( َمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ )
كما هو اختيار ابن تيمية وابن عثيمين
فإن كان كذلك فكيف التوفيق بينها وبين الآية الأخرى :
(وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )
التوبة من الربا وما يترتب عليها
فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان ( عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية )
قال - حفظه الله - :
التوبة مطلوبة وواجبة على العبد من كل ذنب في أسرع وقت ممكن قبل فوات أوانها، قال الله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيماً (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً)الآيتان من سورة النساء 17، 18.
والربا من أعظم الذنوب بعد الشرك، فهو أحد السبع الموبقات فتجب المبادرة بالتوبة منه على من كان يتعاطاه، فإذا من الله على المرابي فوفقه فتاب وقد تعامل بالربا فماذا يفعل للتخلص من أموال الربا- إنه لا يخلو من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الربا له في ذمم الناس لم يقبضه بعد ففي هذه الحالة قد أرشده الله تعالى إلى أن يسترجع رأس ماله ويترك ما زاد عليه من الربا فلا يستوفيه ممن هو في ذمته-قال الله تعالى: ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) قال الإمام القرطبي رحمه الله: (روى أبو داود عن سليمان بن عمر عن أبيه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ألا إن كل ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموال لا تظلمون ولا تظلمون) -سنن أبي داود- فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم( لا تظلمون) في أخذ الربا( ولا تظلمون) في مطل لأن مطل الغني ظلم- فالمعنى: أنه يكون القضاء مع وضع الربا- إلى أن قال: قوله تعالى: ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم).
تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه (تفسير القرطبي 3/365) وقال الإمام ابن القيم: ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم).
يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزادون عليها فتظلمون الآخذ ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها، فإن كان هذا القابض معسراً فالواجب إنظاره إلى ميسرة وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم (التفسير القيم لابن القيم (172-173)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه على أن التراضي بين الطرفين على فعل محرم لا يبيحه قال: وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح له ما فيه من ظلمه. ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه في الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره(مجموع الفتاوى 151/126) وقال أيضاً: وهذا المرابي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئاً منها- لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل يعفى عنه وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى (وذروا ما بقى من الربا)سورة البقرة من الآية 278.
الحالة الثانية: أن يكون التائب من الربا قد قبضه وتجمعت عنده أموال منه والفتوى في هذا خطيرة جداً- وأنا أنقل في هذا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: (قاعدة في المقبوض بعقد فاسد وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه أو لا يعتقد الفساد- فالأول يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه- لكنه بشبهة العقد وكون القبض على التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه؟ أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف – هذا فيه خلاف مشهور في الملك. هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد- وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام مثل بيع الخمر والربا والخنزير فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين) الآية 278 البقرة.
فأمر بترك ما بقي، وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد ووجب رد المال إن كان باقياً أو بدله إن كان فائتاً والأصل فيه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) إلى قوله : ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)
أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام، وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رؤوس الأموال، فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه- أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض، ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته وذلك العقد أوجب ذلك القبض. فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة وذلك خلاف ما تقدم- وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بيعها، فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة لم تنقص بعد ذلك لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد-ا نتهى- (مجموع الفتاوى 29/211-212)، وحاصل هذه القاعدة أن الشيخ يفرق بين من قبض مالاً بعقد فاسد يعتقد صحته كالكافر الذي كان يتعامل بالربا قبل إسلامه أو تحاكمه إلينا- وكالمسلم إذا عقد عقداً مختلفاً فيه بين العلماء وهو يرى صحته، أو يقلد من يرى صحته- فهذا النوع من المتعاقدين يملك ما قبضه.
أما من تعامل بعقد مختلف في تحريمه وهو لا يرى صحته أو بعقد مجمع على تحريمه فما قبضه بموجب ذلك العقد فهو كالغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، ويقرب مما ذكره الشيخ ما قاله ابن القيم في كسب الزانية حيث قال: فإن قيل ما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت، هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها أم تصدق به- قيل هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام- وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعاً ثم أراد التخلص منه- فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفى عوضه رده عليه، فإن تعذر رده عليه قضى به ديناً يعلمه عليه فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه – إلى أن قال: وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض عن خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع لانه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه- إلى أن قال: ولكن لا يطيب للقابض أكله بل هو خبيث، فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به- فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عيناً أو منفعة ولا يلزم من الحكم بخبث وجوب رده على الدافع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه (زاد المعاد 4/779-780) انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (الفتاوى السعدية ص 303) على قول الأصحاب بالمقبوض بعقد فاسد أنه مضمون على القابض كالمغصوب: أقول واختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون. وأنه يصح التصرف فيه، لأن الله تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة وإنما أمر برد الربا الذي لم يقبض، وأنه قبض برضى ملكه فلا يشبه المغصوب، ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقَّت والله أعلم- وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار على قوله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) البقرة 275.
أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فوراً بلا تراخ ولا تردد انتهاء عما نهى الله عنه فله ما كان أخذ فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم ويكتفى منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئاً ( وأمره إلى الله) يحكم فيه بعدله ومن العدل أن لا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه (تفسير المنار 3/97-98) انتهى – أقول: ولعلنا من هذه النقول نستفيد أن من تاب من الربا وعنده أموال مجتمعة منه- فإن من مقتضى التوبة الإمساك والتوقف عن التعامل بالربا إلى الأبد- ولا يرد الأموال الربوية إلى من أخذها منهم لأن هذا يعينهم على المراباة مع غيره بحيث يستغلونه في ذلك- ولا يأكل هذه الأموال الربوية لأنها من كسب خبيث ولكن يتخلص منها بالتصدق بها أو جعلها في مشاريع خيرية.
وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية (جـ5 ص 71-72) جواب للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – رحمه الله قال فيه : (إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام قد انقضت بالتقابض فيظهر مما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في آية الربا في قوله تعالى: (فله ما سلف وأمره إلى الله).
فاقتضى أن السالف للقابض وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى كان مغفرة ذلك الذنب والعقوبة عليه أمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له وإلا عاقبه ثم قال: ( اتقوا الله ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين).
فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض. وقال (وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون).
إلا أنه استثنى منها ما قبض وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافراً بالربا وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا فإن ما قبضه يحكم له به كسائر ما قبضه الكافر بالعقود التي يعتقدون حلها. وأما المسلم فله ثلاثة أحوال- تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم.
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك محرم- قيل يرد ما قبض كالغاصب، وقيل لا يرده وهو أصح إذا كان معتقداً أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر الله ما استحله ويباح له ما قبضه- فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر له إذا كان أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله، وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك فليس هو شراً من الكافر وقد ذكرنا فيما يتركه من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء- على قولين أظهرهما لا قضاء عليه. إلى أن قال فمن فعل شيئاً لم يعلم أنه محرم ثم علمه لم يعاقب، وإذا عامل بمعاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ولا يكون شراً من الكافر، والكافر إذا غفر له ما قبضه لكونه قد تاب فالمسلم بطريق الأولى والقرآن يدل على هذا بقوله: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف).
وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف انتهى- لكن هذا الكلام ينصب على الكافر إذا أسلم وعنده أموال قد قبضها بطريق التعامل الربوي- والمسلم الذي تعامل ببعض المعاملات المختلف فيها هل هي من الربا أولا أو لكونه يجهل الربا وقبض بموجبها مالاً تحصل لديه ثم تبين له أنها من الربا وتاب منها- وتبقى قضية المسلم الذي تعامل بالربا متعمدا وهو يعلم أنه ربا ثم تاب منه وقد تحصل لديه منه مال فهذا موضع الإشكال- ولعل الحل لهذا الإِشكال أن يتصدق به ولا يرده للمرابين- كما ذكره ابن القيم في الكلام الذي نقلناه عنه في مهر البغي، والله أعلم