باب الحرص والأمل
الحرص على أكل الشجرة أخرج آدم من الجنة.كان يقال: شدة الحرص من سبل المتالف.وقال الأحنف : آفة الحرص الحرمان، ولا ينال الحريص إلاّحظّه.كان الحسن البصريّ يقول: ما بعد أملٌ إلاّ ملَّ عمل.كان يقال: من أطال الأمل أمات العمل.قال بعض الحكماء : الإنسان لا ينفكُّ من الأمل، فإن فاته الأمل قوي على المنى.قال: والأمل يقع بسبب، وباب المنى مفتوح لمن أراد الدخول فيه.من كلام الحكماء: الرزق مقسوم، والحريص محرومٌ، والحسود مغمومٌ، والبخيل مذموم.قال الخليل بن أحمد: ؟الحرص من شرّ أذاة الفتى لا خير في الحرص على حالمن بات محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العمِّ والخالوقال غيره: الحرص مفسدة، والبخل مبغضة، والعجلة خطأ، والرفق يمن، والبذاء شؤم.وقال آخر:أيُّها الدَّائب الحريص المعنَّى ... لك رزقٌ وسوف تستوفيهفاسأل الله وحده ودع النّا ... س وأسخطهم بما يرضيهلا ينال الحريص شيئاً فيكفي ... ه وإن كان فوق ما يكفيه
وقال محمود الوراق:
غنى النَّفس يغنيها إذا كنت قانعاً ... وليس بمغنيك الكثير مع الحرص
وإن اعتقاد الهمِّ للخير جامعٌ ... وقلَّة همِّ المرء تدعو إلى النغص
وقال أيضاً:
لا تحمدنَّ أخا حرصٍ على سعةٍ ... وانظر إليه بعين الماقت القالي
إنّ الحريص لمشغول بشوقته ... عن السُّرور بما يحوي من المال
وقال محمود الوراق أيضاً:
علام يشقى الحريص في طلب الرِّز ... ق بطول الرَّواح والدَّلج
يا قارع الباب ربّ مجتهدٍ ... قد أدمن القرع ثم لم يلج
وربّ مستولجٍ على مهلٍ ... لم يشق من قرعه ولم يهج
فاطو على الهمِّ كشح مصطبرٍ ... فآخر الهمِّ أول الفرج
وقال آخر :
يا أيها النَّاس كان لي أملٌ ... أعجلني عن بلوغه الأجل
فليتَّق الله ربَّه رجلٌ ... أمكنه في حياته العمل
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل:
وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل
وكان يتمثل أيضا:
لا يغرَّنك عشاءٌ ساكنٌ ... قد يوافى بالمنيَّات السَّحر
كان المأمون يعجبه قول أبي العتاهية:
تعالى الله يا سلم بن عمرٍو ... أذلَّ الحرص أعناق الرِّجال
أخذه أبو الفتح الملقب بكشاجم فقال:
بالحرص في الرِّزق يذّل الفتى ... وفي القنوع الشَّرف الشَّامخ
قال أبو عمر: وشعر أبي العتاهية الذي فيه هذا البيت الذي أعجب المأمون:
نعى نفسي إليّ من الَّليالي ... تصرُّفهنَّ حالاً بعد حال
فما لي لست مشغولاً بنفسي ... ومالي لا أخاف الموت مالي
لقد أيقنت أنِّي غير باقٍ ... ولكنِّي أراني لا أبالي
تعالى الله يا سلم بن عمرٍو ... أذلّ الحرص أعناق الرِّجال
هب الدُّنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال
فما ترجو بشيءٍ ليس يبقى ... وشيكاً ما تغيِّره الَّليالي
قال:فلما بلغ سلماً الخاسر قول أبي العتاهية، قال:
ماأقبح التَّزهيد من واعظٍ ... يزهِّد النَّاس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقاً ... أصحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله ... يكتنز المال ويسترفد
يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا تنفد
الرزق مقسومٌ على من ترى ... يسعى له الأبيض والأسود
ولأبي العتاهية شعر في عروض شعره هذا وقافيته أوله:
أتدري أيّ ذلٍّ في السُّؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرِّجال
شعر حسن جيد في معناه قد ذكرته في باب القناعة من هذا الكتاب.
قال زياد بن أبي سفيان: اثنان يتعجلان النَّصب ولا يظفران بالبغية: الحريص في حرصه، ومعلِّم البليد ينبو عنه فهمه.
قال داود الطائي: يا ابن آدم ارتحلك الحرص فأنساك أجلك، ونصب لك أملك ورب حريص محروم، وواجد مذموم.
قال مسلم بن قتيبة: في إفراط الحرص مذلّة قبل إدراك الطلبة.
كانوا يقولون: أول دناءة الحرص ، تأميل البخل.
قال محمود الوراق: ؟أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدُّنيا كأنَّك لا تموت
فهل لك غايةٌ إن صرت يوماً ... إليها قلت حسبي قد رضيت
وقال آخر:
الحرص داءٌ قد أضرَّ ... بمن ترى إلاَّ قليلا
كم من عزيز قد رأي ... ت الحرص صيَّره ذليلا
فتجنَّب الشَّهوات واح ... ذر أن تكون لها قتيلا
فلربّ شهوة ساعةٍ ... قد أورثت حزناً طويلا
وقال آخر:
كم إلى كم انت للحر ... ص وللآمال عبد
ليس يجدي الحرص والشُّغ ... ل إذا لم يك جدُّ
ما لما قد قدّر الَّل ... ه من الأمر مردّ
وقال محمود الوراق:
لا ينفع الجدّ والتَّشمير والحذر ... خطّ الكتاب فلا ورد ولا صدر
تستعجل النَّفس آمالاً لتبلغها ... كأنَّها لا ترى ما يصنع القدر
وقال آخر:؟؟
كلُّنا نأمل مداً في الأجل ... والمنايا هنَّ آفات الأمل
وقال آخر:
لقد غرَّت الدُّنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّل
فساخط أمرٍ لا يبدَّل غيره ... وراضٍ بعيشٍ غيره سيبدَّل
وبالغ أمرٍ كان يأمل غيره ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل
وقال محمود الوراق:
الحرص عونٌ للزّمان على الفتى ... والصَّبر نعم العون للأزمان
لا تخضعنَّ فإنّ دهرك إن رأى ... منك الخضوع أمدَّه بهوان
قال رسول الله صل الله عليه وسلّم : " احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللّو، فإن الَّلوَّ يفتح عمل الشيطان " .
ولأبي عبد الله الصُّوري:
لمَّا رأيت النَّاس قد أصبحوا ... وهمَّة الإنسان ما يجمع
قنعت بالقوت فنلت المنى ... والفاضل العاقل من يقنع
ولم أنافس في طلاب الغنى ... علماً بأنَّ الحرص لا ينفع
ولبكر بن حمَّاد:
الناس حرصى على الدُّنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير
في أبيات ذكرتها في باب " ذكر الدُّنيا " من هذا الكتاب.
باب الطَّمع واليأس
كان رسول الله صل الله عليه وسلّم يستعيذ بالله من طمعٍ في غير مطمع، ومن طمعٍ يقود إلى طبع.
قال عمر بن الخطاب : ما شيء أذهب لعقول الرجال من الطمع.
وفي حديث آخر أن عمراً وابن الزبير قالا لكعب: ما يذهب العلم من صدور الرجال بعد أن علموه؟ قال: الطمع، وطلب الحاجات إلى الناس.
وقال كعب: الصَّفا الزَّلاَّل الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء : الطمع.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: في اليأس الغنى، وفي الطمع الفقر، وفي العزلة راحة من خلطاء السوء.
قال عمرو بن عبيد: في المؤمن ثلاث خلال: يسمع الكلمة التي تؤذيه فيضرب عنها صفحاً كأن لم يسمعها، ويحبُّ للناس ما يحبُّ لنفسه، ويقطع أسباب الطمع من الخلق.
قال أبو العتاهية:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أنَّي قنعت لكنت حرّا
ولإسحاق الموصلي: الُّلؤم والذُّلّ والضَّراعة والفا - قة في أصل أذن من طمعا قال ابن المبارك رضي الله عنه: ما الذلُّ إلاّ في الطمع.
وقال غيره:ويح من غرّه الطمع، وتمادى به الولع.
وقال أبو العتاهية:
أذلَّ الحرص والطَّمع الرِّقابا
وله أيضاً:
إنّ المطامع ما علمت مذلَّةٌ ... للطّامعين وأين من لا يطمع
وقال محمود الوراق:
وما زلت أسمع أنَّ النُّفوس ... مصارعها بين أيدي الطَّمع
وقال بعض الحكماء: قلوب الجَّهال تستعبد بالأطماع، وتسترقُّ بالمنى، وتنال بالخدائع.
قال محمد بن أبي حازم:
جعلت غنيمة الأطماع يأساً ... فآوتني إلى كنفٍ وديع
فتلك مطَّية الإقبال غفلاً ... بلا رحلٍ يشدُّ ولا نسوع
وقال آخر:
اليأس عمَّا بأيدي الناس مكرمةٌ ... والرِّزق يصحب والأرزاق تتَّسع
؟لا تجزعنَّ على ما فات مطلبه ها قد جزعت فماذا ينفع الجزع
إنَّ السَّعادة يأسٌ إن ظفرت به ... بعض المراد وإنَّ الشَّقوة الطمع
أتى رجلٌ إلى خالد بن عبد الله القسريّ، فقال: أتكلم بجرأة اليأس، أم بهيبة الأمل؟ قال بل بهيبة الأمل. فسأله حاجةً فقضاها.
وقال الهمداني:؟
فلا الحرص يغنيني ولا اليأس ما نعى ... نصيبي من الشَّيء الَّذي أنا آمله
وقال محمود الوراق:
حدَّثت باليأس عنك النَّفس فانصرفت ... واليأس أحمد مرجوٍّ من الطَّمع
فكن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ ... ألاَّ أعلِّل نفسي منك بالخدع
محوت ذكرك من قلبي ومن أذني ... ومن لساني فصل إن شئت أو فدع
إنَّ اَّلذي ببلاد الصِّين أقرب لي ... وساء منتجعاً لو رمت منتجعي
إذا تباعد قلبي عنك منصرفاً ... فليس يدنيك منِّي أن تكون معي
وقال آخر:
ولا تلبث الأطماع من ليس عنده ... من الدِّين شيءٌ أن تميل به النّفس
كان بشر بن الحارث ينشد هذه الأبيات كثيراً متمثلاً بها:
المرء يزرى بلبِّه طمعه ... والدَّهر فاعلم كثيرةٌ خدعه
والنَّاس إخوان كلِّ ذي نشبٍ ... قد جاع عبدٌ إليهم ضرعه
وكلُّ من كان مسلماً ورعاً ... يشغله عن عيوبهم ورعه
كما المريض السَّقيم يشغله ... عن وجع النَّاس كلِّهم وجعه
وقال آخر:
الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسنٌ جميل
أصبحت مسروراً معا ... فًى بين أنعمه أجول
خلواً من الأخزان خفّ ... الظهر يغنبني القليل
ونفيت باليأس المنى ... عنِّي فطاب لي المقيل
والنَّاس كلهم لمن ... خفَّت مؤونته خليل
باب ذمِّ السُّؤال
وحمد ما جاء عن غير مسألة من النَّوال
روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عمر بن الخطاب عطاءً، فقال عمر: يا رسول الله أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : " خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف إليه، ولا سائل له فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك " .
قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً ولا يردّ شيئاً أعطيه.
قال ثوبان: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: " لا تسألوا الناس " قال: فما سألت أحداً شيئاً بعدها، فكان سوطه يسقط من يده، فما يسأل أحداً أن يناوله إياه.
ومن حديث مالك، أن رسول الله صل الله عليه وسلّم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطائه فردّه، فقال له: " لم رددته " ؟ فقال: يا رسول الله! أليس أخبرتنا أن خيراً لأحدنا ألاّ يأخذ من أحد شيئاً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " إنما ذلك عن المسألة، فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك " . فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحداً شيئاً ولا يأتيني شيءٌ من غير مسألة إلا أخذته.
قال أبو الدَّرداء: إنّ أحدكم يقول: اللهم ارزقني،و قد علم أنَّ الله لا يخلق له ديناراً ولا درهماً،وإنما يرزق بعضكم من بعض، فإذا أعطي أحدكم شيئاً فليقبله، فإن كان غنياً فليضعه في أهل الحاجة من إخوانه، وإن كان إليه فقيراً فليستعن به على حاجته ولا يردّ على الله رزقه الذي رزقه.
قال عبد الله بن عمر: ما يمنع أحدكم إذا أتاه الله برزق لم يسأله أن يقبله، فإن كان غنياً عاد به على أخيه، وإن كان محتاجاً كان رزقاً قسمه الله له.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم " . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " للسائل خدوشٌ أو كدوحٌ يكدح بها الرّجل وجهه إلاّ أن يسأل ذا سلطان " .
وروي عنه عليه السلام، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال " إذا دخل السّائل بغير إذنٍ فلا تطعموه " .
وقال عليه السلام: " من كان لا بدّ سائلا فليسأل الصّالحين، أو ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بداً " .
وقد أشبعنا هذا الباب وأوضحنا معانيه في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
رفع الواقديُّ - رحمه الله - إلى المأمون رقعة، فوقع فيها المأمون: إنك رجلٌ فيك خلّتان:سخاءٌ وحياءٌ، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي منعك من أن تطلعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بثلاثة آلاف درهم. فان كنا أصبنا إرادتك فذاك، وإن لم نكن فبجنايتك على نفسك، وأنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للزُّبير " يا زبير! إن مفاتيح الرزق، بإزاء العرش، ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثَّر كثِّر له، ومن قلَّل قلِّل له " . قال الواقديّ: فقلت له: يا أمير المؤمنين! قد نسيت هذا الحديث،فكان تذكارك إياي له أعجب إليّ من الجائزة.
قال أبو العتاهية:
إذا ما المرء صرت إلى سؤاله ... فما تعطيه أكثر من نواله
ومن عرف المحامد جدّ فيها ... وحنَّ إلى المكارم باحتياله
ولم يستغل محمدةً بمالٍ ... ولو كانت تحيط بكلِّ ماله
عيال الله أكرمهم عليه ... أبثُّهم المكارم في عياله
وللفقيه أبي عمر بن عبد البر رضي الله عنه:
تعفُّف المرء عن سؤاله ... وكسبه الحلّ باحتياله
وسعيه في الصلاح عيشٍ ... لمن يواريه من عياله
مروءةٌ وبالغٌ بها ... من يبلغها منتهى كماله
ومن يصن وجهه يزنه ... صيانة الوجه من جماله
رضي الفتى بالقضاء عزٌُّ ... وذلَّة الوجه في ابتذاله
ولأبي دلف العجلي:
بلوت مرارة الأشياء طرّاً ... فما شيءٌ أمرّ من السُّؤال
ولم أر في الخطوب أشدّ هولاً ... وأصعب من معاداة الرِّجال
وقال أعرابي:
علام سؤال النَّاس والرِّزق واسع ... وأنت صحيحٌ لم تخنك الأصابع
وفي العيش أوطارٌ وفي الأرض مذهبٌ ... عريضٌ وباب الرِّزق في الأرض واسع
فكن طالباً للرِّزق من رازق الغنى ... وخلِّ سؤال النَّاس فالله صانع
وحج هارون الرشيد، فأرسل إلى سفيان بن عيينة فأمره أن يحدث بنيه، فقال يا أمير المؤمنين قد سألني الناس فامتنعت عليهم، ولكني أجلس لبنيك وللناس، فقال: نعم. فلما جلس صاح به الناس: سألناك الجلوس لنا فأبيت علينا،فلما جاءك المال والجائزة جلست.فقال للمستملي: أنصتهم لي.فصاح المستملي: صه صه. فسكت الناس، فأخرج سفيان بن عيينة رأسه إليهم،وقال: حدثني الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: " ما شيءٌ أحل وأطيب من ثلاثة :صداق الزوجة، والميراث،وما أتاك الله به من غير مسألة، فإنه رزق ساقه الله إليك " .والله ما جئت هذا الرجل ولا سألته شيئاً من ماله،ولو وجّه إليّ شطر ماله لقبلته،ثم أدخل رأسه ولم يحدثهم في ذلك الموسم بشيء.
أشخص المنصور سواراً القاضي من البصرة إلى بغداد في شيء أراد أن يشافهه فيه، فمر بواسط، وفيها يحيى بن سعيد الأنصاري يتولى القضاء،فدلَّ عليه، فقال له:ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ قال: نعم يعفيني من القضاء. فقال سوار للمنصور إذ قدم عليه، وكلمه فيما أراد: يا أمير المؤمنين! الأنصار تعلم ما يجب في حقهم. قال:هيه. قال: يحيى بن سعيد تعفيه من القضاء. قال :قد أعفيته.فلما انحدر سوار مرّ بواسط، فقال ليحيى بن سعيد: قد أعفاك أمير المؤمنين. فقال: لا جزاك الله خيراً عن صبية من الأنصار كانوا يقتاتون هذه الست مائة درهم في كلّ شهر.
كأنه أراد أن يعرّض ولا يحقّق.
كان الحسن البصريّ رحمه الله يقول: لا يردّ جوائزهم إلاّ أحمق أو مراءٍ، وقد ذكرنا من رأى قبول جوائز السلطان من أئمة أهل العلم، ومن تورع عن ذلك منهم في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
قال مطرِّف بن الشِّخير: إذا كانت لأحدكم إليّ حاجة فليرفعها في رقعة ولا يواجهني بها، فإني أكره أن أرى في وجه أحدكم ذل المسألة.
وقد روي عن يحيى بن خالد بن برمك مثل ذلك، وتمثل: ؟ مااعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السُّؤال مع النوال وزنته ... رجح السُّؤال وخفّ كلُّ نوال
لبعض الكتاب إلى عبد الله بن طاهر:
ولقد علمت وإن نصبت لي المنى ... أنّ الخصاصة لا تداوى بالمنى
فلئن وفيت لأنهضنَّ بشكركم ... ولئن أبيت لأحملنَّ على القضا
فأنجز له عبد الله بن طاهر عدته.
قال الحسن بن عبيد البغدادي:
صن الوجه الّذي إن لم تصنه ... بقيت وأنت في الدُّنيا ذليل
وعش حراً ولا يحملك ضرٌ ... على مرعىً له غبٌّ وبيل
فليس الرّأي إلاَّ الصَّبر حتّى ... يديل اليسر من عسرٍ مديل
أليس لكلِّ آفلةٍ طلوعٌ ... بلى ولكل طالعةٍ أفول
وكان أبان بن عثمان رحمه الله يتمثل:
مالي تلادٌ ولا استطرفت من نشبٍ ... وما أؤمِّل غير الله من أحد
إني لأكرم وجهي أن أوجِّهه ... عند السُّؤال لغير الواحد الصَّمد
عزّ القناعة والإيمان يمنعني ... من التَّعرُّض للمنَّانة النَّكد
رضيت بالله في يومي وفي غده ... والله أكرم مأمولٍ لبعد غد
قال أبو العتاهية:
أتدري أيَّ ذلٍّ في السُّؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرِّجال
يعزُّ على التَّنزّه من رعاه ... ويستغني العفيف بغير مال
إذا كان السُّؤال ببذل وجهي ... فلا قرِّبت من ذاك النَّوال
معاذ الله من خلقٍ دنيٍّ ... يكون الفضل فيه عليَّ لالي
وقال أيضاً:
لو رأى النَّاس نبياً ... سائلاً ما رحموه
ولأبي دلف أو لعبد الله بن طاهر:
أعجلتنا فأتاك عاجل برِّنا ... قلاً ولو أمهلتنا لم يقلل
وقال عبد الصمد بن المعذَّل في حين قدوم يحيى بن أكثم البصرة، قالت له امرأته لو أتيته فسألته ،فقال:
تكلِّفني إذلال نفسي لعزِّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول: سل المعروف يحيى بن أكثمٍ ... فقلت سليه ربَّ يحيى بن أكثما
وقال مسلم بن الوليد:
أقول لمأفون البديهة طائر ... مع الحرص لم يغنم ولم يتموَّل
سل الناس إنِّي سائل الله وحده ... وصائن عرضي عن فلانٍ وعن فل
قال حبيب:
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
قال محمود الوراق:
يا أيُّها الطَّالب من مثله ... رزقاً له جرت عن الحكمه
لا تطلب الرِّزق إلى طالبٍ ... مثلك محتاجٍ إلى الرَّحمه
وارغب إلى الله الذي لم يزل ... في يده النعمة والنِّقمه
وقال يونس:
إنّ الوقوف على الأبواب حرمان ... والعجز أن يرجو الإنسان إنسان
حتى تأمل مخلوقاً وتقصده ... إن كان عندك بالرحمن إيمان
عطاؤه لك إن أعطاكه ضعةٌ ... فكيف إن كان بعد المطل حرمان
ثق بالذي هو يعطي ذا ويمنع ذا ... في كلِّ يومٍ له في خلقه شان
قال محمود الوراق:
إنَّ السُّؤال فعدَّ عنه قليلهثمنٌ لكلِّ عطيَّةٍ أو مال
والحال تقعد بالكريم فما ترى ... فيه لعزِّته تغيُّر حال
وقال أيضاً:
شاد الملوك قصورهم وتحصَّنوا ... من كلِّ طالب حاجةٍ أو راغب
غالوا بأبواب الحديد تمنعاً ... قد بالغوا في قبح وجه الحاجب
فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضَّراعة طالباً من طالب
وقال النمر بن تولب:
لا تغضبنَّ على امرئٍ في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب
وقال عبيد بن الأبرص:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وقال النمر بن تولب
ومتى تصبك خصاصةٌ فارج الغنى ... وإلى الَّذي يهب الرَّغائب فارغب
وقال أبو الأسود الدؤلي:
وإنَّ أحقَّ النَّاس إن كنت مادحاً ... لمدحك من أعطاك والعرض وافر
وقال سلم الخاسر:
وفتى خلا من ماله ... ومن المرؤة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السُّؤال
قال قيس بن عاصم: إياكم والمسألة، فإنها آخر كسب الرجل.
دخل أعرابيٌّ على داود بن مزيد المهلَّبي، فقال: إني لم أصن وجهي عن مسألتك، فصن وجهك عن ردِّي، وضعني من كرمك بحيث وضعتك من أملي فيك، قال:قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، وهي أكثر من قدرك. قال:والله لئن جاوزت قدري فما بلغت قدرك.
قال أبو الفرج البيغاء:
ما الذُّلّ إلاَّ تحمّل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
وقال آخر:
أمن بيت الكلاب طلبت عظماً ... لقد حدَّثت نفسك بالمحال
وقال آخر:
لعن الله نائلاً ترتجيه ... من يدي من تريد أن تقتضيه
أيّ فضلٍ لصاحب الفضل من بع ... د تقاضيه وابتذال الوجوه
إنما الفضل والسَّماح لمن يع ... طيك عفواً وماء وجهك فيه
أيُّها الدَّائب الحريص المعنَّى ... لك رزقٌ وسوف تستوفيه
فسل الله وحده ودع النَّا ... س وأسخطهم بما يرضيه
أن ترى معطياً لما منع الل ... ه ولا مانعاً لما يعطيه
وقال آخر:
إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فخالل مثل حسان بن سعد
فتىً لا يرزأ الإخوان شيئاً ... ويرزؤه الخليل بغير كدّ
وقال آخر:
ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني
وقال أعرابي:
إنَّ المسائل للرِّجال مذلَّةٌ ... تفنى منافعها ويخلد عارها
وقال آخر:
... ويمسي ليس يملك درهما
يبيت يراعي النَّجم من سوء حاله ... ويصبح ضاحكاً متبسِّما
ولا يسأل المثرين ما في رحالهم ... ولو مات هزلاً عفَّةً وتكرُّما
ولا يسألن من كان يسأل مرَّةً ... وإن كثرت أمواله وتدرهما
وقال ربيعة الرَّقِّي:
ولا تسأل الناس ما يملكون ... ولكن سل الله واستكفه
ولا تخضعنَّ إلى سفلةٍ ... وإن كانت الأرض في كفِّه
فإنَّ الَّلئيم وإن خلته ... كريماً يذودك عن عرفه
ويرجع محصول أخلاقه ... إلى أصله وإلى صنفه
وكل مقلٍّ وذي ثروةٍ ... فإنّ المنيَّة من خلفه
وقال محمود الوراق:
اسأل العرف إن سألت كريماً ... لم يزل يعرف الغنى واليسارا
فقليل الشَّريف يكسب مجداً ... وكثير الوضيع يكسب عارا
وإذا لم يكن من الذُّلِّ بدٌّ ... فالق بالذُّلِّ إن لقيت الكبارا
ليس إجلالك الكبير بذلٍّ ... إنَّما الذُّلُّ أن تجلَّ الصِّغارا
وقال أيضاً:
يا أيها المتعب بزل الجمال ... وطالب الحاجات من ذي النَّوال
لا تحسبنّ الموت موت البلى ... فإنَّما الموت سؤال الرِّجال
كلاهما موتٌ ولكنّ ذا ... أشدُّ من ذاك لذلِّ السُّؤال
وقال محمود بن الحسن النحاس الوراق:
بخلت وليس البخل منِّي سجيَّةً ... ولكن رأيت الفقر شرَّ سبيل
لموت الفتى خيرٌ من البخل للفتى ... وللبخل خيرٌ من سؤال بخيل
فلا تسألن من كان يسأل مرَّةً ... فللموت خيرٌ من سؤال سؤل
لعمرك ما شيءٌ لوجهك قيمةٌ ... فلا تلق إنساناً بوجه ذليل
وقال ابن المعتز:
يا ربَّ جودٍ جرّ فقر امرئٍ ... فقام للنَّاس مقام الذَّليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خيرٌ من سؤال البخيل
وقال أعرابي لص:
وإنِّي لأستحيى من الله أن أرى ... أطوف بحبلٍ ليس فيه بعير
وأن أسأل المرء اللَّئيم بعيره ... وبعران ربِّي في البلاد كثير
وفي التمهيد أبيات في هذا المعنى ذوات عدد حسان لم أذكرها ها هنا.
باب انتظار الفرج
قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " انتظارالفرج بالصبر عبادة " .ويروى لأبي محجن الثقفي:عسى فرجٌ يأتي به الله إنَّه ... له كلَّ يومٍ في خليقته أمرعسى ما ترى ألاَّ يدوم وأن ترى ... له فرجاً ممَّا ألحّ به الدَّهرإذا اشتدَّ عسرٌ فارج يسراً فإنَّه ... قضى الله أنَّ العسر يتبعه اليسروقال الأضبط بن قريع:لكلِّ ضيقٍ من الأمور سعه ... والمسى والصُّبح لا بقاء معهوقال آخر:كن عن همومك معرضاً ... وكل الأمور إلى القضاوابشر بخيرٍ عاجلٍ ... تنسى به ما قد مضىفلربَّ أمرٍ مسخطٍ ... لك في عواقبه الرِّضاكان يقال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو.قال الشاعر:كن لما لا ترجو من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راجإنَّ موسى مضى ليطلب ناراً ... من ضياء رآه والَّليل داجفأتى أهله وقد كلَّم الل ... ه وناجاه وهو خير مناجوكذا الأمر كلَّما ضاق بالنَّا ... س أتى الله فيه ساعةً بالانفراجوقال منصور الفقيه:" وما عسرٌ لمنتظر الفرج " وقال بشار:
خليليّ إنَّ الصَّبر سوف يفيق ... وإنّ يساراً في غدٍ لخليق
وما خاب بين الله والنَّاس عاملٌ ... له في التُّقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفِّفٍ ... ولكنّ أخلاق الرِّجال تضيق
وقال آخر:
روِّح فؤادك بالرِّضا ... ترجع إلى روحٍ رطيب
لا تيأسنّ وإن ألحّ ... الدَّهر من فرجٍ قريب
وقال آخر:
لعمرك ما كلُّ التَّعطل ضائرٌ ... ولا كلُّ مسعىً فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنَّوى ... عليك سواءً فاغتنم لذَّة الدَّعه
وإن ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا ربّ ضيقٍ في عواقبه سعه
وقال آخر:
ربَّما خير لامرئٍ ... وهو للأمر كاره
ربَّ خيرٍ أتاك من ... حيث تأتي المكاره
وقال أحمد بن محمود، وقيل إنها لأحمد بن صالح:
إذا اشتملت على النَّاس الخطوب ... وضاق لما به الصَّدر الرَّحيب
وأوطنت المكاره واطمأنَّت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانفراج الضِّيق وجهاً ... وقد أعيى بحيلته الأريب
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ ... يمنّ به الَّلطيف المستجيب
وكلُّ الحادثات إذا تناهت ... فموصولٌ بها الفرج القريب
ومولانا الإله فخير مولى ... له إحسانه ولنا الذُّنوب
وقال الشاعر:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتَّقي ... نوائب هذا الدَّهر أم كيف يحذر
يرى الشَّيء ممَّا يتَّقي فيخافه ... وما لا يرى ممَّا يقي الله أكبر
وقال منصور الفقيه:
إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت لهنَّ تذوب المهج
وحلّ البلاء وقلّ الوفا ... فعند التَّناهي يكون الفرج
وقال آخر:
واصبر على الدَّهر إن أصبحت منغمراً ... بالضِّيق في لججٍ تهوى إلى لجج
فما تجرَّع كأس الصَّبر معتصمٌ ... بالله إلاَّ أتاه الله بالفرج
لا تيأسن إذا ما ضقت من فرجٍ ... يأتي به الله في الرَّوحات والدُّلج
وإن تضايق بابٌ عنك مرتتجٌ ... فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
قال أبو العتاهية في نفيع حاجب موسى الهادي:
ما ترى عند نفيعٍ منفعه ... فسل الرَّحمن رزقاً في دعه
إن يكن أمسك عنَّا نيله ... فسيغني الله كلاً من سعه
وقال أبو العتاهية:
النَّاس في الدِّين والدُّنيا ذوو درجٍ ... والمال ما بين موقوفٍ ومختلج
من صاق عنك فأرض الله واسعةٌ ... في كلّ وجه مضيقٍ وجه منفرج
قد يدرك الرَّاقد الهادي برقدته ... وقد يخيب أبو الرَّوحات والدُّلج
خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه من الفرج
وقال آخر:
سأصبر للزَّمان وإن رماني ... بأحداثٍ تضيق بها الصُّدور
وأعلم أنَّ بعد العسر يسراً ... يدور به القضاء المستدير
ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه، وقيل إنها لسهل الوراق، والله أعلم:
سيفتح بابٌ إذا سدّ باب ... نعم وتهون الأمور الصِّعاب
ويتَّسع الحال من بعد ما ... تضيق المذاهب فيها الرِّحاب
مع الهمّ يسران هوّن عليك ... فلا الهمّ يجدي ولا الإكتئاب
فكم ضقت ذرعاً بما هبته ... فلم ير من ذاك قدرٌ يهاب
وكم بردٍ خفته من سحابٍ ... فعوفيت وانجاب عنك السّحاب
ورزقٌ أتاك ولم تأته ... ولا أرّق العين منه الطِّلاب
وناءٍ عن الأهل ذي غربةٍ ... أتيح له بعد يأسٍ إياب
وناجٍ من البحر من بعد ما ... علاه من الموج طامٍ عباب
إذا احتجب النَّاس عن سائلٍ ... فما دون سائل ربِّي حجاب
يعود بفضلٍ على من رجاه ... وراجيه في كلِّ حين يجاب
فلا تأس يوماً على فائتٍ ... وعندك منه رضاً واحتساب
فلا بدّ من كون ما خطّ في ... كتابك تحبى به أو تصاب
فمن حائلٌ دون ما في الكتاب ... ومن مرسلٌ ما أباه الكتاب
في أبيات قد ذكرتها في موضعها من هذا الكتاب.
وقال محمد بن يسير:
إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصَّبر يفتق منها كلَّ ما ارتتجا
لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبةٌ ... إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا
أخلق بذي الصَّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وقال محمد بن حازم الباهلي:
هوِّن عليك فكلّ الأمر ينقطع ... وخلّ عنك عنان الهمّ يندفع
فكلُّ همٍّ له من بعده فرجٌ ... وكل أمرٍ إذا ما ضاق يتِّسع
إنَّ البلاء وإن طال الزَّمان به ... فالموت يقطعه أو سوف ينقطع
وقال آخر:
رأيت الأمر يبعد بعد قربٍ ... ويدنو الأمر بالقدر المسوق
فلا تفرح بأمرٍ إن تدانى ... ولا تيأس من الأمر السَّحيق
وقال ابن المبارك:
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم تقدر
وقال آخر:
إن يكن يومي تولّى سعده ... وتداعى لي بنحسٍ ونكد
فلعلّ الله يقضي فرجاً ... في غدٍ من عنده أو بعد غد
وقال آخر:
أحسن الظَّنّ بمن قد عوّدك ... حسناً أمس وسوَّى أودك
إنّ رباً كان يكفيك الَّذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك
قال العبسي:خرجت حاجاً فضاق صدري، فجعلت أقول:
أرى الموت لمن أمسى ... على الذُّلِّ له أصلح
فإذا هاتف من ورائي يقول:
يا أيُّها المرء الَّذي ... يرى الهمّ به برَّح
إذا ضاق بك الصَّدر ... ففكِّر في ألم نشرح
وقال آخر:
رأيت العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كلِّ قيل
فلا تجزع وقد أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في دهرٍ طويل
ولا تظنن بربِّك ظنّ سوءٍ ... فإنّ الله يأتي بالجميل
ذكر الطحاوي قال: حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال:حدثنا أبو النصر أحمد بن حاتم، قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال:استعمل الحجّاج أبي علي بعض أعماله فنقم عليه فتوارى أبي عنه في بادية قومه وأنا معه، فبينا أنا في سحر من الأسحار إذ مرّ راكب وهو يقول:
صبِّر الَّنفس عند كلّ ملمٍّ ... إنّ في الصَّبر حيلة المحتال
لا تضق في الأمور ذرعاً فقد ... يكشف غمَّاؤها بغير احتيال
ربَّما تجزع الُّنفوس من الأم ... ر له فرجةٌ كحلّ العقال
قال: فقلت: ما ذاك؟ قال: مات الحجاج. فوالله ما أدري بأيهما كنت أشد فرحا، أبقوله مات الحجاج أم بقوله :فرجة.
قال العطوي:
مستشعر الصّبر مقرونٌ به الفرج ... يبلى ويصبر والأشياء تنتهج
حتَّى إذا بلغت مقدور غايتها ... جاءتك تضحك عن ظلمائها السُّرج
فاصبر ودم واقرع الباب الَّذي طلعت ... منه المطامع فالمغرى به يلج
يقدِّر الله فارج الله وارض به ... ففي إرادته الغمَّاء تنفرج
وقال هلال بن العلاء الرَّقّي:
هوِّن عليك مصائر الدُّ ... نيا تكن سبلاً فجاجا
لا تضجرنَّ بضيقةٍ ... يوماً فإنَّ لها انفراجا
وقال آخر:
كلوا اليوم من رزق الإله وأبشروا ... فإنّ على الرحمن رزقكم غدا
وقال منصور الفقيه:
يامن يخاف أن يكو ... ن ما يخاف سرمدا
أما سمعت قولهم ... إنّ مع اليوم غدا
وقال أبو العتاهية:
هي الأيَّام والغير ... وأمر الله منتظر
أتيأس أن ترى فرجاً ... فأين الله والقدر
باب الجدِّ والحدّ
قال رسول الله صل الله عليه وسلم: " لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجدِّ منه الجدّ " .
قال أكثم بن صيفي:جدُّك لا كدُّك.
قال أشجع السُّلمي:
سبق القضاء بكلِّ ما هو كائنٌ ... فليجهد المتقلِّب المحتال
قالوا: أسعد الناس: من كان القضاء له مساعداً، وكان لذلك أهلا، وأشقى الناس: من كان مشغولاً بلا دين ولا دنيا، ولم يثق بأحد لسوء ظنه، ولا وثق به أحدٌ لسوء فعله.
قال أبو الأسود الدُّؤلي:
المرء يحمد سعيه من جدِّه ... حتَّى يزيَّن بالَّذي لم يعمل
وترى الشَّقيَّ إذا تكامل حدُّه ... يرمي ويقذف بالَّذي لم يفعل
أنشد ابن الأعرابي:
الجدُّ أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدٍّ في الحوادث أو ذر
فلقد يجد المرء وهو مقصرٌ ... ويجدُّ ثم يحدُّ غير مقصِّر
وقال يزيد بن محمَّد المهلَّبيّ:
وإذ جددت فكلّ شيءٍ نافعٌ ... وإذا حددت فكلُّ شيءٍ ضائر
وإذا أتاك مهلَّبيٌ في الوغى ... والسَّيف في يده فنعم النَّاصر
قال أبو يعقوب الخزيمي، وإسمه إسحاق بن حسَّان:
لا تنظرنّ إلى عقلٍ ولا أدب ... إن الجدود قرينات الحماقات
وقال خراش بن زهير:
وكانت قريشٌ يفلق الصَّخر جدُّها ... إذا أوهن النَّاس الجدود العواثر
وقال الحارث بن حلِّزة:
عش بخيرٍ لا يضر ... ك النَّوك ما لاقيت جدَّا
والنَّوك خيرٌ في ظلا ... ل الرّزق ممَّن عاش كدَّا
وقال آخر:
فعش في ظلّ أنوك حالفته ... مقاديرٌ يساعدها الصَّواب
ذهاب المال في حمدٍ وأجرٍ ... ذهابٌ لا يقال له ذهاب
قيل لزياد:ما الحظّ؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسره فهو ذو حظ.
وكان يقال لا حظّ إلا ما أشخص عنك ما تكره، وجلب إليك ما تحب.
قال محمد بن أبي حازم الباهلي:
لا تعجبنّ لأحمقٍ ... نال الغنى من غير كدِّه
ولعاقلٍ ما يستقلّ ... فكُّلهم يسعى بجدِّه
وقال امرؤ القيس:
وقاهم جدَّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ:
وما لبّ الَّلبيب بغير حظٍّ ... بأغنى في المعيشة من فتيل
رأيت الحظّ يستر عيب قومٍ ... وهيهات الحظوظ من العقول
ولحسان أو لابنه عبد الرحمن:
وإنَّ امرءاً يمسي ويصبح سالماً ... من النَّاس إلاَّ ما جنى لسعيد
وقال أعرابيّ:
وإنّ الَّذي ينجو من النَّار بعدما ... تزوَّد من أعمالها لسعيد
ولبعض أهل عصرنا:
أرى همم المرء ما لم يكن ... يساعده السَّعد همَّاً عليه
وقد يعجز المرء ذو الإحتيال ... إذا الله لم يقض رزقاً إليه
وقال صالح بن عبد القدوس:
وليس رزق الفتى من حسن حيلته ... لكن جدودٌ بأرزاقٍ وأقسام
كالصَّيد يحرمه الرَّامي المجيد وقد ... يرمي فيرزقه من ليس بالرَّامي
ولرجل من بني قريع أو للمعلوط، وقيل: إنها لحاتم الطائي:
متى مايرالنَّاس الغنيَّ وجاره ... فقيرٌ يقولوا عاجزٌ وبليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسِّمت وجدود
وكائن رأينا من غنىٍّ مذمَّمٍ ... وصعلوك قومٍ باد وهو حميد
ومعطى ثراء المال من غير قوَّةٍ ... ومحروم جمع المال وهو جليد
ٍوقال حبيب الطائي:
أبا جعفر ٍإنّ الجهالة أمُّها ... ولودٌ وأمّ العلم جذَّاء حائل
وله أيضاً:
فإنِّي ما حورفت في طلب الغنى ... ولكنَّكم حورفتم في المكارم
احتاج أبو الأسود الدؤلي إلى جار له يستقرض منه، وكان حسن الظَّنِّ به، فاعتلَّ عليه ودفعه، فقال أبو الأسود :
فلا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكلّ قريبٍ لا ينال بعيد
وفوِّض إلى الله الأمور فإنَّما ... تروح بأرزاقٍ عليك جدود
ولا تشعرنَّ النَّفس يأساً فإنَّما ... يعيش بجدٍّ عاجزٌ وبليد
وفي نحو هذا لبعض أهل عصرنا:
تجشَّم جسيم الهول في طلب المجد ... فنيل الغنى بين التَّجشُّم والكدِّ
ودع قول ذي جهلٍ يرى العجز راحةً ... ذر الكدّ فيما رمته المنع بالجدِّ
وقال آخر:
تطلَّبت حتَّى لم أجد متطلَّباً ... وبالجدِّ يسعى المرء لا بالتَّطلُّب
كتب كسرى إلى بزرجمهر وهو في الحبس: جنت لك ثمرة العلم أن صرت به أهلا للقتل.فكتب إليه بزرجمهر: أما ما كان معي الجد فقد كنت أنتفع بثمرة العلم، والآن إذ ولّى عني الجدّ، فقد أنتفع بثمرة الصبر.
قال سابق البربري:
والنَّاس في طلب المعاش وإنَّما ... بالجدِّ يرزق منهم من يرزق
ولو أنَّهم رزقوا على أقدارهم ... ألفيت أكثر ما ترى يتصدَّق
ما النَّاس إلاَّ عاملان فعاملٌ ... قد مات من عطشٍ وآخر يغرق
وقال البحتري:
ألا ليت المقادر لم تقدَّر ... ولم تكن الأحاظي والجدود
فتعلم أيُّنا يغدو ويمسي ... له هذي المواكب والعبيد
وقال حبيب الطائي:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدى الفتى في دهره وهو عالم
وقال ابن دريد:
لا ينفع العلم بلا جدٍّ ولا ... يحبطك الجهل إذا الجدُّ علا
وقال الحسين بن أحمد:
بالجدِّ أجدى على امرئٍ طلبه ... ومن يطل حرصه يطل تعبه
وقال آخر:
عش بجدٍّ وكن هبنَّقة القي ... ي نوكاً أو شيبة بن الوليد
عش بجدٍّ ولا يضرك نوكٌ ... إنما عيش من ترى بالجدود
هبنقة القيسي اسمه يزيد بن ثروان، وكنيته أبو نافع، أحد بني قيس بن ثعلبة، وهو الذي شرد له بعير فجعل لمن جاء به بعيرين، فقيل له: لم هذا؟ قال: فأين فرحة الوجدان؟ وأنشدني محمد بن نصر الكاتب رحمه الله لنفسه:
لا تشرهنّ إلى دنيا تملكها ... قومٌ كثيرٌ بلا عقلٍ ولا أدب
ولا تقل إنَّني أبصرت ما جهلوا ... من الإرادة في مرٍّ ومنقلب
فبالجدود هم نالوا الَّذي ملكوا ... لا بالعقول ولا بالعلم والحسب
وأيسر الجدُّ نحوي كلَّ ممتنعٍ ... على التَّمكُّن عند البغي والطَّلب
وإن تأمَّلت أحوال الَّذين مضوا ... رأيت من ذا وهذا أعجب العجب
وقال إبراهيم بن المهدي:
قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرِّزق من لم يؤت من تعب
مع أنَّني واجدٌ في النَّاس واحدةً ... الرِّزق أروغ شيءٍ عن ذوي الأدب
وخلَّةٍ قلّ فيها من يخالفني ... الرِّزق والنَّوك مقرونان في سبب
يا ثابت العقل كم عانيت ذا حمقٍ ... الرِّزق أولى به من لازم الجرب
وقال آخر:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً فيه لي شوم
إن المقدم في حذف بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
وقال آخر:
كفى حزناً أنَّ الغنى متعذِّرٌ ... عليَّ وأنِّي بالمكارم مغرم
فوالله ما قصَّرت في نيل غايةٍ ... ولكنَّني أسعى إليها فأحرم
وقال آخر:
ليس عن حيلة الرِّجال أصابوا ال ... مال بل قسمةٌ لهم وجدود
منهم العاجز المرجَّى له الرِّ ... زق ومنهم محارفٌ مجدود
قال بشار بن برد:
ما ضر أهل النَّوك ضعف الكدِّ ... صادف حظاً من سعي بجدِّ
وقال البحتري:
وآيسني علمي بألاَّ تقدُّمي ... مفيدي ولا مزرٍ على تأخُّري
ولو فاتني المقدور ممَّا أرومه ... بسعيٍ لأدركت الَّذي لم يقدَّر
وقال الصابي:
إذا جمعت بين امرأين صناعةٌ ... وأحببت أن تدري الَّذي هو أحذق
فلا تتأمَّل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرَّق
فحيث يكون النَّوك فالرِّزق واسعٌ ... وحيث يكون الحذق فالرِّزق ضيِّق
باب المال حمداً وذمّاً
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " قلب الشَّيخ شابٌ في حب اثنتين: طول الحياة وكثرة المال " .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " نعم المال الصَّالح للرجل الصالح " .
وقال رسول الله صل الله عليه وسلم: " إن الدِّينار والدِّرهم أهلكا من كان قبلكم وإنهما مهلكاكم " .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " لكلّ أمةٍ فتنة، وفتنة أمتي المال " .
وقال أيضاً: " إنَّ أحساب أهل الدُّنيا التي إليها ينتمون: المال " .
وقال عليه السلام: " ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم بأفسد لها من حب المال، والسَّرف لدين المؤمن " .
قال قيس بن عاصم لبنيه حين حضرته الوفاة: يا بني عليكم بالمال واصطناعه، فإنه منبهةٌ للكريم، ويستغنى به عن اللئيم.
قال الحسن البصري: لكل أمة وثن يعبدونه، وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم.
وقال الحسن:إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل ماله، فانظر فيم أنفقه ، فإن الخبيث ينفق في السرف.
قال أبو ذرّ أموال الناس تشبه الناس، وعن أبي ذر أيضا: إنما مالك لك، أو للوارث أو للجائحة، فلا تكن أعجز الثلاثة.
قال أكثم بن صيفي: من ضعف عن كسبه اتكل على زاد غيره.
قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يكسب المال ليكفَّ به وجهه، ويؤدِّي به أمانته، ويصل به رحمه.
قالوا للمسيح: يا روح الله أخبرنا عن المال، فقال المال لا يخلو صاحبه من ثلاث خلال: إما أن يكسبه من غير حله، وإما أن يمنعه حقه، وإما أن يشغله إصلاحه عن عبادة ربه.
قال الحطيئة: ؟ولست أرى السَّعادة جمع مالٍ ولكنَّ التَّقيَّ هو السَّعيد وأنشد ابن الأعرابي:؟
المال يغشى رجالاً لا طباخ لهم ... كالسَّيل يغشى أصول الدِّندن البالي
وهذا البيت في شعر لعمار الكلبي أوله:
قف بالعوير على أبلاء أطلال ... كأنَّها حللٌ أو خطُّ تمثال
الفقر يزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وربَّما ساد جبس القوم بالمال
وفيه يقول:
أصون عرضي بمالي لا أدنِّسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال
الجبس: اللئيم. وقوله: لا طباخ لهم: أي لا قوة ولا طاقة، قاله الخليل.
وقال فضالة بن زيد العدواني: ؟وماالعيش إلاَّ المال فاحمد فضوله ولا تهلكنه في الضَّلال فتندم
إذا جلّ خطبٌ صلت بالمال حيثما ... توجَّهت من أرضٍ فصيح وأعجم
وهابك أقوامٌ وإن لم تصبهم ... بنفعٍ ومن يستغن يحمد ويكرم
ويعطي الذي يبغي وإن كان باخلاً ... بما في يديه من متاعٍ ودرهم
وقال لبيد:
وماالبرُّ إلاَّ مضمراتٌ من التُّقى ... وما المال إلاَّ مضمرات ودائع
وقال حاتم الطائي:
لعمرك ما يغني الثَّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصَّدر
أماويّ إنَّ المال غادٍ ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذِّكر
وقال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعفُّ من القنوع
وقال المتلمس:
لحفظ المال أيسر من بغاه ... وضربك في البلاد بغير زاد
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقال آخر:
واطلب المال بحرصٍ ... واسرع المشي إليه
كلُّ من كان غنيَّاً ... سلَّم الناس عليه
وإذا كان فقيراً ... فقد البرُّ لديه
وثياب المرء أعوانٌ ... له بين يديه
وقال آخر:
إذا قلَّ مال المرء قلَّ صفاؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدَّامه خيرٌ له أم وراؤه
إذا قلَّ مال المرء لم يرض عقله ... بنوه ولم يغضب له أولياؤه
فإن مات لم يفقد ولم يحزنوا له ... وإن عاش لم يسرر صديقاً بقاؤه
وقال أبو اليقظان: ما ساد في الجاهلية مملق إلا عتبة بن ربيعة.
وقال محمد بن مناذر:
رضينا قسمة الجبَّار فينا ... لنا حسبٌ وللثَّقفيِّ مال
وقال المعلوط:
وماسوَّد المال الدَّنيء ولا دنا ... لذاك ولكنَّ الكريم يسود
وقال عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيالٍ ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كلَّ مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب غنيمةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح
هذان البيتان أنشدهما ابن قتيبة لأوس بن حجر، وخالفه حبيب وغيره فأنشدهما لعروة.
وقال عروة بن الورد:
إذاالمرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصَّديق فأكثرا
وصار على الأذنين كلاً وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا
وقال منصور الفقيه:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... وهي نعله أو باع في السُّوق خفَّه
ولم يك مأموناً على مال جاره ... إذا ما رآه خالياً أن يلفَّه
وقال الفرزدق:؟
والمال بعد ذهاب المال يكتسب
قال إبراهيم النخعي: إنما أهلك الناس فضول الكلام وفضول المال.
ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي الفقيه:
أعاذل عاجل ما أشتهي ... أحبُّ إليَّ من الرَّائث
سأحبس مالي على حاجتي ... وأوثر نفسي على الوارث
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... ويقصر دون مبلغهنَّ مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخلٍ ... ومالي لا يبلِّغني فعالي
وقال أعرابي:
إذا ما الفتى لم يبلغ إلاَّ لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد
يذكِّرني صرف الزَّمان ولم أكن ... لأهرب ممَّا ليس منه محيد
فلو كنت ذا مالٍ لقرِّب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت رشيد
فذرني أجوِّل في البلاد لعلَّه ... يسرُّ صديقٌ أو يساء حسود
وقال آخر:؟
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
وقال قيس بن عاصم:
سأودع مالي الحمد والأجر كلَّه ... فلا أجر في الدُّنيا ولا الحمد دائم
فرحت بما قدَّمت منه وإنَّني ... على حسن ما أخَّرت منه لنادم
كان يقال: شر مالك ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه.
قال الشاعر:
ذهاب المال في حمدٍ وأجرٍ ... ذهابٌ لايقال له ذهاب
وقال آخر:
وحفظك مالاً قد عنيت بجمعه ... أشدُّ من المال الَّذي أنت طالبه
قال جعفر من محمد رحمهما الله: من نقله الله من ذل المعصية إلى عز الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس، وأعزّه بلا عشيرة.
قال محمود الوراق:
هاك الدّليل لمن أرا ... د غنىً يدوم بغير مال
وأراد عزَّاً لم توطِّ ... ده العشائر بالقتال
ومهابةً من غير سل ... لطانٍ وجاهاً في الرِّجال
فليعتصم دخوله ... في عزِّ طاعة ذي الجلال
وخروجه من ذلَّة ال ... معاصي له في كلِّ حال
وقال النمر بن تولب:
خاطر بنفسك كي تصيب رغيبةً ... إنَّ الجلوس مع النِّساء قبيح
فالمال فيه تجلَّةٌ ومهابةٌ ... والفقر فيه مذلَّةٌ وفضوح
وقال آخر:
ويزري بعقل المرء قلَّة ماله ... تحمقِّه الأقوام وهو لبيب
وقال حسان بن ثابت الأنصاري:
ربّ حلمٍ أضاعه عدم الما ... ل وجهلٍ غطَّى عليه النَّعيم
وقال الخريمي وهو أبو يعقوب:
العيش لا عيش إلاَّ ما قنعت به ... قد يكثر المال والإنسان مفتقر
وقال أمية بن أبي الصَّلت:
إذا اكتسب المال الفتى من وجوهه ... وأحسن تدبيراً له حين يجمع
وميَّز في إنفاقه ما بين مصلحٍ ... معيشته فيما يضرّ وينفع
وأرضى به أهل الحقوق ولم يضع ... به الذُّخر زاداً لَّلتي هي أنفع
فذاك الفتى لا جامع المال ذاخراً ... لأولاد سوءٍ حيث جاءوا وأرضعوا
وقال كثير:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة نعمى أو خليلٌ توامقه
بخلت وبعض البخل حزمٌ وقوَّةٌ ... فلم يفتلتك المال إلاَّ حقائقه
وقال محمود الوراق:
ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للنَّذل
ولم أر عزَّاً لامرئٍ كعشيرةٍ ... ولم أر ذلاً نأيٍ عن الأهل
ولم أر من عدمٍ أضَّر على الفتى ... إذا عاش بين النَّاس من عدم العقل
وقال آخر:
الفقر يزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وقد يسوِّد غير السَّيِّد المال
وقال محمود الوراق:
أرى دهرنا فيه عجائب جمَّةٌ ... إذا استعرضت بالعقل ضلَّ لها العقل
أرى كلَّ ذي مالٍ يسود بماله ... وإن كان لا أصلٌ هناك ولا فصل
وآخر منسوباً إلى الرَّأي خاملاً ... وأنوك مخبولاً له الجاه والنُّبل
وما الفضل في هذا الزمان لأهله ... ولكنَّ ذا المال الكثير له الفضل
فشرِّف ذوي الأموال حيث لقيتهم ... فقولهم قولٌ وفعلهم فعل
ومما ينسب إلى محمود، وأظنها لغيره وهو أبو عبد الرحمن العطوي:
دع الرِّياء لمن لجّ الرِّياء به ... في الأمر بالبذل واذكر ذلَّة العدم
ومت على الدِّرهم المنقوش موت فتىً ... رأى الممات عليه أكرم الكرم
وعدِّ عن ذا وعن هذا وقولهم ... الذكر يبقى وتفنى لذَّة النِّعم
لولا غناك لكنت الكلب عندهم ... فإن أبيت فجرِّب واشق بالنَّدم
وقال أبو العتاهية:
والنَّاس حيث يكون المال والجاه