«ود مدني» مدينة الثقافة والفن والتنوع
إنصهرت فيها كل قبائل السودان
صلاح الدين مصطفى
الخرطوم ـ «القدس العربي»: «ابتسم أنت في واد مدني» لافتة تقابلك وأنت في مدخل المدينة ولعلها المدينة الوحيدة في السودان التي تدعو زائرها للابتسام والتسامح والسلام، فقد انصهرت فيها كل ثقافات السودان وأصبحت نموذجا للتنوع.
تبعد مدينة واد مدني حولي 186كيلومترا عن العاصمة الخرطوم، وتتميز بأنها عاصمة سابقة للسودان وفيها رئاسة مشروع «الجزيرة» الذي تم إنشاؤه عام 1925 لمدّ المصانع البريطانية بحاجتها من خام القطن الذي شكل أيضاً العامود الفقري لاقتصاد السودان بعد الاستقلال. ويعتبر «الجزيرة» أهم مشروع مروي في افريقيا وأكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة.
قبة السني
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن المنطقة التي قامت عليها المدينة كانت غابة كثيفة اتخذها أحد رجال الدين وهو محمد مدني دشين واشتهر بمحمد مدني السني، مقرا له وذلك في المكان الذي توجد فيه قبة السني وضريحه حاليا، إضافة إلى خلوة لتعليم القرآن، وكان ذلك في عام 1489 ثم بدأ المريدون يتوافدون فأسسوا حي المدنيين ثم انتشرت الأحياء بعد ذلك.
ونسبة لقرب المنطقة من النيل الأزرق فقد اشتهرت عند إنشائها بصناعة القوارب الشراعية إلى جانب صناعات محلية أخرى كدباغة الجلود وصناعة الأحذية والعناقريب وهي أسرة تقليدية تصنع من الحبال والحطب.
ولموقعها الممتاز اتخذها إسماعيل باشا ابن محمد على باشا، خديوي مصري، مقرا لقواته عندما احتل السودان سنة 1821 وبعد اغتياله اختار خلفاؤه الخرطوم عاصمة جديدة لحكمهم وقاعدة عسكرية كبرى لجيوشهم.
مظاهر مدنية
وأثناء الحكم الإنكليزي المصري كانت واد مدني إحدى المدن الكبرى والمهمة. فخلال العشرين عاما الأوائل من القرن العشرين أقيمت فيها محطة للسكة الحديد ومستشفى عسكري كان تابعاً للقوات البريطانية ومباني رئاسة المديرية والمحاكم ومكتب البريد والجامع الكبير على امتداد شارع النيل، كما بدأ أول تخطيط عمراني في الحي البريطاني (الحي السوداني حالياً) وحي القسم الأول. وشهدت المدينة منذ ذلك التاريخ نشاطاً تجارياً كبيراً جذب إليها أعداداً كبيرة من التجار والحرفيين.
ويقول الكاتب الصحافي صلاح الباشا إن سكان السودان ومنذ قديم الزمان كانوا يمارسون مهنتي الزراعة التقليدية (المطرية) والرعي بما في ذلك مساحات الجزيرة بمراعيها الواسعة في فصل الخريف. لكن ومع قيام شركة السودان الزراعية في منطقة الجزيرة أصبحت منطقة جذب للعمالة من كل أنحاء السودان، الماهرة منها والمتعلمة، خاصة من شماله حيث كان السكان يمارسون حرفة الزراعة في جروف نهر النيل بسبب سكناهم على ضفافه منذ الأزل، كما توافدت العمالة من غرب السودان ومن خارجه أيضاً، مثل تشاد والنيجر ومالي.
تمازج المحليين والوافدين
وحصل تمازج بين السكان المحليين والوافدين من كافة أنحاء السودان والدول المجاورة، فقد استقر فيها القادمون منذ أجدادهم وحتى اللحظة حيث صاروا مواطنين من الدرجة الأولى منذ عقود طويلة بعد أن وجدوا فرص العمل في مواسم زراعة وجني القطن (اللقيط) وفي العمل في المحالج أيضاً، ثم في زراعة الذرة والقمح والخضروات من خلال الدورة الزراعية المخصصة للمزارع في حواشات المزارعين.
وأدى إنشاء خط سكة حديد شرق السودان إلى إضعاف الجانب التجاري في واد مدني لكنها استعادت أهميتها الاقتصادية بقيام مشروع «الجزيرة» الزراعي عام 1925 وتوسع النشاط الحكومي فيها نسبة إلى التطور الاجتماعي والإنمائي الذي شمل مديرية النيل الأزرق قبل تحويلها في 1973 إلى مديرية الجزيرة ثم إلى ولاية الجزيرة وبقيت واد مدني عاصمة لها.
تحديث المدينة
ويرى الباشا أن مشروع الجزيرة ساهم بشكل كبير في أن تكون المدينة حديثة ومتميزة حيث قامت الإدارة الإنكليزية في الشركة الزراعية بتدريب الشباب من خريجي المتوسطة على العمل المحاسبي والكتابي وأعمال الإدارة والمخازن والهندسة الزراعية والميكانيكية، ثم التدريب لوظائف مفتشي المزارع |الغيط» حين لم تكن تتوفر وقتذاك كليات للزراعة، بل أن منهم من تم إبتعاثه للتدريب والتأهيل في لندن.
وبسبب توسع زراعة القطن في الجزيرة فإن 80 في المئة من صادرات السودان كان يمثلها القطن طويل التيلة ولمدة سبعين عاماً حتى عام 2000 الذي شهد تدفق الثروة البترولية التي بسببها تمت إدارة الظهر لمشروع الجزيرة فتركوه في مهب الريح.
ويصف صلاح الباشا المزايا التي أعطاها مشروع الجزيرة لمدينة واد مدني، فبعد إقامة خزان سنار، تم إنشاء هيئة البحوث الزراعية في المدينة. وكانت هي الجهة المناط بها تنفيذ العمليات الزراعية في المشروع قبل إنشاء إدارة خاصة في الشركة الزراعية في بركات حيث توجد رئاسة الشركة.
الريف الإنكليزي
وأحدث المشروع تطورا هائلا في مدينة بركات الصغيرة الجميلة والهادئة والتي أقيمت على نمط الريف الإنكليزي، وتبعد حوالي سبعة كيلومترات جنوب واد مدني العاصمة الإدارية للإقليم الأوسط القديم. «لذلك كان معظم موظفي وعمال الشركة الزراعية يأتون من حاضرة الجزيرة واد مدني بجانب القادمين من القرى المجاورة، وفيما بعد توسع العمل ليجذب كفاءات علمية عديدة من العاصمة وغيرها» .
وساهم نجاح زراعة القطن في الجزيرة في إدخال كافة الخدمات التعليمية والعلاجية والإنارة وتعليم الكبار ونقاط العلاج (شفخانات) لمعظم قرى الجزيرة، وتبدل حال المنازل لدى المزارعين، والتي كانت تقام من الطين، فأصبحت منازل حديثة بالعقد والطوب الأحمر، وانتشرت المدارس حتى الثانوية في القرى المجاورة، وبالتالي أصبحت الجزيرة منطقة وعي تعليمي وثقافي وسياسي أيضاً، فضلاً عن المكون الثقافي الناتج عن تواجد كل قبائل السودان فيها، فأصبحت بوتقة إنصهار وتزاوج بين كافة القبائل في الجزيرة، ما قاد إلى ذوبان القبلية تماماً في وسط السودان حتى اللحظة.
ويقول الباشا إن مدينة بركات بطرازها الإنكليزي الجميل من حيث الخضرة والحدائق الغناء تظل علامة بارزة في مستوى تطور الثقافة السودانية ومرتكزا من مرتكزات النبوغ السياسي والفني والرياضي في السودان، فضلا عن قيام محالج القطن في منطقة مارنجان التي تتوسط المسافة بين واد مدني وبركات حيث كان أهل شمال السودان القديم يتخذون من تلك المناطق وطناً ثانيا لهم داخل خريطة البلاد الكبيرة.
صناعات
وساهمت زراعة القطن في الجزيرة في وجود صناعة سودانية خالصة بعد خروج الإدارة الانكليزية حسب عقد تأسيس شركة السودان الزراعية الإنكليزية المسجلة في لندن حيث كان عمر الشركة 25 عاما فقط امتدت من العام 1925 وغير قابلة للتجديد إذ تم تأميمها في العام 1950 ليحل محلها ما يسمى الآن مجلس إدارة مشروع الجزيرة.
وقد تمثلت التنمية الصناعية التي تعتمد على خام القطن في قيام العديد من مصانع النسيج ومعاصر الزيوت في الجزيرة وفي السودان كله، ما أتى بفوائد جمة اجتماعية وتنموية استراتيجية. وكان ناتج بيع القطن هو سبب النهضة الحديثة بإنشاء البنية التحتية كالطرق داخل المدن وإدخال خدمات الكهرباء والماء وإنشاء المدارس في كل مدن السودان وقراه البعيدة وقيام مؤسسات التعليم العالي من جامعات ومعاهد عليا وأيضاً خطوط السكة الحديد وشركة الطيران.
وتضم مدينة واد مدني حاليا العديد من الصناعات خاصة الغذائية كصناعة البسكويت والحلويات والمشروبات الغازية ممثلة في مصانع واد مدني للبيبسي كولا والكوكا كولا، كما توجد في المدينة صناعة عصر الزيوت والصناعات المرتبطة بها كصناعة الطحينة والصابون وتوجد أيضاً مطاحن للدقيق وصناعة الغزل والنسيج ومدبغة الجزيرة للصناعات الجلدية، وهناك محالج مارنجان للقطن، إلى جانب الصناعات الكيميائية المختلفة.
فكرة مؤتمر الخريجين
ولعبت مدينة واد مدني أدوارا مهمة في تاريخ السودان الحديث، حيث طرحت فيها فكرة مؤتمر الخريجين الذي قاد العمل السياسي في السودان، وتعود الفكرة إلى المحامي أحمد خير وهو وزير خارجية سابق وأحد مؤسسي جمعية واد مدني الأدبية التي تركت آثارها على الحياة السياسية والثقافية «فمن منبر تلك الجمعية ألقى احمد خير محاضرته بعنوان واجبنا السياسي بعد معاهدة 1936 واقترح فيها تأسيس مؤتمر لخريجي المدارس والمعاهد يرعى شؤون البلاد، وكانت هذه المحاضرة أساسا لحوار كبير بين الخريجين في أنديتهم وعبر صفحات مجلة «الفجر» حتى تبنى نادي الخريجين في أم درمان تلك الفكرة».
حنتوب الجميلة
وفي أربعينيات القرن الماضي اختار المستعمر الإنكليزي ثلاث مدارس ثانوية تجمع نخبة طلاب السودان فكانت وادي سيدنا في أم درمان وخور طقت في الأبيض غربي السودان وحنتوب (الجميلة ) في مدينة واد مدني.
وكانت مدرسة حنتوب منارة تعليمية سامقة ساهمت في تكوين السودان الثقافي والاجتماعي والسياسي، فقد تخرج فيها معظم حكام السودان وقادة أحزابه ومن أشهر خريجيها الرئيس الأسبق جعفر نميري والدكتور حسن الترابي مخطط انقلاب الانقاذ 1989 ومحمد ابراهيم نقد الرئيس السابق للحزب الشيوعي السوداني.
جامعة الجزيرة
وتوجد في واد مدني جامعة الجزيرة وهي من أعرق الجامعات في السودان وانشئت لهدف معين لم يكن موجودا في السودان وهو ربط الجامعة بالمجتمعات المحلية حيث تقوم دراستها وأبحاثها على حياة الناس في مختلف المجالات. ومن أكثر كلياتها شهرة على مستوى العالم كلية الطب، وتقع رئاستها في مدينة واد مدني حاضرة ولاية الجزيرة وتأسست الجامعة في 1975 .
وحَرصت جامعة الجزيرة وخلال عمرها القصير على تقوية الصلات العلمية بالجامعات والمؤسسات داخل البلاد وخارجها، ووقعت عدداً كبيراً من الاتفاقيات الأكاديمية وبرامج التوأمة مع العديد من الجامعات والمنظمات العالمية والمؤسسات العلمية داخل السودان وخارجه، وخاصة في مجالات التدريب والتدريس والبحث العلمي وتبادل الخبرات، واكتسبت سمعة حسنة في الأوساط الأكاديمية في الخارج، وحصلت على جوائز عدة عربية وافريقية.
عاصمة الثقافة والفن
ويعتبر السودانيون واد مدني عاصمة للثقافة والفن من خلال الدور الذي لعبته في هذا المجال وأسست فيها رابطة أدباء الجزيرة وجمعية أصدقاء الفن ومن أبرز أدبائها الشاعر محمد عبد الحي والناقد مجذوب عيدروس. وقد أهدى السودان العديد من القمم الفنية على رأسهم الفنان ابراهيم الكاشف الذي يعد رائدا للأغنية واحد أعمدة فن الغناء السوداني الحديث إضافة لمجموعة كبيرة من الفنانين الذين أثروا الوجدان السوداني منهم الخير عثمان الذي غنى أغنية «حنتوب الجميلة» والفنان محمد الأمين صاحب البصمات الواضحة في خريطة الغناء السوداني ورمضان حسن، صاحب أغنية «الأمان» الشهيرة، ورمضان زائد. ومن الفنانين أيضا ثنائي الجزيرة وعبد العزيز المبارك وابو عركي البخيت، ومحجوب عثمان ومحمد مسكين وغيرهم.
ويرسم الكاتب صديق محيسي صورة قلمية لأجواء المدينة في منتصف القرن الماضي ويقول: «كانت مدينة واد مدني في ستينيات القرن الماضي نظيفة منسقة تنتشر الحدائق وسط أحيائها. وتعبق روائح الفل والياسمين من حيطان بيوتها وبالقرب من النيل ترقد مكتبة البلدية التي أسسها الإنكليز وصارت موئلا للباحثين والدراسين. وفيها خمس مكتبات سودان بوكشب ومكتبتا البلدية اللتان اسسهما الإنكليز، ثم ثلاث هي: الأهلية أول مكتبة في المدينة أسسها سيد مضوي وكانت تبيع الكتب الدينية مثل مختصر خليل ومتن الأجرومية ودلائل الخيارت وكتب التفسير والمكتبة الوطنية لصاحبها عيسى عبدالله وكانت توزع الصحف اليومية السودانية والمصرية ومجلات الآداب والأديب والثقافة الوطنية اللبنانية، أما مكتبة الفجر التي أسسها محمد سيد احمد فكانت متخصصة في الكتب اليسارية».
صلاح الدين مصطفى