ثانيا: مجلس النواب المنتخب:
أ. الدور الرقابي المفترض من مجلس النواب:
إن انتخاب هذا المجلس، مجلس النواب، يشكل الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية، وبناء النظام البرلماني، إذ
هو يمثل الشعب الذي نصت المادة (24/1) من الدستور على أنه مصدر السلطات داخل الدولة، وجعلت من
الصلاحيات التي يمارسها وفقا للدستور ركنا أساسيا في النظام البرلماني، ولا يقف في وجه حقه في الرقابة على
تصرفات الحكومة وسلوكياتها أي حائل. وعلى الرغم من التعديلات التي أجريت على الدستور لإضعاف دور مجلس
الأمة بوجه عام، إلا أنه بقيت بعض النصوص التي تمكّن مجلس النواب من القيام بدور الرقابة على الحكومات في
مجالات عديدة، مثل حقه في حجب الثقة عن الحكومة أو سحبها منها فتستقيل، وحقه في استجواب الحكومة
وتوجيه الأسئلة والاستفسارات لها، وفقا لما أسلفنا.
وبمعزل عن المخالفات الدستورية في تشكيل مجلس النواب الرابع عشر، كما سنرى، فإن المشكلة تكمن في
الممارسات الواقعية لمجلس النواب في مجال الرقابة على الحكومات. وخير دليل على ذلك أنه كان أمام مجلس
النواب الرابع عشر الحالي حكومة قارفت من المخالفات الجسيمة لأحكام الدستور حدا غير مسبوق من حكومة
أخرى، حتى ولا الحكومات التي كانت تمارس سلطات عرفية على الشعب أيام سريان الأحكام العرفية، ومع ذلك، فإن
مجلس النواب لم يحاسب هذه الحكومة على مخالفاتها الدستورية، بل أعطاها ثقة بأعلى نسبة من النواب حصلت
عليها حكومة قبلها!
لقد كان بمقدور مجلس النواب مراقبة تلك الحكومة ومحاسبتها حسابا عسيرا، ليكون في هذا الحساب زجرا لها
وردعا لغيرها من الحكومات حتى لا تسلك طريقها، لكنه لم يفعل، في وقت تعطيه نصوص الدستور حقا في تلك
الرقابة والمحاسبة. ونبين فيما يلي بعض أوجه الرقابة التي يملكها مجلس النواب، وكيف يستطيع التصدي للحكومات
من خلالها، مستخدمين مخالفات الحكومة السابقة كنماذج للمخالفات التي يمكن أن تقارفها الحكومات.
إن مجلس النواب هو الذي يمنح الثقة للحكومة وفقا للمادتين (53 و 54) من الدستور حتى تستطيع ممارسة
سلطاتها على الشعب، وأن من حق مجلس النواب أن يسحب الثقة من الحكومة في أي وقت، وأن على الحكومة التي
يحجب المجلس ثقته عنها أو يسحبها منها أن تستقيل حتما بقوة الدستور.
ومع معرفة مجلس النواب بحجم اعتداءات الحكومة السابقة على الدستور، إلا أن هذا المجلس منح تلك الحكومة
الثقة بنسبة عالية من الأصوات غير معروفة في تاريخ الحكومات.
إن جميع مؤسسات الدولة تسكن تحت مظلات الوزارات والوزراء ورئيس الحكومة، وأن مجلس الوزراء مسؤول
عن إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية بموجب المادتين (45، 47) من الدستور، ومن ثم فإنه من خلال توجيه
الأسئلة والاستجوابات للحكومة أو أي وزير فيها، ومن خلال رد مشاريع القوانين ورد القوانين المؤقتة، يستطيع
مجلس النواب أن يحقق الرقابة على الحكومات وسلوكياتها. بل إن أي نائب يستطيع زيارة الوزارات والمؤسسات
وجمع المعلومات عن أي مسألة يرى أن الحكومة قد خالفت الدستور بشأنها، ويطرح ذلك أمام مجلس النواب، بحيث
إذا وجد مجلس النواب أن الأمر يستدعي طرح الثقة بأي وزير أو بالوزارة، كان له ذلك.
لكن ذلك لم يحدث.
وفقا لأحكام الدستور، فإن المفروض أن مجلس النواب هو سيد نفسه، لا سلطان عليه إلا لضمير أعضائه، ولا حدود
على سلطاته سوى تلك التي وضعها الدستور. ولذلك جعل الدستور في المادة (67) قانون الانتخاب، الذي يتم
بمقتضاه انتخاب مجلس النواب، من القوانين المسماة تحديدا، بحيث تكون قوته كامنة فيه ونابعة منه، ومن ثم فلا
ينبغي أن يصدر للانتخابات قانون مؤقت وفق المادة (94) من الدستور، لأن القانون المؤقت لا تكون قوته كامنة فيه
ولا نابعة منه، وإنما تكون له فقط قوة القانون ويسرى مفعوله بالصورة التي يسري فيها مفعول القانون العادي.
ومع ذلك، فقد استغلت الحكومة حل مجلس النواب الثالث عشر في 16/6/2001 وأصدرت للانتخابات قانونا مؤقتا
في 19/7/2001، وأجرت الانتخابات لمجلس النواب الرابع عشر في 17/6/2003 بناء على القانون المؤقت
المذكور.
لكن مجلس النواب لم يقم بممارسة سلطته الرقابية وردّ قانون الانتخاب المؤقت عند عرضه عليه في أول اجتماع له،
رغم أن الأسباب الموجبة لإصدار هذا القانون تؤكد مخالفة إصداره للدستور وأن إصداره يشكل اغتصابا لدور
السلطة التشريعية.
إن مجلس الأمة، ومجلس النواب أحد مجلسيه، هو صاحب الولاية العامة في التشريع وفقا للدستور، وأن الحكومة
في مجال التشريعات ليس لها من السلطة وفقا للدستور سوى إصدار الأنظمة المستقلة، وهي الأنظمة التي تحدد
التقسيمات الإدارية وشؤون الموظفين (المادة 120)، وتنظيم المستودعات وتخصيص الأموال العامة وإنفاقها
(المادة 114)، وصلاحيات مجلس الوزراء والوزراء (المادة 45/2). وفيما عدا هذه الأنظمة التي تستقل الحكومة
بإصدارها، فإن الأنظمة الأخرى التي تصدرها تكون وفقا للمادة (31) من الدستور، أنظمة تنفيذية، أي أنظمة تفصّل
ما أجمله القانون الذي يصدر عن مجلس الأمة ليس إلا، بحيث يصبح أي نص تدرجه الحكومة في النظام التنفيذي
نصا باطلا لمخالفته للدستور، إذا كان في هذا النص ما يشكل إضافة أو تناقضا مع الأحكام الواردة في القانون.
وفي الوقت الذي أصدرت فيه الحكومة نظام تقسيم الدوائر الانتخابية، الذي يضيف نصوصا وقواعد الى القانون،
بالمخالفة لأحكام المادة (31) من الدستور، مغتصبة هذه الحكومة بذلك سلطة مجلس الأمة، صاحب الولاية العامة
في التشريع، فإن مجلس النواب لم يحرك ساكنا في مواجهة الحكومة رغم اغتصابها لسلطاته. ذلك أن الحكومة
السابقة ابتدعت نوعا جديدا من الأنظمة التي يرفضها الدستور الأردني، هي الأنظمة التفويضية التي تعرفها نظم
دستورية أخرى، وبمقتضاها يفوض مجلس الأمة الى الحكومة سلطة إصدار أنظمة لها قوة القانون. ومن منطلق
هذه البدعة التي تشكل استهتارا بالدستور، فرضت الحكومة نصا في المادة (52) من قانون الانتخاب المؤقت
فوضت فيه نفسها بإصدار نظام لتقسيم الدوائر الانتخابية، في حين أن تقسيم الدوائر ينبغي بحكم المادة (67) من
الدستور أن يشكل جزءا لا يتجزأ من قانون الانتخاب، وأن مثل هذا التفويض لا يملك مجلس الأمة ذاته، وفقا
للدستور الأردني، أن يعطيه للحكومة. والسبب هو أن الدستور الأردني اكتفى بإعطاء الحكومة في المادة (94) من
الدستور سلطة إصدار قانون مؤقت وفق شروط محددة، وليس نظاما، تكون له قوة القانون.
وسكت مجلس النواب.
إن الحكومة السابقة أوردت في قانون الانتخاب المؤقت نصوصا من شأنها تعطيل بعض أحكام الدستور. ومثال ذلك
المادة (
من القانون المذكور التي عطلت فيها الحكومة مفعول العفو الخاص الذي تحكمه المادتان (75/1 و 38)
من الدستور والمتعلق بحق من يصدر عنه مثل هذا العفو في ترشيح نفسه للانتخابات النيابية. ووفقا لهذا النص
الذي أوردته الحكومة في قانون الانتخاب المؤقت، فقد حرمت بعض من تقدموا بطلبات لترشيح أنفسهم للانتخابات
من الترشيح رغم صدور عفو خاص عنهم، الى حد أصبح نص القانون المؤقت بفضل تأثير الحكومة من حيث
النتيجة والواقع، أولى في التطبيق من نصوص الدستور المذكورة.
وسكت مجلس النواب عند عرض القانون عليه وتنازل عن دوره الرقابي في هذا المجال.
تنص المادة (74) من الدستور على أنه: "إذا حلت الحكومة مجلس النواب لسبب ما، فإنه لا يجوز لها حل المجلس
الجديد للسبب نفسه." ووفقا لما يجمع عليه الفقه الإداري وأحكام محكمة العدل العليا، فإنه ينبغي أن يكون لكل قرار
إداري سبب، وهذا السبب قد يكون معلنا يسهّل الأمر على صاحب المصلحة في الطعن بالقرار فيستند إليه، وإما أن
يكون السبب خفيا بحيث يكون على صاحب المصلحة إثباته، مع ما في ذلك من صعوبات لم تُخلّص محكمة العدل
العليا الطاعنين منها أسوة بالقضاء الإداري المصري والفرنسي. لكن المادة (74) المذكورة إذ حرمت على وجه
الالتزام حل مجلسي نواب متعاقبين لنفس السبب، فإن ذلك يوجب على الحكومة بحكم اللزوم الدستوري أن تبين سبب
حل المجلس الأول من أجل أن لا تقوم بحل المجلس الجديد اللاحق لنفس السبب. والقول بغير هذا يعطي الحكومة
حقا بإخفاء سبب الحل لتقوم بحل مجالس النواب المتعاقبة لنفس السبب دون رقابة، ضاربة عرض الحائط بما حرمته
عليها المادة (74) من الدستور.
ومن هذا المنطلق نقول، إن الحكومة السابقة حلت مجلس النواب الثالث عشر في 16/6/2001، وأن هذا الحل قد تم
قبل خمسة شهور من انتهاء مدته الدستورية، المحددة بأربع سنوات شمسية في المادة (68/1) من الدستور، وذلك
دون ذكر السبب لهذا الحل. ومثل هذه المخالفة الجسيمة التي قارفتها الحكومة السابقة تحول دون إعمال الرقابة
على السبب ومعرفة ما إذا كانت الحكومة ستقوم بحل مجلس النواب الرابع عشر للسبب ذاته أم لا.
إن التزام الحكومة بذكر سبب الحل هو استحقاق دستوري، ومن حق مجلس النواب، كسلطة رقابية، أن يسأل رئيس
الحكومة التي حلت مجلس النواب عن سبب الحل، من أجل أن يعلم بحقيقة الحال قبل أن يعطي الحكومة ثقته، لكن
مجلس النواب لم يفعل، ومنح الحكومة ثقته بإغلبية عالية، وكأن شيئا لم يكن.
وهكذا، فقد سكت مجلس النواب عن قتل الحكومة لنص من نصوص الدستور، متنازلا بذلك عن حقه في الرقابة.
والحكومة السابقة، أي حكومة علي أبو الراغب، إذ أصدرت قانون الانتخاب المؤقت في 19/7/2001 ونظام تقسيم
الدوائر الانتخابية في 23/7/2001، قامت بعد أربعة أيام من إصدار قانون الانتخاب، وبعد يوم واحد من إصدار نظام
تقسيم الدوائر، بتأجيل الانتخابات في 24/7/2001 الى أجل غير مسمى. وإذا كان مثل هذا التأجيل الذي لا يبيحه
للحكومات أي دستور في الديمقراطيات المعاصرة، ولا أي دستور في دول النظام البرلماني، أباحته المادة (73/4)
التي وُضعت في أعقاب احتلال إسرائيل للضفة الغربية من الأردن، بسبب استحالة إجراء انتخابات فيها، فإن هذه
المادة تشترط لتأجيل الانتخابات توافر ظروف قاهرة تجعل إجراء الانتخابات متعذرا.
وإذا كان الشرط الذي ورد في المادة المذكورة يعبر عن الظرف الذي أدى الى تشريعها، فإن الحكومة قد استندت الى
هذا النص، وأصدرت في 24/7/2001 قرارا نشرته في الجريدة الرسمية بتاريخ 30/7/2001 على الصفحة
(3181) من عدد الجريدة رقم (4499) تقول فيه، إن تطبيق قانون الانتخاب المؤقت الذي أصدرته الحكومة نفسها
يحتاج الى استعدادات تشكل ظرفا قاهرا يجعل إجراء الانتخابات أمرا متعذرا. ولا يخفى هنا على أحد من طلاب
الصفوف الأولى في القانون وفي العلوم السياسية، أن الظرف القاهر هو حدث لا يمكن توقعه ويستحيل دفعه، وأنه
لا يجوز بأي حال أن يكون من صنع من يستند إليه عذرا.
وهكذا، فإنه فضلا عن المخالفات الدستورية التي قارفتها الحكومة السابقة، وأعدادها لا تحصى، فقد عطلت تلك
الحكومة الحياة النيابية في الأردن لعامين كاملين، ومع ذلك، فإننا لم نشهد أي مساءلة أو استجواب للحكومة أو
حساب لها من قبل مجلس النواب الرابع عشر، بل على العكس من ذلك، فقد أعطاها هذا المجلس الثقة بنسبة من
الأصوات أعلى مما حصلت عليه أي حكومة أخرى.
وفي موضوع الصحافة وحرية التعبير فيها، أصبح هناك حلفا غير مقدس بين الحكومة وبين المالكين للصحف
اليومية أو القائمين عليها. وبمقتضى هذا الحلف، تعتمد الصحيفة أحد الموظفين فيها ليكون رقيبا ذاتيا على
موضوعات النشر. وهنا يمارس الرقيب دور الجزار أو مسؤول مقصلة الإعدام، فيذبح أو يقتل كل رأي آخر يزعج
الحكومة أو يمكن أن يزعجها. وكم من دراسة جزّ الرقيب روح الحقيقة منها، فظهرت مشوهة لا طعم لها ولا لون،
تُظهر كاتبها بصورة شخص بليدٍ لا يعرف ما يقول. وكم من كتابة موزونة تلقتها الجريدة فيها تقييم لأداء الحكومة،
يطري بعضه وينتقد بعضه الآخر، فيحذف الرقيب منها ما يشكل نقدا ويبقي ما فيه إطراء، فيظهر صاحب تلك الكتابة
في صورة مداح للحكومة وحامل للمباخر التي ترغب في إحاطة نفسها بها، شكرا للرقيب. يقول بعض المسؤولين
في الصحف اليومية، إذا كنا نستطيع احتمال معاقبة الحكومة لنا، فإننا لا نستطيع احتمال حجب إعلانات الحكومة
عنا، لأن دخل هذه الإعلانات له أهميته الكبيرة عندنا. بل إن رئيس تحرير جريدة الرأي اعتذر لكاتب هذه السطور
بأدب جم عن نشر دراسة مبسطة حول الدور الرقابي لمجلس النواب، قائلا: إن الحكومة هي المساهم الأكبر في
الجريدة ودراستك تغضب رئيس الحكومة التي تعتبر المساهم الأكبر، والذي له اليد الطولى في تعيين المسؤولين في
الجريدة !! وهكذا يشتري رئيس الحكومة بالمال العام وظائف الحراسة على رسمه في الصحف، ليظل جميلا يسر
الناظرين !!
ورحم الله المادة (15/1) من الدستور التي تقول "تكفل الدولة حرية الرأي ولكل أردني أن يعبر بحرية عن رأيه
بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون".
ونترحم على المادة الدستورية لأنه حل مكان عدم تجاوز حدود القانون، عدم تجاوز حدود رضا الحكومة. وأصبح
على الأردنيين قراءة الفاتحة على روح المرحومة المادة (17) من الدستور التي تنص على أن "للأردنيين الحق في
مخاطبة السلطات العامة فيما له من صلة بالشؤون العامة بالكيفية والشروط التي يعينها القانون".
واستحقاق روح المرحومة قراءة الفاتحة سببه أنه حل مكان "بالكيفية والشروط التي يعينها القانون" عبارة أخرى
هي: "بالكيفية والشروط التي ترضي الحكومة".
9. وفي مقابل التقييد الواقعي والمحاصرة الواقعية، بل والقمع الواقعي لحرية الرأي الصادق الذي
يمارس النقد البنّاء، على النحو المنتمي لقضايا الوطن والأمة، نجد أن حرية المديح والإطراء وتزوير الحقائق
مفتوحة الأبواب في المجالات كافة، حتى أصبحت السياسة فهلوة "وجدعنة" يمارسها، مسموعة ومقروءة، كل
دجال مشعوذ، وغدا القانون سفسطة مملة، منطقه غير مسموع، إلا إذا كان صادرا ممن تخصصوا في تقديم
الفتاوى التي تستخدم لتبرير المواقف وتلميع الوجوه.
ونقول بمرارة أنه من الظلم للأردنيين أن يغلب على الثقافة القانونية والسياسية الطافية على السطح طابعا انتهازيا
لكثرة ما استخدمت وسيلة للتكسب، حتى غدا العديد ممن يكتبون في حقول القانون والسياسة والاقتصاد والاجتماع،
من أصحاب الفتاوى الجاهزة يشكلون طبقة يتسابق أعضاؤها على تضليل المسؤول، فيبررون الخطيئة لا يهمهم
ضحاياها، ويتاجرون بالكلمة كشعراء المديح لا تعنيهم الحقيقة، وإنما طرب من يمدحون. فهذا أستاذ جامعي يتسول
بمقالات المديح يدفع بها الى الصحف لتنشر في الصباح، لكنه في جلسات المساء مع الرفاق يلعن الممدوحين، وذاك
حامل دكتوراه يريد اختصار طريق الكفاح فيتقرب من السلطة بدراسات تعظيمية عن المسؤولين وآبائهم وأجدادهم
فيبتدع لهم تاريخا مجيدا لا يعرفه الأبناء، ويحتقره أقرانه عليه، لكن عذره أمامهم ما يأمله بأن يجود الممدوحون
عليه بأجر مدفوع أو موعود، وهذا كاتب لا يخجل من الكذب الذي يسميه التقية فيتخصص في قراءة الفكر السياسي
أو الاقتصادي لدى المسؤول أو صبيانه، فينشر في الجريدة الحلقة تلو الأخرى عن ذلك الفكر عله ينال لقمة، ولو
مغموسة بدم الكرامة التي لا يؤلمه جرحها،، في حين أن المسؤول يدفع للتعظيم بسخاء ولكن باحتقار واستهزاء،
لأنه يعلم جيدا أنه ليس لديه أو لدى صبيانه شيئا من هذا الفكر المدّعى به.
أما عن البرامج السياسية في التلفزيون الأردني، فقد غدت وسائل لتلميع الحكومات وأشخاصها، وأصبح هناك
متخصصين في إدارة ندوات وحوارات التلميع، ينالون الأجر والرضى، وفي مقابل ذلك يحشدون بأسلوب "
الفزعة"، ما تيسر من عشائر التلفزيون وعشائر المداحين من المتصلين بالتلفزيون بترتيب مسبق، وعشائر
اللابسين للعباءات القانونية من أصحاب الفتاوى الجاهزة والمفصلة حسب الطلب، وغيرهم من عشائر المطربين
القانونيين والسياسيين وحملة المباخر، لتضلل الأردنيين بإقناعهم بالقدرات الخارقة لأعضاء الحكومة وبسلامة ما
يصدر عن الحكومة من تصرفات، وبأن المديونية قد انخفضت، وأن الوضع الاقتصادي في أحسن حال، وأن النمو
الاقتصادي يتصاعد بنسب تفوق ما لدى الدول العظمى، في حين أن حقيقة ما يلمسه الناس هو أن الفقر قد تزايد
والجوع ينهش البطون والطبقة الوسطى تآكلت وانتهت.
ونتساءل: هل يعيد مجلس النواب الرقيب على أداء الحكومة للأردنيين صدق تلفزيونهم ليصبح منبرا حرا لهم دون
تمييز بين مداح وبين صاحب رأي، ما دام تمويل التلفزيون يخرج من جيوب هؤلاء الأردنيين؟ هل تعيد رقابة مجلس
النواب للأردنيين كرامتهم وتوقف التدهور الذي يتزايد الاصطفاف في طابوره كل يوم؟
10. إن قوانين الحريات منوط أمرها بسلطة التشريع، صاحبة الولاية العامة، فهل يسترد مجلس النواب، الرقيب
وصاحب الولاية العامة، حريات الأردنيين التي طال تغييبها؟ فلينظر النواب في قانون الاجتماعات العامة المؤقت رقم
(45) لسنة 2001. فهذا القانون من أهم قوانين الحريات التي تمس بشكل مباشر حقوق المواطنين وحرياتهم. وقد
قررت حرية الاجتماع المادة (16/1) من الدستور عندما نصت على أن:
"للأردنيين حق الاجتماع ضمن حدود القانون."
وبالنظر الى أن حق الاجتماع هذا يشكل أحد أعمدة الحريات والحقوق العامة، فإن النظم الدستورية تحرم تنظيمه
بقانون مؤقت أو مرسوم بقانون تصدره الحكومات. ومع ذلك، فلم يكن عند الحكومة مانع من إصداره كقانون
مؤقت.
ومن ناحية أخرى، فإنه فوق المخالفة الدستورية نجد أن أحكام قانون الاجتماعات العامة المذكور هي أحكام عرفية
عقابية تفرغ الحق والحرية في الاجتماع من مضمونهما. فالمادة (3) توجب للاجتماع تقديم طلب للحاكم الإداري
للحصول على موافقته الخطية، فإن رفض يعتبر قراره نهائيا، أي غير قابل للطعن فيه أمام القضاء. وبصرف النظر
عن عدم دستورية تحريم الطعن، فإن النص يعبر عن المنطق العرفي في فهم الحكومة للحق والحرية ومنطق
الدستور. والمواد (5-10) تتحدث عن تقديم الطلب وتوقيعه ومسؤولية الموقعين عن أي ضرر يحدث من سلوك أي
مواطن يشارك في الاجتماع أو المسيرة. والمسؤولية التي تحددها المادة (
عن التعويض هي مسؤولية تضامنية
بين من وقعوا الطلب في دفع قيمة التعويض، في حين أن المادة (10) تنص على المسؤولية الجزائية عن أي
مخالفة، ومؤدى هذه المسؤولية دفع مبلغ (3000) دينار غرامة والحبس (6) شهور. فأي حرية اجتماع دستورية
بقيت أمام هذا المنطق العرفي الذي أرادته الحكومات.