك الأمين المخلِص، قال النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((أنا ثالِثُ الشَّريكيْن ما لَم يَخُنْ أحدُهُما صاحبَه، فإذا خانه خرجتُ مِن بينِهما))؛ أخرجه أبو داود، عن أبي هُرَيْرة.
 
ومثْل الطَّبيب الصيدلي وغيره مِن ذوي المِهن الطِّبِّيَّة، يجب أن يَلتزِم الطَّبيبُ المسلِمُ معهم الآدابَ الطبِّيَّة، والأخلاق العامَّة، فمثلًا لا يَجوز أن يكون هناك أي اتِّفاق بين طبيب وصيدلي بصورةٍ سرِّيَّة على حساب المريض، أو على حساب الآداب المهنية.
سرُّ المهنة:
لعلَّ مِن أهمِّ ما يجب أن يتَّصف به الطَّبيب المحافظة على أسْرار مرْضاه، وربَّما كانت هذه الصِّفة مِن أبْرَز الصِّفات التي يَجب أن تتوفَّر بين الطَّبيب ومريضِه، ولكن هناك حالات يَجوز للطَّبيب أن يُذيع فيها هذا السِّرَّ، أو ربَّما يكون ملزمًا، كالإخبار عن الأمراض المعْدِية، وحالات الولادة والوفاة، والإخبار عن الموادِّ المخدِّرة التي تُصْرَف لمريضٍ ما، والشهادة أمام المحاكم، والتَّقارير التي تُعْطَى لدوائِر التَّأمين وللشَّركات والدَّوائر الرسميَّة، وكذلك الإخبار عن الجرائم، والإخبار عن المرْضَى لحماية النَّاس، ولا سبيل هنا لتفصيل كلٍّ منْها، ولكن أبيِّن ما أعتقِده الرَّأيَ الإسلاميَّ فيها.
 
فأي قانون أو تعليمات تُصدرها الدَّولة وترى فيها مصلحة الأمَّة، تُعْتَبر مقبولة في الشَّرع الإسلامي، ما لم تُعارض النَّصَّ مِن الكتاب والسُّنَّة، فالطبيب إذًا يُخْبِر عن المريض المعْدِي بقدْر ما يمنع خطرَه، ويحفظ صحَّة الآخرين، ولا يزيد على ذلك؛ أي: إنَّ القاعدة حِفْظ السِّرِّ، وخرقُها يكُون بقدْرِ ما تقتضيه الضَّرورة، فإذا جاوز ذلك صار مسيئًا - على ما أرى - إذ قد يُظنُّ به التَّشهير بالمريض، والرَّسول الكريم صلَّى الله عليْه وسلَّم قد أمَرَنا بالستْر؛ فقال: ((ومَن ستَرَ مسلمًا سَتَره الله يوم القيامة))[8].
 
وأمَّا المحاكم، فيُذَكِّر الإسلامُ الطَّبيبَ بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[9] فإذًا لا تتكلَّم - أيُّها الطَّبيب - بكلِمة إلَّا أن تكُون واثقًا تَمام الوثوق مِن صحَّتِها، فإنْ نجوتَ مِن المحاكم، فلن تنجوَ مِن الله القائل: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾[10].
 
وعلى الطَّبيب ألَّا يتكلَّم أمام المحاكم والمحقِّق بأكثرَ ممَّا يُسأل، ويَختار الكلِمات اللاَّئقة، الَّتي تفي بالغرض، كناية أو مجازًا، وهذا هو أدب القُرآن الَّذي يجب أن يكون خلُق كل مسلم، وعلى الطَّبيب أن يَختار الكلِماتِ السَّهلةَ المفهومة، ولا يلجأ إلى الكلِمات المبْهَمة، والمصطلحات الطبِّيَّة، الَّتي لا يفهمها إلَّا الطَّبيب.
 
ومِن حقِّ الطَّبيب أن يُخبر عن الجرائم، والإسلام يَعتبر ذلك واجبًا، فمثلًا إذا أُصيب شخصٌ بِجرح وجيء به إلى الطَّبيب، فعليْه أن يُعالِجه فورًا، ويخبر الشُّرطة بذلك، فلعلَّ هذا المجروح يكون قد قتلَ نفسًا وهو يُريد إخفاء جريمته، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾[11]، وقد يُغرَى الطَّبيبُ بالمال لإخفاء الجريمة أو يُهَدَّد، فليتصرَّف تصرُّف حكمة، ولا يضيِّع حقَّ النَّاس أو الحق العام.
 
وقد يُضطرُّ الطَّبيب إلى إفْشاء السِّرِّ للمصْلحة العامَّة، ومثال ذلك إذا عَرَف مصابًا بالصَّرع يقود سيَّارة؛ إذ قد تصيبُه النَّوبة أثناء قيادتِه، فيسبِّب ضررًا للآخَرين، والفُقَهاء والمسلِمون قد قرَّروا: أنَّ درْء المفسدة مقدَّم على جلْب المنفعة.
 
وقد يطَّلع الطَّبيب على مرضٍ مُعْدٍ في خادم أو مربِّية، فهل يُخبر الذين تعيش معهم هذه المربية ليحْفظ الطفل؟
أرى أن يلجأ للمريض[12] نفسه فيُقْنِعه بالمعالجة، ويخبره بصراحة عن مرضِه، وعمَّا يجب أن يفعله لوقاية مَن حوله، فإن لم يقتنِع، لجأ إلى إفْهام العائلة بصورة غير مباشِرة، مثلًا بإجْراء الفَحْصِ الطِّبي عليهِم جميعًا مع المربِّية حتَّى يُكشف الأمر مِن قِبَلهم، أو إذا اطَّلع الطَّبيب على مريض يَمتنع الزَّواج مع مرضِه، فليُقْنِعه أوَّلًا بالعُدول والمعالجة قبل أن يلجأ إلى ذوي الفتاة، وإذا اضطرَّ إلى ذلك، فلا أرى أنَّ الإسلام يُجيز له أن يُخْبِر ذوي الفتاة مباشرةً بإفْشاء سرِّ المريض؛ بل عليه أن يصرف ذوي الفتاة بصورةٍ غير مُباشرة، وعن طريق شخصٍ ثالث؛ فالقاعِدة الفقهيَّة: ((لا ضرر ولا ضرار))[13].
 
والواجب على المسلم أن يَستُر على أخيه - كما ذكرتُ مِن قبل - على أساس ألَّا يكُون في السِّرِّ ضررٌ على الآخَرين، وقد سألتُ بعضَ العُلماء في العالم الإسلامي والبلاد العربيَّة، فكان جواب مُعْظَمهم: أنَّه لا يحقُّ للطَّبيب المسلم إفشاء سرِّ المريض تبرُّعًا، فإذا سُئِل فليُحاول أن يؤدِّي المطلوب بِحكمة، ويبتعد عن الإفْشاء بقدر المستطاع.
 
والرأي الإسلامي يُوجب على الطَّبيب إفْشاء سرِّ المريض، إذا كان في كِتمان ذلك إدانةُ بريء أو إفلات مُجْرِم.
أجرة الطبيب:
الإسلام لا يتدخَّل كثيرًا في أجرة الطبيب؛ فالأمر عُرْفيٌّ، على أنَّ الإنصاف مطْلوب مِن المسلم، كما أنَّه لا بدَّ مِن مراعاة الفقير ومعالجته مجَّانًا، ولعلَّ هذه المعالجة المجَّانيَّة قد أدْخلها الإسلام فيما يمكن أن نسمِّيَه زكاة النفس؛ إذْ على المسلم زكاة في علمِه يُعَلِّمُه للنَّاس؛ ممتثِلًا أمْر الله عزَّ وجلَّ القائل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾[14] ومقتديًا بالرُّسُل الكِرام؛ حيثُ قال الله على لسانِهم: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[15].
 
فعلى الطَّبيب المسلم زكاة في عِلمِه وجسمه، ومِن الواجب عليه أن يُعالِج الفقراء مجَّانًا، وهذا حقُّهم عليْه، وليْس لهذِه الزَّكاة نِصابٌ كزكاة المال، وبقدْر ما يُنفِق الطَّبيبُ المسلِمُ مِن وقتِه وعِلْمِه ومالِه وجاهه للفقراء، فإنَّ الله يُخْلِفه أضعافًا مضاعفةً، فلا يَمُنَّ على أحد بذلك أبدًا؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[16].
الإسلام وبعض أعمال الطبيب:
1- الإجهاض:
الإجهاض أو الإسقاط هو عمليَّة تفريغ محتويات الرَّحِم، وهو نوعان: الإسعافي والجنائي.
 
فالإسقاط الإسْعافي لإنْقاذ حياة الأم، أو لأيَّة ضرورة طبِّيَّة يُقَرِّرها الأطبَّاء المختصُّون - مقبولٌ في الإسلام، على قاعدة اتِّباع أَهوَن الضَّرَرين، أو قاعدة ارتِكاب مفسدة لدرْء مفسدة أكبر.
 
وأمَّا الإسقاط الجنائي فلأسبابُ لا تتعلَّق بصحَّة الأم، كحالة حَمْل السِّفاح، أو لتحديد النَّسل، أو لقضايا اقتِصاديَّة - فهذا غير جائز أبدًا، ولا يجوز للطَّبيب المسلم أن يُجْرِيَ هذه العمليَّة، فإنْ فعَل فقدِ ارتكَبَ جريمة قتْل الوليد؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[17].
التلقيح الصناعي:
هو عمليَّة إدْخال مادَّة الذَّكَر (المنيَّ) في رحِم الأُنْثى، وهو إمَّا أن يكون بإدْخال مادَّة الزَّوج نفسِه إلى زوجته بصورة صناعيَّة؛ لتعذُّر الحمْل بصورة طبيعيَّة، فذلك أمرٌ لا يُعارِضُ فيه الإسلام.
 
والنَّوع الثَّاني: هو إدخال مادَّة رجُل معيَّن إلى امرأةٍ غير زوْجَته، وذلك حرام، ويكُون الطَّبيب مُجْرِمًا إنْ أجرَى مثْل هذه العمليَّة.
 
أمَّا النَّوع الثَّالث، فهو الجمْع للمنيِّ مِن مختلف الرِّجال في مصرف، ويُعطى للمرْأة الَّتي تُريد أن تحمِل (بطريقة صناعيَّة)، فهذا النَّوع حرام أيضًا في الإسلام؛ إذ يكون في النَّوعين الأخيرَين اختلاطُ الأنْساب.
 
قال النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((منِ انتَسبَ إلى غير أبيه أوِ انتَسَب إلى غيرِ مواليه، فعليْه لعنةُ اللهِ والملائِكةِ والنَّاسِ أجْمعين))[18].
 




[1] (A.M.A Code) السلوك الطبي لنقابة ذوى المهن الطبِّيَّة الأمريكيَّة.
[2] أخرجه البخاري، وفي الباب عشرات الأحاديث، كما ورد في القرآن الكريم آياتٌ تُوصي بالجار.
[3] سورة النساء: 32.
[4] سورة الحشر: 9.
[5] سورة التوبة: 11.
[6] أخرجه البخاري، ومسلم.
[7] سورة البقرة: 282.
[8] أخرجه مسلم.
[9] سورة الإسراء: 36.
[10] سورة النور: 15، وفي هذا المعنَى أحاديثُ كثيرة، منها: ((وهل يَكُبُّ النَّاسَ على وجوههم إلا حصائد ألسِنَتِهم؟!)).
[11] سورة البقرة: 283.
[12] نخالف الدكتور في رأيه؛ إذ يجب على الطبيب أن يَعمل على عزل المربِّية في الحال وعلاجها؛ وقايةً للأسرة كلِّها "الوعي".
[13] ورد ذلك بحديث أخرجه ابنُ ماجه عن أبي سعيد الخدري وغيره، مِن طُرُق أخرى يقوِّي بعضُها بعضًا.
[14] سورة آل عمران: 187.
[15] سورة الشعراء: 109.
[16] سورة سبأ: 39.
[17] سورة الأنعام: 151.
[18] أخرجه ابن حبان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:32 pm

فقه الطبيب وأدبه

تمـهيد


الطب في الدراسات الإسلامية:
حين أردت أن أكتب موضوعًا يتناسب مع نشاط هذا المؤتمر للطب الإسلامي تساءلت عما يستحق أن يُدْعَى (الطب الإسلامي)؛ لتكون الكتابة في الصميم، وكان الباعث على التساؤل هو أن الطب أحد العلوم التي لا يتضح فيها وجه هذا الوصف بعيدًا عن جعل العلم يتعدد تبعًا للأديان والملل. ثم تأملتُ فرأيتُ أن المقصود من الوصف بهذه الصفة التنويهُ بما أسداه الإسلام لعِلْم الطب من اعتبار وتشجيع، وما أكْسَبه من عناية استتبعت استمراره ونموه على نحو لم يُشهد له مثيلٌ في ظل غيره، وقدْ يؤدِّي لإيضاح المراد تقليبُ هذين اللفظين بأن يقال: (إسلاميات الطب) أو (طبيات الإسلام)، فالغرض تصويب النظر إلى الموقع الذي اتخذه الطب في أرجاء الدراسات الإسلامية بأنواعها.

وقد تركتُ الحديث عن نمو الطب في ظل الإسلام، وجهودِ الأطباء المسلمين في تحرير ما وَرِثُوه، وإبداعِ ما ابتكروه من نظريات، بعضُها ظَلَّ محرِزًا له حقَّ السبق إليه، وبعضٌ منها استلبه الأدعياء في غفلة الانحطاط والاستضعاف، حتى قَيَّضَ الله من يشهد بالحقيقة، بشهود من أهلها أو من أعدائها "والفضل ما شهدت به الأعداء" وهذا يغلب عليه الطابَع الاختصاصي الفني، والجدير بجلائه هم الأطباء دون غيرهم. كما أمسكت عن التوسع في مجالين آخرين يستهويان الباحث في ظل ما في عنوان (الطب الإسلامي) من شمول:

أحدهما
: هو الاستعراض التاريخي للجهود التأليفية في الطب وعلومه من قِبَلِ المسلمين، وذلك له كتب عامة تُعْنَى بتاريخ العلوم من طب وغيره، وتهتم بتقويم الكتب (الببليوغرافيا)، والرجوع إليها أو الاقتباس منها – من خلال نظرات سريعة – كفيل بالمطلوب. والسبيلُ الأمثل لتخليد هذه الجهود تحقيقُ مخطوطاتها ونشرها وترجمتها إلى اللغات الحية؛ ليكون من مراجع الدراسات الطبية العالمية أمثال كتاب "الحاوي" للرازي المتوفَّى (311هـ - 923م) و "القانون" لابن سينا (348هـ - 959م) و "التصريف" للزهراوي (427هـ- 1035)، وكتب ابن رضوان المصري (453هـ - 1061م) وكتب ابن رشد (595هـ - 1198م) وكتب ابن زهر الأندلسي (557هـ - 1161م) و"الشامل" لابن النفيس (687هـ - 1288م) وغيرها مما تلاحق بعدها.. تمهيدًا لوصل حاضرنا العتيد بالماضي المجيد وانطلاقًا لرسم المستقبل المنشود.

والمجال الثاني:
 الربط والتوفيق بين النظريات الطبية الحديثة وما ورد من نصوص فيها إشاراتٌ ذات صلة بها في القرآن والحديث. وهذا المجال أيضًا مما عُني به القدامى والجدد بكتابات شاملة للنظريات العلمية مطلقًا أو خاصة بالطبي منها.
ومع ما يتطلب هذا المجال من ازدواجية لابد منها للباحث فيه، فقد كان حظ الأطباء للإسهام في بيانه أكثر من حظ غيرهم لأنه يتطلب تمرسًا في الطب وتعمقًا في علومه في حين يكفي له الإلمام بالدراسات الدينية والعربية.

وبعدُ .. فإن وراء ما أشرت إليه مجالاً رحبًا لدراسة ما يمكن اعتباره أيضًا من مسمى (الطب الإسلامي) بَدْءًا من (الطب النبوي) المتضمن هدي النبي – صل الله عليه وسلم – في الطب الطبيعي، والعلاج الروحي والطب النفسي، والقواعد التي أرساها الإسلام لحفظ الصحة، ثم ما وراء ذلك من منارات منثورة في علوم الشريعة الغراء تتصل بفقه الطبيب (الأحكام الخاصة به)، وأدائه (أخلاقيات الطبيب)، ومعظم ذلك مذكور في غير مظانه، وقليل منه قد حظي بباب مفرد لدراسته في الكتب الشاملة أو بكتاب مستقل فيه.

وفيما يلي إشارات لأهم الجوانب التي كان لها حيزٌ في الدراسات الإسلامية بعيدًا عن الاسترسال في الصعيدين التاريخي، والتأويلي – المشار إليهما –؛ لتكون هذه الدراسة تقريرًا لأصالة الطب الإسلامي، ومَدخلاً لوضع مرتكزات للدراسات المفصلة فيه، وذلك يسهم في فتح المجال أمام من ينشط لتسليط أضواء البحث الكاشفة لما خفي منها. ولا يتسع المقام لِتَلَمُّس دور الطب في الدراسات الإسلامية – تأثرًا وتأثيرًا في جميع الزمر المستقرة لتلك الدراسات، بَدْءًا بالقرآن، ومرورًا بالسنة والسيرة، وانتهاءً إلى الفقه وعلومه المساعدة لاسيما الحِسْبَةُ والآداب الشرعية؛ لذا اقتصرت على لمحات في فقه الطبيب (الأحكام التي تتصل بمزاولته عملَه من حِلٍّ وحرمة) مع نُبَذ في الآداب التي ينبغي مراعاتها.

النظرة الشرعية للطب:
لابد من إلقاء هذه النظرة قبل الحديث عن فقه الطبيب وآدابه ثم أنتقلُ لبيان الخِصال التي أوجبت الشريعة الإسلامية على ممارس الطب المعرفةَ بها، لأنها من الأمور المتصلة بصميم عمله. وهي مما يختص بالقيام به غالبا، كما يشمل آثار تصرفاته في الأحوال العادية أو الطارئة؛ إذ من المقرر شرعا أنه يجب على المسلم - بالإضافة إلى معرفة الأحكام العامة في حق الجميع كالعبادة - اكتسابُ المعرفة بما يخصه في عمله لتكون تصرفاته موافقةً للشرع وليكون كسبه حلالاً.

ولعل أول ما يتعرض له الفقهاء في هذا المجال حكم (التداوي)، ويَستَتْبِع ذلك تعرضُهم لحكم (التطبيب).. ولا يخفى أن الحديث عن هذين الأمرين كان لهما قديمًا ما يبرره إزاء مواقف بعض المتصوفة أو الزهاد الذين توهموا أنَّ الإقدام على التداوي يخالف التوكل.. وقد اعتُبِرتْ هذه المواقف من باب التنطع بعدما ثبت تداوي النبي – صل الله عليه وسلم – شخصيًّا، والأمرُ لغيره بالتداوي والمداواة.

ويستوقف النظر في المراجع التي تناولت هذه القضية حرص الفقهاء على اعتبار (مهنة التطبيب) إحدى فروض الكفاية[1] بمعنى أنه إذا لم يوجد من ينهض بها أثم المسلمون كلهم، وأن القيام بها من البعض يسقط الإثم عن البقية، ويكون الأجر خاصًا بمن يقوم بذلك.. ويظهر أثر هذا الاتجاه حين الموازنة بمحاربة الطب من خلال شن الحملة عليه من قِبَلِ محتكري الوصاية على الأديان والعقول قَبْلُ.

الفقه والخبرة الطبية:
تثور الحاجة إلى خبرة الطبيب في أكثر من موضوع في الفقه الإسلامي، وتلك المواطن إما أن تتصل بالمرض أو الأعذار المبيحة لبعض الرخص والتيسير في العبادة.. وإما أن تتصل بالفصل في المنازعات التي تنشأ من دعاوى مَحَلُّها جسم الإنسان، سواء أكان النزاع في شأن السلامة والبقاء على الفطرة وعدمها، أو من قبيل ادعاء العيوب والنشاز. ونظرا إلى أن الشريعة الإسلامية من منهجها العام في التشريع بناؤه على الأعم الأغلب فقد ندر - في غير مجال الطب - ربطُ الأمور بالخبرة الفنية وحدها، بل أقيمت أكثر الأمور على حصول الأمارات الظاهرة الميسورة كما هو الحال في أوقات الصلاة، ومطالع الأشهر وغيرها. أما في مجال الطب فلم يَعْدِلْ عنه إلى غيره إلا في الأمور الميسور إدراكُها بالتأمل أو بطول الأمد الكافي لظهور الأعراض واجتماع القرائن كما هو الحال في البلوغ وعلاماته الطبيعية.
وفي هذه الأحوال كان البديل ليس هو الشخصَ العادي، بل أصنافًا من ذوي الخبرة الآخذة من الطب بنصيب كالقابِلة .. أو مجموعة من النساء الثقات.

ومن أهم أمثلة الحاجة إلى خبرة الطبيب في تحقيق شروط العبادة لوجوب مزاولتها:
أ- التطهُّر لها بالوضوء والغسل - بحسب الحاجة- حيث ينتقل الواجب بحصول المرض من استعمال الماء، وهي الطهارة الحقيقية الأصلية إلى طهارة بديلة اعتبارية هي التيمم، وقد يكون الانتقال في جزء من البدن لا في جميعه، ومثاله الإعفاء من مساس الماء للبدن، بسبب وضع جبائر حيث يُستعاض عن ذلك بالمسح على الجبيرة.
ب- و(صلاة المريض) أحد الأبواب المعروفة في الفقه، حيث يصلي كما يطيق من قعود أو على جنب بحسب مقتضى مرضه.
جـ- والمرض أحد الأعذار التي يسقط بها وجوب الجمعة والجماعة، فيُستعاض عن حضور المسجد بالصلاة في البيت. ومناط ذلك المرض تعذر الوصول إلى مكان المسجد لما في الجسم من وَهْنٍ أو في القدم من ألم...
د- والمرض يبيح الفطر في رمضان ليكون الصوم في أيام أُخر هي أيام الشفاء والعافية إلاَّ إذا كان المرض مما لا يُرجى شفاؤه؛ فينتقل الواجب من الصوم إلى (الفدية) التصدقِ بطعام مسكين. ولا يخفى أن الحكم بالمرض أصلاً أو بكونه مزمنًا هو مهمة الطبيب دون غيره.
هـ- ومرض الموت له شأن آخر، فهو ليس ذاك المرض الميئوس من شفائه فقط، بل هو الذي يزداد أثره حتى ينتهي بالوفاة، وله أحكام فقهية مفصلة بشأن التصرفات ولاسيما الهبةُ والإقرار والطلاق. والذي يقرر أن المرض من هذا القبيل هو الطبيبُ. على أنه ليس من إعطاء الخبرة حقَّها في الدقة أن يُطلَقَ العَنانُ للمرض مهما كان نوعه ومقداره لِتُستباح به الرخصُ ويُعفى به الشروط؛ ولذا كان المرض عند الفقهاء أنواعًا لكل منها اعتباره.

وأكتفي بالإشارة إلى اختلاف الرأي في اكتفاء بعضهم بخوف زيادة المرض أو امتداد زمنه، واشترط بعضهم خوف الهلاك أو فوات العضو[2]، على أن بعض الفقهاء اكتفى للاستفادة من الرخصة الشرعية بأن يكون في استعمالها (كالفطر في الصوم مثلا) الظنُّ بحصول الصحة وبعضهم اشترط اليقين.. وفي هذه المعايير المختلفة دَلالةٌ واضحة على الدقة في تقدير الأمور والحاجة الماسة إلى الخبرة الفنية .. ويتأكد هذا المبدأ من استعراض نماذج من أشهر مجالات الرجوع للخبرة الطبية فيما يلي:
أ- ففي موضوع الزواج وثبوت المهر كاملا بالدخول أو الخلوة، لا يعتد بالخلوة ما لم تكن الموانع زائلة فالمرض أحد تلك الموانع لكنه (المرض الذي يمنع المعاشرة أو يلحقه به ضرر..)[3].
ب- والأمراض الجنسية التي تُمنح بها المرأةُ حقَّ الفرقة عن الزوج هي العُنَّة والجَبّ والخِصاء، لكنَّ المجبوبَ لا يُتَرَيَّثُ في اعتباره، أما العِنِّينُ والخَصِيّ فيؤجل معهما الزوج سنة؛ لتمر به الفصول الأربعة ويتبين هل ما به علَّةٌ معترضة أم آفَةٌ أصلية.
جـ- وكذلك المرجع للخبرة الطبيَّة في عُيوب الزواج المستوجبة للخيار: وهي بالنسبة لما يوجد في الزوجة مغتَفَرَة عند بعض الفقهاء؛ لوجود الطلاق الذي تمكن به الزوج من مفارقة الزوجة المصابة .. ويمنحه بعضهم حق الخيار ويحصر تلك العيوب في ثلاثة عامة (الجذام، والبرص، والجنون) وقد عمَّم بعضهم أثرها ليشمل حالة إصابة الزوج بها.. وعيبين نسائيين هما الرتق: التصاق يمنع من المعاشرة الجنسية، والقَرَنُ: حائلٌ عظْميٌّ أو لحْمي يمنع من المعاشرة.

ومن الواضح أن معرفة ذلك لابد فيه من خبرة الطبيب، وإن كان يُستعان في بعض الأحيان بالقابلة.. وهي صورة من صور الطب.. والأمثلة للتعويل على الخبرة الطبية كثيرة في شتى أبواب الفقه.
ولهذا وضع الفقهاء أساسًا لاعتبار المرض مرخصا في التيمم - وأمثاله من المواطن التي يتغير بها الحكم من حال إلى حالٍ أخفَّ أو أشد – وهو: أن يعتمد على معرفة نفسه إن كان عارفا (أي المعرفة الفنية) وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عَدْل. فإن لم يكن بهذه الصفة لم يَجُزِ اعتمادُه، ومفاد هذا أنه لا يُعتَمَد على من لم تتوافر فيه الصفات والقيود المشار إليها، على أن بعض الفقهاء رأى أنه يجوز اعتماد قول من كان فاسقًا، لعدم التهمة هنا؛ لذا اقتصر هؤلاء في وصف الطبيب بأنه (مسلم ثقة) مع تقييده بالحذق والفطنة.

كما صرحوا بقبول قول المرأة وحدها، لأنه من باب الأخبار وليس من قبيل الشهادة التي جاء في تنظيمها الآية الكريمة:
{وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة: 282].
ومما يدل على إحالة الأمر إلى خبرة الطبيب منعُ بعض الفقهاء من التيمم إن لم يجد طبيبًا على الصفة المشروطة[4].

مسؤولية الطبيب (الضمان):
إن المسؤولية بالنسبة للطبيب وغيره نوعان: تعاقدية، وجنائية.
أ- المسؤولية التعاقدية:
ينطبق على التعامل بين المرضى والأطباء القواعدُ العامة للإجارة على الأعمال، وهي السائدة في كل المهن التي يلتزم فيها صاحب المهنة بأداء منفعة للمتعاقد محدودة بإنجاز معين مع تمكنه من تلقي مهام أخرى. وقد يكون التعامل على أساس الإجارة الخاصة التي يُسمى مُقدِّمُ المنفعة فيها (الأجيرَ الخاص)، وذلك حين يرتبط خلال مدة معينة بأن لا يعمل لغير من تعاقد معه، وهاتانِ الحالتانِ لا خصوصية فيهما للطبيب من غيره. على أن هناك حالتين لا تُتَصوران إلا في ممارسة الطب: تسمَّى إِحداهما: "المشارطة على البُرْء" وتسمى الأخرى: "اشتراط السلامة" وقد عُني بمعالجتهما الفقهاءُ على النحو التالي:

الحالة الأولى
 (المشارطة على البرء):
الأصل في تقدير التعامل مع الطبيب أن يكون على مدة معينة، أو يكون على القيام بأعمال معينة، ويستحق الأجر بإنجاز ذلك ولو لم يبرأ، وهذا ما يُدْعَى في الاصطلاح القانوني "بذل العناية". وفي هذه الحالة احتمالاتٌ لها حلولُها التي تختلف فيها أنظارُ الفقهاء مثل حصول البرء أثناء المدة، أو حصول الوفاة، أو امتناع المريض من مواصلة العلاج.. على أنه قد يشترط في هذا التعاقد بالإضافة إلى بذل العناية "تحقيقُ غاية" وهي الشفاء من المرض (البُرْءُ) والفقهاء مختلفون في الحكم على هذا التعاقد:
فبعضهم مَنَعَه، لما فيه من الجهالة، لأن البُرْء غير معلوم متى يحصل، حتى لو أحاط الطبيب علمًا بأحوال مرضه ومريضه؛ لتدَخُّل أسباب خارجية. وجمهور الفقهاء على جوازه والدليل هو ما ورد من أن أبا سعيد الخدري عالج رجلا وشارَطَه على البُرْء، وعَلِمَ بذلك رسول الله – صل الله عليه وسلم – فأقر تصرفه. ويرى ابن قدامة أن هذه المعاملة ليست من باب الإجارة التي يُشترط فيها معلوميةُ مَحَلِّ التعاقد بالمدة أو العمل. وإنما هي من قبيل (الجَعَالَة) وهي تجوز على عمل مجهول، كما هو الحال في ردِّ اللُّقَطَة، ويكفي للجَعَالَة تحديدُ مقدار الجُعْل، وبيانُ الغاية المطلوبِ تحقيقُها بقطع النظر عن مقدار العمل .. ومن أحكام هذه المشارطة أنه لو ترك قبل البُرْء فلا شيء له إلا أن يتمم غيره؛ فله حساب نسبة من الاتفاق[5].
وقد تناول الفقهاء هنا مسائل أخرى ثانوية مثل اشتراط الدواء على المريض أو الطبيب وهذه القضايا الملحوظُ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، والتي لا يوجد ما يلزم بمتابعتها مع تطور أصول التعامل في هذا المجال.

الحالة الثانية (اشتراط السلامة):
تناول الفقهاء ما لو تعاقد الطبيب مع مريضه واشترط أن يكون عمله مقترنا بالسلامة من السراية (المضاعفات)، فالشرط باطل؛ إذ ليس في وسعه ذلك، وما دام ما ينتج عن الفعل المعهود المستوفي للشروط معفًى من المسؤولية فلا تترتب بمجرد الاتفاق؛ للقاعدة القائلة: "ضمان الآدمي يجب بالجناية لا بالعقد"[6] ويُلحظ هنا أن الشارع قد تدخل لينقذ الطبيب الذي تورط بقبول هذه المغامرة، إمَّا مدفوعا بإقدامه على أكثر مما يطيق، وإما بدافع الحاجة لقطف ثمار عمله ولو كانت محاطة بمحاذيرَ، والشريعةُ جاءت لإقرار العدل أو لتحقيقه حين يُزْهِقُهُ جموح أو طغيان أحد الأطراف.

ب- المسؤولية الجنائية:
الكلام عن المسؤولية الجنائية المترتبة على الطبيب إنما هو في مجال ممارسته المهنةَ ؛لأن تصرفاته العمديةَ العدوانية خارجَ المهنة لا تختلف عن غيره. ولكن نظرا إلى طبيعة مهنته قد يلتبس فيها التصرف المعتاد المقصود به العلاج، بالتصرف الجنائي الناشئ عن جهل أو تجاوز أو خطأ، فقد تناول الفقهاء بالدراسة هذه التصرفات بإسهاب وتفصيل يمكن إيجازه على النحو التالي:

إن اعتبار التطبيب واجبًا كفائيًا يقتضي أن لا يكون مسؤولاً عما يؤدي إليه عمله قيامًا بواجب التطبيب؛ لأن القاعدةَ "أنَّ الواجب لا يتقيد بشرط السلامة"، لكن لما كانت طريقة أداء هذا الواجب متروكةً لاختيار الطبيب وحْدَه؛ لما له من السلطان الواسع في الطريقة وكيفية الأداء تبعا لاجتهاده العلمي والعملي، كان ذلك داعيًا للبحث عن مسؤوليته جنائيًا عن نتائج عمله إذا أدى إلى نتائج ضارة بالمريض، باعتباره أنه حين يؤدي واجب التطبيب أشبهُ بصاحب الحق منه بمؤدي الواجب، ولا يخفى أن صاحب الحق يُسأل في حال تجاوزه حقَّهُ. وبمناسبة الموازنة بين اعتبار الطبيب قائمًا بواجب، أو اعتباره صاحبَ حق، يهتم الفقهاء بالتأكيد على ضرورة الاستعانة بخبرة الطبيب في تنفيذ القِصاص الشرعي في حال وجوبه بالجناية على النفس (القتل)، أو الجناية على ما دون النفس (الجراح وإتلاف الأطراف أو الحواس). فلا شك عندهم أن قيامه بذلك هو من قبيل أداء الواجب. وقد صرح الفقهاء على أن مقتضى الإحسان في التنفيذ أن يُعْهَدَ به إلى ذوي الخبرة بعد أن يوكِّلَهم الأولياءُ المتمسكون بحق القِصاص إذا لم تَطِبْ نفوسهم بالعفو؛ لما يتطلبه ذلك من دقة وحذر لعدم مجاوزة الواجب، قصاصًا كان أو حدًّا، ولتحقيق البعد عن الظلم والتعذيب.. وقد تضمنت المراجع الفقهية القديمة بعضَ الأصول التي كانت تُراعى قبل التنفيذ، والوسائلَ التي كانت تستخدم في القياس وتحديد محل الاستيفاء، ليتم على أعدل وجه وأرفقه وأسهله[7].

وهناك إجماع على عدم مسؤولية الطبيب إذا أدَّى عملُهُ لنتائجَ ضارةٍ فيما إذا توافرت الشروط التالية:
1- أن يكون طبيبًا عن معرفة ودراسة لا عن زعم وادعاء، ولا يُفِيد أن تكون له شهرة لا تستند إلى خبرة حقيقية.
2- أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية (أو بقصد تنفيذ الواجب الشرعي).
3- أن يعمل طبقًا للأصول الفنية التي يقررها فن الطب وأهل العلم به، فما لم يكن كذلك فهو خطأ جسيم يستوجب المسؤولية.
4- أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالوالي.

والطريف في هذه القضية أن الفقهاء حين أجمعوا على رفع المسؤولية عن نتائج فعل الطبيب حين توافُر الشروط المشار إليها، اختلفت وجهات نظرهم في تعليل نفي المسؤولية على نحو يدل على التقدير لشأن هذه المهنة وخطورتها في آنٍ . فبعضهم يرى أن العلة هي الحاجة إلى ممارسة المهنة في جو يشجع على أدائها لاسيما حين يقترن ذلك بالإذن، وبعضهم يرى أن العلة بالإضافة للإذن أن الغرض من الفعل قَصْدُ العلاج لا الضرر، والقرينة على هذا القصد وقوعُه موافقًا للأصول الفنية، ويرى البعض أن العلة هي الإذن في صورته المزدوجة المركبة من إذن الحاكم بممارسة المهنة وإذن المريض بأداء ما تقضي به من أعمال.

العلاج بالفعل المَخُوف:
لعله لا يخرج عن دائرة ارتكاب أهون الضررين ما ذهب إليه بعض الفقهاء في قضية العلاج بالأفعال التي يُخافُ منها التلفُ أو السراية (المضاعفات)، بدَلالة ما أردفوا به هذه المسألةَ من تفصيلات بأنه إذا خِيفَ التلفُ من تَرْك الفعل كان القيام به جائزًا بل واجبًا.. كما صرحوا بِحِلِّ قطع عضو استقر فيه الداء وخُشِيَ انتشارُهُ في سائر الجسم.
ولا يخفى أن المعيار المُشار إليه هو المُحَكَّم، وما جاء على غير ذلك ربما كان من التأثر بالأوضاع الزمنية.
وكان مما ثار الجدل فيه- في غيبة مراعاة القاعدة-: الكيُّ[8].

تشريح بدن الإنسان:
كان لهذا الموضوع صداه قديمًا باقتصار البعض على التمسك بمبدأ تكريم بني آدم وتحريم المُثُلَة (وتحريم كسر عظم الميت في بعض الأحاديث) دون مراعاة المقاصد الأخرى من حفظ النفس بشتى الوسائل المؤدية لحفظها، ومن تلك المقاصد التي تُسعِف نصوصُ التشريع وعبارات الفقهاء بمراعاتها:
شقُّ بطن الأم الميتة لحفظ حياة الجنين، والتشريح لتعلم الطب، ولكشف جريمة. ومما جاء في ترجمة ابن النفيس (وهو فقيه مشهور فضلا عن أنه طبيب) وغيره أنهم كانوا يذهبون إلى المقابر فيلاحظون بعض العظام التي تنكشف عنها القبور القديمة، ويراقبون مفاصلها فضلاً عن تشريحهم بعضَ الحيوانات، ولا يخفى أن حرمة بدن الإنسان الميت موفورةٌ إذا كان تشريحه لمصلحة أكبر.
ومما يَتْبَع هذا قضيةُ الاستفادة من أعضاء الموتى لتعويض نقص أو تَلَفٍ في الأحياء، وهي مسألة مركبة من نواحٍ متعددة، ولا تخرج عن نصوص الأمر بالتعاون، وقاعدة ارتكاب أهون الضررين المشار إليها.

العلاج بالمُحَرَّم أو النجس:
الأصل المنع من ذلك لنفس المقاصد والغايات التي يَرمِي إليها الشارع في المنع من بعض الأشياء (غذاء كانت أو دواء) ،واعتبارها محرمة بالنص على تحريمها أو الحكم بنجاستها.
وقد اتجه جمهور الفقهاء هذا الاتجاه المنسجم مع علل المنع ما ظهر منها وما بطن. على أن بعضهم رأى فُسْحَةً في استعمال المحرم أو النجس فيما إذا تَعَيَّنَ ذلك دواءً للمريض، وأجرى هنا أحكام الضرورة التي يباح معها ارتكاب المحظور. في حين رأى الجمهور فرقًا بين الدواء الذي هو مظنون وله بدائل، وبين الغذاء الذي به قِوام البدن ولا غنى عنه مطلقًا فإذا اضْطُرَّ إليه الإنسان غير باغ ولا عاد فلا إِثْمَ عليه..

وقد استوفى ابن القيم وجوهَ الحكمة في المنع من التداوي بالمُحرَّمات بعد أن أورد الأدلة الصحيحة على هذا الاتجاه المشهور لدى الفقهاء، وهو يشير إلى أن المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعًا؛ لأن تحريمَهَا على الأمَّة ليس عقوبة بل هو لخُبْثِهَا؛ فحرمت صيانة عن تناولها وحفظًا من أخطارها فلا يناسب العودة إليها للاستشفاء، وفي اتخاذها دواءً ترغيب بها ينافي داعي التحريم إلى تجنُّبِها، والأخذُ بها يكسب النفس من خبثها بالانفعال البَيِّن الحاصل بالدوار، وإباحةُ التداوي بها يكون ذريعة لتناولها للشهوة واللذة، والشارعُ يَسُدُّ ذرائع الفساد، ولا يخلو الدواء المحرم من أضرار تزيد على ما يُظَنُّ فيه من الشفاء. ثم أشار إلى سر لطيف في كَوْنِ المُحرَّمات لا يُسْتَشْفَى بها هو افتقارها إلى عنصر التلقي بالقبول، واعتقاد المنفعة والبركة المجعولة للشفاء، واعتقاد تحريمها يَحُول بين المسلم وبين تلك العوامل.

ومما يُذكر عن ابن النفيس أنه في مرضه الأخير وَصَفَ له بعضُ الأطباء تناولَ شيء من الخمر، إذ كانت علته تناسب أن يتداوى بها على ما زعموا، فأبى أن يتناول شيئًا من ذلك وقال: "لا ألقَى اللهَ تعالى وفي باطني شيءٌ من الخمر". ولعل في هذه العُجالة غِنًى عن تفصيل الكلام في هذا الموضوع[9].

النظر للعورة للعلاج:
في ظل القاعدة الشرعية المعروفة: "الضرورات تبيح المحظورات"، والقاعدةِ الأخرى التي تَقْضِي بارتكاب أهون الضررين اتقاءً لأشدهما، اعتُبِرَ تحريمُ النظر إلى العورة قاعدةً لها مستثنيات لا تختص بطبيب دون غيره. لكنَّ التطبيق العملي كشف أن العلاج أشهر التطبيقات التي خرجت عن القاعدة وليست كلها، فهناك النظر لأداء الشهادة مثلا، وأمور أخرى قد آلت بالتطور إلى الطب نفسه كما سنرى.
ولا يخفى أن العورة من الرجل ما بين السُّرة إلى الركبة، ومن المرأة البدن كله عدا الوجه والكفين، والعورة المغلَّظة هي الفرج وما حوله. وعلى هذا فإن ما فوق السُّرة وما تحت الركبة هو القدر المباح للنظر إليه من الرجل بالنسبة للرجل ومن الرجل لمحارمه، ومن المرأة للمرأة، ومن المرأة للرجل، أما نظر الرجل إلى المرأة فالقدر المباح منه هو الوجه والكفان.

هذه هي القاعدة في الجملة، أما الاستثناءات التي نَوَّهْتُ بها فهي:
إباحة النظر إلى محل المعالجة - أو لمسه وهو في الأصل أشد حرمة من النظر - وذلك بالقدر الذي تدعو إليه الحاجة، حتى لو كان ذلك المحل هو السوءتين. ودواعي النظر التي مثلوا بها متعددة وهي قد آلت كما أشرت إلى الطبيب أو مساعديه والمُلحَقِين به في الحكم:
القابلة، الخاتن، الممرض، ولمن يعهد إليه بتعرُّف البلوغ (التسنين)، ولمن يُرجع إليه في معرفة العيوب الجنسية أو البكارة.
ومما حض عليه الفقهاء سترُ ما لا يحتاج لنظره من العورة بثوب، والاقتصار على النظر للمحل المُعالجَ.

علاج الرجل للمرأة وعكسه:
من القواعد الشرعية أن نظر الجنس – ذكرًا أو أنثى – إلى الجنس نفسه أخف؛ ولهذا كان الأصل أن تعالج المرأةَ امرأةٌ مثلُها. ومع هذا فقد نص الفقهاء على جواز الاستثناء، وهو معالجة الرجل للمرأة، وذلك حيث لم يوجد أحد من بني جنسها. ولهم تفصيلات في تقدير الضرورة بين أن يكون "تعذر تأتِّي المقصود من المرأة"[10].
وهذا يتيح المجال لاعتبار الحال الحاضر، فإذا لم يكن ساعةَ العلاج العاجل إلا رجلٌ، أو كان الاختصاص المطلوب أو مقدار المهارة فيه لم يتوافر في امرأة فذلك كله من الدواعي المشروعة، وصرح بعضهم بأن الرجل يستعينُ بامرأة فيطلب إليها فعل ما يريد فعله.

الخلوة بالمرأة:
أحكام الخَلْوة عامة لا إعفاء من مراعاتها إلا في الحالات الطارئة النادرة كما لو كانت المرأة مسافرة مع زوج أو مَحْرَم، ثم فارقها بالوفاة مثلاً.
والخَلْوة الممنوعة هي الانفراد بالمرأة من قِبَلِ رجل ليس زوجا ولا مَحْرَمًا. أما انفراد الرجل بالمرأتين فليس خَلْوة عند بعض الفقهاء وهذا طبعا إذا كان الغرض ليس سيئًا.
على أن في انفراد الرجلين بالمرأة وعكسه خلافًا لبعض الفقهاء، ويتعيَّن تفسيره وَفْقًا لما تدل عليه الوقائع الكثيرة من السنة وعمل السلف، بأنه نوع من الاحتياط الواجب إذا لم تُؤمن الفتنة، وأمَّا المتفق عليه فهو ما جاء به الحديثُ الصحيح: ((مَا خَلاَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا)).
ولا شك أن الخَلْوة – على ما صرح به الإمام أحمد وغيره – لا تتحقق إلا في بيت أو نحوه مما يُؤْمَنُ دخول ثالث إلا بإذنهما.
أما ما كان من الأماكن متاحًا دخوله لعامة الناس أو لصنف كالأطباء والممرضين مثلا فلا تتحقق فيه الخَلْوة.

استطباب غير المسلم:
التطبيب مهمة خطيرة، فإذا لم تَجْرِ في جو من الأمان والاطمئنان كانت ذريعة لإلحاق الأذى بالخصوم، كما أن لذلك أثرَهُ نفسيًا في شعور المريض نفسه[11].
من هذا المنطلق، ومما كان يقع مع بعض غير المسلمين من مكايد أو غش، ذهب بعض الفقهاء إلى كراهة استطباب غير المسلم إلا لضرورة. ويدل على مستندهم في الرأي ما أشاروا إليه بقولهم: "لعدم الثقة وافتقاد النصيحة" فإذا لم تَبقَ هذه العلة زال الحُكم المَنوط بها؛ ولذا يعارض ابن تيمية في القول بالكراهية قائلا:
"إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب، ثقةً عند الإنسان جاز له أن يستطبه، كما يجوز أن يودعه المال وأن يعامله. وقد رُوِي أن النبي – صل الله عليه وسلم – أمر أن يستطب الحارث بن كَلْدَة – وكان كافرًا – وإذا أمكن أن يستطب مسلمًا فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يَعْدِلَ عنه. وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكِتابيّ واستطبابه فله ذلك، ولم يكن من وِلاية اليهود والنصارى المنهي عنها".
كما نبهوا على التثبت مما يصفه من الأدوية المركبة؛ لئلا يكون فيها مُحَرَّمٌ ،كما قالوا بأنه لو أشار عليه بالفطر في الصوم، والصلاة جالسًا لا يُرجَع إلى قوله لأنه خبر متعلِّق بالدين فلا يُقبَل.

من آداب الطبيب:
يشير السبكي في بيان ما ينبغي أن يتحلى به الطبيب من آداب بعبارة مستوعبة بالنسبة لقلة ما جاء عن هذا في غيره من كتب الحِسْبَة التي توغلت في بيان ما يُكتَشَف به أهليةُ الطبيب، وما يُزاح به الغطاءُ عن الجهل أو الغش إن وجد، كما أشارت إلى ما يجب علمهم به، وما يقسمون عليه، ولزوم مراعاة الإذن من ولي الأمر، ومن المريض أو وليِّه[12] يقول السبكي عن آداب الطبيب[13]:
- من حقه: بذل النصح، والرفق بالمريض.
- وإذا رأى علامات الموت لم يُكْرَه أن يُنَبِّهَ على الوصية بلطف من القول.
- وله النظر إلى العورة عند الحاجة بقدر الحاجة.
- وأكثر ما يُؤْتَى الطبيب من عدم فهمه حقيقةَ المرض، واستعجالِه في ذكر ما يصفه، وعدم فهمه مزاج المريض، وجلوسه لطب الناس قبل استكماله الأهلية.
وعليه أن يعتقد أن طبه لا يَرُدُّ قضاء ولا قدرًا، وأنه إنما يفعل امتثالاً لأمر الشرع وأن الله تعالى أنزل الداء والدواء وما أحسن قول ابن الرومي:
غَلِطَ الطَّبِيبُ عَلَيَّ غَلْطَةَ مُورِدٍ        عَجَزَتْ مَوَارِدُهُ  عَنِ  الْإِصْدَارِ
وَالنَّاسُ يَلْحَوْنَ  الطَّبِيبَ  وَإِنَّمَا        غَلَطُ  الطَّبِيبِ  إِصَابَةُ   الْأَقْدَارِ
وهناك آداب أخرى ليس الشريعة مصدرُها الوحيدُ، بل هي من آداب هذه المهنة مثل كتمان أسرار المرض، والالتزام بمقتضى القسم الطبي مما هو معروف[14].

على أن من الآداب أمرًا يُخاطَب به الجميعُ ويُخَصُّ به الطبيبُ؛ لاتصاله المباشر بالمريض وهو آداب "عيادة المريض" ولا يقلل من شأن هذه المطالبة الخاصة أن يكون ذلك مقتضى مهنته. فإنه إذا نوى – بالإضافة إلى باعث الواجب الوظيفي – الأخذ بهذه الآداب التي هي من تمام حق المسلم على المسلم كان أداؤه أكمل؛ لصدور ذلك عن قناعة والتزام ديني ينمو معه الوازع الداخلي بعد رقابة الله عزَّ وجلَّ.

وقد جاء من التفصيلات لآداب عيادة المريض ما يجعل منها علاجًا نفسيًا للمريض فضلاً عن تحقيق المؤانسة والرعاية له في حال ضَعْفِه وقُعودِه، وأشير إلى أهم العناصر البارزة في عيادة المريض مما مصدره الشريعة قبل غيرها:
أ- عيادة المريض أدب ديني للأمر بها والأجر والفضل عليها فيما يلي من الأحاديث:
- "أمرنا – صل الله عليه وسلم – بعيادة المريض"؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهْ؟))؛ أخرجه مسلم.
- ((إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ المُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ))؛ (أي في جَنَاهَا) أخرجه مسلم.

ب- الدعاء للمريض، بمثل الأدعية المأثورة التالية:
- ((بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلاّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يِغَادِرُ سَقَمًا))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((بِسْمِ اللهِ –ثَلاثًا- أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ-سَبْعَ مَرَّاتٍ-))؛ أخرجه مسلم.
- ((أَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ)).
- ((لا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ)).
- ((بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ))؛ أخرجه مسلم.
- قراءة المعوذتين والإخلاص والفاتحة.
- ((اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى صَلاةٍ)).

جـ- السؤال عن حال المريض.
ويكون الجواب في جميع الأحوال: (أصبح بحمد الله بارئًا) إلا إن كان السائل مَعْنِيًّا بعلاج المريض وهو يسأل عن تطور حاله لمتابعة علاجه بما يناسب تلك الحال.

د- الإحسان للمريض واحتماله والصبر على ما يشق من أمره: وذلك من باب الامتثال لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [سورة النحل:90]. وقوله – صل الله عليه وسلم – ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ..)).

هـ- كراهيةُ تَمَنِّي المريضِ الموتَ:
لقوله – صل الله عليه وسلم – (( لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي..)) والمراد أيضًا الطبيب الذي يعود المريض بعدم الوقوع في هذا المحذور.

و- تطييب نفس المريض:
لقوله – صلى الله عليه وسلم –: ((إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى مَرِيضٍ فَنَفِّسُوا لَهُ مِنْ أَجَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ)). ويؤيده قوله – صل الله عليه وسلم – لأحد من عادهم: ((لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ)).

ز- الثناء على المريض بمحاسن أعماله إذا رأى منه خوفًا ليُذْهِبَ خَوْفَهُ ويُحسن ظنه بربه:
وفيه أخبار عن ابن عباس مع عمر، وعبد الله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص، وابن عباس مع عائشة.. لا محل لسردها.

جـ- تشهية المريض:
دخل – صل الله عليه وسلم – على رجل يعوده فقال: ((هَلْ تَشْتَهِي كَعْكًا؟)) "قَالَ: نعم فطلبه له" .. ابن ماجه.

ط- طَلَبُ العُوَّادِ الدعاءَ من المريض:
(إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة).
ولا شك أن طلب الدعاء منه يُشْعِرُهُ بالراحة النفسية من حسن نظرة الناس إليه وأن مَرَضَهُ كَفَّرَ عنه كثيرًا من ذنوبه وجعله يعيد النظر فيما سَلَفَ من أمره.

ي- تذكير المريض بعد عافيته بالوفاء بما عاهد اللهَ عليه:
ومما رُوِيَ في ذلك حوارٌ جرى بينه – صلى الله عليه وسلم – وبين الصحابي (خَوَّات) بعد أن عُوفي من مرضه، حيث قال له – النبي صل الله عليه وسلم –: ((صَحَّ الجسمُ يا خوّات)) فأجابه: "وجسمك يا رسولَ الله فقال له النبي: ((فَفِ اللهََ بما وَعَدْتَهُ)) فقال خوات: "ما وَعَدْتُ اللهَ شيئا" قال: ((بلى، مَا مِنْ عَبْدٍ يمرض إلا وَعَدَ الله خيرا، فَفِ اللهَ بما وعدته)).

هذه لمحات في فقه الطبيب وأدبه، وهي للتنويه والتمثيل لا للاستيعاب فله مجال آخر. ومن ذلك يتبين ما للطب من منزلة في الشريعة، وما له من موقع في فقهها وآدابها .. ولا أجد للختام أروعَ من كلمة مأثورة عن الإمام الشافعي عن التواؤم بين علاج الأبدان، وعلاج النفوس ومشكلات الحياة حيث يقول: "لا تَسْكُنْ في بلد ليس فيه فَقِيهٌ وطبيبٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] معالم القربة لابن الأخوة 165 – 166.
[2] الهداية 1/126.
[3] الهداية 1/206.
[4] المجموع شرح المهذب للنووي 2/315 الفروع لابن مفلح 2/53.
[5] المغني لابن قدامة 5/400 المحلى لابن حزم 8/196 الشرح الصغير للدردير 4/75.
[6] الهداية 2/194 و 3/179 مجمع الضمانات 47 – 48 وفيه تفصيلات طريفة.
[7] المغني 4/351 وهناك كتاب مطبوع باسم "مقاييس الجراحات" فيه مزيج بين الرياضيات والطب كوسيلة لتحقيق عدالة التنفيذ.
المغني 5/398 ،بداية المجتهد لابن رشد 2/349 ، البدائع 7/305 ، الشرح الصغير 4/47 ،الخطاب 6/21 ،نهاية المحتاج 8/2. 
[8] غذاء الألباب 2/21 – 23. 
[9] لابن تيمية كلام دقيق في التداوي بالمحرم ومناقشته من زعم تعين الدواء في بعض المحرمات "مجموعة فتاوى ابن تيمية" 4/272 – 276.
[10] غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني 2/20 حاشية ابن عابدين 6/370. 
[11] يشير صاحب "معالم القربة في الحسبة" في معرض الحض على تعليم الطب بقوله: "هو من فروض الكفاية ولا قائم به من المسلمين، وكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الطب .. (ص 166).
[12] معيد النعم ومبيد النقم، للتاج السبكي (ص 133).
[13] معالم القربة 159 – 169، نهاية الرتبة 89 – 102 وغيرهما. 
[14] يرجع إلى كتاب "علم آداب الطب" للدكتور شوكت الشطى طبع جامعة دمشق.
وكتاب "الطب العربي" للدكتور أمين أسعد خير الله المطبعة الأميركانية – بيروت.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69619
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية   الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:34 pm

تطور مجال الطب


 

صاحَبَ التطورَ العلمي والتقني تطورٌ في مفهوم الطبيب، وآخر في مجال الأعمال الطبية..
تطور مفهوم الطبيب:
مع تنظيم الدراسات الطبية وتنوعها إلى تخصصات متباينة، انحصر مفهوم الطبيب فيمن يتلقى دراسةً منتظمةً في أحد المعاهد أو الكليات الطبيَّة، تنتهي بالحصول على درجة البكالوريوس في الطب والجراحة أو طب الأسنان من إحدى الجامعات المعترف بها، وإمضاء فترة تدريب محددة في إحدى المستشفيات أو المراكز الصحية.
ورغم ذلك فقد نصَّت أغلب القوانين والنظم على أنه: يحظر ممارسة مهنة الطب البشري أو طب الأسنان إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من الجهات المعنية[1].
وفي ظل هذا المفهوم الحديث: تقتصر أحكام ضمان الطبيب ومسؤوليته على الأشخاص الذين تحددهم النظم وترخص لهم بمزاولة المهنة، فهم دون غيرهم يفيدون من الإعفاءات التي تقررها النظم عما يقعون فيه من أخطاء لا تمسُّ أصول العمل الطبي وتقاليده، ولو أدَّى ذلك إلى وفاة المريض.
أما الذي يمارس العمل الطبي دون الحصول على ترخيص، أو قبل استكمال دراسته الطبية، فإنه لا يفيد من أحكام ضمان الطبيب، وإنما يخضع لأحكام التجريم والعقاب العامة المقررة في الأنظمة.
 

تطور مجال الأعمال الطبية:
أدَّى تطور الأبحاث والتكنولوجيا إلى توسُّعٍ ملحوظ في مجال الأعمال الطبية، فلم تعد تقتصر على حفظ الصحة حال بقائها في جسم الإنسان عن أن تزول، وإعادة ما زال عن جسم الإنسان من الصحة إليه[2]، وإنما امتدَّ مجال العمل الطبي إلى إجراء جراحات لم تكن تخطر على بال المشتغلين بالطب قبل سنوات، وإلى دراسة أحوال الفيروسات المتنوعة والبحث عن علاج لها، وواجه الطب الحديث داء السرطان بثورة بيولوجية دائبة، وخاض معركة شرسةً عدتها جراحة الجينات، بعد أن تمكن من السيطرة على مبادئ وقواعد الهندسة الوراثية، ثم بدأ رحلة زرع الدماغ، وهو يسعى في طريق الاستنساخ البشري[3].
 

وقد ساعد على هذا التطور المذهل ربط التقنية والتلقائية بالطب والبيولوجيا محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، فبقي الطبيب على اتصال دائم بالعلوم الطبية ومستحدثاتها، وتوجيه علماء الأبحاث في استذكار المعلومات من الكتب الطبية، ومواظبة الاطلاع على أحدث ما يجِدُّ في عالم الطب، وتصميم الدراسات، واكتشاف المعلومات في الأنظمة المعقدة[4].
وفي مواكبة هذا التطور المذهل، انعقدت الندوات العلمية والمؤتمرات الدولية لدراسة وتحليل هذه المنجزات، وبيان موقف الشرع الإسلامي إزاءها، وتحديد المسؤولية المدنية والجنائية في مجال استخدام الهندسة الوراثية [5]، مما يدعونا إلى القول بامتداد نطاق تطبيق أحكام المسؤولية الطبية من الطب الخارجي والسريري إلى الطب البحثي والتقني.



[1] انظر - على سبيل المثال -: المرسوم الملكي (السعودي) رقم م / 3 وتاريخ 21/ 2/ 1409هـ، الفصل الأول "الترخيص بمزاولة المهنة"، وانظر المادة (26) من مجلة الأحكام العدلية وشروحها.
[2] آل الشيخ، قيس بن محمد، التداوي والمسؤولية الطبية، مرجع سابق ص: 29، نقلًا عن تذكرة داود 1/ 9.
[3] انظر في تفصيل ذلك: جلبي، خالص مجيب، العصر الجديد للطب، دار الفكر - دمشق، الطبعة الأولى: 1420هـ - 2000م.
[4] انظر في كل ذلك: دافيد د. ر. تستاين، آفاق الطب الحديث، تعريب محمود الأكحل دار الآفاق الجديدة - بيروت، وعلى الأخص: مخطط للطب في المستقبل، من ص: 101 إلى ص: 131.
[5] جامعة الإمارات العربية المتحدة، كلية الشريعة والقانون، بحوث مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، العين: صفر 1423هـ - مايو 2002م في أربعة مجلدات، وعلى الأخص: المجلد الثالث، من ص: 989 إلى ص: 1219.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية
» انجازات العرب في الطب علماء عرب من اوائل الباحثين في الطب وتشريح الانسان
» أخلاقيات الحرب في الإسلام.. (الإسلام والقانون الدولي الإنساني)
» الفرق بين الصهيونية واليهودية
»  جولة في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية،

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث طبيه-
انتقل الى: