من جزيرة فقيرة الى نمر آسيوي في نصف قرن

من جزيرة فقيرة الى نمر آسيوي في نصف قرن
<< الجمعه، 6 نوفمبر/تشرين الثاني، 2015


كتبت مها الشريف
ليس بغريب ان يتصدر مطار تايوان الدولي مكانة متقدمة في التصنيف الذي أعدته شركة «سكاي تراكس» البريطانية، حيث احتل المكانة الرابعة كأفضل مطارات العالم في تسليم الحقائب وفي مراعاة تفاصيل مهمة على الرغم من صغرها.  فما أن تطأ قدماك مطار تايوان حتى تدرك المستوى الحضاري الرفيع لتايوان، والابداع في تقديم افضل الخدمات للمسافرين في مطار ضخم استقبل العام الماضي 35.8 مليون مسافر، فبمجرد أن تصل الى بوابة ختم الجوازات حتى تجد نظارات طبية بجانب استمارات الدخول، بالاضافة الى استخدام البطاقات الذكية اختصارا للوقت والجهد. فهو بحق واجهة تايوان الحضارية لدولة غزت صناعاتها العالم، فباتت عبارة «صنع في تايوان» تزين الكثير من المنتجات.
بين المسافة والزمن
لا يفصلنا عن تايوان 11 ساعة طيران فحسب ولكن يفصلنا كذلك فجوة حضارية كبيرة، فما زلنا نحن نتشبث في ذيل العالم الثالث، بينما استطاعت تايوان خلال فترة وجيزة من الانضمام بجدارة الى العالم الأول، متمردة على  المقولة الاقتصادية التي تؤكد بأن الدول التي اعتادت على تلقي المساعدات تبقى في حاجة مستمرة الى المساعدات، فها هي تايوان تثبت عكس هذه المقولة وهي التي تحولت من دولة متلقية الى دولة مانحة بمواردها القليلة، فقفزت خلال خمسين سنة من دولة تعيش في العصور الوسطى الى الحداثة، والى دولة -كما يؤكد الاقتصاديون- لا يمكن العمل ان يعيش بدونها.
الرابع بعد المائة
حملتني الطائرة مرة أخرى إلى تايبيه عاصمة جمهورية الصين الوطنية (تايوان) لحضور احتفالات الدولة بالعيد الوطني الرابع بعد المائة للبلاد، الذي كان برعاية رئيس جمهورية الصين الوطنية السيد ما ينج جيو، وتفاجأت بوجود معطف واق للمطر، وقبعة للوقاية من أشعة الشمس الحارقة تحت كل كرسي في الاستاد الذي احتضن مراسم الاحتفالية المهيبة، لنعيش الفصول الأربعة خلال بضع ساعات الاحتفالية التي ابتدأت باعتمار القبعة، وانتهت بارتداء المعطف الواقي من المطر، وكل هذا لم يؤثر على برنامج الحفل الذي ضم كذلك لوحات فنية راقصة تجسد البيئة البحرية والبرية للجزيرة، والذي جاء التنوع الجغرافي الطبيعي بين جبال مرتفعة وأودية عميقة وأخوار بحرية وشواطىء رملية ليثري التنوع البيولوجي جمال الطبيعة ضمن مساحة صغيرة، فجزيرة فرموزا الحاضنة لتايوان تمتلك واحدة من أعلى مستويات التنوع مع وجود أكثر من 150 الف كائن حي يشكل حوالي 2% من التنوع البيولوجي في العالم. فجاءت رقصة الطيور ورقصة الأسماك. كما قدم الأوبوريجينالز «السكان الأصليين للجزيرة» رقصتهم بالازياء المزركشة والاكسسوارات لتضيف جمالا على جمال الأداء.
كلمة الرئيس
جاءت كلمة الرئيس أشبه ما تكون وداعية على عتبة نهاية ولايته التي استمرت ثمانية اعوام في ظل ظروف استثنائية وحساسة مع وجود فرصة للمعارضة للوصول الى سدة الحكم التي تطالب بالاستقلال الرسمي للجزيرة، والتي تعتبرها بكين جزءا من أراضيها، فيما كانت سياسة الحزب الحاكم مبنية على اللاءات الثلاث. وفي رسالته الصارمة أكد الرئيس التايواني أن بلاده ليست على استعداد لمناقشة الوحدة مع الصين رغم تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري  مع بكين كأكبر شريك تجاري، واستعرض سلسلة المعاهدات التجارية مع الصين بعيدا عن اية محادثات سياسية، وافضى ذلك الى تعزيز الاستقرار والسلام والازدهار بين الجانبين.
اللاءات الثلاث
علاقة تايوان بالصين تجسد الحكمة الصينية، فهي علاقة تعج بالدروس فى الوعي السياسي،  فالصين تعتبر تايوان جزءا متمردا ومنفصلا يجب استرداده، أما الحكومة التايوانية الحالية فهي تعمل وفق اللاءات الثلاث المعروفة فى علاقتها ببكين وهى لا للانفصال، لا للاندماج، لا لاستخدام القوة. والبديل هو استمرار الامر الواقع وترسيخ فكرة «الكل منتصر» فى العلاقة بينهما. فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، معاركهما كلها للبناء والإنتاج وصناعة الرفاهية. وفي هذا عبقرية تستحق الدراسة والتأمل والتعلم في كيفية ترويض الخلافات وكيفية معالجة النزاعات الدولية المعقدة.
بؤرة ساخنة للعمل
كان يمكن ان تتحول هذه البقعة من العالم لواحدة من اخطر بؤر الصراعات والتوتر لان الأزمة غير عادية حيث انها قضية وجود بالنسبة لتايوان التى تعتبرها الصين اقليما متمردا يجب استعادته، ومع هذا يعمل الجانبان على دعم اقتصاد الآخر لا خنقه، فها هم التايوانيون يستثمرون في الصين بمبالغ تتجاوز 111 مليار دولار من خلال انشاء مشاريع ضخمة،  وتستقبل الصين 40% من اجمالى صادرات تايوان.
مؤسسات للاختراعات
التايوانيون أهل ابداع وعزم، ويأتي  «جناح التمييز التايواني» شاهدا على ذلك، حيث يحتضن المبنى الأنيق الاختراعات التايوانية التي حازت على جائزة التمييز الوطنية للمبدعيين والموهوبين، ليس لاطلاع الناس عليها فحسب، ولكن لعرضها على الشركات لعلها تتبنى احدى تلك الاختراعات. فمن التلفاز ثلاثي الابعاد الى الدراجة الهوائية التي تطوى توفيرا للمساحة والجهد، ناهيك عن لاقط الناموس الكهربائي بلا صوت وضوء، وغيرها من الابتكار في مجالات مختلفة تمس صحة الانسان كالادوية مثلا، واجهزة لقياس الضغط والسكري، وحتى الالعاب التعليمية للطفل، لتتحول هذه الاختراعات الى مشاريع تجارية لدولة تأتي في المرتبة الثالثة في سباق أكثر الدول تسجيلا لبراءات الاخترع على مستوى العالم بعد المانيا واليابان.
تقنين السيارات
لا شك بأن هناك انضباط ووعي تام في التعامل مع مشكلة الازدحام في العاصمة تايبيه، ومع أن دخل الفرد في تايوان يصل الى 30 ألف دولار في العام، ومع هذا لم الاحظ اية ازدحام مروري على الطرقات مثل الذي نجده في شوارعنا وطرقاتنا، حيث عملت الدولة الى تقنين امتلاك السيارات الخاصة، من خلال فرض ضرائب كبيرة على السيارات الشخصية مع توفير بدائل افضل وذلك بتدشين شبكة متطورة ومريحة من وسائل النقل العام. فمهما قامت الدولة من توسيع الطرق وزيادة طاقتها الاستيعابية فلا شك انها ستضيق مستقبلا أمام فيض السيارات الجديدة، فجاءت الحلول لتنسجم مع الواقع والمستقبل.
حلول ابداعية على الطرقات
يتم في تايوان مواجهة المشكلات المرورية بحلول ابداعية مبتكرة، فمن اساليب بسيطة كمبادرة «يو بايك» الى مترو الانفاق الذي يتربع في المرتبة الاولى في العالم لثلاث سنوات متتالية كأكثر محطات المترو امانا في العالم من قبل الهيئة الدولية لخطوط المترو، التي لا توفر فقط شاشات لمواعيد الرحلات بالانجليزية والصينية فحسب ولكنها أيضا تزود الركاب بارشادات ناطقة توضيحية، كما ويمنع تناول الطعام او التدخين وحتى مضغ العلكة داخل المحطة، ليبقى المكان مميز بنظافته، حرصا من التايوانيين على نظافة المرافق والممتلكات العامة.
مترو الانفاق
يبلغ طول الشبكة 131.1 كيلو متر، ويستخدمها حوال 2 مليون راكب يوميا، الا ان النظام يحول دون الاكتظاظ، حيث يقف الركاب على رصيف المحطة في المكان المخصص ويقف الناس بانتظار الركاب ليغادروا القطار دون المزاحمة او التدافع، بل يقف الجميع بكل هدوء بانتظار دورهم، وهم يدركون بأن القطار التالي قادم دون تأخير.
«يو بايك»
ارتفع عدد محطات تأجير الدرجات الهوائية منذ انطلاقها عام 2009 من 11 محطة الى أكثر من 162 محطة في شوارع العاصمة تايبية، وقد انتشرت الدرجات الهوائية و»السكوتر» كوسيلة للنقل بسبب أمن الطرق، والتزام الجميع بقواعد المرور وآدابها، ليس بين الشباب فحسب لكن بين كبار السن كذلك، الذين يتمتعون بلياقة بدنية عالية يحسدهم شباب بلادنا عليها.  ولان جميع افراد المجتمع يحترم شريكه على الطرقات وهو يدرك بأنه ليس مسؤولا عن سلامته فقط ولكن سلامة الاخرين كذلك، اجزم بأنني لم أجد خلال تنقلي في تايبه من يتجاوز السيارات او  السرعة الزائدة، او سيارة تقف وقوفا عشوائيا، فالكل يتقيد بالشواخص والقواعد العامة للمرور الامر الذي لم يعد معه الحاجة لتواجد شرطة المرور، ناهيك عن عدم استخدام الزامور، الذي اعتقدت لوهلة بأن سياراتهم تخلو منه.
المطبخ العربي
رغم تعدد الأزياء والموضة والتقاليع، وخاصة اللبس «القصير» جدا، الا ان هذا لا يعني مطلقا بأن الشعب التايواني غير متمسك بهويته ولا يعتز بجذوره، وما يوحد التايوانيون هو حسن الملبس ونظافة المظهر وهدوئه، وهذه صفات تجمعه بالجنس الأصفر الذي وجدت صعوبة كبيرة في التمييز بين الكوري والياباني.. الا ان الطباخ المصري الذي قابلته في احد المطاعم اكد لي بأن من يعيش معهم يستطيع تمييزهم بسهولة. وقال بفخر بأن المطبخ العربي يلاقي اقبالا كبيرا، وخاصة مسقعة الباذنجان على الطريقة المصرية والكسكسي المغربي.
*متحف تشاي كاي تشيك.
شهدت تايوان تغيرات كبيرة تعكس الطموح الكبير  للجزيرة الصغيرة التي احتضنت حكومة تشانغ كاي شيك عندما انسحب هو وأعوانه الوطنيون الصينيون من البر الرئيسي إلى تايوان، وأقاموا حكومتهم في العاصمة تايبيه، صعدت الجزيرة إلى درجة كبيرة خلال 104 سنوات لتكون قوّة آسيوية اقتصادية يشار لها بالبنان. ويقدم متحف تشان كاي شيك ملحمة التحدي والبناء، وكانت البداية في الحرب الأهلية بين عناصر الحكومة الوطنية التي أسسها الجنرال تشاي كاي تشيك مع الحزب الشيوعي برئاسة ماو تسي تونغ، أدت الى تمركز جماعة تشيك في جزيرة فرموزا ليقيمو دولتهم فيها عام 1949. ويضم المتحف مخطوطات من شعر تشيك، وسيارته، ومكتبه، ولقاءاته مع زعماء العالم من ضمنهم الملك الراحل الحسين بن طلال –رحمه الله-، وكذلك وضع الوسام الذي أنعمه الملك على الرئيس التايواني خلال زيارته التاريخية لتايبيه عام 1959 ، في مكان بارز تأكيداً للعلاقات المتميزة بين البلدين.
متحف القصـر القومـي
تحتضن العاصمة تايبيه متحف القصر القومي الذي ينافس على مركز أفضل متحف في العالم، حيث يعج بكنوز المدينة المحرّمة في بكين، وسلالة الأباطرة الذي حكموا البر الرئيسي «الصين الشعبية» ، وخاصة فنون سلالة مينغ التي حكمت في العصور القديمة ، وقد نقل هذا الكنز أثناء الثورة الثقافية.
الجيَد والبامبو
لان «الجيَد» حجر كريم يحمل الأحلام بالحظ السعيد والثراء للصينيين، فقد كان حاضرا بقوة في قطع المتحف الوطني، وبرع الفنان الصيني في استغلال تنوع الوانه بين الأخضر الداكن والأبيض الناصع ليخرج أحلى القطع الفنية واكثرها دقة وتفصيلا لحجر يمتاز بشدة صلابته، تلك الأعمال الفنية قد تكون مهرا للعروس، او طاردة للأرواح الشريرة ، كما انه حجاب قوي يبعد الكوارث وسوء الطالع، حتى أن الايمان به وبقوته كان كافيا لجعله من الملامح المميزة للمجتمع القديم.
الخيزران
يبدو ان شجر الخيزران (البامبو) ليس ملهما للفنان الصيني فحسب ولكن للمربي كذلك، فهو مصدر للأناة والترقب دون تعجل النتائج، حيث يزرع بعد تجهيز الأرض، ويبقى تحت الأرض لاربع سنوات، وفي السنة الخامسة تنمو هذه الشجرة ثمانية أقدام دفعة واحدة. وهو نبات يمتاز بفوائده الجمة، وبقوة نموه، وتناسل سيقانه، مما جعله حاضرا في كل بيت فامتزج مع معيشة الصينيين وحياتهم اليومية. وقد اسقطوا عليه الكثير من الصفات البشرية، حيث يلقب «فارس الشتاء» ويوصف بـ»التواضع» و»الاناقة» و»الاستقامة» و»العفاف» بسبب طبيعته العنيدة واللينة في آن واحد فهو أجوف من الداخل قاس وصلب من الخارج.
المركز الوطني للفنون التقليدية
في جولتنا في المركز الوطني للفنون التقليدية الواقع في مدينة ييلان على نهر لانيانغ، استمتعنا  بمشاهدة «رقصة التنين» الشهيرة التي كانت تهدف قديما الى جلب الامطار ايام الجفاف وابعاد الشرور، وجلب الحظ. كما يوجد في المركز متحف خاص يضم قطع من النقوش والتماثيل الخشبية والحجرية، وغيرها من الفنون في مركز ضخم يقع على مساحة 24 هكتار.
العمل تحت المطر
لم يمنع الهطول الغزير للمطر من قيام المرشدة السياحية المسنة من القيام بمهامها بكل حماس ومثابرة، حيث تنقلت برشاقة بين غرف المنزل التايواني التقليدي، وتحدثت بشغف عن تأثير الفونج شو في تحقيق السعادة والراحة في المنزل، ودوره في اختيار وانتقاء الأثاث واتجاهات الابواب، وتوزيع الموجودات، وحذرت من التنافر في حال عدم تدفق الطاقة بالشكل الصحيح. فلم تعق الأمطار السيدة المسنة من القيام بواجبها على أكمل وجه، فالاتقان والتفاني سمة يشترك فيها الشعب التايواني باختلاف مواقعه ومسؤولياته.
« 101»
كنت الزائرة رقم 29878 في ذلك اليوم  لبرج تايبية 101، والذي كان عند انشائه أعلى برج في العالم، لم يكن منظر المدينة الرائع من أعلى البرج محل دهشتنا واعجابنا فحسب، ولكن الدقة والنظام الصارم، الذي لولاهما لما استوعب البرج هذه الأعداد الهائلة.
لكل مجتهد نصيب
مشاهدات كثيرة لبلد صغير وحديث يستحق ان يكون نموذجا ومثالا لكيف يكون التطور والتنمية، فقد تحول الى نمر اسيوي رغم قلة الموارد الطبيعية والعزلة التي فرضتها بكين عليها، ومع هذا لم يعترف التايواني بالمستحيل، بل جد واجتهد فكان لكل مجتهد نصيب.