ما الذي يجعل العقل الجمعي متقبلاً للفساد والرشوة؟
قد يقرأ الإنسان في مقدمة ابن خلدون عن آثار الظلم والفساد على عقل المجتمع وطرق تفكيره، فيظن الأمر مبالغاً فيه، حتى يجد في الواقع ما يؤكد ذلك.
نشرت "البوصلة" قبل أيام خبراً عن موظف في دائرة الأراضي رفض رشوة قدرها 100 ألف دينار، لتزوير قطعة أرض لبائع لا يملك الأرض، ولكنه يستغل غياب أصحابها الطويل عن البلد.
كان لافتاً طبيعة التعليقات من المواطنين على الخبر عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، حيث هاجم الغالب هذا الموقف من الموظف، فمنهم من اتهم الموظف بالاستعراض وأن المبلغ لم يكن يكفيه، ومنهم من اعتبره "قليل فهم" لأنه لم يقبل الرشوة، فالكل في مؤسسات الدولة يقبلها "فلماذا أنت لا تقبل؟!"، على حد قولهم، وقليل من المعلقين كانوا من الشاكرين.
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن الناس إذا ذهبت آمالهم في تحصيل أموالهم واكتسابها، "انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب".
ولعل المقولة تستحضر من الذاكرة مواقف مع أشخاص عاديين لا يملكون أي منصب في الدولة، يتمنون لو كانوا في المنصب ليسرقوا، فما المانع من السرقة إذا كان الكل يسرق.
أحد الطلبة الجامعيين وهو يدرس المحاسبة في إحدى الجامعات قال في حديث شخصي سابق أنه يتأمل أن يعيّن محاسبا ماليا في دائرة ما، ثم يقوم باختلاس مبلغ من المال ويعترف عليه، ثم يسجن وعندما يخرج يتنعم بما اختلس بحسب ما قال.
قصة هذا الشاب وكيفية التفكير وشرعنة السرقة والاختلاس في العقل الجمعي، وردود الناس الرافضة لموقف موظف دائرة الأراضي، ينبئ بنوع من القبول المجتمعي للفساد والرشوة والظلم، فما هي الأسباب التي أدت لهذا؟
الخبير في علم الاجتماع الدكتور حسين محادين يرى أن الحياة كلما اتجهت للمدنية ازدادت فيها القيم الفردية وتراجعت كثافة القيم الدينية والأخلاقية التي نشأ الناس عليها، ولأن المنظومة التي تحكم العالم هي المنظومة المعولمة، فإن الشعرة التي تربط الغاية بالوسيلة الحسنة قد انقطعت.
وأضاف محادين وهو الأستاذ المشارك في علم الاجتماع والجريمة بجامعة مؤتة في حديث لـ"البوصلة" أن "ما يعزز هذا النوع من العقل الجمعي القابل للرشوة والفساد، انتشار فكرة الربح وسهولة الوصول له، دون الاهتمام بالوسيلة المستخدمة وشرعيتها".
وأشار إلى أن "انعدام الثقة في الحكومة والقطاع العام سهّل من انتشار الشعور بالظلم، فأصبحت القيم الأخلاقية أقل حضوراً مما كانت عليه من جهة، وغياب العقوبة القانونية للمعتدين على المال العام من جهة أخرى، ما جعل هذا جزءً من العقل الجمعي".
وقال محادين أنه "صار من المفروغ لدى العقل الجمعي الحصول على المكتسبات خاصة من القطاع العام، بطريقة غير قانونية جراء غياب المحاسبة وتطور أدوات المجرم، حيث بات هؤلاء يعرفون الثغرات القانونية لأفعالهم".
وحول اتهام موظف الأراضي بالاستعراض، قال إن "عدم دعم المواقف البطولية والشريفة بمواجهة الفساد والرشوة، تعزز من هذا الموقف لدى الجمهور".
وأضاف أنه لا بد من القول إن "الصراع القيمي بعد التسعينات، أي بعد دخول الخصخصة والاستثمار لرجال الأعمال جعل الأردنيين يفكرون بطرق الثراء السريع، وليس فقط عن طريق الرشوة والاختلاس بل حتى وصلت إلى القضايا الأخلاقية".
هل هناك حلول؟
وإذا كانت القيم الرأسمالية المعولمة التي تنتشر في مجتمعاتنا انتشار النار في الهشيم، وهي التي تعلي قيمة الربح للفرد دون الاهتمام بالوسيلة وحقوق الآخرين، فإن المجتمع يسير نحو الانحدار الأخلاقي والقيمي بشكل سريع، فهل هناك حلول تمنع تفاقم الأمر؟
يجيب الدكتور حسين محادين أن الحلول متوافرة نظرياً، لكنها تحتاج لظروف موضوعية ليصبح الحل واقعاً ملموساً، مبيّناً أن "النفاق بات سمة أساسية وهو المكرّم، فيما لا تميّز الظواهر الشريفة والصادقة، ومن المتوقع ضمن هذا الواقع أن يزيد الأمر سوءً، فالكل يعمل وفق نظام السوق؛ العرض والطلب، والسبب أن القدوة الحسنة مفقودة".
وأضاف أن "المرجعية التنشيئية لا تعتمد على أن القيم هي الأولوية، ولهذا انتقلت هذه الممارسات لتصبح هي المرجعية بل وغدت منهج حياة".
وقال إن ترسخ القيم الفردية يوفرها النظام الرأسمالي العالمي، ما ساهم برواج تجارة المخدرات والأسلحة وكل ما يضر بالإنسان لأنها تؤدي للثراء السريع.
من الواضح أن رونق القيم الأخلاقية آخذ بالخفوت في ظل سطوة النزعة الفردية، ما يؤدي لانتشار الظلم مجتمعيا وبالشكل الأفقي بعدما كان عموديا من السلطة على الناس، إلا أن الفرد في الحالتين هو الأساس، فمن ساهم بانتشار الفكرة الفردية قادر على المساهمة بانتشار القيم الأخلاقية، فالممارسة الفردية للفضيلة والرذيلة هي الأساس.