منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الفتوى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: الفتوى   الفتوى Emptyالجمعة 10 يونيو 2016, 11:42 pm

الفتوى










الفتوى BOlevel15991   المقدمة

الفتوى BOlevel15992   الفصل الأول: تعريف الفَتْوَى، وموجز لتاريخ نشأتها

الفتوى BOlevel15993   الفصل الثاني: أهمية الفَتْوَى، وخطر الإفتاء بغير علم

الفتوى BOlevel15994   الفصل الثالث: تغيّر الفَتْوَى واختلافها بتغيّر ظروفها

الفتوى BOlevel15995   الفصل الرابع: شروط المُفْتِي وآدابه

الفتوى BOlevel15996   الفصل الخامس: آداب الاستفتاء

الفتوى BOlevel15997   الفصل السادس: ضوابط الفَتْوَى

الفتوى BOlevel15998   الفصل السابع: مقومات الاجتهاد المعاصر

الفتوى BOlevel15999   الملاحق

الفتوى BOlevel16000   المصادر والمراجع






       
المقدمة

فَتْوَى من جهة ما دفعت جماعة إلى فتح النار على منصة، في 6 أكتوبر1973؛ فسقط رئيس أكبر دولة عربية مضرجاً في دمائه!

فَتْوَى من جهة ما دفعت نفراً من الشباب إلى اختطاف طائرات، والانتحار بها، ومن فيها، في 11 سبتمبر 2001؛ لتدمير برجي التجارة العالميين، وضرب مبنى البنتاجون الأمريكي! ومن ثم هياج أقوى دولة في العالم، وتحريكها جيوشها الجرارة؛ واحتلالها لدولتَيْن مسلمتَيْن: أفغانستان، والعراق، والمزيد من تدهور العالم الإسلامي!

فَتْوَى بإهدار دم كاتب هندي مغمور، لا شأن له، تطاول على أفضل خلق الله، جعلت من هذا المغمور شخصاً شهيراً، على مستوى الإعلام العالمي كلّه، وجلبت له الأموال الطائلة. بل إقبال الناس على قرائة كتابه "آيات شيطانية"، وتأثر البعض بها.

فَتْوَى غدت محلّ تندّرٍ وسخرية بجواز إرضاع العاملة والموظفة لزميلها في أماكن العمل مثلت إهانة للإسلام‏,‏ بعد أن أصبحت مصدرا للنكات والتشنيع على الدين من بعض الكتاب‏,‏ كما أصبحت وسيلة لبعض الشباب لمعاكسة البنات، وجرح حيائهن، في خضم فوضى مخزية من عجيب الفتاوى. (انظر ملحق فوضَى الفَتَاوَى)

ومن أغرب الفتاوى، فتوى قتل الشخصية الكرتونية ميكي ماوس، وعدم جواز البوفيه المفتوح؛ لأنّ فيه تغريراً بالناس؛ وكذلك الفتوى، التي تذهب إلى بطلان زواج أي رجل وامرأة يخلعان ملابسهما أثناء ممارستهما لعلاقتهما الزوجية.

وأغرب من ذلك الفتوى، التي تبيح القبلات بين الشباب والفتيات في الأماكن العامة؛ بسبب أن ذلك من "الضعف البشري وتدخل ضمن اللمم في الإسلام، أي الذنوب الصغيرة التي تمحوها الحسنات"، ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الدينية والعلمية.

وغير ذلك كثير: فَتَاوَى تُشْـعل فتناً طائفيةً، وأخرى تشعل حروباً ضاريةً، وأخرى تشعل الصدام بَيْن أجهزة الأمن وتيارات بعينها، في بلاد إسلامية. وغيرها تدفع شباباً غُرر بهم إلى تنفيذ تفجيرات في مواقع حساسة في عواصم كبرى، مثل الرياض.

كلُّ ذلك، يبين أن أمر الفَتْوَى أمرٌ عظيمٌ، وأن مراعاة شأنها والالتزام بضوابطها ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لولاة أمور المسلمين. ولقد كان الصحابة، وأئمة التابعين، يرون أنه إذا ظهر في المسلمين من يفتي بغير علم، فهو نذير بشؤم عظيم؛ لأن ذلك من الأمور شديدة التحريم، فهو افتراء على الله. فقد قال تعالى: )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( (الأعراف: 33). وقال ـ عزّ وجلّ ـ: )وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النحل: 116 و117).

رُوي عن الإمام مالك، أنه قال: "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة (وهو من كبار التابعين، وهو شيخ الإمام مالك، وإمام مسجد رسول الله)، فوجده يبكي بكاءً شديداً، فارتاع لبكائه، وقال: ما يبكيك؟ أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا؛ ولكن استُفتى من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم". لذا، ينبغي لإمام المسلمين، أن يتصفح أحوال المُفْتِين؛ فمن كان يصلح للفَتْوَى، أقره عليها. ومن لم يكن من أهلها، منعه منها، وأمره بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها. قال ابن قيم الجوزية ـ يرحمه الله: "إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حرَّم القول عليه بغير علم، في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه. والمُفْتِي يخبر عن الله وعن دينه. فإن لم يكن خبره مطابقاً لما شرعه الله، كان قائلاً عليه بلا علم. ولكن، إذا اجتهد وبذل وسعه في معرفة الحق، وأخطأ، لم يلحقه الوعيد، وعُفي له عما أخطأ به، وأثيب على اجتهاده. ولكن، لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله، إن الله حرّم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا. وإن هذا هو حكم الله".

وأنشد بعض الأعلام، في هذا المقام:
إذا استفتيتَ عَمَّا فيـ                 ـه تحريم وإحلال
فَلا تَعْجَل، فَفِي فَتْـوَا                 ـك أخطاء وأهوال
فَإن أخطأت في الفَتْوَى                فبئس الأمر والحال
وإِنْ أَحْسَنْتَ، لا يَغْـرُرْ               ـك إعجاب وإدلال

وقد كان النبي يرسل صحابته إلى البلاد؛ ليعلموا الناس القرآن، وحكم الدِّين. وكذلك فعل الخلفاء من بعده، وكان الخلفاء من بني أمية، ينصبون للفَتْوَى، بمكة، في أيام موسم الحج، قوماً يعينونهم؛ ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم. فلمّا مضى الزمان، وبعُد العهد بالنبوة، جهل الناس آداب الفَتْوَى وأحكامها، بل تجاسر عليها من ليس من أهلها. وبعد منتصف القرن الرابع الهجري، انتهى دور الأئمة المجتهدين؛ وراج التقليد، أي الاتباع الأعمى من دون الاجتهاد في ما يجد من وقائع. وساعده على الرواج تفكك الدولة الإسلامية؛ وتعصب أتباع المذاهب لمذاهبهم؛ وشدة الحكام، وخشية كثير من العلماء لهم، حتى إن كثيراً من القضاة والمُفْتِين، خضعوا لإرادات الحكام.

ولما تخلّف المسلمون، حضارياً وفكرياً، أكثروا من الأسئلة التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة. وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات، لم تخطر ببال أحد من سلف الأمة. ومنها: ما لون كلب أهل الكهف؟ وهل كان ذكراً أم أنثى؟ وأين كانوا؟ ومتى كانوا؟ مع أن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك، ولو علم فيه خيراً لنا لذكره.

وقد جدّت في الحياة حوادث وقضايا، لم يتكلم فيها من سلف من العلماء، وأضحت حاجة الناس إلى من يفتيهم، أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب. فالمسلم يتعرض لحوادث يومية، وقضايا يحتاج أن يعلم حكم الله فيها. وكان العلماء، فيما سبق من القرون، يحرّمون على المسلم أن يسكن ببلد، ليس فيها من يفتيه؛ لأنه يحتاج، دائماً، إلى الفَتْوَى والمُفْتِي؛ ويشق عليه أن يسافر، في كل مسألة، إلى من يفتيه.

يتناول البحث، بإيجاز، ما تفرق في بطون الكتب، من أحكام وآداب، تتعلق بالفَتْوَى. بدأها بتعريفها اللغوي والشرعي، فموجز لتاريخ نشأتها، منذ عهد الرسول ـ صل الله عليه وسلم ـ، ثم تطرق إلى أهميتها، وخطر الإفتاء بغير علم. وفصَّل شروط المُفْتِي وآدابه، وبيّن ما يُستحب أن يتحلى به المستفتي من آداب. وتعرّض لتغيّر الفَتْوَى وأسباب اختلافها، حسب تغيّر البيئة والظروف. ثم سعَى إلى بيان الضوابط العامة للفَتْوَى، انتهاء بتفصيل مقومات الاجتهاد، في الواقع المعاصر. وذيل بالملاحق المهمة المتعلقة بالموضوع.

 




       

ملحق

فوضى الفتاوى

أولاً: شر الفتاوى ما يضحك

فجر أحد أساتذة "علم الحديث" مفاجأة مذهلة؛ إذ أباح للمرأة العاملة أن ترضع زميلها في العمل؛ منعاً للخلوة المحرمة، إذا كان وجودهما في غرفة مغلقة لا يفتح بابها إلاَّ بواسط أحدهما. وأكَّد الأستاذ الدكتور لـ"العربية.نت": "أن إرضاع الكبير يكون خمس رضعات، وهو يبيح الخلوة ولا يحرم الزواج، وأن المرأة في العمل يمكنها أن تخلع الحجاب أو تكشف شعرها أمام من أرضعته". وطالبً توثيق هذا الإرضاع، كتابة ورسمياً، ويكتب في العقد أن فلانة أرضعت فلاناً.

وقد عارضه كثير من الأساتذة والعاملين في حقل الدعوة. فقال أحدهم: "إن حديث إرضاع الكبير صحيح ولا يجوز إنكاره، لكن جمهور العلماء اختلف في إعطاء الواقعة حكماً عاماً أم خاصاً؟ والرأي الراجح أن هذه حالة خاصة ولا يمكن القياس عليها، وإباحة رضاع الكبير بهذا الشكل هو اجتهاد خاطئ وخروج على الإجماع، ويفتح الباب لانتشار الرذيلة في المجتمع، فليس من المعقول أن نتحدث عن رضاع للكبير في مجتمعنا الحديث".

وقد بَيَّن ابن القيم، عندما ذكر هذا الحديث، أنها فتوى خاصة بسالم مولى أبي حذيفة، لأن الرضاع مدته عامَيْن ولا رضاع بعد ذلك. ومن شروطه أن ينبت اللحم ويقوي العظم، ورضاع الكبير لا يؤدي إلى ذلك بل يثير الشهوات، لأن كشف المرأة ثديها لغير زوجها يُعَدّ كشفاً لعورة.

ولا شك أن اثارة هذا الموضوع يعد سبيلا للطعن في الاسلام نفسه، فحديث رضاع الكبير وارد في صحيحي البخاري ومسلم، وقصة الحديث تدور حول شخص اسمه أبو حذيفة كان له ولد بالتبني، وعندما أبطل الاسلام التبني، حصلت مشكلة، فكيف يرى هذا الولد، واسمه "سالم"، زوجة أبي حذيفة التي ربته وكان يدخل عليها بصورة طبيعية كأنها أمه. وعندما ذهبا للرسول قال لها: )أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ( (مسلم: 2637). هناك من العلماء من رأى أن هذا الحديث خاص بسالم مولى أبي حذيفة، وهناك من قال إن هذه القاعدة على أي شخص في مكانة سالم، وهناك طرف ثالث قال إنه حكم منسوخ. والخلاصة أن هذا الكلام برمته كان أيام إباحة التبني، وبعد انتهاء التبني ونزول تحريمه، استقر الأمر أنه لا يجوز ارضاع الكبير ولا يؤثر؛ لأن الرضاع لابد أن يكون في الحولين وقبل الفطام.

ومن يستدل بقصة سالم، فليأت بها من جميع الوجوه، وبنفس حالة سالم، وهذا غير ممكن؛ لأن قصة سالم جاءت مباشرة بعد حظر التبني، ومن ثَمَّ فهي قصة نادرة لن تتكرر مرة أخرى؛ إذ لما انتفى الحال، انتفى الحكم، يدل على ذلك حديث الرسول: )إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ. قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ( (البخاري: 4831). والحمو هو أخ الزوج، وفي حاجة لأن يدخل بيته، فلماذا لم يقل الرسول، لمنع حرمة خلوته بزوجة أخيه في البيت، إن عليها أن ترضعه؟ هذا يدل أن مطلق الحاجة لا يبيح رضاع الكبير، لأننا لو قلنا بهذا لكان فيه مفسدة عظيمة. أي أن تأتي امرأة لزوجها بمن تقول إنه رضع منها، وهنا تحصل مشكلة كبيرة جدا، فلو أبحناها للموظفين والموظفات فلماذا لا نبيحها لأخ الزوج مثلاً؟

وقد صدر بيان، جاء فيه "إن ما جاء على لسان الأستاذ الدكتور يتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، ويخالف مبادئ التربية والأخلاق، ويسيء إلى الجهة التي يعمل فيها".

 

ثانياً: فوضى الفتاوى

* قالت مراسلة الجزيرة توك، في الجزائر،  28 أكتوبر 2008

يستيقظ الجزائريون صباح كل يوم جديد على فتوى أغرب من سابقاتها، أحدث أغلبها اندهاشاً و بلبلة في أوساط الشعب؛ فالموظفون الحكوميون، الذين يتقاضون أجوراً ثابتة، تفاجئوا مؤخراً بفتوى "تحريم الأجر الثابت". وقد استند أصحابها في ذلك إلى أن الرسول كان يعمل لقوت يومه ويكسب رزقه يومياً، وأن مسألة الأجر الثابت لم تكن واردة في السنة النبوية. هذه الفتوى أثارت قلق وحيرة الموظفين الحكوميين ودفعت بعضاً منهم إلى التخلي عن وظائفهم الرسمية فعلياً.

وأكدت فتوى أخرى أن البيوت، التي يسكنها الجزائريون، والمبنية بمواد بناء حديثة، كالإسمنت والحديد، محرم العيش فيها؛ لأن البيوت في زمن النبوة لم تكن مبنية على تلك الشاكلة واستخدام تلك المواد يُعَدّ بدعة.

لا شك أن الجزائر تأثرت بالمرحلة التي تمر بها ساحة الإفتاء في العالم الإسلامي، والتي أصبحت تعج بفتاوى أثارت استغراب المسلمين ولم يستطع العامة والبسطاء منهم ابتلاعها، كفتوى تحريم مشاهدة "ميكي ماوس"، وفتوى قتل مُلاك القنوات الفضائية، وفتوى سجن الصحفيين الذين ينتقدون فتاوى المشايخ، وفتوى تحريم الجلوس على الكرسي للنساء، والقائمة طويلة، حتى بتنا نخشى أن تصدر ذات يوم فتاوى تحرم استخدام جهاز الكومبيوتر أو الهواتف النقالة أو السيارات أو الثلاجات، بدعوى أنها بدعة محدثة لم تكن موجودة في عصر النبوة !

* في شهر رمضان 1429، ارتفع عدد برامج الإفتاء، ومن ثَمّ الأسئلة التافهة، التي لا يجد بعض "وعّاظ الفضائيات"، حرجاً في الإجابة عليها.

ومن الأمثلة على ذلك: متصِلة سألت شيخاً، في أحد البرامج، عن حكم قص الشعر يوم الجمعة. وأخرى استفسرت عن فتوى جلوس المرأة أمام الإنترنت من دون محرم؛ بينما سأل شاب عن حكم الغش في اختبار مادة الإنكليزي كونها أجنبية. وآخر عن حكم ارتداء قميص T-Shirt والقبعة.

ومن النوادر التي تتداولها مواقع الإنترنت، استفسار رجل عن حكم غسل اللحية أثناء الوضوء؟ ليجيبه الشيخ ممازحاً، بعدما ازداد إلحاح السائل وحرصه على وصول الماء إليها: "انقعها قبل ليلة".

وتقول إحدى المتابعات المواظبات لبرامج الإفتاء: "إن أغرب ما سمعت في هذه البرامج هو اتصال سيدة من إحدى الدول العربية، لتستفسر عن خروفها الذي اشترته ووضعته في حديقة المنزل، وأكل من طريق الخطأ صحيفة أجنبية. وسألت الشيخ إذا كان في إمكانها ذبح الخروف وأكل لحمه؟.

* فتاوى الجنس

من هذه الأمور التي تطغى بوضوح على ظاهر الفتاوى التي يطلبها الناس، أرضياً وفضائياً، فتاوى الجنس وفتاوى شؤون المرأة. ومن أغرب الفتاوى الجنسية في العام الماضي، فتوى حول عدم جواز تعري الزوجين أثناء المعاشرة الجنسية، وفتوى أخرى حول جواز استمتاع الزوجين بملامسة كل منهما عورة الآخر بالفم! ولم تنعكس أية قضية أو هموم اجتماعية حقيقية على طلب الناس للفتاوى المتعلقة بالمرأة أو بالجنس، سوى في فتوى واحدة تقدم بها البعض إلى مجمع البحوث الإسلامية حول "جواز تولي المرأة رئاسة الجمهورية"، وجاءت الفتوى بأنه "لا يجوز"!

وفيما حرّم مجمع البحوث الإسلامية التدخين عملاً بالمبدأ الإسلامي "لا ضرر ولا ضرار"، فإن أحد المفكرين أفتى بأن التدخين في نهار شهر رمضان لا يفطر الصائمين، واستند في فتواه إلى أن الدخان لا يدخل المعدة، وبالتالي فإنه لا يُفطر!

* فتاوى سياسية

أفرزت فتاوى الفضائيات، وغيرها من الفتاوى "المنهمرة"، عدداً من أزمات الرأي العام، ولعل أهمها فتوى إهدار دم "كل يهودى إسرائيلي موجود في البلاد العربية بمن فيهم من دخلوا بقصد السياحة"، رداً على جرائمهم ضد الفلسطينيين. واليهودى غير الإسرائيلي لا يجوز قتله كونه ينتمى لجنسية أخرى. وتكررت الفتوى في حوارات صحافية، ما صنع بلبلة في الأوساط الاجتماعية والسياسية، وجعل السفارة الإسرائيلية تطلب تشديد الحراسات على رعاياها، بخاصة أن السائحين الإسرائيليين يصل عددهم إلى قرابة مئة ألف سائح سنوياً !

ولم يفق المصدومون بفتوى قتل اليهود حتى صدموا بفتويين أخريين قبل نهاية العام الماضي.. الأولى جواز استحمام الإنسان باللبن لأمور علاجية أو تجميلية. والثانية: فتوى تبيح إعدام رئيس وزراء إحدى الدول العربية الكبرى، بحجة "التربص بالإسلام"، لأنه أصدر قراراً بهدم مسجد، وكذلك إعدام وزيري الأوقاف والاستثمار، بحجة تبديدهما أموال الأوقاف.

 

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:39 pm


       
الفصل الأول
تعريف الفَتْوَى، وموجز لتاريخ نشأتها

 
المعنى اللغوي

ورد في المصباح المنير: الفَتْوَى بالواو (بفتح الفاء): اسم من "أفتى" العالِم، إذا بَيَّن الحكم. واستفتيته: سألته أن يُفتي. والجمع "الفتاوِي" (بكسر الواو)، على الأصل. وقيل يجوز الفتح للتخفيف (الفتاوَى)

وقال ابن منظور: الفُتْيَا والفُتوى والفَتْوَى: ما أفتى به الفقيه. وأفتاه في الأمر: أبانه له. وأفتى الرجل في المسألة. واستفتيته فيها فأفتاني إفتاءً. وفُتىً وفتوى: اسمان يوضعان موضع الإفتاء. ويقال: أفتيت فلاناً رؤيا رآها؛ إذا عبرتها له. وأفتيته في مسألته إذا أجبته عنها. وفي الحديث: )أن قوماً تفاتوا إليه(، معناه تحاكموا إليه، وارتفعوا إليه في الفُتْيا. والفُتْيا تبيين المشكل، وتوضيح الغامض من الأحكام. وأفتى المُفْتِي، إذا بيّن حكماً لله في مسألة ما. قال تعالى: )وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ( (النساء: 127).

وقال أبو إسحاق[1] في قوله تعالى: )فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا( (الصافات: 11)، أي فاسألهم سؤال تقرير، أهم أشدّ خلقاً أم من خلقنا من الأمم السّالفة. وقوله ـ عزّ وجلّ ـ: )يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ( (النساء: 176)، أي يسألونك سؤال تَعَلُّمٍ.

وفي الحديث، قال الرسول ـ صل الله عليه وسلم ـ لصحابي يُدْعَى وابصة: )يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ. الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ. وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ( (مسند أحمد: 17315)، أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً.
المعنى الشرعي

قيل: الإفتاء هو "الإخبار بالحكم الشرعي للسائل عنه، في أمر واقع". وقيل: الإخبار بالحكم الشرعي حسب قواعد الفقه وأصوله. أو هو بيان حكم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بمقتضى الأدلة الشرعية، على جهة العموم والشمول.

وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي[2] بقوله: "تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه".

ولا ينبغي أن يتعرض للفَتْوَى إلاّ فقيه عالم بالشريعة. قال أبو محمد بن حزم: الفقه، هو المعرفة بأحكام الشريعة، من القرآن، ومن كلام المرسل بها، الذي لا تؤخذ إلاّ عنه. وتفسير هذا، هو المعرفة بأحكام القرآن، وناسخها ومنسوخها؛ والمعرفة بكلام رسول الله، ناسخه ومنسوخه؛ وما صح نقله، مما لم يصح؛ ومعرفة ما أجمع العلماء عليه، وما اختلفوا فيه؛ وكيف يُرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول. فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة. وكلّ من علم مسألة واحدة من دينه، على حسب الصفة التي ذُكرت، جاز له أن يفتي بها. وليس جهله بما جهل، بمانع من أن يفتي بما علم؛ ولا علمه بما علم، بمبيح له أن يفتي في ما جهل. وليس أحد، بعد النبي، إلاّ وقد غاب عنه من العلم كثير، موجود عند غيره. فلو لم يفتِ إلاّ من أحاط بجميع العلم، لما حل لأحد من الناس، بعد رسول الله، أن يفتي، أصلاً. وهذا لا يقوله مسلم. وهو إبطال للدين، وتضييع لمصالحه.

وفي بعث النبي الأمراء إلى البلاد؛ ليعلموا الناس القرآن، وحكم الدِّين؛ ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك؛ لأنه كانت تنزل بعدهم الآيات والأحكام ـ بيان صحيح بأن العلماء، وإن فاتهم كثير من العلم، فإن لهم أن يفتوا، ويقضوا بما عرفوا. وهذا بيان جليّ بأن من علم شيئاً من الدِّين علماً صحيحاً، له أن يفتي به؛ وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك. ومن علم أن في المسألة، التي نزلت، حديثاً، قد فاته، لم يحلّ له أن يفتي في ذلك، حتى يقع على ذلك الحديث.

ومن لم يعلم الأحكام، على الصفة التي ذُكرت من قبل؛ وإنما أخذ المسائل تقليداً (أي اتباعاً لغيره من دون علم بالدليل)؛ فإنه لا يحلّ لمسلم أن يستفتيه. ولا يحلّ له أن يفتي بين اثنين. ولا يحلّ للإمام أن يوليه قضاءً، ولا حكماً، أصلاً. ولا يحلّ له، إن قُلد ذلك، أن يحكم بين اثنَيْن. وليس أحد، بعد النبي، إلاّ وهو يخطئ ويصيب؛ فليس خطؤه بمانع من قبول صوابه. فلا يوجد مفتٍ في الدِّين، أبداً، إلاّ أحد ثلاثة أناس: إمّا عالم، فيفتي بما بلغه من النصوص، بعد البحث والتقصي عما يلزمه؛ فهذا مأجور، أخطأ أو أصاب؛ وواجب عليه أن يفتي بما علم. وإمّا فاسق، يفتي بما يتفق له، رغبة منه في الوجاهة، أو كسب مالي؛ وهو يدري أنه يفتي بغير مبرر. وإمّا ضعيف العقل، يفتي بغير يقين، وهو يظن أنه مصيب، ولم يبحث حق البحث؛ ولو كان عاقلاً، لعرف أنه جاهل؛ فلم يتعرض لما لا يحق له.
تعريف المُفْتِي

اختلف العلماء في تعريفه، على آراء، أهمها:

1. المُفْتِي هو المجتهد المطلق، وهو الفقيه. ولهذا قال العلماء، إنه خاص بمن قام للناس بأمر دينهم، وعلم عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه؛ وكذلك في السنن والاستنباط. ولم يوضع لمن عَلِم مسألة، وأدرك حقيقتها.

2. وقال بعضهم: هو من استكمل ثلاثة شروط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان: إحداهما، أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر؛ وهذا مقصّر في حق الاجتهاد، ولا يحلّ له أن يفتي، ولا يجوز. والثانية، أن يتساهل في طلب الرخص وتأوّل السنَّة؛ فهذا متجوز في دينه، وهو أشد إثماً من الأول.

3. ويذهب بعض العلماء إلى أن المُفْتِي، يكفي فيه أن يكون متبحراً في مذهب إمامه، فاهماً لكلامه، عالماً لراجحه من مرجوحه، خبيراً بالمرجوع عنه، من المرجوع إليه. فلا يشترط فيه أن يكون مستطيعاً لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، ولا متبحراً في الكتاب والسنَّة عالماً بوجوه مباحثهما.

وقد أيَّد أصحاب هذا الرأي كلامهم، بأن اشتراط الاجتهاد المطلق في المُفْتِي، يفضي إلى حرجٍ عظيمٍ، واسترسال الخلق في أهوائهم. ثم إن المُفْتِي، حينما يكون متبحراً في مذهب إمامه، يكون ذلك كافياً؛ إذ إنه يغلب على ظن العامي أن حكم الله عنده. والقضاء، وهو مركز عظيم، قد أجمع الناس على تنفيذ أحكام من تولاه، من دون مراعاة لحصول شرط الاجتهاد فيه؛ فليكن للمُفْتِي ما للقاضي، من حيث عدم اشتراط الاجتهاد فيه؛ بل إنه قد انعقد الإجماع على هذا النوع من الفتيا.

إضافة إلى ما تقدم، يحدّث التاريخ، أن أناساً برزوا، في العصور الزاهية للإسلام؛ وملأوا الدنيا بعلومهم وآرائهم الصائبة، وادعوا الاجتهاد المطلق، تبعاً لذلك. ومع ذلك، لم يُسَلّم لهم أهل عصرهم به. وإذا أضيف إلى ذلك، ما يشاهد من واقع الأمة الإسلامية، من كثرة الجهل بأحكام الدِّين، في كثير من أفرادها، وكثرة المشاغل، التي تنتاب الفئة المتخصصة بأحكام الشريعة الإسلامية، ما قد يحول بينهم وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد المطلق في أحكام شريعتها؛ تبين أنه لا يشترط في من يتبوأ هذا المنصب، أن تتوافر فيه صفة الاجتهاد المطلق.

دور المُفْتِي، إذاً، أن يستنبط أو يستشف مراد الله ورسوله، من خلال القرآن والسّنة؛ مستعيناً على ذلك، باللغة وعلومها، ومعرفة علوم القرآن والحديث، ومراعاة الواقع، وحال المستفتي، وصورة الواقعة الحادثة. وعليه أن يجتهد، كذلك، في استنباط أحكام القضايا المستجدة، التي لم ترد في قرآن، ولا سُـنَّة، ولا إجماع.
الفرق بين الفَتْوَى والقضاء

القضاء هو فصل الخصومات، وقطع المنازعات، على وجه خاص، بمقتضى تكليف من حاكم المسلمين، وفقاً لحكم الشرع. أمّا الفَتْوَى فحكم الشرع الذي يخبر عنه المُفْتِي بإفتائه.

وذكر العلماء جملة من الفروق، بين الفَتْوَى والقضاء، أهمها:

* قضاء القاضي إنشاء، لا إخبار، أي أنه ينشئ صيغة لحكم في مسألة، تعني الإلزام للشخص المعين، بما يعلم أن شرع الله يأمر به. أمّا الإفتاء، فهو محض إخبار بما هو مطلوب، شرعاً، من المسلم، أو بما هو مباح له.

* القضاء لا يكون إلاّ بلفظ منطوق. أمّا الفَتْوَى، فقد تكون بالقول، أو بالفعل، أو بالإشارة، أو بالكتابة

* في القضاء، يلزم المحكوم عليه قبوله، والعمل به؛ أخطأً كان القضاء أم صواباً. أمّا الفَتْوَى، فلا يلزم المستفتي قبولها، أو العمل بها، ما لم يعلم أنها صحيحة، وموافقة للشريعة.

* فَتْوَى المُفْتِي، هي أعظم خطراً وأهمية من قضاء القاضي؛ لأنها تُعد تشريعاً عاماً، يتعلق بالسّائل وغيره. أمّا حكم القاضي، فهو خاص، لا يتجاوز المحكوم عليه، أو المحكوم له.

* القضاء يختص بالمعاملات فقط، أمّا الفَتْوَى، فتكون في المعاملات والعبادات، والأخلاق والآداب.

* القضاء يكون في الأمور الواجبة، أو المباحة، أو المحرمة؛ ولا يكون في الأمور المكروهة، أو المستحبة. أمّا الإفتاء، فيكون في تلك الأمور وغيرها.

* الفَتْوَى تلزم المستفتي، إذا كان متبعاً لمذهب المُفْتِي، ولا تُلزمه إن كان متبعاً غير مذهبه. بخلاف القضاء فإنه يلزم الجميع. فالفَتْوَى أعم من القضاء، وأخص لزوماً.

* يشترط في القاضي الحرية والذكورة والسّمع، وأن لا يحكم في قضية، أحد اقربائه خصم فيها. أمّا المُفْتِي، فلا يؤثر في صحة فتواه، كونه امرأة أو عبداً أو أصمَّ أو أعمى، أو أن يفتي لقرابته؛ لأن الفتيا غير ملزمة، خلاف القضاء. (انظر ملحق هل الذكورة شرط لتولي القضاء؟).

* حكم القاضي، لا يُنقض باجتهاد مثله؛ ولو حكم غيره بخلافه، لم يكن نقضاً لحكمه. أمّا الفَتْوَى، فيحق لكل مُفْتٍ النظر في ما أفتى به غيره، والإفتاء بخلافه، أو موافقته.
موجز لتاريخ نشأة الفتوى
كان رسول الله ـ إن صحَّ التعبيرـ أول من تبوأ منصب الإفتاء؛ إذ كان رسولاً، ومُفْتِياً، يعلم الناس أمور دينهم، ويبلّغهم شرع ربهم، ويفتيهم في ما يستجدّ لهم من حوادث. ثم خلفه في ذلك خلفاؤه الراشدون، فقاموا بمنصب الإفتاء خير قيام. كما نهض التابعون من بعدهم بمهام الإفتاء على سنن من سبقهم. وبلغ الإفتاء والاجتهاد ذروته، على أيدي الفقهاء الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ابن حنبل، وغيرهم؛ حيث كثرت المستجدات، فدعت إلى الإمعان في الفكر والاستنباط. فضلاً عن أن المصادر الاجتهادية، قد ضبطت، وضيِّقت دائرتها؛ فمُنع الاجتهاد إلاّ في إطارها، بَلْهَ الاجتهاد في مورد النص.

ولئن بلغ الاجتهاد والإفتاء ذروتهما في عهد الفقهاء الأربعة، فإن الاجتهاد، بعدهم، اطَّرد ضعفه؛ بل انهار، واكتُفي بتقليدهم؛ بل نودي بإقفال باب الاجتهاد، حؤولاً دون التلاعب بأحكام الشريعة، وإصدار الفتاوي الباطلة، تحت ضغط المصالح الخاصة للحكام.
فَتَاوَى الرسول واجتهاداته

كانت فَتَاوَى الرسول الكريم إخباراً عن حكم الله، وتبليغاً لوحيه. شملت كافة أبواب الشريعة، ومختلف مناحي الحياة، وغدت أحكاماً عامة، يلتزم بها الناس، إلى يوم القيامة. فإن كان بعض من فتاواه اجتهاداً منه، إلاّ أنه لم يكن يُقر فيها على خطأ؛ إذ كان الوحي ينزل، من الفور، بتصحيح الوقائع. ولا أدلّ على ذلك من معاتبة الله لنبيه في قبوله الفداء في أسرى بدر من الكفار، بدلاً من قتلهم، قال ـ تعالى ـ: )مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (الأنفال: 67). وما فعل الرسول ذلك إلاّ اجتهاداً منه؛ عملاً بعموم العفو والصفح، المأمور به من ربه، قبل نزول آيات القتال؛ ولحاجة المسلمين إلى المال، الذي يقويهم؛ ومصداقاً لمكارم الأخلاق، من العفو عند المقدرة. ومعاتبته له كذلك، في ردِّه على خولة بنت ثعلبة، حين سألته عن ظهار زوجها،(أي قوله لها أنت عليّ حرام كظهر أمي)، فاجتهد النبي بأنها قد حَرُمت عليه؛ فظلّت تجادله، حتى قالت أخيراً: إني أشتكي إلى الله؛ فنزل الوحي بتخطئة اجتهاده: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (المجادلة: 1-4).

وظلّ الرسول، طوال حياته بعد بعثته، هو المرجع الوحيد للمسلمين؛ يجتهد لهم في شؤون دينهم ودنياهم. فقد أتته، مثلاً، امرأة فَقَالَتْ: )يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ. أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال:َ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟ قَالَت:ْ نَعَمْ. قَال:َ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ( (صحيح مسلم: 1938). وأتاه رجل، منكراً لولده، الذي جاءت به امرأته أسودَ اللون. فقال له رسول الله: )هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَال:َ نَعَم.ْ قَال:َ مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ حُمْر.ٌ قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق؟ (أي أبيض اللون كالفضة). قَال:َ نَعَم.ْ قَال:َ فَأَنَّى ذَلِك؟َ قَال:َ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْق!ٌ قَال:َ فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْق( (البخاري: 4893). وكان في ذلك الحكمة البالغة من تعليم الأمة، وتدريبها على الاجتهاد في الأحكام واستنباطها. ولم تكن فتاواه كلها اجتهاداً، بل إن هناك أموراً، سُئل فيها، فتوقف عن الإجابة، منتظراً الوحي. ومن ذلك:

1. أنه لمّا نزل قوله تعالى: )وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( (الأنعام: 152)، ثم قوله تعالى )إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا( (النساء: 10)، سارع من كان عنده يتيم إلى عزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يَفْضُل من طعامه، فيحبسه حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله، فأمسك عن الفتوى إلى أن أنزل الله تعالى: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (البقرة:220)، فخلطوا طعامهم بطعام اليتامى، وشرابهم بشرابهم.

2. ومن ذلك، ما جاء في بَاب غَسْلِ الْخَلُوقِ مِنْ الثِّيَابِ (أي الثياب التي عليها عطور) ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ أن رجلاً جاء إلى النبي، بعد الإحرام بالعمرة، متضمخاً بالطيب، محرماً في جبة، يسأل عن حكم إحرامه في حاله تلك. فنظر إليه رسول الله، ولم يجبه؛ فجاءه الوحي، فلما سرّي عنه التمس الرجل، فجيء به، فأمره بما أوحي إليه، قائلاً: )اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ. وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ. وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ، كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ( (صحيح البخاري: باب غسل الخلوق).

3. وسُـئل النبي عن ضالة الإبل، فقال: )وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا( (البخاري: 89). ربها: أي صاحبها. وإذا كن عمل الخلفاء بعده بخلافها، فقد كان ذلك منهم مراعاة  لمصالح العباد، آنئذ.

4. وسُئل عن ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فقال: )خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ( (البخاري: 89).

5. وسُـئل رسول الله صل الله عليه وسلم، عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقاً حتى توفي، فقضى لها النبي بمثل صداق نسائها، وعليها العدة ولها الميراث (ابن ماجه: 1881).

6. وسأله طارق بن سعيد عن الخمر يصنعها للدواء. فقال: )إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ( (مسند أحمد: 18104).

7. وسُـئل عن الرجل يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فقال: )مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ( (البخاري: 6904).

وغير ذلك كثير، نقل منه ابن قيم الجوزية أكثر من 150 صفحة.
في عهد الصحابة

كان الصحابة يخشون أن يجترئ الناس على القول في الدِّين، بلا علم، إلاّ اتباع الهوى والظن. وكانوا، كذلك، ينهون عن الاستفتاء في مسائل لم تقع. فلما سُئل عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ عن مسألة، فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قالوا: دعونا حتى تكون، تجشمناها.

وكان الواحد منهم، إذا اجتهد برأيه قال: "هذا رأيي. فإن يكن صواباً، فمن الله. وإن يكن خطأ، فمني؛ واستغفر الله". بيد أن الصحابة كان منهم مكثر من الفَتْوَى، ومقل؛ تجاوز عددهم مائة وثلاثين صحابياً، ما بين رجل وامرأة، والمكثرون منهم سبعة فقط، هم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وعائشة أُمّ المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ. أمّا الآخرون، فلا يُروى عن الواحد منهم إلاّ المسألة والمسألتان.

ومن الفتاوي المشهورة عن الصحابة، فَتْوَى علي بن أبي طالب، أن مدة الحمل، يمكن أن تكون ستة أشهر فقط. فقد جيء بامرأة متزوجة، وضعت بعد ستة أشهر، إلى عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، وأراد أن يقيم عليها حدّ الزنا، فمنعه علي؛ مستدلاً بقول الله: )وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا( (الأحقاف:15)، و)وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ( (البقرة: 233)، على أن مدة الرضاعة أربعة وعشرون شهراً، إذا اقتطعت من ثلاثين شهراً، يتبقى ستة أشهر، هي مدة الحمل.

وأفتى الفاروق، عمر بن الخطاب، بأن الحامل، المتوفى عنها زوجها، تنتهي عدتها بوضع الحمل، ولو بعد ساعة واحدة من وفاة زوجها؛ لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )وأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ( (الطلاق: 4). ولكن عليَّ بن أبي طالب، أفتى بأن عليها أن تعتد بأبعد الأجلَين، إمّا أربعة أشهر وعشراً؛ لقوله تعالى: )وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( (البقرة: 234)؛ أو بوضع الحمل، إذا زادت مدته على ذلك. وأفتى أبو بكر بتوريث الجد، مثل الأب، سواء بسواء. وأفتى زيد بن ثابت بأن الجدّ، إما أن يُعامل معاملة الأخ، أو يأخذ سدس جميع المال، أو يأخذ ثلث باقي المال، بعد أصحاب الفروض. وغير ذلك كثير.
في عهد التابعين

انتشر الصحابة في البلاد المفتوحة، بعد وفاة عمر بن الخطاب؛ وأصبح لهم تلاميذ. فكان أهل المدينة، يتبعون فتاوي ابن عمر وزيد بن ثابت. واتبع أهل مكة فتاوي ابن عباس. واتبع أهل الكوفة فتاوي ابن مسعود. كما اعتمد أهل البصرة فتاوي أبي موسى الأشعري وأنس بن مالك. واتبع أهل الشام فتاوي معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت. وكل صحابي من هؤلاء، خرّج سلسلة من العلماء، انتهت بأئمة أعلام. ومثال ذلك، أن علقمة بن قيس النخعي[3]، كان من أبرز تلاميذ ابن مسعود. وعن علقمة، أخذ إبراهيم النخعي، وعن إبراهيم، أخذ حماد بن أبي سليمان[4]. وعن حماد، أخذ الإمام أبو حنيفة النعمان. وعن ابن عمر، أخذ مولاه، نافع[5]. وعن نافع أخذ الإمام مالك، ثم الإمامان الشافعي وأحمد.

وظهرت مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي. وظهرت أدلة جديدة للأحكام، تلقاها العلماء بالقبول؛ وصارت هي القواعد المعمول بها، إلى يومنا هذا؛ ومنها: القياس، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، واعتبار العرف الصالح، والبراءة الأصلية ( أي اعتبار أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح بالتحريم)، وسدّ الذرائع (أي دفع المفاسد)، وعمل أهل المدينة.

وبعد منتصف القرن الرابع الهجري، انتهى دور الأئمة المجتهدين؛ وراج التقليد. وساعده على الرواج تفكك الدولة الإسلامية؛ وتعصب أتباع المذاهب لمذاهبهم؛ وشدة الحكام، وخشية كثير من العلماء لهم، حتى إن كثيراً من القضاة والمُفْتِين، خضعوا لإرادات الحكام.

 

[1] هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي. ولد في أيام الصحابة، كابن عمر وجابر، ولحق عبد الله بن أبي أوفى وسمع منه، وحدّث عن جماعة من كبار التابعين. وكان من أوعية العلم. قال أبو إسحاق الجوزجاني: رأيت أحمد بن حنبل يعجبه حديث الشيباني. وقال البخاري: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومائة. راجع: سير أعلام النبلاء للذهبي :ج6 ص 193.

[2] ابن حمدان الحراني الحنبلي ( 603 - 695 هـ = 1206 - 1295 م)، أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان النميري الحراني، أبو عبد الله، فقيه حنبلي أديب. ولد ونشأ بحران، ورحل إلى حلب ودمشق، وولي نيابة القضاء في القاهرة، فسكنها وأسن وكف بصره وتوفي بها. راجع : الأعلام للزركلي.

[3] علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان ابن كهل. فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها الإمام الحافظ المجتهد الكبير. وُلِد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، وهاجر في طلب العلم والجهاد ونزل الكوفة، ولازم ابن مسعود حتى رأس في العلم والعمل، وتفقه به العلماء وبعد صيته. حدّث عن عمر وعثمان وعلي وسليمان وأبي الدرداء، وطائفة سواهم. وجوّد القرآن على ابن مسعود، وتفقه به أئمة، كإبراهيم والشعبي، وتصدى للإمامة والفتيا بعد علي وابن مسعود. يُقال تُوفي في خلافة يزيد سنة خمس وستين. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي ج4 ص53ـ61.

[4] هو العلامة الإمام فقيه العراق، أبو إسماعيل بن مسلم الكوفي، أصله من أصبهان. روى عن أنس بن مالك، وتفقه بإبراهيم النخعي، وهو في عداد صغار التابعين. أشهر تلامذته: الإمام أبو حنيفة، وابنه إسماعيل بن حماد، والحكم بن عتيبة. كان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء له ثروة وحشمة وتجمل. من أفضل أقواله: "إني أن أكون تابعاً في الحق خير من أن أكون رأساً في الباطل". كان يفطر في شهر رمضان خمس مئة إنسان، وكان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مئة درهم. مات حماد سنة عشرين ومائة. راجع: سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، ج5، ص119.

[5] هو نافع بن جبير ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، الفقيه الإمام الحجة، وقال ابن حبان: كان من خيار الناس، كان يحج ماشياً وناقته تقاد، وكان يخضب بالوسمة. توفي سنة تسع وتسعين. سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، ج4، ص56.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:40 pm


       
الفصل الثاني
أهمية الفَتْوَى، وخطر الإفتاء بغير علم

كان الناس، في زمن النبي، يسألونه عن كل شيء: عن الساعة، وعن الروح، وعن الجبال، وعن المحيض، وعن الأهلة، وعن الخمر والميسر، وعن اليتامى... وغير ذلك كثير. فيجيبهم، بما يوحي به الله إليه. مصداقاً لقوله تعالى: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( (النحل: 44). فجاءت فتاويه جوامع للأحكام، واجب على الأمة اتّباعها. ولا يحلّ لمسلم العدول عنها، ما وجد إليها سبيلاً. وقد أمر الله بالعودة إليها، حيث يقول: )فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( (النساء: 59).

وبعد وفاة النبي، مسّت الحاجة إلى من يجيب عن استفسارات الناس، في أمور دينهم ودنياهم. إذ على الرغم من وجود القرآن والسنّة، بين أيدي الناس جميعاً؛ إلاّ أنه ليس في إمكان جميعهم معرفة الشرع، من دون وجود من يدلهم عليه، ويبين حلاله وحرامه. لهذا، كان لا بدّ من وجود طائفة، تتفقه في أمور دينها، وتفقه الناس فيها؛ قال ـ تعالى ـ: )فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ( (التوبة: 122). وذلك حتى لا يتخبط الناس في دينهم، (فيقعون في الحرام، ويجتنبون الحلال) ، ويرتكبون المعاصي من حيث لا يشعرون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ونظراً إلى أهمية الفَتْوَى؛ إذ هي ميزان الشريعة في المجتمع، فقد حرم الله ـ عزّ وجلّ ـ القول عليه بغير علم، وجعله من أعظم المحرمات: )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( (الأعراف: 33).

فرتب المحرمات أربع مراتب. وبدأ بالفواحش، وثنّى بما هو أشد تحريماً منها، وهو الإثم والظلم؛ فثلث بما هو أعظم تحريماً منهما، وهو الشرك به؛ ثم ربّع بما هو (أشبه بالشرك) ، وهو القول عليه بلا علم. وقال تعالى: )وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النحل: 116، 117).

يتوعّد الله المتقولين على أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه، هذا حرام، ولما لم يحله، هذا حلال. وهذا بيان منه، أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام، إلاّ بما علم أن الله أحله وحرمه. كذلك رهّب النبي من ليس أهلاً للفَتْوَى من التصدر لها، ذلك الذي "يفتي في المسألة، لو وردت على صحابي جليل، لجمع لها إخوانه من بقية الصحابة؛ فقال: )مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ( (أبو داود: 3172). ورهّب أهل الفَتْوَى من التسرع والجرأة عليها، فقال: )أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ( (الدارمي: 152). ورهّب الناس من ترك العلم، حتى لا يتصدر الجهال للفَتْوَى، فقال: )إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ. وَلَكِنْ، يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا( (البخاري: 98). وقال بعض السلف: ليتق أحدكم، أن يقول: أحلّ الله كذا، وحَرّم كذا؛ فيقول الله له: كذبت، لم أحلّ كذا، ولم أحَـرّم كذا.

وكان السلف الصالح، من الصحابة والتابعين، يكرهون التسرع في الفَتْوَى. و"كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيا أقلّكم علماً. وقد قال ابن مسعود: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه، لمجنون. وودّ كلّ واحد منهم، لو أن أخاه يكفيه إياها. فإذا رأى أنها تعينت عليه، جهد في معرفة حكمها، من الكتاب والسنّة، ثم أفتى. قال سفيان الثوري[1]: "أدركنا الفقهاء، وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بداً من أن يُفتوا. وإذا أعفوا منها، كان أحب إليهم". وقال ابن أبي ليلى[2]: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار، من أصحاب رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلاّ ود أن أخاه كفاه". وقال أبو حسين الأزدي[3]: "إن أحدهم يفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها، أهل بدر".

وكان كثير من الأئمة يتورعون عن قول: حرّم الله كذا، وأحلّ كذا؛ حتى لا يتعرضوا للوعيد المذكور في الآية الكريمة. وكانوا يقولون: أُحب كذا وأكره كذا، ويعجبني كذا ولا يعجبني كذا. كما قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ في الجمع بين الأختَيْن بملك اليمين (أي أن تكونا أختَيْن فيشتريهما رجل واحد؛ فيستمتع بهما): أكرهه، ولا أقول هو حرام؛ ومذهبه تحريمه. وقال أبو القاسم الخرقي[4]، في ما نقله عن أحمد: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة؛ ومذهبه أنه لا يجوز. وقال: لا يعجبني المكحلة والمرود، من الفضة. وقد صرح بالتحريم، في عدة مواضع؛ وهو مذهبه. وَسُئل عَمَّنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ . فَقَالَ: لا أتَكَلَّمْ فِي هَذَا، الإِمْسَاكُ أَحَبُّ إلَيَّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِ الإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ عَنْ لَعْنِ غَيْرِهِ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: )قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً( (مسلم: 4704). وقال أبو يوسف[5] ومحمد[6]: يكره النوم على فرش الحرير، وتوسد وسائده؛ ومرادهما التحريم. وقد نص الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ على كراهة الشطرنج؛ وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم. وحمله بعضهم على الكراهة، التي هي دون التحريم.

وقال الإمام الشافعي ـ يرحمه الله ـ في اللعب بالشطرنج، إنه لهو شبه الباطل: أكرهه، ولا يتبين لي تحريمه. وقد كان الإمام مالك يقول في ما يجتهد فيه برأيه: إن نظن إلاّ ظناً، وما نحن بمستيقنين.

قال الحافظ بن رجب[7]: ومن عدم طلب الشرف بالدِّين، كراهة السلف الصالح الجرأة على الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها. وسُئل عمر بن عبدالعزيز عن مسألة، فقال: "ما أنا على الفتيا بجريء". وكتب إلى بعض عماله: "إني والله ما أنا بحريص على الفتيا ما وجدت منه بدّاً، وليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه، وإنما هذا الأمر لمن ود أنه وجد من يكفيه". وعنه أنه قال: "أعلم الناس بالفَتَاوَى أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم".

وقال الإمام أحمد: من عَرَّض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر عظيم؛ إلاّ أنه قد تلجئ إليه الضرورة. قيل له: فأيهما أفضل الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحَبّ إليَّ. قيل له: فإذا كانت الضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة، الضرورة، الإمساك أسلم له. وقال عمرو بن دينار[8] لقتادة[9]، لمّا جلس للفتيا: أتدري في أي عمل وقعت؟ وقعت بين الله وبين عباده. وقلت: هذا يصلح، وهذا لا يصلح.

وكان ابن سيرين[10]، إذا سُئل عن الشيء، من الحلال والحرام، تغيّر لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان. وكان النخعي يُسأل، فتظهر عليه الكراهة، ويقول: ما وجدتَ أحداً تسأله غيري؟ وقال: قد تكلمتُ، ولو وجدت بداً ما تكلمت، وإن زماناً أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء. وقال بعض العلماء لبعض المُفْتِين: إذا سُـئلت عن مسألة، فلا يكن همّك تخليص السائل؛ ولكن تخليص نفسك، أولاً. وسُئل الشافعي عن مسألة، فسكت. فقيل: "ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب". وأُثر عنه، أنه قال: "ما رأيت أحداً، جمع الله فيه، من آلة الفتيا، ما جمع في ابن عيينة. وما رأيت أسكت عن الفتيا منه".

قال الخطيب البغدادي[11]: "وقلّ من حرص على الفَتْوَى، وسابق إليها، وثابر عليها، إلاّ قلَّ توفيقه، واضطرب في أمره. وإذا كان كارها لذلك، غير مختار له، وما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له، من الله، أكثر، والصلاح، في فتواه وجوابه، أغلب". وقد قال النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ لعبد الرحمن بن سمرة: )يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا. وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا. وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ( (البخاري: 6613). وذلك أن الأمير، في العهد الأول من الإسلام، كان هو الذي يفتي الناس، ويقضي بينهم.

قال ابن القيم: "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، (وهذه مذمومة). وتكون من غزارته وسعته. فَمَن قل علمه، أفتى عن كل ما يُسأل بغير علم. ومن اتسع علمه اتسعت فتياه. ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا، وقيل إن فتاواه جُمعت في عشرين سفراً. وكان سعيد بن المسيب[12] أيضاً واسع الفتيا، وكانوا يسمونه الجريء، كما ذكر ابن وهب[13] عن أبي إسحاق، قال: كنت أرى الرجل في ذلك الزمان. وإنه ليدخل يسأل عن الشيء، فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس، حتى يُدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب، كراهية للفتيا، قال: وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء.

وسُئل عامر الشعبي[14] عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري؛ وأنت فقيه أهل العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: )لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا( (البقرة: 32).

وقال عتبة بن مسلم[15]: صحبت ابن عمر، أربعة وثلاثين شهراً. فكان كثيراً ما يُسأل، فيقول: لا أدري. وكان سعيد بن المسيب، على جرأته، لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً، إلاّ قال: اللهم سلّمني، وسلّم مني.

وسُـئل القاسم بن محمد[16] عن شيء، فقال: إني لا أحسنه. فقال له السائل: إني جئتك، لا أعرف غيرك. فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله، ما أحسنه! فقال شيخ من قريش، جالس إلى جنبه،: يا ابن أخي، الزمها؛ فوالله، ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم! فقال القاسم: والله، لأن يُقطع لساني، أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا علم لي به.

وكتب سلمان إلى أبي الدرداء وكان بينهما مؤاخاة: "بلغني أنك قعدت طبيباً (أي مُفْتِياً). فاحذر أن تكون متطبباً (أي دعياً)، أو تقتل مسلماً. فكان ربما جاءه الخصمان، فيحكم بينهما؛ ثم يقول ردوهما عَلَيَّ، متطبب، والله! أعيدا عليَّ قضيتكما".

وقد كره العلماء للعالم التصدر الفَتْوَى، إذا وجد مَن يتصدى لمنصب الفَتْوَى ويصلح لها غيره، أمّا إن كان غيره لا يصلح لها، فإن التصدي للإفتاء يكون واجباً في حقه، عندئذٍ. وكذلك الحال إن وجد من يصلح لمنصب الفَتْوَى غيره، إلاّ أنه أفضل منه، فيسنّ له الطلب عند ذلك. ونظراً إلى خطر الإفتاء وأهميته، فقد أوجب الفقهاء على ولي الأمر، أن يتفقد أحوال المُفْتِين؛ فيقر صالحهم، ويستبدل سيئهم. وسبيله إلى معرفة من يصلح للفَتْوَى، أن يسأل عنه علماء عصره، الموثوق بهم. فقد روي عن الإمام مالك أنه قال: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون، أني أهلٌ لذلك".

 

[1] أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الربابي التميمي المضري (97 ـ 161 هـ)، من بني ثور من حلف الرباب. يقول عنه الذهبي: "هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع". وقال علي بن الحسن بن شقيق عن عبد الله: "ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان". راجع:  سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج7، ص 229.

[2] ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، العلامة، الإمام مفتي الكوفة وقاضيها، الأنصاري الكوفي. ولد سنة نيف وسبعين هـ، ومات أبوه وهو صبي. تعلم على يدي أخيه عيسى عن أبيه، وأخذ عن الشعبي ونافع العمري وعطاء ابن أبي رباح والقاسم بن عبد الرحمن بن عبدالله بن مسعود والمنهال، وغيرهم كثير. وكان نظيراً للإمام أبي حنيفة في الفقه. توفي عام 148هـ في شهر رمضان. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج6، ص 310.

[3] هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني، أبو الحسن البلخي، صاحب التفسير. قال العسقلاني: قال ابن حبّان: كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبّهاً، يشبّه الربّ سبحانه وتعالى بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث، أصله من بلخ، وانتقل إلى البصرة فمات بها عام 150 هـ. انظر: ميزان الاعتدال 6/505، رقم 8747، تهذيب التهذيب 8/320 ـ 325، رقم 7146، وفيات الأعيان 5 / 255 رقم 733.

[4] الخرقي: العلامة شيخ الحنابلة أبو القاسم، عمر بن الحسين بن عبد الله، البغدادي الخرقي الحنبلي، صاحب المختصر المشهور في مذهب الإمام أحمد. كان من كبار العلماء، تفقه بوالده الحسين صاحب المروذي وصف التصانيف. قال القاضي أبو يعلى: كانت لأبي القاسم مصنفات كثيرة لم تظهر؛ لأنه خرج من بغداد لما ظهر بها سب الصحابة، فأودع كتبه في دار، فاحترقت الدار. توفي عام 334هـ.

[5] أبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم الكوفي، سلالة أحد الصحابة، ولد عام 113 من الهجرة، وتوفي عن سبع وستين سنة عام 189 هجرية. قاضي القضاة، العلامة المجتهد المحدث، صاحب أبي حنيفة، وهو المقدم بين أصحابه؛ إذ يعدّ أول من دوّن الكتب في مذهب الحنفية، وقد ساعده منصبه في القضاء على أن يمكّن لمذهب أبي حنيفة الذيوع والانتشار. أنجب تلاميذ أبي حنيفة وأعلمهم وأكبرهم، وقام بتدوين فقهه ونشر مذهبه، وتولى القضاء في دولة بني العباس، واستحدث له هارون الرشيد منصب قاضي القضاة، فاشتهر بحسن السيرة والعدل في قضائه، وكانت أهم أعماله في هذا المجال أنه استطاع توحيد الأمة على قانون واحد هو الفقه الحنفي.

[6] محمد بن الحسن الشيباني هو صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان، وناشر مذهبه وفقيه العراق. وله فضل كبير في تدوين مذهب الحنفية، على الرغم من أنه لم يتتلمذ على شيخه أبي حنيفة إلاَّ لفترة قصيرة، واستكمل دراسته على يد أبي يوسف، وأخذ عن سفيان الثوري والأوزاعي، ورحل إلى مالك بن أنس في المدينة، وتلقى عنه فقه الحديث والرواية. تولى القضاء زمن هارون الرشيد. توفي في الري بواسط سنة (189هـ = 805م).

[7] هو الامام العلامة زين الدين عبد الرحمن بن احمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي. ولد في بغداد، سنة 736هـ، لأسرة علمية. شب فيها على العلم وتقديره، فأبوه من أهل الفضل والعلم، وكان يقرأ بالروايات الموثقة في الحديث. من شيوخه: ابن قيم الجوزية، وابن جماعة، وأحمد عبد الهادي المقدسي، وابن العطار. ومن تلاميذه القاضي ابوبكر الحنبلي والزركشي وغيرهم كثير. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي

[8] عمرو بن دينار: الإمام الكبير الحافظ أبو محمد الجمحي المكي (الأثرم)، من أوساط التابعين وشيخ الحرم في زمانه. ولد في إمرة معاوية، عام 45 هـ، وسمع من ابن عباس وجابر بن عبد الله وابن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن جعفر وأبي الطفيل وغيرهم من الصحابة. كان من أوعية العلم وأئمة الاجتهاد. قال عبد الله بن أبي نجيح: "ما رأيت أحداً قط أفقه من عمرو بن دينار، ولم يكن بأرضنا أعلم من عمرو بن دينار، ولا في جميع الأرض". روى أحمد بن حنبل: كان عمرو بن دينار جزأ الليل ثلاثة أجزاء ثلثاً ينام، وثلثاً يدرس حديثه، وثلثاً يصلي. سير أعلام النبلاء، ج5 ص 307

[9] هو قتادة ابن دعامة السدوسي البصري الضرير. ولد عام 60 هـ.  وروى عن عبد الله بن سرجس وأنس بن مالك وأبي الطفيل الكناني وخلق كثير. وكان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. قال محمد بن سيرين: قتادة أحفظ الناس. ومن أقواله: "الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر"، و"ما سمعت أذناي شيئا قط إلاّ وعاه قلبي"، و"إياكم والتكلف والتنطع والغلو والإعجاب بالأنفس، تواضعوا لله لعل الله يرفعكم". وقال الإمام أحمد: "كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئا إلاّ حفظه". توفي عام 118 هـ. راجع: سير أعلام النبلاء، ج5، ص269.

[10] هو محمد بن سيرين: شيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري الأنسي البصري مولى أنس بن مالك، خادم رسول الله. سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وعدي بن حاتم، وابن عمر، وعبيدة السلماني، وشريحا القاضي، وأنس بن مالك، وخلقاً سواهم. وروى عنه قتادة، وأيوب، ويونس بن عبيد، وابن عون، وخالد الحذاء، وهشام بن حسان. ولد عام 21هـ، ومات وهو ابن ثمان وسبعين، وأدرك ثلاثين صحابياً. وقال عوف الأعرابي: كان ابن سيرين حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب. وقال محمد بن جرير الطبري: كان ابن سيرين فقيهاً عالماً ورعاً أديباً، كثير الحديث، صدوقاً، شهد له أهل العلم والفضل بذلك وهو حجة. وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.  كانوا إذا ذكروا عنده رجلاً بسيئة، ذكره هو بأحسن ما يعلم. مات عام 110 هـ.

[11] هو أحمد بن علي بن ثابت، المعروف بالخطيب البغدادي، ولد في 24 جمادى الثاني 392هـ الموافق 10 مايو 1002م. مؤرخ عربي. له مصنفات كثيرة، بلغت ستة وخمسين مصنفاً. من أشهر مؤلفاته: "كتاب تأريخ بغداد"، الذي جمع فيه ترجمة العلماء، الذين عاشوا فيها حتى أواسط القرن الخامس الهجري. ولد في غزية من قرى الحجاز، ونشأ في درزيجان، وهي قرية تقع جنوب غرب بغداد. كان أبوه خطيب وإمام درزيجان لمدة عشرين عاماً. أهتم به أبوه؛ فكان شديد الحرص على إرساله لمن يعلمه القرآن والآداب المختلفة، ثم صار يتردد على حلقات العلم في بغداد، والتي كانت في ذلك الوقت منار العلم ومركزه في العالم الإسلامي. ثم انتقل إلى البصرة وهو في العشرين من عمره والتقى بعلمائها الكبار، وأخذ عنهم، ثم عاد إلى بغداد في السنة نفسها. وفي تلك الأثناء كان اسمه قد بدأ في الانتشار والشيوع، ثم عاود الرحلة، حتى إذا استقر بنيسابور بدأ في الاتصال بعلمائها وشيوخها. تنقل بين دمشق وصور وبيت المقدس والعديد من مدن بلاد الشام. وبعد عودته من الشام إلى بغداد تولى التدريس في حلقته بجامع المنصور، واجتمع حوله طلابه وأصحابه حتى توفي فيها عام 463 هـ. راجع: الدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسة، "دليل خارطة بغداد المفصل"، ط المجمع العلمي العراقي، 1958.

[12] هو سعيد بن المسيب ابن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم بن يقظة، الإمام العلم القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه. ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، رضي الله عنه، بالمدينة. رأى عمر، وسمع عثمان وعلياً وزيد بن ثابت وأبا موسى وسعدا وعائشة وأبا هريرة وابن عباس ومحمد بن سلمة وأم سلمة وخلقاً سواهم. ومن حديث سعيد بن المسيب ابن حزن، أن جده حزنا أتى النبي،  فقال: )ما اسمك، قال: "حزن"، قال: بل أنت سهل(. قال: يا رسول الله اسم سماني به أبواي، وعُرفت به في الناس. فسكت عنه النبي. قال سعيد فما زلنا تعرف الحزونة فينا أهل البيت. قال عثمان بن حكيم: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلاّ وأنا في المسجد. وعن قدامة بن موسى قال: كان ابن المسيب يفتي والصحابة أحياء. وعن محمد بن يحيى بن حبان قال: كان المقدم في الفتوى، في دهره، سعيد بن المسيب، ويقال له فقيه الفقهاء. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقضي بقضية، وهو أمير المدينة، حتى يسأل سعيد بن المسيب. مات سنة أربع وتسعين من الهجرة.  راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج4، ص217ـ 246.

[13] هو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم، الفقيه المالكي المصري، المولود في الفسطاط سنة 125 هـ. لزم الإمام مالكاً أكثر من عشرين سنة. وقضى حياته كلّها في طلب العلم. لقّبه الإمام سفيان بن عيينة بشيخ أهل مصر. سمع ابن وهب من شيوخ مصر والحجاز والعراق. وقد قيل: إن شيوخه، الذين أخذ عنهم يزيدون عن أربعمائة، إلاّ أنه أطال الجلوس عند الإمام مالك، تعلّم على يديه حتى صار عالماً جليلاً. وكان الإمام مالك يحبه ويقدّره، حتى قيل: إنه ما نجا أحد من زجر الإمام مالك إلاّ ابن وهب. وقد كان يلقبه بالفقيه، وكان يسمح له بالكتابة عنه، ثم لا يجد مانعاً لمراجعة ما كتبه عليه. وكان ابن وهب أحد ناشري المذهب المالكي في مصر؛ لأن الكثيرين  كانوا لا يستطيعون السفر إلى المدينة المنورة، فكانوا يذهبون إلى ابن وهب يتعلمون منه الفقه المالكي. وقد عُرف ابن وهب بكثرة رواية الأحاديث. وعندما كان الناس يختلفون في شيء على الإمام مالك كانوا ينتظرون قدوم ابن وهب من مصر ليسألوه. وقد رفض أن يتولى القضاء في مصر، عندما كتب إليه الخليفة بذلك، فحجب نفسه ولزم بيته، فرآه رشدين بن سعد وهو يتوضأ في صحن بيته فقال له: ألا تخرج إلى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسوله صل الله عليه وسلم؟ فرفع ابن وهب رأسه إليه وقال له: إلى هنا انتهى عقلك؟ أما علمت أن العلماء يُحشرون مع الأنبياء والقضاة يُحشرون مع السلاطين؟. توفي سنة 197 هـ عن اثنين وسبعين عاماً. راجع: سير أعلام النبلاء

[14] هو عامر بن شراحيل الشعبي، من شعب همدان، كنيته أبو عمرو. كان علامة أهل الكوفة، وكان إماماً حافظاً، ذا فنون. وقد أدرك خلقاً من الصحابة وروى عنهم وعن جماعة من التابعين، وعنه أيضاً روى جماعة من التابعين. توفي سنة 100 هجرية. راجع: سير أعلام النبلاء، ج4، ص 294ـ 319.

[15] هو عتبة بن ابى عتبة، مولى بنى تيم، روى عن ابى سلمة بن عبد الرحمن ونافع بن جبير وحمزة بن عبد الله بن عمر وعبيد بن حنين وعكرمة. روى عنه سعيد بن ابى هلال وسليمان بن بلال ومحمد وإسمعيل ابنا جعفر بن ابى كثير.

[16] هوالقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة. كان ثقة عالماً فقيهاً رفيعاً، إماماً ورعاً، كثير الحديث. مات أبوه وهو لا يزال جنينًا. وربته عمته أم المؤمنين، عائشة بنت أبي بكر، التي أخذ علمه وفقهه منها، مثله في ذلك مثل ابن عمته عروة بن الزبير بن العوام، وعن حبر الأمة عبد الله بن عباس، وعن عبد الله بن عمر، وعن أبي هريرة الرواية عن رسول الله صل الله عليه وسلم. اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته، ولكن الأرجح أن وفاته كانت سنة ثمان ومائة. وكانت سنه عند وفاته ثلاثاً وسبعين سنة أو سبعين، حسب اختلاف الروايات في تاريخ وفاته. راجع: سير أعلام النبلاء، ج5، ص53.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:40 pm


       

الفصل الثالث

تغيّر الفَتْوَى واختلافها بتغيّر ظروفها

قد تتغير الفَتْوَى، باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال؛ إذ أساس الشريعة ومبناها، مصالح العباد في المعاش والمعاد. ومن أمثلة تغير الفَتْوَى بتغير الزمان والمكان، أن النبي نهى أن تُقطع أيدي السارقين، في الغزو، فقد ورد: "أَنَّ بُسْرَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَجَدَ رَجُلاً، سَرَقَ فِي الْغَزْوِ، يُقَالُ لَهُ مَصْدَرٌ، فَجَلَدَهُ؛ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ. وَقَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ الْقَطْعِ فِي الْغَزْوِ" (أحمد: 16968). فهذا حدّ من حدود الله، نُهي عن إقامته، في الغزو؛ خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين، حمية وغضباً. وقد نص عدد من العلماء على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وعند المجاعة. ومن ذلك، أن عمر بن الخطاب، أسقط القطع عن السارق، في عام الرّمادة.

إن المجتهد أو الفقيه أو المُفْتِي، لا يمكنه أن يمارس عمله، إلاّ عندما يكون مطلعاً على الواقع ومجريات الأمور فيه، وصور العيش والحياة لمن حوله، سواء منها ما يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق أو المعيشة؛ فيفتي ويجتهد في المسألة، على حسب الصورة الواضحة أمامه. لذلك، كان السلف، من الصحابة والتابعين والفقهاء، ينطلقون في فتاواهم واجتهاداتهم، من قاعدة: "تغير الفَتْوَى بتغير الزمان والمكان والأعراف والأحوال".

ولهذا، كان عمر بن الخطاب، يجتهد فيما يعرض له من الأمور، ويستشير من حوله في الحوادث، ويأمر قضاته في الأقاليم أن يفعلوا مثله؛ فيجتهدوا فيما يعرض لهم من أمور، ويستشيروا من عندهم من أهل البصيرة والعلم. وبهذا يقرر قاعدة اختلاف الأحكام الاجتهادية، باختلاف البيئات والأقطار؛ وهي نتيجة لازمة لسعة الدولة الإسلامية، وتفرق الصحابة فيها، واختلاف مشكلاتها وحوادثها.
أسباب تغير الفَتْوَى

1. النظر في العواقب

هناك كثير من الأفعال، المباحة أو المندوبة، بأدلة صحيحة، ربما ينجم عن تطبيقها، في ظروف معينة، مفاسد مبينة أو محتملة. لذلك، فلا تُطبق حتى تُستوفى شروط تحقيق المصلحة فيها. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  أحجم النبي عن قتل عبدالله بن أُبي بن سلول، رأس النفاق في المدينة؛ على الرغم من ثبوت أدلة تآمره مع الكفار، وتحالفه معهم لضرب المسلمين، وسبّه للنبي والمهاجرين، بقوله: "قد ثاورنا في بلادنا. والله! ما مثلنا وجلابيب قريش هذه، إلاّ كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. والله! لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل؛ ورميه عائشة بالزنا، في حادثة "الإفك"؛ وقوله: "لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا". وعلى الرغم من أن كثيراً من الصحابة، طلب من النبي قتل هذا المنافق؛ بل إن ابنه نفسه، وهو من صالحي الصحابة، جاء إلى النبي، وقال: إن كنت تريد قتل أبي، فمرني آتيك برأسه. إلاّ أن النبي رفض، قائلاً: )دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ( ولمّا مات هذا المنافق، كفنه النبي في ثوبه، وصلى عليه؛ على الرغم من احتجاج عمر، واستغفر له أكثر من سبعين مرة؛ متأولاً قوله تعالى: )اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً( (التوبة: 80). كلُّ هذا مراعاة لدفع المفاسد التي قد تترتب على ذلك.

ب. شكت زوجة عبدالله بن عمرو منه، عند رسول الله صل الله عليه وسلم، بأنه يبالغ في عبادته فيصوم كل يوم، ويقوم كل الليل، مهملا إيّاها؛ اعتقاداً منه أن هذا يقربه إلى الله أكثر. فقال له الرسول: )أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ. قال، قُلْت:ُ إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِك.َ قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِك،َ هَجَعََتْ عَيْنُك،َ وَنَفِهَت نَفْسُك،َ وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ حَقًّا؛ فَصُمْ، وَأَفْطِر،ْ وَقُم، وَنَمْ( (البخاري:1085). (هجعت: غارت وضعف بصرها لكثرة السهر، نفهت: كلّت وأعيت). فنهاه عن إرهاق نفسه، بتلك العبادة الشديدة، وضياع حقوق أهله، وبالتالي تتضرر مصالحه الدنيوية والأخروية، فيفوته خير كثير.

ج. عن عائشة، قالت: قال رسول الله: )أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ(. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ (البخاري: 1480).

في هذا الحديث بيان أنه كان يجب إعادة بناء الكعبة مرة أخرى على ما كانت عليه أيام إبراهيم عليه السلام، ولكن الرسول لا يفعل ذلك؛ لما يترتب عليه من مفاسد، فالعرب ألفوا هذا الوضع. وفي تغييره حرج عليهم، وربما ترددوا في إيمانهم بسبب ذلك.

د.  منع عمر بن الخطاب الزواج بالكتابيات؛ مراعاة لمصلحة واضحة, على الرغم من أن الله تعالى قد أحله. قال تعالى: )وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ( (المائدة: 5). ولمّا تزوج حذيفة بن اليمان امرأة يهودية بالمدائن، كتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه: أحرام يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا، حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة؛ لجمالهن. وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين". وفي رواية كتب إليه عمر فقال: أخاف أن تواقعوا المومسات منهن. لقد منع عمر أمراً مباحاً، هو زواج المسلم بالكتابية ؛ لما يترتب عليه من الضرر: سواء كان الوقوع في نكاح المومسات منهن؛ فتختلط الأنساب ويضيع الأولاد وتفسد الأخلاق، أو ربما يؤدي إلى ترك بنات المسلمين، ويكون الإقبال على نساء أهل الذمة، فينتشر الفساد بعدم الزواج.

هـ. سأل حميد الضمري ابن عباس فقال: إني أسافر، أفأقصر الصلاة أم أتمها؟ فقال ابن عباس: "لست تقصرها (يعني أن الصلاة في السفر ركعتَيْن سُنَّة، وهي تمام الصلاة وليس قصرها)، وإنما ذلك تمام بها، وسنة رسول الله؛ فقد خرج رسول الله آمناً، لا يخاف إلاّ الله، فصلى اثنتَيْن حتى رجع. وهكذا فعل أبو بكر وفعل عمر، ثم فعل عثمان ذلك ثلثي إمارته أو شطرها، ثم صلاها أربعاً. ثم أخذ بها بنو أمية. قال ابن جريج: فبلغني أنه أوفى أربعاً بمنى فقط؛ من أجل أن أعرابياً ناداه في مسجد الخيف بمنى: يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها ركعتَيْن، منذ رأيتك العام الأول صليتها ركعتَيْن، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس الصلاة ركعتَيْن. وإنما كان أوفاها بمنى. فعثمان خليفة المسلمين يترك القصر المشروع؛ لما يترتب عليه من مفسدة تغيير الصلاة، لما أخبره ذلك الأعرابي بأنه ما زال يصلي الظهر ركعتَيْن، ومن غير سفر، اعتقاداً منه أن هذا فرضها، إضافة إلى أنه قد كثر الحجاج من الأعراب في ذلك العام.

2. تشريع لحالة مؤقتة

قالت عائشة: دف (أي توافدوا ببطء) الناس من أهل البادية، فحضرت الأضحى. فقال رسول الله (وكان قبل ذلك قد نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام) : )إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ، الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا( (مسلم:3643). وهكذا، لما تضايق الناس، سألت عائشة رسول الله عن الأمر، فأخبرها أن الحكم ليس دائماً، بل هو مؤقت. قال القرطبي: فلو قدم على أهل بلد أناس محتاجون، في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة، يسدون بها فاقتهم، إلاّ الضحايا؛ لتعين عليهم ألا يدخروها، فوق ثلاث، كما فعل رسول الله مع أهل المدينة. وقد صلى علي ابن أبي طالب العيد بالناس، ثم خطبهم، فنهاهم عن الادخار فوق ثلاث، مذكراً إياهم بنهي النبي. وكان ذلك يوم كان عثمان محصوراً والفتنة قائمة، والناس في فاقة وجوع. وهكذا فإن من الأحكام ما تقرر لأجل مصلحة وقتية. فإذا زالت المصلحة، رجع الحكم إلى أصله، وإذا عادت المصلحة عاد الحكم.

3. الاستثناء للحاجة

المقصود بالاستثناء هو عدم تطبيق الحكم في حق فرد أو جماعة أو حالة، في الوقت الذي يطبق على آخرين؛ لعدم وجود مبرر. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  قال تعالى: )قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ( (النور: 23)، حتى يعيش الناس في عفاف. ولكن عندما يخطب الإنسان واحدة، ثم يتزوجها، دون أن يراها فربما كان مخدوعاً، فيندم، وتصبح الحياة الزوجية عسيرة. فلأجل مصلحة ديمومة الحياة الزوجية، وابتعاداً عن المشكلات، شُرع النظر للمخطوبة. فقال صل الله عليه وسلم، للمغيرة بن شعبة، لمّا أراد أن يتزوج امرأة: )انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا( (الترمذي:1007)، (أحرى: أجدر، ويؤدم: يؤلف).  فاستثنى حال إرادة الزواج من النظر حتى تدوم الحياة الزوجية.

ب. عن أبى هريرة: لما فتح الله تعالى على رسوله مكة، قام صل الله عليه وسلم؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: )إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَار،ِ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة:ِ لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تَحِلُّ لُقْطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ. فَقَالَ الْعَبَّاس:ُ يَا رَسُولَ اللَّه،ِ إِلاَّ الإِذْخِر؛َ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا، وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ الإِذْخِرَ( (أبو داود: 1725). فقد استثنى مما حرم قدر الحاجة، التي سألوها، فإن المنع من الحاجة، حرج على الناس: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( (الحج: 78).

4. تأجيل التطبيق

التأجيل هو عدم تطبيق حكم معين، في ظرف معين؛ لما يحدثه من مضاعفات، قد تخل بمقصود الشارع. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  عن زيد بن ثابت، أنه قال: "لا تقام الحدود في دار الحرب؛ مخافة أن يلحق أهلها بالعدو".

ب. وروي عن عمر، أنه قال: "ألا لا يجلدن أمير جيش أحداً الحد، حتى يطلع على الدرب؛ لئلا يحمله الشيطان أن يلحق بالكفار".

ج. عن علقمة، قال: غزونا أرض الروم، ومعنا حذيفة، وعلينا رجل من قريش. فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: "تحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم؛ يطمعون فيكم!" أو قال: "نكره أن يعلموا؛ فيكون جرأة منهم علينا، وضعفاً بنا".

واختلفت التعليلات حسب الأشخاص، فبعضهم لم يحدوا؛ خوفاً من اللحاق بالعدو، وهذا في الرجل العادي في الجيش، وعلل حذيفة عدم حد الأمير، الذي سكر؛ بالخوف من أن يطمع العدو فيهم، بإهانة أميرهم. ومهما كان التعليل، فالنتيجة أن الحد أُجّل، ولم يُقم؛ لعدم تحقق المصلحة من إقامته في ذلك الظرف، وترتب مفاسد عليه. ولهذا التأجيل أصل في السُّنَّة، فقد أجلّ النبي حد الغامدية، لمّا كانت حاملاً، حتى وضعت، وترعرع طفلها.

5. تغير الحكم بسبب تغير علته

يكون الحكم مطلقاً، أو مقيداً بعلة. وإذا زالت العلة، أو تغير السبب، الذي شُرع لأجله، تغير ذلك الحكم. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم من الزكاة، بعد أن جعلهم الله تعالى من الأصناف الذين توزع عليهم. فكان منهم من يعطى ليقوى إيمانه، ومنهم من يعطى ليسلم. وهكذا مضى الأمر إلى خلافة أبي بكر، عندما أعطى اثنين منهم: وهما عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس. فلما علم عمر، أخذ الكتاب منهما، ثم تفل فيه، ومحاه، وقال: "إن رسول الله كان يتألفكما؛ والإسلام، يومئذ، قليل. وإن الله قد أغنى الإسلام. اذهبا فاجهدا جهدكما؛ لا يرعى الله عليكما، إن رعيتما". فترك أبو بكر الإنكار عليه.

فهذا عمر يدرك أن التأليف كان لحاجة، وهي تقوية المسلمين. وبما أن المسلمين قد كثر عددهم، وانتهت الحاجة، فلا ضرورة، إذاً، للتأليف. ولمّا علم أبو بكر بقصد عمر، رجع عن قوله بإعطاء المؤلفة قلوبهم. وهذا دليل على أن هناك من الأحكام ما يدور مع المصلحة، ويتغير بتغيرها.

ب. روى زيد بن خالد الجهني: "أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: )اعْرِفْ وِكَاءَهَا (أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا) وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً. ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ (أَوْ قَالَ: احْمَرَّ وَجْهُهُ)، فَقَالَ: وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ. فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا( (البخاري: 89). غضب الرسول، لأنه لا حاجة لأخذ الإبل؛ فهي ترعى وترد الماء، ولا يُخاف عليها من ضياع، أو هلاك من الذئاب، أو السرقة؛ لذلك، فقد نهى عن التقاط ضالة الإبل. قال الإمام مالك: كان ذلك في زمن، كانت ضوال الإبل إبلاً سائمة، لا يأخذها أحد.

لمّا جاء زمن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أمر بتعريف ضوال الإبل، حتى إذا جاء صاحبها، أعطي ثمنها. ولمّا تولى الخلافة علي ابن أبي طالب، بنى للضوال مربداً، يعلفها فيه علفاً لا يسمنها، ولا يهزلها، من بيت المال. فمن أقام بينة على شيء منها، أخذه. وإلاّ بقيت على حالها، لا يبيعها. قال مالك: واستحسن ذلك سعيد بن المسيب.

وهكذا، ظلّ الأمر في عهد عمر على ما كان عليه في زمن الرسول. ولكن عثمان خالف ظاهر قول النبي؛ فأمر بتعريفها، ثم بيعها، فإذا جاء صاحبها، أُعطي ثمنها. أمّا علي، فبالغ في حفظها، ولم يبعها؛ فربما يتضرر صاحب الإبل من البيع، فرأى أن ينفق عليها، من بيت مال المسلمين؛ لأنها أموال المسلمين.

وفعل عثمان وعلي مخالف في الظاهر لنص الرسول، الذي كان معللاً بعلة. لكن، ظهر ما يدعو إلى تغييره. فإن تغير الناس وخوفهم من أيدي السوء، أن تمتد لأخذ الضوال، جعلهم يفهمون النص على أنه معلل.

6. استحداث أحكام

وهذا يحمل على تخصيص نص عام، أو ترك ظاهره؛ ولكن يشترط ألاّ يكون خارجاً عن القواعد والنصوص العامة، في جلب المصلحة، ودرء المفسدة. ومن الأمثلة على ذلك:

أ. إحراق عثمان بن عفان المصاحف، بعد أن جمعها على مصحف واحد.

ب. (خد علي... الأخاديد فحرق فيها الزنادقة، الذين نادوا بألوهيته)؛ فجعل عليهم أعظم العقوبات؛ لزجر الناس عن مثل قولهم.

ج. رُوي أن عمر بن الخطاب، قضى في المرأة، التي يطلقها زوجها فتتزوج غيره، قبل انقضاء عدتها، بأنها تحرم على هذا الرجل الثاني، حرمة مؤبدة؛ معاملة بنقيض مقصودها، وسداً للذريعة، وردعاً لأمثالها أن يسلكن مثل سبيلها. ولعلّ هذا يتفق مع قاعدة "من استعجل شيئاً قبل أوانه، عوقب بحرمانه".

د. كان الرسول يؤتى بشارب الخمر، فيأمر بضربه. وسار الأمر على هذا، في عصر النبوة، وعصر الصديق. فلمّا كان زمن عمر، وكثر من يشرب الخمر، وبعد مشاورة بعض الصحابة، جُعل حدُّ الخمرِ ثمانين جلدة. وهكذا فالرسول لم يحدّد مقداراً لحدِّ شارب الخمر؛ لكن، في زمن عمر، لمّا رأى، ومن معه من الصحابة، المصلحة في زيادة حدِّ الخمر وتحديده، جعلوه ثمانين جلدة.

هـ. عن أبي هريرة،: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: سَعِّرْ. فَقَالَ: )إِنَّ اللَّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ وَلَكِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلِمَةٌ( (أحمد: 8094).

فهذا رسول الله لا يرضى بتسعير السلع؛ ويشير إلى أن فيه ظلماً للناس؛ إذ يجبرون على بيع بضائعهم بسعر معين. ولكن متأخري فقهاء الحنفية أجازوا التسعير، عند الحاجة، على الرغم من نهي الرسول عنه، ومنع الإمام أبي حنيفة وصاحبيه منه؛ لمّا وجد المقتضى للتسعير. قال ابن القيم: "إن نهي الرسول عن التسعير، لعدم وجود ما يقتضيه. ولو كان، لفعله".

ز. أفتى الأحناف، وغيرهم، بجواز أخذ الأجر على الإمامة والأذان وتعليم القرآن، مع ورود النهي عن كل ذلك. وقالوا: الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان.

7. أحكام مستنبطة من أحاديث ضعيفة

هناك أحكام أُقرت، بناء على أحاديث، ثبت أنها ضعيفة، لا يستدل بمثلها؛ والفَتْوَى بخلافها ممكنة؛ منها حديث امرأة المفقود، تصبر حتى يأتيها يقين موته، أو طلاقه. قال الحافظ ابن حجر[1]: وإسناده ضعيف، وضعفه أبو حاتم والبيهقي وعبدالحق وابن القطان. فهي، إذاً تبقى في ذمته مدى العمر، أو حتى يموت أقرانه، أو حتى يبلغ السبعين أو التسعين؛ ما يعود عليها بضرر مؤكد؛ لما فيه من إضاعة حقها، وإهدار عملها سدى. وهذا كله من دون برهان أو دليل صحيح. وإذا لم يوجد نص صريح في ذلك، فيجب النظر في القواعد والمصالح والمفاسد، وبتوازن الاحتمالات، يمكن الوصول إلى حكم، يصلح للتطبيق.

8. أحكام ثابتة بآراء شخصية ثبت خطؤها

يجوز للمُفْتِي أن يفتي بخلافها، إذا رأى المصلحة لا توجد بها؛ لأن الشرع هو ما شرعه الله ورسوله، ورأي المجتهد قابل للأخذ به أو رده. ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكره الفقهاء في أقصى مدة الحمل، فقد اختلفوا في ذلك، فقد ذهب أبو حنيفة إلى سنتَيْن. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أربع سنوات. فالحنفية اعتمدوا على أن المرأة لا تزيد في حملها على سنتَيْن. واعتمد مالك وغيره على قول عائشة: "سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا، امرأة محمد بن عجلان، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين".

ولو كان الأئمة في عصرنا، واطلعوا على أقوال الأطباء، وأهل الاختصاص، لتراجعوا عن أقوالهم بكلِّ تأكيد. ولا ينكر أن في الفقهاء القدامى، من أنكر هذا القول، منهم ابن حزم الظاهري.
فَتَاوَى تغيرت مع الزمن

إن الشريعة صالحة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولكلِّ الناس. وقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال، لا تخرج عن محيط التشريع الإسلامي؛ لأنها تستند إلى أدلة جواز الاجتهاد والاستنباط، وتدور مع مصلحة الناس. فالحكم الذي بني عليه المصلحة، يدور معها. ومن المعلوم أن كلَّ مصلحة مستندة إلى دليل شرعي، فأصل الحكم موجود إذاً؛ إنما الذي رفع، أو تغير، هو تطبيق الحكم السابق، لعدم ملاءمته. وقد تكون للحادثة الواحدة عدة أحكام ثابتة في التشريع، ودور المجتهد أن ينظر فيها، فيحكم عليها بما يلائمها. فإذا تغيرت المصلحة، غير لها الحكم بما يلائمها، وربما يعود إلى الحكم الأول، الذي تركه بعد حين، إذا كانت هناك مصلحة تستدعي ذلك.

ولا بدّ من العلم بأنه ليس كلّ الأحكام قابلة للتبدل والتغير تبعاً للمصالح؛ ولكن الذي يتغير بعض منها فقط؛ لأن هناك مصالح لا تتغير، ما دامت السماوات والأرض، مثل: حلّ البيع، وعقود التجارة، والنكاح، والفضائل الخلقية، ونحو ذلك من المباحات. ومثل تحريم الربا والزنا والسرقة والظلم وسفك الدماء، وغيرها، من المحرمات اليقينية. فهذه الأمور ثابتة لا تتغير أبداً. وفي المقابل، هناك أحكام تتغير بتغير المصالح، في الأزمان والأمكنة والأحوال والعوائد. والفصل بينهما يسير ومبين في الشريعة الغراء. فالعبادات أحكامها محددة، وثابتة؛ لأن المقصود منها واحد، وهو تعظيم الله ـ سبحانه وتعالى ـ، أمّا المعاملات، فشُرع فيها قواعد كلية ونظريات عامة، ولم ينص فيها على الجزئيات، بل ترك لأهل الاجتهاد استنباطها وتطبيقها بوسائل مختلفة؛ حسب المصالح وتغير الظروف.

1. أفتى الإمامان: أبو حنيفة ومالك، بجواز دفع الزكاة إلى الهاشمي (أيْ من هو من نسل الرسول)، مع ورود الحديث بالمنع؛ وذلك لمّا تغيرت الأحوال، واختل نظام بيت المال، وضاع حق الهاشميين فيه. فأفتيا بذلك؛ دفعاً للضرر عنهم، وحفظاً لهم من الفقر.

2. خالف أبو يوسف ومحمد إمامهما أبا حنيفة، في كثير من الأحكام، تبعاً لتغير الأزمنة، كمخالفته في أسلوب الحكم بعدالة الشهود. فمقاييس العدالة والصدق، كانت غالبة، في زمن أبي حنيفة؛ فاكتفى بالعدالة الظاهرة، فيما عدا الحدود والقصاص.  فلما فسد الناس، في زمن صاحبَيْه، لم يكتفيا بذلك، وشرطا التزكية؛ لئلا تضيع حقوق الناس.

3. قال الإمام مالك في من له ماء، وراء أرض دون أرضه، فأراد أن يجري ماءه في أرض جاره: إنه ليس له ذلك. ولم يأخذ بما روي عن عمر، في قضية محمد بن مسلمة، التي أجبره فيها على أن يجري ماءه في أرض جاره؛ بما أنه لا يضره، بل يستفيد منه. وقال الإمام مالك في ذلك: "فسد الزمان، واستحق الناس التهم. فأخاف أن يطول الزمان، وينسى ما كان عليه جري هذا الماء. وقد يدعي جارك عليك به دعوى في أرضك".

وخالف الإمام مالك أبا بكر في خمس قضايا. وخالف عمر في نحو ثلاثين قضية؛ مع أن الرسول قال: )فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ. تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ( (أبو داود: 3991).

4. لمّا كان عمر بن عبدالعزيز والياً على المدينة، كان يحكم للمدعي بدعواه، إذا جاءه بشاهد واحد، وحلف اليمين. فيَعُدّ يمين المدعي قائماً مقام الشاهد الثاني. فلمّا أصبح خليفة، وأقام بالشام، لم يحكم إلاّ بشهادة رجلَيْن، أو رجل وامرأتَيْن. فسُئل في ذلك، فقال: "لقد وجدنا أهل الشام على غير ما عليه أهل المدينة.

5. أجاز الشافعية أخذ نبات الحرم، لعلف البهائم؛ لما يلحق الحجيج من الحرج، لو لم يبح لهم ذلك؛ مع وجود النهي الصريح من الرسول عنه.

6. أجاز الشافعية الأكل من الغنيمة، في دار الحرب؛ مع ورود النهي عن الانتفاع بها، قبل القسمة، مستندين في ذلك إلى الحاجة. ولم يقيدوا هذا الجواز بحالة عدم وجدان غيره معه، حتى يقال إنه من باب الضرورة المتفق على العمل بها؛ بل أطلقوه إطلاقاً.

7. قال العز بن عبدالسلام[2]: "لو عمَّ الحرام في بلدة، بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة. ولا يقف تحليل ذلك على الضرورة؛ لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء الكفار على أهل الإسلام؛ ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع، والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام".

8. أمّا الحنابلة، فقد توسعوا في الأخذ بالمصلحة، وتبديل الأحكام تبعاً لها. قال ابن تيمية: إذا أشكل على السالك حكم شيء، هل هو على الإباحة أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته. فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته؛ بل يقطع أن الشرع يحرمه، ولا سيما إذا كان مفضياً إلى ما يبغضه الله ورسوله.
ضوابط المصلحة الشرعية

المصلحة ليست دليلاً، في ذاتها، مستقلاً عن الأدلة الشرعية، كالكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس؛ حتى يصح بناء الجزئية عليها وحدها؛ وإنما هي معنى كلي، استخلص من مجموع جزئيات الأحكام المأخوذة من أدلتها الشرعية، أي أنه وجد، من تتبع الأحكام الجزئية المختلفة، قدر كلي مشترك بينها، وهو القصد إلى مراعاة مصالح العباد، في دنياهم وآخرتهم.

وكان لا بدّ لمراعاة المصلحة في التشريع من تقيدها بضوابط، تحدد معناها الكلي، من جهة؛ وتربطها بالأدلة التفصيلية للأحكام، من جهة أخرى، حتى يتم التطابق بذلك بين الكلي وجزئياته.

ومن أهم ضوابط المصلحة، التي يراعيها الشرع الإسلامي:

1. اندراجها في مقاصد الشارع، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات.(انظر ملحق الضروريات والحاجيات والتحسينات).

2. عدم معارضة المصلحة لكتاب الله.

3. عدم معارضة المصلحة للسُّنَّة المشرفة.

4. عدم معارضة المصلحة للقياس.

5. عدم تفويتها مصلحة أهم منها، أو مساوية لها. وميزان تفاوت المصالح في الأهمية، يكون كالآتي:

أولاً: بالنظر إلى قيمتها، من حيث ذاتها، وترتيبها في الأهمية.

ثانياً: بالنظر إليها، من حيث مقدار شمولها.

ثالثاً: بالنظر إليها، من حيث تأكد نتائجها أو عدمه.
العُرف وأثره في الفَتْوَى

كثيرمن الأحكام الشرعية مبنية على الأعراف والعادات. وينبغي للفقيه أن يحمل نص الشارع على العرف السائد. (انظر ملحق العُرف وأثره في الفَتْوَى).
التيسير في الفَتْوَى

ليس المقصود بالتيسير في الفَتْوَى إباحة المحرمات، في حالات الضرورة، أو الإفتاء بترك الواجب؛ لأن ذلك يُعد مروقاً عن التكليف الشرعي، بل خروجاً عن الدِّين؛ إنما المقصود بالتيسير، أن يفتي المستفتى:

ـ إمّا في دائرة أعمال التطوع.

ـ أو في الأحكام التي فيها تخيير، بأمر الشارع، بما يلائم حال المستفتي.

ـ أو ينهاه عن الأمور، التي تشق عليه، فوق طاقته، حتى لا يمل، أو لا يعجز.

ومن أمثلة فَتَاوَى التيسير

1. إذا رأى المُفْتِي مخرجاً لمشكلة، وقع فيها السائل، بما لا يتجاوز حدود الشرع، أفتاه بالعمل به. فقد ورد أن رسول الله )اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لا تَفْعَلْ. بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا( (البخاري: 2050)، ( الجنيب: من أجود أنواع تمر المدينة. والْجَمْعَ: نوع رديء). وهكذا وجد الرسول لعامله مخرجاً؛ فيسر عليه أمره.

2. عن وكيع بن الجراح[3]، فقيه العراق، وأستاذ مالك والشافعي، أنه قال: كان لنا جار من خيار الناس، وكان من حُفّاظ الحديث، فوقع بينه وبين امرأته شيء، وكان بها معجباً. فقال لها: أنت طالق ثلاثاً إن سألتيني الطلاق الليلة. فقالت المرأة: عبيدي أحرار، وكل مالي صدقة، إن لم أسألك الطلاق هذه الليلة. يقول وكيع: فجاءني الرجل والمرأة في الليلة. فقالت المرأة: إني بليت بكذا. وقال الرجل: إني بليت بكذا. فقلت ما عندي في هذا شيء، ولكن نصير إلى الشيخ أبي حنيفة، وإني أرجو أن يكون عنده لنا فرج، وكان الرجل المبتلى يكثر الوقيعة في أبي حنيفة، وقد بلغه ذلك عنه. فقال الرجل: إني استحي منه. فقلت: امض بنا إليه، فأبى، فمضينا إلى ابن أبي ليلى، فلم يجبنا، ثم مضينا إلى الإمام أبي حنيفة فدخلنا عليه، وقصصنا عليه القصة، بعد أن أخبرناه بذهابنا إلى ابن أبي ليلى. فسال الرجل: كيف حلف؟ وسأل المرأة: كيف حلفت؟ ثم قال: أنتما تريدان الخلاص من الله تعالى، في إيمانكما، ولا تحبان الفرقة. فقالا: نعم. قال أبو حنيفة: سليه أن يطلقك. فقالت المرأة للرّجل: طلقني. ثم قال للرجل: قل لها أنت طالق إن شئت ثلاثاً. فقال لها الرجل: أنت طالق إن شئت ثلاثاً. فقالت: لا أشاء. فقال أبو حنيفة: قد بررتما وخرجتما من طلبة الله لكما.

3. ذكر الخطيب البغدادي أن رجلاً دخل عليه اللصوص، فأخذوا متاعه، واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يخبر أحداً. قال: فأصبح الرجل، وهو يرى متاعه يباع، من قبل اللصوص، ولا يقدر أن يتكلم من أجل يمينه. فجاء يشاور أبا حنيفة: فقال له الإمام: أحضر لي إمام حيك والمؤذن والمسؤولين فأحضرهم. فقال لهم أبو حنيفة: هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه؟ قالوا نعم. قال : فاجمعوا كل داعر، وكل متهم، فادخلوهم في دار، أو في مسجد، ثم أخرجوهم واحداً واحداً، وقولوا له: هل هذا لصك؟ فإن كان ليس بلصه قال: لا. وإن كان لصه فليسكت، فإذا سكت اقبضوا عليه. ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة، فرد الله عليه جميع ما سُرق منه، ويسر القبض على اللصوص.

4. وقد يستدعي الموقف تهوين الأمر وتيسيره، والتقليل من شأنه على المستفتين للمصلحة، كإنسان عنده وسوسة في طهارته أو صلواته، فيخبر بيسر الدِّين، ويتلى عليه نصوص التخفيف، ورفع الحرج عن الأمة.

5. والأمر نفسه يكون بالنسبة لإنسان تاب وندم ورجع عن المعاصي، فكأنه قنط لاستعظام ذنوبه، وتكون وظيفة المُفْتِي هنا أن يوسع عليه بنصوص الرحمة وقبول التوبة، وذلك مثل قوله تعالى: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (آل عمران: 133 ـ 135).

أو يقرأ عليه قول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: )لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ(. (مسلم: 4932).
الخلاصة

إن حاجات الناس تتطور، ومصالحها تتغير، من وقت إلى آخر، ومن حال إلى أخرى. وهذا جعل كثيراً من أهل العلم يقرون أشياء، كانوا ينكرونها، من قبل. ومثال ذلك، في العصر الحديث:

منذ سنين، نشب جدال شديد في شأن مقام إبراهيم، في صحن المسجد الحرام، وإمكانية نقله من مكانه؛ لأنه يعوق الطائفين، أيام الزحام، في رمضان والحج. وهل يجوز هذا النقل، أم أنه أمر تعبدي لا يجوز التفكير في غيره؟ وكُتبت بحوث ومقالات، وأُلِّفت رسائل وكتيبات، في الموضوع، ما بين أخذ ورد، وتجويز ومنع. وكان صوت المانعين، من أي تغيير فيه، أو مساس به، أول الأمر، أجهر وأقوى، حتى قضت الأوضاع العملية، والضرورات الواقعية، لانتصار الرأي المعتدل.(انظر ملحق فَتْوَى في شأن إزالة بناء على مقام إبراهيم عليه السلام)

من روح التشريع الإسلامي مراعاة المصلحة. ولذا، فإن الشارع رتب عللاً من الأحكام؛ ليرشد إلى أن الحكم يتبع علته، ويتغير بتغيرها في الكثير الغالب، ولا سيما في مسائل المعاملات، التي كثيراً ما تتأثر باختلاف المكان وتغير الزمان. ومن ثَمَّ، توسع الشارع في بيان علل الأحكام؛ ليدور الحكم مع علته، وجوداً أو عدماً. ومن المعلوم أنه، عند تضارب المصالح، تقدم المصلحة العامة، على المصلحة الخاصة؛ دفعاً للضرر الأكبر بالضرر الأدنى.

ومن أجل مراعاة المصالح، لم يتناول القرآن الكريم، بالتفصيل، أحكام المعاملات، المالية والجنائية والدولية والقضائية والدستورية، وما شابه ذلك، مما يتغير بتغير البيئة، ويتأثر باختلاف النظُم. وما كان سكوت الشارع عن هذا نسياناً منه؛ إذ )لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى( (طه: 52)؛ وإنما كان رأفة بالناس؛ حتى يكون ولاة الأمر والمجتهدون، في كل عصر، في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها، حسب ما يحقق مصالح الناس، في حدود الأسس العامة للتشريع الإسلامي، من غير اصطدام بنص قطعي فيها. قال الله تعالى: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( (الحج: 78). وقال: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ( (البقرة: 185). و"قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: )الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ( (مسند أحمد: 2003).

 

[1] هو قاضى القضاة شهاب الدين، أبو الفضل أحمد بن على بن أحمد، العسقلاني الأصل، ثم المصري المولد والنشأة. عُرف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه. ولد بالفسطاط فى 12 شعبان سنة 773 هـ / 1362م، وتوفي سنة 852هـ / 1361م، وقد نشأ يتيماً فكفله وصي والده زكي الدين الخرنوبي، كبير التجار بمصر. وعندما حج هذا الوصي سنة 784هـ، اصطحب ابن حجر معه؛ فمكنه ذلك من دراسة الحديث بمكة المكرمة وهو فى سن الثانية عشرة من عمره. ولمّا عاد إلى القاهرة، درس على يد جماعة كبيرة من علماء عصره، وفى مقدمتهم شمس الدين القطان. وقد درس ابن حجر الفقه واللغة وعلوم القرآن وشغف بالحديث. ولقد قام ابن حجر العسقلاني بعدة رحلات دراسية بالبلاد المصرية والشامية والحجازية واليمن. وانكب على دراسة الحديث وتصنيفه وبلغت مصنفاته فى الحديث والفقه والتفسير وعلوم القرآن نحو مائة وخمسين مصنفاً، من أشهرها "فتح الباري بشرح صحيح البخاري". راجع: الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر للسخاوي، طبع في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة،  ثلاث مجلدات ، 1970.

[2] هو أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذّب السُلمي مغربي الأصل، . وُلد في دمشق عام 578 هـ، وعاش فيها وبرز في الدعوة والفقه ،توفي سنة660هـ، في مصر. قصد العز العلماء، وجلس في حلقاتهم. وجمع العز في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية. وكان أكثر تحصيله للعلم في دمشق، ولكنه ارتحل أيضاً إلى بغداد للازدياد من العلم. ترك الشيخ تراثاً علمياً ضخماً في علوم التفسير والحديث والسيرة والعقيدة والفقه وأصول الفقه والزهد وتلاميذ جهابذة، وحارب البدعة وأحيا السنة. لمّا جاء العز إلى مصر،  سنة 639هـ. رحب به الملك الصالح نجم الدين، فولاّه الخطابة والقضاء، ولكن فتاويه لم ترضي المماليك، فشكوه إلى الملك الصالح، الذي لم تعجبه فتوى الشيخ العز، فذهب اليه يسأله أن يعدل من فتواه، فطلب منه الشيخ "ألاّ يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه". فاجتمع أمراء الدولة، وأرسلوا اليه، فقال الشيخ: "نعقد لكم مجلساً وننادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين". واشتهر العز بعدها بأنه بائع الملوك. عايش العز دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين في الشام ومصر، وكانت دولة قوية، ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها وتقاتلوا على المُلك، حتى لجأ بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه وبني عمومته، ثم كان في آخر دولتهم أن حكمتهم امرأة هي شجر الدر، في سابقة في تاريخ الإسلام. وخرجت المظاهرات الغاضبة، بقيادة العز بن عبد السلام، ما اضطر شجرة الدر بعدها للتنحي بعد 80 يوماً قضتها في الحكم. وبعد وصول قطز لسدة حكم مصر، وظهور خطر التتار ووصول أخبار فظائعهم ورسلهم المهددين، وللاستعداد لملاقاة التتار الزاحفين، أمر قطز بجمع الأموال للإعداد للحرب، ووقف العلماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام أمام الأمراء وقادة الجند، فقرروا ألاّ يؤخذ من الناس شيئا إلاّ إذا كان بيت المال فارغاً، وبعدما يخرج الأمراء والتجار وأغنياء الناس من أموالهم وذهبهم حتى يتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم العلماء. من ألقابه: سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء. راجع: علي الصلابي، "سلسلة فقهاء النهوض: الشيخ عز الدين بن عبدالسلام .. سلطان العلماء وبائع الأمراء". ط1، 1987، طرابلس، ليبيا؛ وعبد الرحمن الشرقاوي. "أئمة الفقه التسعة"، كتاب اليوم، أخبار اليوم: 1983.

[3] وكيع ابن الجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن جمجمة بن سفيان بن الحارث بن عمرو بن عبيد بن رؤاس، الإمام الحافظ محدث العراق أبو سفيان الرؤاسي الكوفي، أحد الأعلام ولد سنة 129هـ, وسمع من أكابر علماء عصره، وكان والده ناظراً على بيت المال، بالكوفة، وله هيبة وجلالة. ورث وكيع من أمه مئة ألف درهم. قال يحيى بن يمان لما مات سفيان الثوري جلس وكيع موضعه. وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع. راجع: سير أعلام النبلاء، 9/141.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:44 pm


       

الفصل الرابع

شروط المُفْتِي وآدابه

يُشترط في المُفْتِي شروط كثيرة، أهمها:

1. الإسلام

وهذا الشرط مجمع عليه؛ بل هو بدهي فلا يمكن استفتاء الكافر؛ إذ إنه يبين حكم الله، وينوب عن رسوله، ويتلقى الناس ما يقوله على أنه مُشَرّع عن الله تعالى.

2. التكليف

أي يكون بالغاً، عاقلاً. وهذا الشرط مما أُجمع عليه، كذلك؛ فإن الصبي، لا حكم لقوله في مثل هذا، والمجنون مرفوع عنه القلم.

3. العلم والاجتهاد

وهما شرطان أساسيان لتقلد هذا المنصب، إذ إنه مُبَلِّغ عن الله أحكامه، ولا يليق أن يكون جاهلاً بأحكام الله. قال الإمام أحمد: ينبغي للرجل، إذا حمل نفسه على الفتيا، أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف؛ لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها. وفي رواية: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم؛ وإلاّ فلا يفتي.

وقال رجل يسأل أحمد: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث، يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا. قال فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف ؟ قال لا. قال: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو". (وقد حُمل قول أحمد على الاحتياط والتغليظ في الفَتْوَى، وأن مراد الإمام، في ذلك، وصف أكمل الفقهاء. فقد قال: الأصول التي يدور عليها العلم، عن النبي، ينبغي أن تكون ألفاً ومائتين. ويرى أغلب العلماء أن الفقيه لا بد أن يعرف الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ويعرف مواضعها، في كتب السنة الصحيحة).

وقال الخطيب البغدادي في شروط من يصلح للفَتْوَى: يكون المُفْتِي عالماً بالأحكام الشرعية. وعلمه بها، يشتمل على معرفته بأصولها وفروعها.

عن الشافعي ـ يرحمه الله ـ: "لا يحلّ لأحد يفتي في دين الله إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل. ثم يكون، بعد ذلك، بصيراً بحديث رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ، وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا كهذا، فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي[1].

ولا يشترط أن يحفظ آيات الأحكام وأحاديثها، عن ظهر قلب. بل يكتفي بمعرفة مواضعها. كما يشترط أن يكون قادراً على التمييز بين صحيح الحديث وحسنه وضعيفه. كذلك يشترط فيه معرفة لسان العرب، من لغة ونحو؛ إلاّ أنه لا يشترط إتقان اللغة، إلى درجة الخليل بن أحمد وسيبويه؛ وإنما ينبغي معرفة القدر، الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال، إلى حدٍّ يميز به بين صريح الكلام، وكنايته، ومجمله ومبينه، وحقيقته ومجازه، أيْ يتقنها إلى درجة كبيرة ويتمكن منها.

4. العدالة في الأقوال والأفعال

وذلك بأن يكون مستقيماً في أحواله، محافظاً على مروءته، صادقاً في ما يقوله، موثوقاً به. والعدالة، في الشرع: هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً؛ حتى تحصل ثقة الناس بصدقه. ويتحقق له ذلك باجتناب الكبائر، والترفع عن الصغائر، التي يدل فعلها على نقص في الدِّين، إضافة إلى عدم ارتكاب ما يخل بالمروءة: كالأكل في الأسواق، [كان ذلك قديماً، والآن ربما احتاج أن يأكل في سيارته أو حال ركوب الطائرة] والبول في الطرقات، ونحو ذلك. ومن المعلوم أن ما يُعَدّ إخلالاً بالمروءة يختلف باختلاف عادات أهل البلاد؛ فإن ما يعد إخلالاً بالمروءة، في بلد ما، قد يكون أمراً مألوفاً، يفعله أغلب الناس، في بلد آخر. ومرد ذلك إلى الأعراف السائدة. وبالجملة، إن كان الأغلب على حال الرجل، الطاعة لله، والمروءة في الأفعال، قبلت شهادته وفتواه. وإن كان الأغلب خلاف المروءة، ردت عليه.

وباشتراط العدالة في المُفْتِي، فإن فَتْوَى الفاسق غير مقبولة؛ لأنه غير أمين على فتواه، ولو كان مجتهداً، عند أغلب العلماء. ولكن إذ لم يوجد عالم عدل، أو إن اقتصر فسقه على بعض الصغائر، أو بعض أفعال تخل بالمروءة؛ فإنه تقبل فتواه. لأنه لا يستلزم بالضرورة لمن يرتكب هذا، أن يكذب في فتواه. أمّا إذا كان فسقه بسبب ارتكاب الكبائر، فينبغي عدم توليته على الإطلاق؛ لأن من يجتريء على فعل الكبائر، يجتريء على الكذب في الفَتْوَى.

آداب المُفْتِي

تزين المُفْتِي جملة آداب، منها:

1. الاستقامة

لا بدّ للمُفْتِي من أشراط وسمات، تحفز الناس إلى الوثوق بأقواله، ولا سيما تلك التي تتعلق بأحكام الدِّين. وهم لا يتلقون ذلك، إلاّ ممن آنسوا فيه مكارم الأخلاق، وسوية السيرة، وموافقة عمله لقوله، والتزامه ما يعتقد.

2. الورع والعفة والحرص على استطابة المأكل

ينبغي على المُفْتِي أن يجعل نصوص الوعيد والتهديد لمن خالف أوامر الله، بين عينيه. ويعفّ عمّا في أيدي الناس، وعمّا يُعَدّ في عرفهم من صفات الدناءة والضعة. ويحرص أشد الحرص على أن يكون مكسبه حلالاً، ومعاملته مع الناس قائمة، في أصولها وفروعها، على منهج الله، وفي حدود ما شرعه؛ وأن يكون مأكله حلالاً خالصاً. وثمة أمور من الورع، تلزم المُفْتِي، وهي:

أ.  ألاّ يكون هدفه الشهرة وإرضاء الناس، كما هو الحال في تلك الأيام (انظر ملحق أصبحت الفَتْوَى مجالاً فسيحاً يتسابق فيه من يريد الشهرة وإرضاء الناس). والمقصود أن ينوي بعمله الإخلاص ورضاء الله، أي أن يكون عاملاً بعلمه، ولا يناقض عمله كلامه، قال ـ سبحانه وتعالى ـ: )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ( (البقرة: 44). وقال: )كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ( (الصف: 3). ويستحضر في نفسه خطر الإفتاء، ويفتي كذلك بما يحب أن يُفتى له؛ فيحب لأخيه ما يحب لنفسه.

ب. إن سأله بعض الناس عن معصية، كانوا يفعلونها، فعليه أن يتلطف، وأن لا يفضح أسرارهم؛فإن الله حيي ستير.

ج. وليس للمُفْتِي أن يتكبر على المستفتي؛ بل عليه أن يلين له؛ أسوة برسول الله. وعليه ألاّ يتأذى من أي مستفت، بل يكون معه طليق الوجه، يعامله بالحسنى، ويسمع له، حتى ينتهي من الكلام؛ ولا يتسرع في الجواب والفَتْوَى، قبل ذلك.

د.  يستحب أن يقرأ المسألة على من هم أهل لذلك، ويشاورهم، ويباحثهم، برفق وإنصاف، وإن كانوا دونه أو تلامذته؛ رجاء ظهور ما قد يخفى عليه؛ إلاّ أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه، أو يؤثر السائل كتمانه، أو يكون في إشاعته مفسدة.

قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( (آل عمران: 159). وشاور النبي، وأمر بالمشاورة. وكانت الصحابة تشاور في الفتاوي والأحكام. وكانت المشاورة ديدن عمر بن الخطاب. وقد ثبت أنه كان يشاور علياً وابن عباس خاصة. قال سعيد بن جبير[2]: كنت عند ابن عباس، فسُئل عن مسألة، فالتفت إليَّ فيها، فقال: ما تقول، يا سعيد بن جبير؟ فقلت: أنت ابن عباس! وإنما جئت أقتبس منك. فقال: إذا كان لك جليس فسله؛ فإنما هو فهْم، يؤتيه الله من يشاء. وقال عبدالله بن المعتز[3]: مَن أكثر المشورة، لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً.

هـ. إذا رأى المُفْتِي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ عليه، جاز ذلك؛ زجراً له ولأمثاله.

و. ينبغي للمُفْتِي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم؛ حذراً مما يصورون فيه أسئلتهم؛ لئلا يوقعوه في المكروه. ومن ثم، له الامتناع عن إجابة المستفتي، في أحوال خاصة، منها:

(1) إذا خفي على المُفْتِي الجواب. فقد قال الله ـ تعالى ـ: )وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( (يوسف: 76). فإذا سُئل المُفْتِي عن حكم نازلة، فأشكل عليه؛ وهناك من هو عارف به، لزمه أن يرشد السائل إليه، ويدل عليه. كما ورد عن شريح بن هانئ[4]، قال: سألت عائشة عن المسح على الخفَّين، فقالت: سَلْ علياً، فهو أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع رسول الله. قال: فسألت علياً، فقال: قال رسول الله: )ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ( (مسلم: 414).

فإن لم يكن هناك من يُستفتى غيره، لزمه الإمساك عنه، وترك الجواب فيما لم يتضح له؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول: )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً( (الإسراء: 36).

(2) للمُفْتِي أن يمتنع عن الإجابة إن تَبَيَّن له سوء قصد المُسْـتَفْتِي، من خلال تحويره للسؤال، وزيادته فيه أو نقصانه؛ لتأتي الفَتْوَى موافقة لهواه، فيستند إليها، أمام الناس؛ ومن ذلك من يحاول إلباس الربا ثوب البيع المباح، أو القرض المباح. وإذا كان لا بدّ للمُفْتِي من الجواب، فليقل هذا هو الجواب، إن كان الأمر كما تقول.

(3) للمُفْتِي أن يغلظ القول الشديد إن كان المُسْـتَفْتِي يمارس معصية ظاهرة، أكبر مما يسأل عنه وأشد خطراً. كأن يكون كافراً معانداً، أو منافقاً فاجراً، ثم يسأل عن مسائل فرعية. فقد ورد عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إنه قال لعراقي، سأل عن نجاسة دم البعوض: قاتلكم الله، يا أهل العراق، تقتلون ابن بنت رسول الله (أي الحسين بن علي)، ثم تسألون عن دم البعوض!.

(4) إن خاف المُفْتِي عاقبة الفتيا؛ ورأى أن شرها يفوق خيرها، أمسك عنها؛ إذ لا يصح أن تزال المفسدة بأخرى أعظم منها. وقد ترك النبي إعادة بنيان الكعبة على قواعد إبراهيم، لما كان أهل مكة حدثاء عهد بالجاهلية. كذلك يمسك المُفْتِي، إذا رأى أن عقل السائل، لا يحتمل الجواب؛ لبعده الشاسع عما هو فيه، فيترك جوابه، لئلا يجحد به. وقد أخر الله تبارك وتعالى بيان كثير من الأحكام، إلى أن تهيأت النفوس لقبولها والعمل بها؛ ومن أجل ذلك، نزل القرآن مفرقاً بحسب الحوادث، ولو أنه أمرهم من أول الأمر بالصلاة والصيام والزكاة والحج والامتناع عن الخمر والربا وغير ذلك، لما أذعنوا له.

ومن الأدلة على هذا الشرط، قول النبي لمعاذ بن جبل: )مَنْ لَقِيَ اللَّهَ، لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ: أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا( (البخاري:126). وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله!".

وليس للمُفْتِي الفَتْوَى، في حال غضب شديد، أو جوع مفرط، أو هم مقلق، أو خوف مزعج، أو نعاس، أو شغل قلب، أو مدافعة الأخبثَين؛ بل متى أحس من نفسه شيئاً من ذلك، يخرجه عن حال اعتداله وكمال تثبته، أمسك عن الفَتْوَى؛ فإن أفتى، في هذه الحالة، بالصواب، صحت فتياه.

ز. عدول المُفْتِي عن السؤال إلى ما هو أنفع منه.

للمُفْتِي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه، إلى ما هو أنفع له منه، لا سيما إذا تضمن ذلك  بيان ما سأل عنه؛ وذلك من كمال علم المُفْتِي وفقهه ونصحه. وقد قال ـ تعالى ـ: )يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ( (البقرة: 215). فسألوه عن المال المنفَق، فأجابهم بذكر وجوه صرفه؛ إذ هو أهم مما سألوه عنه، ونبههم عليه بالسياق؛ مع ذكره لهم، في موضع آخر: )قُلِ الْعَفْوَ( (البقرة: 219)؛ وهو ما سهل عليهم إنفاقه، ولا يضرهم إخراجه.

وقد سأل بعض الصحابة النبي، أسئلة لا ثمرة لها، فغضب غضباً شديداً. مثال ذلك سؤال رجل يسمى ابن جذامة: من أبي؟ وهو سؤال لا نفع له قط؛ لأنه إن كان له أب، غير الذي يُنسب إليه بين الناس، لم يكسب من ذلك، إلاّ فضح أمه، والإزراء بنفسه.

ولما تخلّف المسلمون، حضارياً وفكرياً، أكثروا من الأسئلة التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة. وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات، لم تخطر ببال أحد من سلف الأمة. ومنها: ما لون كلب أهل الكهف؟ وهل كان ذكراً أم أنثى، وأين كانوا ومتى كانوا؟ مع أن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك، ولو علم فيه خيراً لنا لذكره. بل عرض القرآن لاختلاف أهل الكتاب في عددهم، ما بين ثلاثة وخمسة وسبعة، ثم عقب على ذلك، مخاطباً الرسول، بقوله: )قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا( ( الكهف: 22). فلم يصرح الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعددهم وهو أعلم به، ونهى الرسول أن يتعمق في الجدال معهم؛ تعليماً للأمة ألا تنشغل بمثل هذا الجدال غير المثمر. ومن أمثلة ذلك، من يتحرّى اللغة، التي يحاسب بها الناس في القبر؟ السريانية هي أم العربية؟ وما اسم أخت موسى ـ عليه السلام ـ التي ذكرها الله في القرآن؟ أو ما اسم فرعون؟ أو هل أبوا النبي في الجنة أم في النار؟ وكان الفقيه عامر الشعبي، يستخدم النكتة اللاذعة في الرد على هذا اللون من الأسئلة الغريبة. سأله أحدهم عن زوجة إبليس! فقال: ذاك عرس لم أشهده.. وقد يمتنع المُفْتِي عن مثل هذا الإفتاء، إذا وجد أن لفتواه مضاعفات، أو أن المستفتي يريد استغلال هذه الفَتْوَى؛ قصد الإضرار بالغير.

ح. يفتي المُفْتِي كلاً بما تقتضيه حاله؛ فيفتي الفاسق، الذي يريد التوبة، بعظيم رحمة الله، ومغفرته. ويشدد على المستفتي، الذي يريد الشرّ؛ ردعاً له. أفتى ابن عباس، عندما سأله رجل عن توبة القاتل، بقوله: لا توبة له. وسأله آخر، فقال: له توبة. فلمّا استفسر منه جلساؤه، قال: أمّا الأول، فرأيت في عينيه العزم على القتل. وأمّا الثاني، فجاء نادماً، بعد أن قتل، فلم أقنطه من رحمة الله. وكان أهل العلم، إذا سُئلوا عن القاتل، قالوا: لا توبة له. وإذا ابتلى رجل بالقتل، قالوا له: تُبْ.

ط. لا يجوز للمُفْتِي تتبع الحيل، ولا الرخص لمن أراد نفعه. وإن قصد حيلة جائزة، لا شبهة فيها، ولا مفسدة، ليتخلص المستفتي بها من مشكلة، جاز. والمقصود أنه إذا رأى للمستفتي طريقاً، يرشده إليه؛ كمن حلف لا ينفق على زوجته، شهراً، يقول: تعطيها من صداقها، أو على سبيل القرض، ثم تبرئها. وروي أن رجلاً سأل أبا حنيفة، أنه حلف أن يجامع امرأته، في شهر رمضان، ولا يكفِّر عن يمينه، ولا يقضي يوماً مكان اليوم، الذي جامعها فيه. فأجابه أبو حنيفة: سافر بها (والمعلوم أن المسافر يجوز له الفطر، في رمضان، أيام سفره). وهذا من باب الحيل النافعة، التي يرضى عنها الله. أمّا الحيل التي ينجم عنها الالتفاف على الدِّين؛ لتحقيق مصلحة زائفة، أو ارضاءً للهوى، فلا تجوز بحال. ( انظر ملحق الحيل في الدِّين).

ي. ليحذر المُفْتِي أن يميل بفتواه، إلى المستفتي، أو خصمه، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: )فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا( (النساء: 135).

ك. إذا سُئل المُفْتِي عن مسألة في تفسير القرآن، فإن كانت تتعلق بالأحكام، كالصلاة الوسطى، والقُرء (أي الحيض، أو الطهر منه)، ومن بيده عقدة النكاح، أجاب عنها. وإن لم تتعلق بالأحكام، كالسؤال عن المتشابهات، وعن المسائل، التي وردت من دون تفسير، ووجب الإيمان بها كما هي ـ امتنع عن الجواب، أو زجر المستفتي، مثلما حدث مع الإمام مالك، حين سأله رجل عن قوله ـ تعالى ـ: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( (طه: 5)، كيف استوى؟ فتغير وجه الإمام مالك، وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

ل. ينبغي للمُفْتِي أن يحسن ملبسه، وفق التوجيهات الإسلامية، من مراعاة النظافة وستر العورة، واجتناب لبس الحرير والذهب، والامتناع عن حضور مجالس السوء، وسماع الأغاني والموسيقى والملاهي. وإنما كان جمال المظهر، وحسن الزي، على الطريقة، التي تلائم الوضع الشرعي مطلوباً؛ لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ولأن الخلق مجبولون على تعظيم الصور الظاهرة. والمُفْتِي مطلوب منه أن يعمل ما يجعله عظيماً في قلوب العامة؛ حتى يقتدوا به، ويستنيروا بأقواله. ولهذا، كان اتصافه بهذا الأمر قربة إلى الله، ينال بها الثواب، حيث يقصد بذلك التوسل إلى تنفيذ الحق، وهداية الخلق. ولهذا، قال الفاروق: أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب؛ أي ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.

ويدخل في هذا الأمر اتصافه بالسكينة والوقار، وظهوره بمظهر الاحتشام والأدب، فإن ذلك يرغب المستمع في قبول ما يقوله؛ فيتحقق قصد المُفْتِي بوصول القول الحق إلى العامة وعملهم به.

م. شعور المُفْتِي بأنه مفتقر إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في إلهامه الصواب. وكان ابن تيمية كثير الدعاء، عند الإفتاء؛ وإن أشكلت عليه مسألة، يقول. "يا معلم إبراهيم، علمني".

يستحب للمُفْتِي أن يبدأ دعاءه بالاستعاذة، ثم يتلو: )سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( (البقرة: 32)، وآية )فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ( (الأنبياء: 79)، )رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي( (طه: 25 ـ 28). ويقول: ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. سبحانك اللهم لا تنسني ولا تُنسني، الحمد لله أفضل الحمد، اللهم صل على محمد وعلى آله وسائر النبيين وسلم، اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان آمين.

ويستحب أن يأتي بذلك، عند كل فَتْوَى يفتيها، إن تيسر، وإلاّ فعند أول فَتْوَى يفتيها في يومه، مضيفاً إلى ذلك قراءة سورة الفاتحة وآية الكرسي وما تيسر.

ن. التريث في الفَتْوَى، عندما يشتمل لفظ المستفتي على بعض الملابسات، التي تجعل المُفْتِي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال، لا تعبر عن الواقع تماماً؛ كأن يكون المستفتي عامياً، لا يدري مدلول اللفظ، فقد يطلق اللفظ الصريح على غير مدلوله. فينبغي للمُفْتِي التريث حتى يستجلي السؤال. وربما يمنع الخجل والحياء المستفتي من تعبيره بلفظه عن مقصده، فيساعده المُفْتِي، ويفتيه بهدوء ووضوح وتأنٍّ؛ حتى يفهم المستفتي جيداً.

س. ينبغي للمُفْتِي أن يرشد السائل إلى أبواب الحلال، إن كان يسأل عمّا هو حرام؛ فإن الإسلام لم يحرّم شيئاً، إلاّ وجعل ما يقابله من حلال. فإن النبي لما سأله عبدالمطلب بن ربيعة، والفضل ابن عباس، أن يبعثهما في جباية الزكاة؛ ليصيبا ما يتزوجان به، منعهما من ذلك، وأمر عامله على الخمس (أي الجزء من الغنائم، المخصص لله ورسوله، والذي يُنفق في المصالح العامة للمسلمين)، أن يعطيهما ما ينكحان به؛ فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما الطريق المباح. وهذا اقتداء منه بربه ـ تبارك وتعالى ـ فإن العبد يسأله الحاجة، فيمنعه إياها، ويعطيه ما هو أصلح له، وأنفع منها، وهذا غاية الكرم والحكمة.

وإذا أفتى المُفْتِي للسائل بشيء، ينبغي له أن ينبهه على ما قد يذهب إليه الوهم، من خلاف الصواب؛ وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والإرشاد. ومثال هذا قول الصادق الأمين: )أَلا لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ. مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَعَلَى نَفْسِهِ، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ( (النسائي: 4653). وقد أتبع الجملة الأولى بالثانية؛ دفعاً لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقاً، وإن كانوا في عهدهم. فإنه لما قال: )لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ(، فربما ذهب الوهم إلى أن دماءهم هدر؛ ولهذا، لو قتل أحدهم مسلماً، لم يُقتل به؛ فرفع هذا التوهم بقوله: )وَلا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ(. وكذلك قوله: "لا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلا تُصَلُّوا إِلَيْهَا( (صحيح مسلم:1613). فلمّا كان نهيه عن الجلوس عليها، فيه شيء من التعظيم لها، أعقبه بالنهي عن المبالغة فيه، حتى لا تُجعل قبلة. ومثل هذا في القرآن، كقوله تعالى لنساء نبيه: )يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا( (الأحزاب:32)، فنهاهن عن الخضوع بالقول، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول، فرفع هذا التوهم بقوله )وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا(.

ع. يجب على المُفْتِي أن يكون دقيقاً في الفَتْوَى، فلا يتسرع في تكفير الناس. فإذا سُئل عن   إنسان، تلفظ بما في ظاهره الكفر، يجيب: إن صح هذا بإقراره أو بالبينة، استتابه السلطان، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب، فعل به كذا وكذا. وإن تكلم بشيء يحتمل وجوهاً، يكفر ببعضها، دون الآخر، فإنه ينبغي أن يسأل هذا المستفتي، ويحكم عليه بعد ذلك حسب جوابه.

ف. يجب أن يكون المُفْتِي حليماً، واسع الصدر، مقبلاً على المستفتي، حريصاً على تفهيمه، ولا سيما إذا كان بطيء الفهم. ويكون، في ذلك، مقتدياً برسول الله )وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( (آل عمران: 159)، أيْ أن يكون لين المعاملة، بشوش الوجه، لا يتذمر، ولا يشتكي. ولا يؤنب المستفتي، إن لم يحسن عرض مسألته عليه، بل يترفق، ويعامله معاملة الطبيب للمريض. فكما أن الطبيب يحاول أن يتعرف من مريضه صورة المرض وأعراضه، فينظر أسبابه القريبة والبعيدة؛ ثم يعطي العلاج الناجع، كذلك المُفْتِي، عليه أن يتفهم حال مستفتيه، ويتعرف منه صورة الفَتْوَى. ويجيبه عما يليق به في حالته على الخصوص، فلا يتوقف عند الأمر الكلّي، الصادق على جميع الحالات، من دون اعتبار الخصوصيات؛ بل يأخذ في الحسبان جميع القرائن المحيطة بالحالة المستفتى فيها؛ مراعياً حالة المستفتي ونيته.





يتبع .....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:46 pm

تابع ......




       

الفصل الرابع

شروط المُفْتِي وآدابه

يُشترط في المُفْتِي شروط كثيرة، أهمها:



فالمُفْتِي لا يُصدر فتواه، مجردةً عن الوقائع وملابساتها وقرائنها؛ بل هو لا يفتي في مسألة ما حتى يسبر غورها، وينظر إلى ملابساتها، وإلى حالة المستفتي ونيته، وكل ما يتعلق بتلك الواقعة. ومثال ذلك: ما لو استفتى شخص جامع زوجته وهي حائض، فإن على المُفْتِي أن لا يجيبه بالحرمة على الإطلاق، بل يسأله عن حاله، وقت ذاك؛ وهل كان عالماً بمحيض زوجته، أم جاهلاً له، عامداً المجامعة في الحيض، أم كان ناسياً. وهل خاف الضرر الشديد على نفسه، إن لم يطأها، أم لا. إذ إن الإجابة على هذا السؤال تتوقف، حلاً وحرمة، على معرفة حال المستفتي وقتها ونيته.

ولا يقف دور المُفْتِي عند هذا، بل عليه أن يتفكر في مآل المستفتي، بعد إعطائه الجواب الوارد في النصوص، فيعالج ما قد يحدث عنده من الاضطراب النفسي. فإذا كان من الممكن أن يقع المستفتي، بسبب الفَتْوَى، في شدة أو يأس، فعلى المُفْتِي أن يذكره بالله تعالى، وبالثواب الذي أعدَّه للصابرين، ويؤكد له أن ذلك قد يكون امتحاناً من الله وابتلاء. كما يذكر له الأحاديث التي تنهى عن اليأس وتأمر بالصبر والاحتساب، تماماً كما يفعل الطبيب مع مريضه، فيأخذ الحيطة للمضاعفات التي قد تترتب على بعض الأدوية الحادة.

وبذلك فإن إجابات المُفْتِين على أسئلة المستفتين في مسألة واحدة، لا يلزم منها أن تكون إجابة واحدة، بل قد تختلف الأحكام ويختلف الأسلوب والعبارات والتوجيهات، تبعاً لاختلاف السائلين ونياتهم وملابسات وقائعهم. ولهذا أمثلة كثيرة من السنة، فقد سُـئل النبي، في أوقات مختلفة، عن أفضل الأعمال، فكان يجيب بأجوبة متنوعة، يرجع تنوعها إلى اختلاف حال سائليها. فمن تلك الأجوبة: أفضل الأعمال: )إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ( (البخاري: 25).

كما سُـئل: )أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ( (البخاري: 5513). وقال عليه الصلاة والسلام، كذلك: )أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ( (أبو داود: 3983).

ومن كمال نصح المُفْتِي وعلمه وإرشاده أنه قد يرى، من حال المستفتي، حاجته إلى بيان يتعلق بأمر آخر غير الذي سأل عنه، فلا بأس، عند ذاك، أن يجيب بما هو أكثر من السؤال.

وقد ترجم البخاري لذلك في صحيحه فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه، ثم ذكر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ: )لا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلا الْعَمَائِمَ وَلا الْبَرَانِسَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ( (البخاري: 1707). فسُـئل رسول الله عمّا يلبس المحرم، فأجاب عمّا لا يلبس، وتضمن ذلك الجواب عمّا يلبس، فإن ما لا يلبس محصور، وما يلبسه غير محصور، فذكر لهم النوعَيْن، وبَيَّن لهم حكم لبس الخف عند عدم وجود النعل. وقد سأله الصحابة كذلك عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم: )هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ( (الترمذي: 64).

وكان مقتضى السؤال الجواب بقوله: الطهور ماؤه فقط، ولكنه أضاف الحلّ ميتته، وكأنه رأى أن السائل عن جواز الوضوء بماء البحر يجهل طهوريته، فمن باب أولى أن يجهل حلّ ما مات فيه من حيوان، فبين لهم ما يحتاجون إليه مع أنهم لم يسألوا عنه.

3. قوة الاستنباط، وجودة الملاحظة، ورصانة الفكر

قال الخطيب البغدادي: ينبغي أن يكون المُفْتِي قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، ثم استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، حافظاً لدينه، مشفقاً على أهل ملته، مواظباً على مروءته متورعاً عن الشبهات، مبتعداً عن فاسد التأويلات، صلباً في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفَتْوَى، وطرق الاجتهاد. ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة، ودوام السهر؛ ولا موصوفاً بقلة الضبط، منعوتاً بنقص الفهم، معروفاً بالاختلال، يجيب بما لا يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه.

4. تعليل الفَتْوَى

يلجأ المُفْتِي إلى تسويغ فتواه، خاصة إذا كان الدليل موجزاً واضحاً. فإذا سُئل المُفْتِي عن عدة المرأة، التي أيست من المحيض، فليذكر قوله ـ تعالى ـ: )وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ( (الطلاق: 4). ومثل ذلك السؤال عن النكاح بلا ولي، فحَسنٌ أن يقول: قال رسول الله: )لا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ( (أبو داود: 1785). أو عن رجعة المطلقة، بعد الدخول، فيقول: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ( (البقرة: 228). أو يذكر قرينة واضحة، تبين الأمر؛ كجواب عمر عن تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم، إذ قال: أرأيت لو مضمضت من الماء، وأنت صائم. ولا يلزم المُفْتِي، أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ووجه القياس والاستدلال؛ إلاّ أن تتعلق بقضاء قاض، فيومئ إلى طريق الاجتهاد، ويبينه.

وقد يحتاج المُفْتِي في بعض الوقائع إلى أن يشدّد ويبالغ فيقول: وهذا إجماع المسلمين، أو لا أعلم في هذا خلافاً، أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب، وعدل عن الصواب، أو فقد أثم وفسق، أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر. وما أشبه هذه الألفاظ، على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال.

5. خشية الله ـ عزّ وجلّ

قيل للإمام الشعبي: يا عالم. قال: إنما العالم من يخشى الله.

وقال عبدالله بن مسعود: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً.

سأل الحسن عن رجل، فقال رجل: يا أبا سعيد. الرجل فقيه. قال: وهل رأيت بعينيك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الذي يخشى الله. وعن مطر الوراق قال: سألت الحسن عن مسألة فقال فيها. فقلت يا أبا سعيد: يأبى عليك الفقهاء ويخالفونك؟ فقال: ثكلتك أمك مطر، وهل رأيت فقيها قط؟ وهل تدري ما الفقيه؟ الفقيه: الورع الزاهد، الذي لا يسخر ممن هو أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم، علمه الله، حطاماً.

6. الحلم

قال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علمٍ إلى حلمٍ، والناس هنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم، وشرارهم من عدمهما معاً، والثالث من أوتي علماً بلا حلم. والرابع عكسه.

7. الأفضل ألاّ يأخذ المُفْتِي أجراً على فتواه. ويجوز أن يؤجر عليها رزقاً من بيت المال؛ بشرط ألاّ يداهن الحكّام في فتاويه. ثم إن كان له رزق، لم يجز أخذ أجرة أصلاً. وإن لم يكن له رزق، فليس له أخذ أجرة ممن يفتيه، على الأصح، مثله مثل الحاكم. قال الخطيب: لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم، على أن يتفرغ لفتاويهم، جاز. أمّا الهدية، فقيل: له قبولها، بخلاف الحاكم. قال أبو عمرو: ينبغي أن يحرم قبولها، إن كانت رشوة، مثل الحاكم.

قال الخطيب: وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفَتْوَى، في الأحكام، ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال، ثم روى أن عمر بن الخطاب كان يعطي كلَّ رجلٍ، ممن هذه صفته، مائة دينار، في السنة. وكتب الخليفة عمر بن عبدالعزيز إلى واليه، على حمص: "انظر إلى القوم، الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار؛ يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين. وأسرع به حين يأتيك كتابي هذا، فإن خير الخير أعجله".

8. لا يجوز لمن كانت فتواه نقلاً عن مذهب إمام، إذا اعتمد الكتب، أن يعتمد إلاّ على كتاب موثوق بصحته، وبأنه مذهب ذلك الإمام. فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة، لكن هذه النسخة غير معتمدة، فليلجأ إلى نسخ منه متفقة.

9. إذا أفتى في حادثة، ثم حدث مثلها، فإن ذكر الفَتْوَى الأولى ودليلها، جاز ذلك؛ والأفضل تجديد النظر. ومثله القاضي، إذا حكم بالاجتهاد، ثم وقعت المسألة. قال ابن القيم: وسمعت شيخنا، ابن تيمية، يقول: حضرت عقد مجلس عند نائب السلطان، في وقف أفتى فيه قاضي البلد، بجوابَيْن مختلفَيْن، فقرأ جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك ضد هذا، فكيف تكتب جوابَيْن متناقضَيْن في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم. فقلت: هذا من علمه ودينه، أفتى أولاً بشيء، ثم تبين له الصواب، فرجع إليه. ولا يقدح ذلك في علمه، ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة فسُرَّ القاضي بذلك، وسُرِّي عنه.

10. يجوز للمُفْتِي أن يفتي أباه وابنه وشريكه، ومن لا تقبل شهادته له؛ وإن لم يجز أن يشهد له، ولا يقضي له. والفرق بينهما، أن الإفتاء يجري مجرى الرواية، فكأنه حكم عام؛ بخلاف الشهادة والحكم، فإنهما يخصان المشهود له والمحكوم له. ولكن، لا يجوز له أن يفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشيء، ويفتي غيرهم بضده، محاباة.

فإن قيل: هل يجوز له أن يفتي نفسه؟ قيل: نعم. إذا كان له أن يفتي غيره. وقد قال النبي: )اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، يَا وَابِصَةُ، ثَلاثًا. الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ( (الدارمي: 2421). وقال: )الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ... ( (مسند أحمد: 17076). وقال: )الْبِرُّ مَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُكَ. وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ( (مسند أحمد: 17313).

فيجوز له أن يفتي نفسه، بما يفتي غيره به. ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة، وغيره بالمنع. ولا يجوز له، إذا كان في المسألة قولان: قول بالجواز، وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قول الجواز، ولغيره قول المنع.

11. إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع، فهل تستحب إجابته، أو تكره، أو يتخير؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد حكى عن كثير من السلف أنه كان لا يتكلم فيما لم يقع. وكان بعض السلف إذا سأله الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم، تكلف له الجواب؛ وإلا قال: دعنا في عافية.

12. إذا عمل المستفتي بفتيا مفت، في إتلاف نفس أو مال، ثم بان خطؤه. قال أبو إسحاق الإسفراييني[5] من الشافعية: يضمن المُفْتِي (أي يتكفل بالتعويض) إن كان أهلاً للفَتْوَى. وإن لم يكن أهلاً، فلا ضمان عليه؛ لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده. وقيل لا بدّ من تضمين من ليس بأهل؛ لأنه تصدى لما ليس له بأهل، وغر من استفتاه بتصديه لذلك. فشأنه شأن الطبيب الجاهل، إذا آذى مريضاً، أو وصف له علاجاً فمات. والراجح أن المُفْتِي لا يضمن، بأي حال؛ لأن الفَتْوَى غير ملزمة للمستفتي، ولكنها مجرد إخبار. والمستفتي هو المباشر للفعل، فهو الضامن إذاً. في الحديث أن رجلاً من الصحابة، كان في سرية، فأصابه جرح؛ ثم أجنب، فسأل من معه: هل عليه غسل، أم له رخصة. فأجابوه بضرورة الغسل، فاغتسل فمات. ولما علم النبي بذلك، قال: )قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ. أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ. إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ( (أبو داود: 284)، (العي: الجهل). ولم يضمّن الرسول أولئك الذين أفتوا الرجل، ولم يلزمهم دفع ديته.

13. إذا لم يعرف المُفْتِي لغة السائل، أو لم يعرف المستفتي لغة المُفْتِي، أجزأ ترجمة واحد بينهما؛ لأنه خبر محض، فيكتفى فيه بواحد، كأخبار الديات والطب، والدعوى والإقرار والإنكار بين يدى الحاكم.

14. فَتَاوَى الصحابة أولى أن يؤخذ بها، من فَتَاوَى التابعين. وفَتَاوَى التابعين أولى من فَتَاوَى من بعدهم، وكلّما كان العهد بالرسول ـ صل الله عليه وسلم ـ أقرب، كان الصواب فيها أغلب. وهذا الحكم بحسب الحكم العام في المسألة، وليس بحسب كل فرد من المسائل. فإن عصر التابعين، وإن كان أفضل من عصر تابعيهم، فإنما هو بحسب الجنس، لا بحسب كل شخص شخص. فالمفضلون في العصر المتقدم أفضل من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم.

15. ينبغي له إذا لم يعرف الجواب، أن يرشد المستفتي إلى مفتٍ آخر، إن كان، وإلاّ فليمسك حتى يعلم الجواب.

16. النظر في السؤال والسائل قبل الفَتْوَى، أو عقد المقارنة بين مستوى السؤال ومستوى السائل، من الناحية العلمية، أو قد يكون السؤال من المعضلات، أو من دقائق الأمور، أو متشابه الآيات، ونحو ذلك مما لا يخوض فيه إلاّ أكابر العلماء، فينبغي للمُفْتِي أن ينظر في حال المستفتي: هل هذا السؤال منه نتيجة شبهة عرضت له يريد إزالتها، أو أن ذلك نتيجة ترف فكري، وفراغ وقتي، جعلاه يتأمل في أشياء ليس هو من أهلها، فإن كان الأول وجب على المُفْتِي أن يقبل على مستفتيه، ويتلطف معه، ويحاول بقدر ما أمكنه أن يزيل ما اشتبه عليه، وإن كان الثاني فينبغي له أن يمتنع عن إجابته، بل ينبغي له أن ينكر عليه سؤاله، ويوجهه نحو ما ينفعه، ويقول له: لا تخض فيما عساه يهلكك؛ لعدم استعدادك له.

17. لا يجوز للمُفْتِي تشتيت السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال، متضمناً لفصل الخطاب، كافياً في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره؛ ولا يوجز إيجازاً مخلاً، من دون أن يقدم فائدة: كالمُفْتِي الذي سُئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عزّ وجل، وكتبه فلان. وسُئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلي على مقتضى الحديث عن عائشة.

18. إذا اعتدل عند المُفْتِي قولان، ولم يترجح له أحدهما على الآخر. قال القاضي أبو يعلى: له أن يفتي بأيهما شاء. وقيل: بل يفتي بالأحوط من القولَيْن. والأظهر أنه يتوقف، ولا يفتيه بشيء؛ حتى يتبين له الراجح منهما؛ لأن أحدهما خطأ، فليس له أن يفتيه بما لا يعلم أنه صواب، وليس له أن يخيّره بين الخطأ والصواب. وهذا كما إذا تعارض عند الطبيب، في أمر المريض، رأيان خطأ وصواب. ولم يتبين له أحدهما، لم يكن له أن يقدم على أحدهما ولا يخيره، وكما لو استشاره في أمر فتعارض عنده الخطأ والصواب، من غير ترجيح، لم يكن له أن يشير بأحدهما، ولا يخيره. وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصلة، ولم يتبين له طريق الصواب، لم يكن له الإقدام ولا التخيير، فمسائل الحلال والحرام أولى بالتوقف.

19. على المُفْتِي أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه؛ ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضى الله ـ تبارك وتعالى ـ. وقد امتُحن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ من أجل فتاويه، التي خالف بها المألوف، فكادوا له، لدى أولي السلطة، حتى دخل السجن، غير مرة، وظلّ في محنته الأخيرة إلى أن وافاه الأجل. ومن كلامه، في ذلك: سجني خلوة، ونفيي سياحة (هجرة) وقتلي شهادة.

20. أن يرجع عن الخطأ، إذا تبين له، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه، ثم أصرّ عليه، عناداً وكبراً، أو خجلاً من الناس. وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه، يأمر منادياً ينادي في الناس بأن فلاناً الفقيه أفتى اليوم خطأ، ولا يبالي بما يقول الناس.

21. ليس للمُفْتِي أن يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل، إلاّ إذا علم أن السائل يريد أحد تفاصيلها. وإذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل، طلب تفصيلها، كما استفصل النبي ماعزاً، لما أقرّ بالزنا: )قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ. قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ( (البخاري: 6324). قال ابن القيم: "وقد استفصل النبي صل الله عليه وسلم ماعزاً لما أقرّ بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحدّ". ومن هذا قوله لما سألته أُمُ سُلَيْمٍ )قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْل،ٌ إِذَا احْتَلَمَت؟ قَال:َ نَعَمْ، إِذَا رَأَتْ الْمَاء.َ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَة،َ فَقَالَت:ْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ( (البخاري: 5626). فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال، ولا يجب عليها في حال أخرى.

22. إذا كان السؤال محتملاً لصورٍ عديدة، فإن لم يعلم المُفْتِي الصورة المسؤول عنها، لم يجب عن صورة واحدة منها. وإن علم الصورة المسؤول عنها، فله أن يخصها بالجواب؛ ولكن يقيد، لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها، فيقول: إن كان الأمر كيت وكيت، أو كان المسؤول عنه كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا. وله أن يفرد كل صورة بجواب؛ فيفصل الأقسام المحتملة، ويذكر حكم كل قسم. وإن كان بعض العلماء منع من ذلك لوجهَيْن:

أحدهما: أنه ذريعة إلى تعليم الحيل وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث يشاء.

الثاني: أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي. فيضيع مقصوده، فيكره إن استلزم ذلك، ولا يكره، بل يستحب، إذا كان فيه زيادة إيضاح، وبيان وإزالة لبس، وقد فصل النبي في كثير من أجوبته بقوله: إن كان كذا فالأمر كذا، كقوله في الذي وقع على جارية امرأته )إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِيَ حُرَّة.ٌ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا. فَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَهِيَ لَه،ُ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا( (أبو داود: 3868). وهذا كثير في فتاويه عليه الصلاة والسلام.

23. عليهْ أن يفتى بالحديث الصحيح، ولو كان خلافاً لمذهبه. قال الشافعي: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، فقولوا بسنة رسول الله، ودعوا قولي. وروي عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي، فاعملوا بالحديث، واتركوا قولي؛ سُنة الصادق الأمين أَوْلى بالاتباع من أي فَتْوَى.

24. إذا كان الاستفتاء في واقعة عظيمة، تتعلق بمهام الدِّين ومصالح المسلمين، ولها تعلق بولاة الأمور؛ فيحسن من المُفْتِي الإسهاب في القول، وإيراد البيانات؛ والمبالغة في إيضاح الحق، بالعبارات الواضحة، السهلة؛ والتهويل على الجناة؛ والحض على المبادرة إلى تحصيل المصالح، ودرء المفاسد. ويحسُـن بسط القول في هذه المَواطن، وذكر الأدلة الحاثة على تلك المصالح الشريفة. ولا ينبغي ذلك في غير هذه المَواطن، بل الاقتصار على الجواب. ومتى كان للمسألة شروط وتفاصيل، منها قريب ومنها بعيد، فالمتعين على المُفْتِي ذكر الشروط والتفاصيل القريبة، دون البعيدة. 

25. أن لا يغلو في ما سهّـل فيه الشرع، أو في ما له مخرج شرعي صحيح؛ إظهاراً للاستمساك بالدِّين وشدة التقوى، وغلبة الورع، وامتثال ظواهر الأحكام، وحرفيات النصوص، وغمزاً للآخرين بأنهم متساهلون ومنحرفون. نقل عن سفيان الثوري أنه قال: "إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة؛ فأمّا التشديد، فيحسنه كلّ أحد".

ويدخل في هذا النوع، كذلك، الوقوف في وجه العادات الجديدة، والأزياء الطارئة، والأدوات المستحدثة، والعلوم الناشئة، والتنظيمات المستوردة أو المخترعة، ونحو ذلك مما ليس فيه نص صريح يمنعه، ولا قياس يرفضه، وفيه المصلحة للناس، والتيسير عليهم في معاشهم. والرافضون لهذه المستجدات، يقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الدِّين؛ لجهلهم بالدنيا والدِّين. (النور: 21). ولا يقول العُرف: إن المرأة إذا لبست الباروكة قد اختمرت، أو غطت رأسها. ولا تدعي لابسة الباروكة نفسها أنها مختمرة. ولا يزعم لغوي: أن هذه "الباروكة" تصلح لأن تسمى "خُماراً".

ومصدر الخطأ، الذي وقع فيه المُفْتِي، هو إخراج الباروكة من مسمى "الوصل الملعون فاعله"، على لسان رسول الله، توهماً منه أنها ليست وصلاً؛ لأنها شعر كامل يلبس فوق الرأس كله، ولذلك يسميها بعضهم "الرأس الصناعي". وكان على هذا المُفْتِي، لو تأمل موضوع السؤال، أن يقول إنها لو لم تكن الوصل المحرم بعينه، لكانت شيئاً أكبر من الوصل؛ لأن الشّـارع إذا كان قد حرّم وصل قصة من الشعر، فكيف بشعر كامل؟! فتحريم هذا من باب أولى، كما يقول العلماء.

وعلى ذلك، فالمطلوب من المُفْتِي، كما هو مقرر عند العلماء، أن يكون عالماً بأوجه الخلاف، في المسألة التي سيُفتي فيها، وألاّ يتقيد بمذهب معين؛ فإن الناس ليسوا مطالبين بذلك، فالأفضل أن يفتي بما صحّ عليه الدليل، ولو كان مخالفاً لمذهبه. فإذا تساوت الأدلة، أفتى بالأيسر لأن النبي ما خُير بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً. مثال ذلك، سؤال هل يجوز أن أمسح على الشراب في الوضوء؟ فالأمثل في الجواب أن يُقال: ذهب بعض العلماء إلى جواز المسح على الشراب رقيقاً كان أم سميكاً سليماً أم مقطوعاً، وذهب بعضهم إلى جواز المسح عليه بشرط أن يكون سميكاً سليماً، وعلى السّائل أن يختار أي الرأيين ولا حرج عليه. وهكذا يقال في كلِّ مسألة وقع فيها الخلاف المقبول، إلاّ إذا كان الدليل قوياً وصريحاً وواضحاً فيجب الفَتْوَى بموجبه.
تنظيم الإفتاء

لا يحق للمُفْتِي، أن يصدر فَتْوَى، مستنداً إلى رأي فقهي يخالف حكم القضاء، في الدولة الإسلامية؛ إذا كان ذلك الحكم، قد استند إلى نص شرعي صحيح، واضح. فإن فعل، كانت فتواه خطأ، ولا يجوز للمستفتي العمل بها؛  بل ينبغي للمُفْتِي أن يأمر المحكوم عليه بطاعة حكم القاضي. مثل ما أفتى بعضهم بضرورة إجراء عمليات ختان الإناث في دولة تحظر ذلك، ومثل ما أفتى أحدهم بقتل كلّ يهودي في دولة بينها وبين اليهود معاهدة سلام وعلاقات دبلوماسية.

وقال العلماء إن الإمام الأعظم، أي خليفة المسلمين، مثله مثل غيره من المسلمين، تجوز فتواه في ما هو أهل له. يتعين عليه الإفتاء، إن لم يوجد من يقوم بالفتيا سواه؛ لأنها فرض كفاية، وفروض الكفايات إلى الإمام زمامها؛ لأنها عبارة عن المصالح العامة، التي لم تتعين على الأفراد. وإن لم يكن ثمة مفتون متبرعون، يؤثرون هذه المهمة، وجب على الإمام أن يضطلع هو نفسه بالإفتاء؛ أو يُوَلّيه مُفْتِياً رسمياً.

وعلى كلٍّ، فإن فتيا الإمام غير ملزمة للمُفْتِي، بل تجوز مخالفته فيها، من دون أن يكون في ذلك إخلال بطاعته الواجبة. ثم قد يكون للمُفْتِي الرسمي ولايات أخرى مثل الإمارة والقضاء والتدريس والوعظ والخطابة وإمامة الجماعة وغير ذلك. وقد كان النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ قائماً بوظيفة الإفتاء، إضافة إلى النبوة، والإمامة العظمى، والقضاء، والتعليم، وإمامة الصلاة، والخطابة وغيرها. وكذلك كان الخلفاء الراشدون المهديون يتولون هذه المهمات كلّها، حاشا النبوة، رضي الله عنهم أجمعين. بل قد كان الأمير الذي يوليَّى بلداً أو جيشاً أو نحو ذلك هو مُفْتِيهم. قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: رجل إمام أو وال، ورجل يعلم ناسخ القرآن من منسوخه، أو أحمق متكلف". وكان ابن عمر، إذا سُئل في مسألة، قال: إذهب إلى هذا الذي تولى أمر الناس، فضعها في عنقه".
إشراف الإمام على المُفْتِين

لمّا كان الإمام هو القائم على تحصيل المصالح العامة للمسلمين، ودرء المفاسد عنهم؛ فينبغي له حين يوجد من يقوم بالإفتاء على غير الوجه المشروع، أن يمنعه درءاً لفساده. وذلك إن تصدى للإفتاء من هو غير أهل له، أو من هو أهل، ولكن كثرت أغلاطه في العلم، وحصل من فتاواه الضرر، أو انحراف؛ فجعل يفتي بما يناقض مقصود الشارع، وهو من يسمى (المُفْتِي المجان) وهو الذي لا يبالي أن يحرم حلالاً، أو يحل حراماً، فيعلم الناس حيلاً باطلة.

 

[1] اشترط بعض الفقهاء للمُفْتِي أن يكون من أهل الاجتهاد. قال الآمدي، وأما المُفْتِي فلا بدلا وأن يكون من أهل الاجتهاد ـ "الإحكام في أصول الأحكام"، (4/298).

[2] سعيد بن جبير الأسدي (46 ـ 95هـ)، تابعي حبشي الأصل. درس العلم عن عبد الله بن عباس، حبر الأمة، وعن عبد الله بن عمر وعن السيدة عائشة أم المؤمنين في المدينة. سكن الكوفة ونشر العلم فيها، وكان من علماء التابعين، فأصبح إماماً ومعلماً لأهلها، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية. كان دعاء سعيد بن جبير على الحجاج قبل مقتله "اللهم لا تسلطه على قتل أحد من بعدي". وفعلاً مات الحجاج من دون أن يقتل أحداً من بعد سعيد بن جبير. قرأ القرآن على ابن عباس، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، كما روى الحديث عن أكثر من عشرة من الصحابة. وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه. وكان ابن عباس يجعل سعيدًا بن جبير يفتي وهو موجود. ولمّا كان أهل الكوفة يستفتونه، فكان يقول لهم: أليس منكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير، وكان سعيد بن جبير كثير العبادة لله، فكان يحج مرة ويعتمر مرة في كل سنة، ويقيم الليل، ويكثر من الصيام. راجع: سير أعلام النبلاء، 4/323.

[3] هو عبد الله بن محمد المعتز بالله ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد العباسي. ولد سنة 247هـ، في بغداد، وأولع بالادب، فكان يقصد فصحاء الأعراب ويأخذ عنهم، وصنف كتباً، منها: الزهر والرياض والبديع والآداب والجامع في الغناء والجوارح والصيد وفصول التماثيل وحلي الأخبار وأشعار الملوك وطبقات الشعراء. جاءته النكبة من حيث يسعد الناس: توفي المكتفي بالله سنة 296 واتفق رجال البلاط على تولية أخيه المقتدر العباسي وسنه 13 عاماً، ثم استصغروه فخلعوه بعد أربعة أشهر، وأقبلوا على ابن المعتز، فلقبوه المرتضي بالله وبايعوه بالخلافة، فأقام يوما وليلة، ووثب عليه غلمان المقتدر فخلعوه، وعاد المقتدر فقبض عليه وأمر بقتله. راجع: أحمد كمال زكي، "ابن المعتز العباسي"، ط1، وسلسلة أعلام العرب، ص268.

[4] شريح بن هانئ أبو المقدام الحارثي المذحجي الكوفي الفقيه، صاحب علي ـ رضي الله عنه. حدث عن أبيه وعلي وعمر وعائشة وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة؛ وعنه ابناه محمد والمقدام والشعبي والقاسم بن مخيمرة وحبيب بن أبي ثابت ويونس بن أبي إسحاق. شهد تحكيم الحكمَيْن، ووفد على معاوية شافعا في كثير بن شهاب فأطلقه له. عاش شريح بن هانئ مائة وعشرين سنة. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج 4، ص 112.

[5] هو الإمام العلامة الأوحد، الأستاذ، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإسفراييني، الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين. أحد المجتهدين في عصره، وصاحب المصنفات الباهرة. ارتحل في الحديث، وسمع من: دعلج السجزي، وعبد الخالق بن أبي روبا، وغيرهما. حدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو الطيب الطبري. ومن تصانيفه كتاب "جامع الخلي في أصول الدين والردِّ على الملحدين"، في خمس مجلدات. وبُنيت له بنيسابور مدرسة مشهورة. توفي بنيسابور يوم عاشوراء من سنة ثماني عشرة وأربع مائة. راجع:  سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج 7، ص 119.










       

ملحق
أصبحت الفَتْوَى مجالاً فسيحاً يتسابق فيه من يريد الشهرة وإرضاء الناس

كانت الفَتْوَى في الإسلام لها أهميتها ومكانتها، ولا يقدم على القيام بها إلاّ من هو مؤهل لها علمياً، مع تقوى الله والخوف منه؛ لأنها إخبار عن الله إنه أحلّ كذا. وقد قال الله تعالى: )وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ( (النحل: 116).

إن الإمامة في الدِّين لا تنال إلا بالعلم الراسخ، والعمل الصالح، والصبر على الجهاد في سبيل الله؛ ببيان الحق ورد الباطل. قال تعالى: )وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ( (السجدة: 24). وإن الاجتهاد المطلق لا ينال إلاّ بمؤهلاته العلمية وشروطه المعروفة في كتب أصول الفقه. وهناك مسائل ليست مجالاً للاجتهاد وهي:

أولاً: مسائل العقيدة. لأن العقيدة توقيفية، لا يدخلها الاجتهاد.

ثانياً: المسائل التي فيها نص من الشارع؛ لأنه لا اجتهاد مع النصوص المجمع عليها؛ لأنه لا تجوز مخالفة الإجماع. وعلى المُفْتِي ألا يختار ما تهواه نفسه أو ما يرضى به الناس، ولو خالف الدليل. ويجب الرد على من خالف الدليل، ولا يجوز السكوت؛ لأن الرد بيان للحق، والسكوت كتمان للعلم، وإقرار للباطل. والله تعالى يقول: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( (البقرة:159، 160). ولا يعدّ الرد على المخطئ تنقيصاً له، وإنما هو من باب النصيحة، والتعاون على البر والتقوى. وقد قال النبي: )الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ( (مسلم:82).

وضد النصيحة هو الغش والكتمان. ولهذا كان السلف الصالح يتهيبون الفَتْوَى ولا يفتي أحدهم إلاّ عند الضرورة؛ إذا لم يوجد غيره. وكانوا يتدافعون الفَتْوَى ويقول قائلهم: أجرؤكم على الفَتْوَى أجرؤكم على النار. لكن في العصر الحاضر صارت الفَتْوَى مجالاً، فسيحاً يتسابق فيه من يريد الشهرة، أو من يلتمس رضاء الناس بسخط الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. وهناك من يشجعه على هذا الإجرام، ويلقبه بلقب: الإمام ومجتهد العصر، بدلاً من أن ينصحه ويخوفه بالله. بل يَعُدّ من ينصحه ويبين أخطاءه آكلاً للحوم العلماء، ومنتقصاً لأهل الفضل، وحاسداً لهم، إلى غير ذلك من صنوف اللوم.

والذي نوصي به إخواننا، الذين يكتبون في الصحف مقالات، يؤيدون بها الفتاوي الخاطئة، ويثنون على أهلها، ويصفونهم بالأئمة ومجتهدي العصر، أن يتقوا الله، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان. وأن يكلوا النظر في مسائل العلم إلى أهله، وألاّ يدخلوا فيما لا يحسنون، وألاّ يأنفوا من أن يقال للمخطئ: أخطأت. نسأل الله للجميع التوفيق للعمل النافع، والعمل الصالح، وصل الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:48 pm

   

الفصل الرابع

شروط المُفْتِي وآدابه

يُشترط في المُفْتِي شروط كثيرة، أهمها:








       

ملحق

الحِيَل في الدِّين

الحِيَل في الدِّينِ نوعان:

1. نوع جائز: يراد به التوصل إلى تنفيذ أمر الله واجتناب الحرام، والتخلص منه، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي. وهذا النوع محمود يثاب فاعله.

2. نوع محرم: يحتال به لإسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً، والباطل حقاً. وهذا النوع مذموم يعاقب فاعله. ودليل تحريمه قوله تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (Cool يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ( (البقرة: 8 و9). وقال رسول الله: )مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ قَدْ طَلَّقْتُكِ قَدْ رَاجَعْتُكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ( (ابن ماجه: 2007). وفي حديث آخر: )أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانًا، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَقْتُلُهُ( (النسائي: 3348).

جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، أيحلها له رجل( أي يتزوجها ليلة، ثم يطلقها)؟ فقال: من يخادع الله يخدعه". وقد عاقب الله أهل السبت من اليهود، فمسخهم قردة، لما احتالوا على إباحة ما حرم الله من الصيد يوم السبت، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، وأخذوها بصيدها يوم الأحد. وقال الرسول:َ )لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ( (ابن ماجة: 4010).

ومن المعلوم أن تغيير صور المحرمات وأسمائها، مع بقاء مقاصدها وحقائقها، زيادة في المفسدة، التي حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع إلى شرع الله. وكأنه يحرم الشيء لمفسدة، ثم يبيحه لأعظم منها.

ومن أمثلة الحيل المحرمة:

1. قيل لأحمد بن حنبل: امرأة تريد أن تفارق زوجها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: ارتدي عن الإسلام، فينفسخ عقد النكاح ففعلت. فغضب أحمد، وقال: "من أفتى بهذا، أو علمه، أو رضي به، فهو كافر".

2. رجل حلف على امرأته، وعلى درجة سلم، إن صعدت فانت طالق، وإن نزلت فأنت طالق. فقيل له: إذاً أحملها أنت.

وهذا هو الحنث بعينه.

3. حلف رجل ألاّ يطلق امرأته بوجه من الوجوه، فبذلت له مالاً كثيراً، فاستفتى رجلاً خبيثاً، فأفتاه أن يعاشر أمها، فتحرم عليه. قال يزيد بن هارون "من يخادع الله يخدعه".

4. اتفق العلماء على أن:

أ.  من قتل مورثه؛ ليتعجل الميراث، أنه يُحرم منه.

ب. وعلى بطلان وصية الموصَى له بمال، إذا قتل الموصي.

ج. وعلى تحريم المنكوحة في عدتها على الزوج، تحريماً مؤبداً.

د.  وعلى توريث المرأة من زوجها، إذا طلقها في مرض موته، يريد حرمانها من الميراث، حتى وإن انقضت عدتها.

وقال العلماء من عاش بالمكر، مات بالفقر.

5. امرأة تريد مواقعة مملوكها، فتهبه لرجل، فيزوجها به. فإذا قضت منه وطرها، استوهبته من الرجل، فوهبها إياه، فانفسخ النكاح. قال ابن تيمية: هذه الهبة فاسدة.

6. رجل يهب ماله لابنه، وهو يريد أن يرجع في الهبة، لئلا تجب عليه الزكاة. فهي هبة فاسدة.

ومن أمثلة الحِيَل من النوع الأول (النوع الجائز):

1. قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ لنبيه أيوب ـ عليه السلام ـ وقد حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة )وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ( (ص: 44)؛ إذ أمره الله أن يأخذ أصلاً فيه مائة قضيب، فيضرب به ضربة واحدة. فأبر الله نبيه، وخفف عن أَمَتِهِ.

وقد علّم الله نبيه يوسف ـ عليه السلام ـ الحيلة، التي توصل بها إلى أخذ أخيه؛ بإ ظهار أنه سارق، ووضع الصواع في رحله، ولم يكن كذلك حقيقة. لكن أظهر ذلك؛ توصلاً إلى أخذ أخيه، وجعله عنده. وأخبر الله أن ذلك كيد، كاده سبحانه ليوسف؛ ليأخذ أخاه. ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذي رفع به درجات من يشاء )نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ( (الأنعام: 83). وأن الناس متفاوتون فيه؛ ففوق كلّ ذي علم عليم. )نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( (يوسف: 76).

2. )عن أمِّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا. وَقَالَتْ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِلاَّ فِي ثَلاثٍ الْحَرْبُ وَالإِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا( (مسلم: 4717). ومعنى الكذب، في ذلك، هو المعاريض، لا صريح الكذب.

3. لقي رسول الله طليعة للمشركين، وهو في نفر من أصحابه. فقال المشركون )ممن أنتم؟ فقال النبي: نحن من ماء. فنظر بعضهم إلى بعض. فقالوا: أحياء اليمن كثير. لعلهم منهم، وانصرفوا(. وأراد رسول الله بقوله: نحن من ماء" قوله تعالى: )خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ( (الطارق: 6).

ولما جامع عبدالله بن رواحة جاريته، أبصرته امرأته، فأخذت السكين وجاءته. فوجدته قد قضى حاجته. فقالت: "لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها في عنقك" فقال: ما فعلت. (أي لم أفعل ما تتهمينني به) فقالت: إن كنت صادقاً فأقرأ القرآن. فقال:

شهدت بأن وعد الله حق                 وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف            وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد                     ملائكة الأله مسومينا

فقالت آمنت بكتاب الله، وكذبت بصري. فبلغ ذلك رسول الله. فضحك حتى بدت نواجذه". قال ابن سيد البر: ثبت ذلك عن عبدالله بن رواحة.

ويذكر عن عمر بن الخطاب أنه قال: "عجبت لمن يعرف المعاريض. كيف يكذب؟ ".

ودُعي أبو هريرة إلى طعام فقال: إني صائم. ثم رأوه يأكل. فقالوا: ألم تقل: إني صائم. فقال: ألم يقل رسول الله: )صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ( (النسائي: 2377).

وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم، ولا شيء معه، قال: "أعطيك في أحد اليومَيْن إن شاء الله تعالى"، يظن أنه أراد يومه والذي يليه؛ وإنما أراد يومي الدنيا والآخرة.

وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلاناً أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: والله ما أبصر إلاّ ما سددني غيري،  إلاّ ما بصرك ربك.

وذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلاً كان يصيب بالعين. فرأى بغلة شريح، فأراد أن يعينها، ففطن له شريح. فقال: إنها إذا ربضت، لم تقم؛ حتى تقام. فقال الرجل: أف أف. وسلمت بغلته. وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها.

)عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلا اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ،َ فَقَال:َ إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ! فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلا النُّوق؟( (الترمذي:1941).

)عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَال:َ كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا رَجُلٌ مُخْدَجٌ ضَعِيف،ٌ فَلَمْ يُرَعْ إِلا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ، مِنْ إِمَاءِ الدَّارِ، يَخْبُثُ بِهَا. فَرَفَعَ شَأْنَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّه.ِ فَقَال:َ اجْلِدُوهُ ضَرْبَ مِائَةِ سَوْطٍ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُوَ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ. لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةَ سَوْطٍ مَات.َ قَالَ: فَخُذُوا لَهُ عِثْكَالا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَة(. (ابن ماجه: 2564).

وقال عقبة بن المغيرة: كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحجاج. فكنا، إذا خرجنا من عنده، يقول: إن سُـئلتم عني وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا. ولا لنا به علم، ولا في أي موضع هو. واعنوا أنكم لا تدرون: أي موضع أنا فيه قائم أو قاعد. وقد صدقتم.

وقد يكون التعريض بالقول والفعل معاً، مثلما حدث عندما جاءت امرأتان، إلى سليمان عليه السلام، ومعهما طفل تزعم كل منهما أنه ولدها، فقال سليمان، تعريضاً: ائتوني بالسكين أشقه بينكما"، فجزعت إحداهما، وقالت بل هو لها. فحكم سليمان لتلك التي جزعت وصاحت.

وقال أبو عوانة عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تعاتبه في جاريه له، وبيده مروحة، فقال أشهدكم أنها لها. قال أما رأيتموني أشير إلى المروحة؟ إنما قلت لك أشهدوا انها لها، وانا أعني المروحة. وعن الشعبي: من حلف على يمين لا يستثنى، فالبر والإثم فيها على علمه. قلت: ما تقول في الحيل؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال. فما كان من هذا ونحوه، فلا بأس به، وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يبطله، أو يحتال في باطل حتى يموهه، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة، وأمّا ما كان على السبيل الذي قلنا، فلا بأس بذلك.

قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين، إلاّ وقد تضمن كثيراً من مسائل الحيل. فأبعد الناس عن القول بها. وقد سُئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق: ليطأن امرأته في نهار رمضان، فقال: يسافر بها. ويطؤها في السفر.

ومن أمثلة الأحكام، التي يراد منها سد باب الشرور:

1. نهى النبي أن تقام الحدود في دار الحرب، وأن تقطع الأيدي في الغزو؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار.

2. اتفاق الصحابة على قتل الجماعة الكثيرة، إذا اشتركوا في قتل الواحد؛ حتى لا تتعاون الجماعة على قتل الواحد.

3. واتفاقهم على القصاص من السكران، إذا قتل؛ لئلا يتخذ السُّـكر ذريعة إلى القتل.

4. نهي الله رسوله عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، حتى لا يكون ذريعة إلى سبهم القرآن.

5. نهي الله الصحابة أن يقولوا للنبي "راعنا"، مع قصدهم معناها الصحيح، وهو المراعاة والنظر؛ لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى سب النبي ( أي قصدهم، حين ينادونه، أنك راع للغنم تابع لنا).

6. أمر المأمومين أن يصلوا جلوساً، إذا صلى إمامهم جالساً؛ سداً لذريعة التشبه بفارس والروم، في قيامهم على ملوكهم وهم قعود. اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلاتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: )إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ؛ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُود.ٌ فَلا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُم.ْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا. وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوا قُعُودًا( )مسلم: 624(.

7. أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، وأمر بإخفاء قبر النبي دانيال؛ سداً لذريعة الشرك. ونهى عن تعمد الصلاة في الأمكنة، التي كان الرسول ينزل بها في سفره، وقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد، من أدركته الصلاة، فليصل، وإلاّ فلا".

8. جمع عثمان بن عفان الأمة على حرف واحد، من الأحرف السبعة، في لهجات العرب؛ لئلا يكون الاختلاف ذريعة إلى الاختلاف في القرآن. ووافقه الصحابة على ذلك.

9. نهي النبي عن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها. ونهى عن قتال الأمراء، والخروج على الأئمة، وإن ظلموا، ما أقاموا الصلاة؛ سداً لذريعة الفساد العظيم.

 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:49 pm



        

الفصل الخامس

آداب الاستفتاء
تعريف المستفتي

هو من ليس بمجتهد، ولا فقيه. أو هو كلّ من لم يبلغ درجة المُفْتِي. وقد يكون المستفتي عامياً صرفاً، لا باع له في أنواع العلوم، وفروعها؛ وقد يكون عالماً، لم يبلغ درجة الاجتهاد، أو بلغ درجة علم محدود، مقيد بمذهب إمام له، ولكنه يعجز عن الاجتهاد، للتوصل إلى حكم شرعي، في ما يستجد من وقائع.

حكم الاستفتاء

يختلف حكم الاستفتاء باختلاف الناس وأحوالهم، كالآتي:

1. يُحرم على من استوفى شروط الاجتهاد وأهليته أن يستفتي غيره؛ لأن الواجب عليه أن يجتهد في المسألة، حتى يعرف حكمها الشرعي. ويجوز له السؤال، حتى يعرف حكمها الشرعي. ويجوز له السؤال، على وجه المدارسة والمذاكرة.

2. يجب على من لم يستوفِ أهلية الاجتهاد، سواء كان عامياً صرفاً، أو عالماً لم يبلغ درجة الاجتهاد، أن يستفتي غيره؛ والوجوب هنا يختلف باختلاف الأشخاص؛ فالصبي حين يبلغ، وكان عاقلاً، يلزمه معرفة أحكام الصلاة، والشهادتَيْن؛ فهذا مما لا يسع المسلم جهله.

3. يُكره في مسائل لم تقع بعد؛ إلاّ إذا كان الأمر متوقعاً حدوثه، على سبيل الظن الغالب. كمن يريد أن يكون، في المستقبل، طبيباً، أو تاجراً، فيسأل عن أحكام ذلك.

4. جائز لمن لا يجب عليه، كالفقير غير المستطيع، ثم يسأل عن أحكام الزكاة، أوالحج، أو العتق، أو صدقات التطوع، وغير ذلك.

شروط الاستفتاء

1. على المستفتي، إذا احتاج للفَتْوَى، أن يسعى إلى المفتي في محلته، فإن لم يكن في محلته، وجب عليه أن يرحل إلى المكان، الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده، لزمه الرحيل إليه، وإن بعدت داره. فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة واحدة.

عن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: جاء رجل منّا، إلى أبي الدرداء، أمرته أمه في امرأته أن يفارقها، فرحل إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك. فقال له أبو الدرداء: ما أنا بالذي آمرك أن تطلّق، وما أنا بالذي آمرك أن تمسك. سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: )الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ قَالَ فَرَجَعَ وَقَدْ فَارَقَهَا( (مسند أحمد: 26239). (والحقيقة أن هذه المسألة فيها تفصيل، فالرجل يطيع أباه أو أمه، في الطلاق، إن كان بحق، ولا يؤدي إلى ظلم. وقد سأل رجل الإمام أحمد: هل يفارق امرأته، إذا أمره أبوه أن يفارقها. فقال: لا تفعل. فقال: ألم يأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ ولده، عبدالله، أن يفارق امرأته فأمره النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ أن يطلقها؟ فقال: حتى يكون أبوك مثل عمر). وعن سعيد بن جبير قال: "اختلف أهل الكوفة في هذه الآية: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا( (النساء: 93)، فرحلت إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال: لقد أنزلت آخر ما أُنزل، ثم ما نسخها شيء".

وإذا قصد أهل محلة للاستفتاء عما نزل به، فعليه أن يسأل من يثق بدينه، ويسكن إلى أمانته، أي يسأل عن أعْلَمهم وأورعهم ليقصده، وإن استرشد جماعة، فعليهم أن ينبهوه إلى أفضل المُفْتِين، وأعلمهم بأحكام الدِّين. فعن موسى بن يسار، قال: كان رجاء بن حيوة[1] وعدي بن عدي[2] ومكحول[3] في المسجد، فسأل رجل مكحولاً عن مسألة، فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة.

وإذا ذُكر للمُستفتي اثنان أو أكثر، بدأ بأكبرهما سناً، فيتأدب معه في الخطاب، ويبجله في الألفاظ،، ولا تكون مخاطبته له كمخاطبة أهل السوق والعوام؛ فقد قال تعالى: )لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا( (النور: 63). وهذا أصل في أن يُميز ذو المنزلة بمنزلته، ويفرق بينه وبين من لم يلحق بطبقته. وإذا لم يجد مُفْتِياً، ولا أحداً ينقل له حكم واقعته، لا في بلده ولا في غيره، انتفى التكليف عنه فلا يؤاخذ، إذا صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها.

2. الالتزام بمذهب معين، وهذا هو الأحوط؛ وإن اختُلف فيه. وحجة من أوجبه، أنه لو جاز اتّباع أي مذهب شاء، لأفضى إلى أن يلتقط المستفتي رخص المذاهب؛ متبعاً هواه. ويتخير بين التحليل والتحريم، والوجوب والجواز، وذلك يؤدي انحلال التكليف؛ ومن تتبع الرخص كلها، فهو متبع لهواه. وقد أنكر العلماء على من فعل ذلك، وقالوا يفسق، وقال بعضهم: يخرج عن الإسلام. عن أبي اسماعيل القاضي، قال: دخلت على الخليفة المعتضد، فرفع إلي كتاباً قد جُمِعَت فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: "مصنف هذا الكتاب زنديق. وما من عالم إلاّ وله زلة. ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها، ذهب دينه". فأمر المعتضد بإحراق الكتاب.

3. إذا اختلفت فَتْوَى مفتيَّيْن، أو أكثر، ففي ذلك  خمسة أوجه:

أ.  يأخذ بأغلظ الأقوال وأشدّها؛ لأنه أحوط وأورع.

ب. يأخذ بأخف الأقوال؛ لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ( (البقرة:185). ولقول عائشة: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا؛ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا" (البخاري: 5661).

ج. يأخذ بفَتْوَى الأعْلم، الأورع. ويتفرع على ذلك:

(1) إن كان أحدهما أعْلم، والآخر أورع، يأخذ بقول الأعْلم؛ لقوة معرفته بأخذ الحكم، وهو قول الشافعي.

(2) يأخذ بفَتْوَى الأورع؛ لاجتهاده في التوصل إلى الحق.

(3) فإن تساويا في العلم، أخذ بقول أورعهما. وإن تساويا في الورع، أخذ بقول أعْلمهما.

د. يسأل مُفْتِياً آخر، ويعمل بقول من وافقه منهما.

هـ. يتخير، فيأخذ بفَتْوَى أي منهما شاء.

والراجح ما قاله ابن حزم، وهو أن يأخذ بالقول المدعوم بدليل من كتاب الله، أو سُـنَّة رسوله؛ لأن من قال هو مخير، فقد أمره باتباع هواه، وذلك حرام. ومن قال يأخذ بالأغلظ، فلا دليل معه، ومن قال: يأخذ بالأخف، واستند إلى قوله تعالى: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ( (البقرة:185)، فقد أخطأ؛ لأن كل ما ألزمنا به ربنا، فهو يسر. ومن قال: يسأل مُفْتِياً آخر للتعاضد، فليست الكثرة سبباً للترجيح. والحق هو ما صح دليله من قول ربنا، أو من قول رسوله ـ صل الله عليه وسلم".

4. إن مات المُفْتِي، قبل عمل المستفتي بفتياه، فله العمل بها؛ وقيل لا يعمل بها. وإن كان قد عمل بها، لم يجز له تركها إلى قول غيره، في تلك الواقعة. ويبدو أنه لامانع من أن يتركها إن ظهرت فتوى أخرى أرجح وأصح دليلاً.

5. وكلُّ فَتْوَى تحوك في صدر المستفتي، ولا تطمئن إليها نفسه، ولا يستريح إليها ضميره؛ لسبب من الأسباب المعتبرة، يجب أن يتوقف عن العمل بها، حتى تتضح له الرؤية، ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي؛ بأن يسأل أكثر من مفت، أو يعاود المُفْتِي الأول، مرة بعد أخرى؛ حتى يزول التردد بالتثبت، وينقطع الشك باليقين؛ والقلب، أو الضمير، بتعبير عصرنا، هو المُفْتِي الأول، في هذه الأحوال، كما في الحديث المعروف: )استفت قلبك(.

ولا تخلصه فَتْوَى المُفْتِي من الله، إذا كان يعلم أن الأمر، في الباطن، بخلاف ما أفتاه. كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي: )إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ. وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ( (البخاري: 6634). والمُفْتِي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فَتْوَى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالمحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المُفْتِي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفَتْوَى بالحيل والرخص المخالفة للسّنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها. فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لحال المُفْتِي، يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد، فلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.

6. يجب أن يكون سؤاله عمّا ينفع، أي يسأل في واقعة يعانيها هو أو غيره، ويريد الحكم فيها. ولا يسأل عما هو مفترض بعيد الوقوع؛ فهذا من أغاليط المسائل، التي جاء الحديث بالنهي عنها. قال رسول الله: )أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ؛ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ( (مسلم: 2380)، وقال صل الله عليه وسلم: )إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ( (البخاري: 1383).

وقد ظلّ المسلمون، في عصور ازدهارهم، يسألون عما يفيدهم في دينهم ومعاشهم ومعادهم، وإذا جمح بأحدهم خياله، ردّه علماؤهم إلى جادة الصواب، وأفهموه أن الإسلام يريد المسلم إيجابياً، منتجاً، يُعْرض عن اللغو، ويشغل نفسه ووقته بالنافع من القول والعمل والفكر. ولمّا تخلف المسلمون حضارياً وفكرياً، أكثروا من الأسئلة، التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة، وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات، لم تخطر على بال أحد من سلف الأمة.

7. وإذا استفتى، فأُفتى، ثم حدثت تلك الحادثة له، مرة أخرى، فهل يلزمه تجديد السؤال؟ فيه مذهبان: أحدهما، يلزمه، لاحتمال تغير رأي المُفْتِي؛ والثاني، لا يلزمه؛ لأنه قد عرف الحكم، والأصل استمراره.

8. ينبغي أن لا يمنعه الحياء من السؤال عن أمر نزل به؛ فإن غلب عليه الحياء، واحتشم من سؤال الفقيه، ألقى مسألته على من يأنس به، وينبسط إليه؛ ليسأل الفقيه عنها، ويخبره بحكمها. طلب علي بن أبى طالب من المقداد بن الأسود، "أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ، مَاذَا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عِنْدِي ابْنَتَهُ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَهُ. قَالَ الْمِقْدَادُ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: )إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَنْضَحْ فَرْجَهُ، وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ( (سنن أبي داود: 179).

وعن الأسود[4] ومسروق[5]، قالاً: "أتينا عائشة لنسألها عن المباشرة للصائم( أي لمس الرجل لامرأته أو تقبيلها). فاستحيينا، فقمنا قبل أن نسألها. فقالت: ما جاء بكما؟ فقلنا: يا أم المؤمنين، إنا جئنا؛ لنسألك عن شيء. فاستحيينا، فقمنا. فسألتنا، فأخبرناها. فقالت: "كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُقَبِّل،ُ وَيُبَاشِر،ُ وَهُوَ صَائِم،ٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ" (البخاري: 1792).

9. لا يصح للسائل أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه؛ لأنه إسناد أمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا؛ لأن السائل إذا سأل من ليس أهلاً، فكأنما يقول له: أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك، فيما نحن بالجهل فيه سواء. ويؤخذ من هذا أن المسلم، إذا جهل أمراً من أمور دينه، وجب عليه أن يسأل من هو أهل لإفادته، وأن يتحرى ذلك، كالمريض الذي يبحث عن طبيب اشتهر في علاج داء من الأدواء الجسدية، أو النفسية، فأولى به؛ تصحيحاً لالتزاماته الدِّينية، ألا يلجأ في الاستفتاء في أمور الدِّين إلاّ لأهل الذكر فيها؛ امتثالاً لقول الله تعالى؛ تعليماً وتوجيهاً: )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( (الأنبياء: 7).

10. ويجب على السائل أن يتجه سؤاله عن المفيد في أمر التكليف، أي عن المفيد في دينه، ويرشد إلى هذا قول الله ـ سبحانه وتعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ( (البقرة: 189). وقد وبّخ عمر بن الخطاب رجلاً؛ وعاقبه أشد العقاب؛ لأنه يسعى في السؤال عن المتشابهات، التي لا ينفع العلم بها. وكان الصحابة والتابعون لا يسألون إلاّ فيما هو نافع، وكانوا أبعد ما يكونون عن المسائل الأشبه بالألغاز. وقال رجل للإمام الشعبي: "إني خبأت لك مسائل. فقال له: خبأها لإبليس حتى تلقاه، فتسأله عنها". وروى عن ابن عباس أنه قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله، ما سألوه إلاّ عن ثلاثة عشرة مسألة، حتى قُبض، كلّهن في القرآن، منها )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ"، و"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ(، ما كانوا يسألون إلاّ عما ينفعهم".
آداب المستفتي

(من الجدير الذكر، أن ما يلي من الآداب كانت عند لقاء المستفتي بالمفتي، أمّا في زماننا هذا فقد تشابكت وتطورت الوسائل، وصارت هناك فتاوى على الهاتف، وبالبريد الألكتروني، ومواقع مخصصة للفتاوى الجاهزة).

1. حُسن الأدب، عند سؤال المُفْتِي، واحترامه وتوقيره. فلا يسأله، وهو قائم؛ بل ينتظر حتى يجلس. ولا يطرق بابه، وقت القيلولة، أو النوم ليلاً، أو أوقات راحته الخاصة، في بيته. وإن رآه في هم قد عرض له، أو أمر يحول بينه وبين الاتزان والفكر السديد، ويصده عن استيفاء فكره، أمسك عنه؛ حتى إذا زال ذلك العارض، وعاد إلى المألوف من سكون القلب وطيب النفس؛ فحينئذ يسأله. وقد نبه رسول الله صل الله عليه وسلم على ذلك، بقوله: )لا يَقْضِيَنَّ أَحَدٌ فِي قَضَاءٍ بِقَضَاءَيْن،ِ وَلا يَقْضِي أَحَدٌ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ( (النسائي: 5326).

2. ولا ينبغي له إذا سأل المُفْتِي أن يقول له: ما يقول صاحبك أو ما تحفظ في كذا، بل يقول: ما تقول أيها الفقيه؟ أو ما عندك؟ أو ما الفَتْوَى في كذا؟

3. ليس ينبغي للعامي أن يطالب المُفْتِي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول لم؟ وكيف؟ فقد قال الله ـ سبحانه وتعالى: )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( (الأنبياء: 7). وفرق ـ تبارك وتعالى ـ بين العامة وبين أهل العلم، فقال: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( (الزمر: 9).

فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك، سأل عنها في زمان آخر، ومجلس ثان، أو بعد قبول الفَتْوَى من المُفْتِي مجردة.

4. وإذا رفع السائل مسألته في رقعة، فينبغي أن تكون الرقعة واسعة، ليتمكن المُفْتِي من شرح الجواب فيها، فربما اختصر ذلك لضيق البياض، فأضرّ بالسائل. وربما ضاق المُفْتِي بذلك. وقد دفع غلام رقعة ضيقة إلى أحد المُفْتِين يستفتيه، فقال له، بعد ما تأملها: فأين أكتب الجواب؟ فقال: على ظهر الرقعة فقال: ما هذه المضايقة؟ لكن خذ الجواب شفاهاً.

فإن أراد الاقتصار على جواب المسؤول وحده، قال له في الرقعة: ما تقول رضي الله عنك، أو رحمك الله، أو وفقك الله. وإن قال: ما تقول رحمك الله، ورحم والديك"، كان أحسن. وإذا أراد أن يسأل جماعة من الفقهاء قال: ما تقولون رضي الله عنكم؟ أو ما يقول الفقهاء، سددهم الله، في كذا؟ ولا ينبغي أن يقول: أفتونا في كذا، ولا : ليفت الفقهاء في كذا، فإن قال: ما الجواب؟ أو ما الفَتْوَى في كذا؟ كان قريباً. وحُكى أن فَتْوَى وردت من السلطان إلى أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، لم يكتب له الدعاء فيها، فكتب الجواب في أسفلها: لا يجوز، أو كتب: يجوز، ولم يزد على ذلك. فلما عادت الرقعة إلى السلطان، ووقف عليها، علم أن ذلك كان من أبي جعفر الطبري للتقصير في الخطاب الذي خوطب به، فاعتذر إليه.

5. أن يكون كاتب الاستفتاء دقيقاً، حريصاً على إبانة الخط، ونقط ما أشكل، وشكل ما أشبه. عن أبي حسين الخياط، قال: "كنت قاعداً عند أبي مجالد أحمد بن الحسين، فجاءته امرأة برقعة فيها مسألة. فقال لي: إقرأ عليّ يا أبا الحسين. قال: فأخذت الرقعة فإذا فيها: رجل قال لامرأته: أنت طالق إن تم وقف عبدان؟ فقرأت عليه ذلك. فقال لها يا امرأة ما حال وقف عبدان؟ فقالت له: لست أعرف وقف عبدان. فقال لي: أعد القراءة. فقرأت عليه كما قرأت أولاً. فقال لها: يا امرأة تم وقف عبدان هذا أو لم يتم؟ قالت: لا والله، ما أعرف وقف عبدان. وكان في المسجد جماعة. فقال لهم: انظروا في رقعة المرأة، فنظروا فكلّ قال كما قلت. ثم انتبه لما في الرقعة بعضهم، فإذا فيها: رجل قال لامرأته أنت طالق إن تم وقف عند إن.

6. كان بعضهم يختار أن يدفع الرقعة إلى المُفْتِي منشورة ولا يكلفه نشرها، ويأخذها من يده إذا أفتَى، ولا يكلّفه طيها. وإذا أراد المستفتي جمع جوابات عدة، من المفتِين في رقعة واحدة، بدأ بسؤال الأسن والأعلم؛ فقد قال رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ لرجل همَّ بالكلام، في حضرة من هو أكبر منه سنّاً: )كبِّر كبِّر( (البخاري: 2937).

وإن أراد المستفتي إفراد الجوابات في رقاع، فلا عليه أن يبدأ بأيهم شاء. قال الصيمري: يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم. وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي، إلاّ في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده.

7. وعلى المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل المفتى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعاً، وإنما لبس على المُفْتِي، وغره بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية المسؤول عنها، فيجيب المُفْتِي بما يظهر له غير متفطن إلى خبايا الموضوع وخلفياته. ولو عرضت عليه القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفي عنه، لغير فتواه.

والمُفْتِي هنا كالقاضي الذي يحكم بحسب الظاهر، تاركاً إلى الله أمر الخفايا والسرائر، وقضاؤه بحسب الظاهر، لا يجعل الحرام في الباطن حلالاً، قال تعالى: )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (البقرة: 188). وفي الحديث الصحيح: )إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَي،َّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ( (البخاري: 6634). وإذا كان هذا في قضاء الرسول المصطفى بحسب ما ظهر له، فكيف بقضاء غيره؟!

8. يستحب للمستفتي أن يتغاضى عن هفوة المُفْتِي، أو غلطته؛ فلا يتنكر له. فمن صبر على التعليم، تعلم، وإلا ظلّ جاهلاً، قال الشاعر:

فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه         واصبر لجهلك إن جفوت معلماً

إن المعلم والطبيب كلاهما            لا ينصحان إذا هما لم يكرما

9. ألاّ يستحي من السؤال عمّا أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح؛ فقد قيل: "من رق وجهه، رق علمه. ومن رق وجهه، عند السؤال، ظهر نقصه، عند اجتماع الرجال". قال البخاري: بَاب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلا مُسْتَكْبِر". وَقَالَتْ عَائِشَة:ُ "نِعْمَ النِّسَاء،ُ نِسَاءُ الأَنْصَار؛ِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ".

10. أن يدعو للمُفْتِي، بعد انتهاء الجواب على مسألته.

11. ألاّ يكون فضولياً؛ فيسأل المُفْتِي أموره الخاصة.

[1] هو رجاء بن حيوة بن جرول الكندي أبو المقدام، شيخ أهل الشام في عصره، ومن الوعاظ الفصحاء العلماء. وُلد في القرن الأول الهجرى، وعُرف بملازمته لعمر بن عبدالعزيز طوال خلافته، وتوفى  في سنة 112هـ. اشتهر بأنه أحد المهندسَيْن الاثنيْن اللذين أشرفا على تفاصيل الزخارف والنقوش الاسلامية داخل قبة الصخرة في القدس. راجع: سير أعلام النبلاء للذهبي، ج4 ص557 ـ 561، ط9.

[2] عدي بن عدي، أبوه من أصحاب رسول الله ـ صل الله عليه وسلم. استعمله عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل. وكان ناسكاً، ويقال عنه: إنه سيد أهل الجزيرة. راجع: ابن الأثير، "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، ج17، ص 111.

[3] هو: مكحول الأزدي البصري أبو عبد الله، تابعي جليل. روى عن ابن عمر وأنس، وسمع أيضا من واثلة وفضالة بن عبيد وسعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة. راجع: سير أعلام النبلاء، ج5، ص160.

[4] الأسود بن يزيد ابن قيس، الإمام القدوة أبو عمرو النخعي الكوفي. وقيل يكنى أبا عبد الرحمن، وهو أخو عبد الرحمن بن يزيد، ووالد عبدالرحمن بن الأسود، وابن أخي علقمة بن قيس، وخال إبراهيم النخعي. فهؤلاء أهل بيت من رؤوس العلم والعمل. وكان الأسود مخضرماً، أدرك الجاهلية والإسلام. وحدث عن معاذ بن جبل وبلال وابن مسعود وعائشة وحذيفة بن اليمان وطائفة سواهم. حدث عنه ابنه عبد الرحمن، وأخوه، وإبراهيم النخعي، وعمارة بن عمير، وأبو إسحق السبيعي، والشعبي، وآخرون. نقل العلماء في وفاة الأسود أقوالاً أرجحها: سنة خمس وسبعين هجرية. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج 4، ص 50ـ53.

[5] مسروق ابن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مر بن سلمان بن معمر، الإمام القدوة العلم، الهمداني الكوفي. يُقال إنه سُـرق وهو صغير، ثم وجد، فسمي مسروقاً. حدث عن أبي بن كعب، وعمر، وعن أبي بكر الصديق، وآخرين. ويُعَدّ من كبار التابعين، ومن المخضرمين، الذين أسلموا في حياة النبي. قال الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقاً، وكان مسروق لا يستشير شريحاً. ومما قال مسروق: لأن أفتي يوما بعدل وحق أحب إلي من أن أغزو سنة. ويقال: شهد صفين فوعظ وخوف ولم يقاتل. وقيل: شهد قتال الخوارج مع علي. وقيل: مات سنة ثلاث وستين هجرية. سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج4، ص63 ـ 69 .


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:50 pm




        

الفصل السادس

ضوابط الفَتْوَى

الفَتْوَى إخبار عن حكم الله؛ لهذا كان إطلاق القول بالحل أو الحرمة، من غير ضوابط، افتراءً على الله، القائل في محكم كتابه: )وّلا تّقٍولٍوا لٌمّا تّصٌفٍ أّلًسٌنّتٍكٍمٍ الًكّذٌبّ هّذّا حّلالِ وّهّذّا حّرّامِ لٌَتّفًتّرٍوا عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ إنَّ الَّذٌينّ يّفًتّرٍونّ عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ لا يٍفًلٌحٍونّ( (النحل: 116).

تنحصر أهم ضوابط الفَتْوَى فيما يلي:

1. الرجوع إلى أهل التخصصات المختلفة في ما يتعلق بهذه التخصصات

تحدّث عددٌ من العلماء قديماً عن اختصاصاتٍ لا يكون الحكم فيها للمُفْتِي بل لصاحب التخصص؛ فتحدّث ابن تيمية وابن القيم، وقبلهما الإمام الجويني، عن أن الحكم في المصلحة في الأمور العسكرية يعود للعسكر، وتحديد بعض مسائل البيوع يعود لأهل السوق لا للمُفْتِي، وغيرها من المسائل. فحين يقرر العسكريون استخدام مصطلح ما مثل "العقيدة العسكرية"، لا ينبغي لعلماء الدين أن يعترضوا؛ لأن العسكريين يريدون إلزام أنفسهم وأفرادهم بضوابط وقواعد مهمة تصلح بها القيادة وأداء المهام المختلفة على أكمل وجه. وكذلك الشأن في أمور الطب والهندسة والحاسب والكيمياء والقوى النووية، وغير ذلك.

2. الاعتماد على الأدلة الشرعية

إن أول ما يجب توافره في الفَتْوَى؛ لتكون محلاً للاعتبار، اعتمادها على الأدلة الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم، وأولها: كتاب الله تعالى، وثانيها: سُـنَّة رسوله.

فلا يجوز للمُفْتِي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما؛ اعتماداً على غيرهما، والأدلة على ذلك من كتاب الله ـ تعالى ـ كثيرة، منها: - قول الله ـ تعالى ـ: )وّمّا كّانّ لٌمٍؤًمٌنُ وّلا مٍؤًمٌنّةُ إذّا قّضّى اللَّهٍ وّرّسٍولٍهٍ أّمًرْا أّن يّكٍونّ لّهٍمٍ الًخٌيّرّةٍ مٌنً أّمًرٌهٌمً وّمّن يّعًصٌ اللَّهّ وّرّسٍولّهٍ فّقّدً ضّلَّ ضّلالاْ مٍَبٌينْا( (الأحزاب: 36). ومنها قوله ـ تعالى ـ: )يّا أّيٍَهّا الَّذٌينّ آمّنٍوا لا تٍقّدٌَمٍوا بّيًنّ يّدّيٌ اللَّهٌ وّرّسٍولٌهٌ وّاتَّقٍوا اللَّهّ إنَّ اللَّهّ سّمٌيعِ عّلٌيمِ( (الحجرات: 1). أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه. عن ابن عباس: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسُّـنَّة". والقول الجامع في معنى الآية: "لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ أو يفعل" (ابن ماجه: 9696).

ولهذا يحسن بالمُفْتِي أن يبين الدليل؛ لأن جمال الفَتْوَى وروحها هـو الدليل. وقد كان رسـول الله يُسأل عن المسألة، فيضرب لها الأمثال، ويشبهها بنظائرها. وكان أصحابه إذا سُـئل أحدهم عن مسألة، أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله ـ تعالى ـ كذا، وقال رسول الله كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل. وهذا كثير جداً في فتاويهم، لمن تأملها. ثم جاء التابعون، والأئمة من بعدهم، فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم، إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقــط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، بل وصلت الفَتْوَى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمـه، ولعله يحـدث للناس طبقة أخـرى لا يُدرى ما حالهم في الفَتَاوَى، والله المستعان. وقد حدثت في الناس تلك الطبقة التي تخوف منها، فراحت تتحيل على النصوص الشرعية بتعليلات وهمية، وتسوق ما يروق لها من تسويغات جدلية، استسلاماً لضغوط الواقع، واستعظاماً لبعض الأحكام الشرعية، وتحاول ـ في بعض الأحيـان ـ تأييد أقوالها بحجج واهية، ونصوص باطلة، لا تقوم بها حجة، ولا يفرح بها فقيه النفس، ولا يطمئن إليها تقي القلب.

وثالثها: الإجماع: وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول على حكم شرعي في واقعة.

* ومن الأمثلة:

الإجماع على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسه فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس وعلى أن العقد على المرأة أثناء عدتها باطل، وعلى نجاسة الدم.

والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا إلى نسخه، وليس للمجتهدين في عصر تالٍ أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد. والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله ـ تعالى ـ: )وّلّوً رّدٍَوهٍ إلّى الرَّسٍولٌ وّإلّى أٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنًهٍمً لّعّلٌمّهٍ الَّذٌينّ يّسًتّنبٌطٍونّهٍ مٌنًهٍمً( (النساء: 83). وقوله : )وّمّن يٍشّاقٌقٌ الرَّسٍولّ مٌنً بّعًدٌ مّا تّبّيَّنّ لّهٍ الًهٍدّى وّيّتَّبٌعً غّيًرّ سّبٌيلٌ الًمٍؤًمٌنٌينّ نٍوّلٌَهٌ مّا تّوّلَّى وّنٍصًلٌهٌ جّهّنَّمّ وّسّاءّتً مّصٌيرْا( (النساء: 115).

ورابعها: القياس: وهو إلحاق واقعة، لا نص على حكمها بواقعة، ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص؛ لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها، ويُحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعاً، ويسع المكلف اتباعه والعمل به.

* ومن الأمثلة:

 قياس المخدرات بكافة أشكالها على الخمر، فالخمر أصل؛ لأنه ورد نص بحكمه وتحريمه، وهو قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة 90). فدلّ هذا النص على حكم الأصل، وهو التحريم. وعلّة الحكم هي وصف الإسكار في الأصل. وهذه العلة متحققة في الفرع وهي المخدرات بكافة أشكالها. ولذا نلحق بالأصل في الحكم ، فنعدٍّي حكم الأصل، وهو التحريم، إلى الفرع، ونقول: يحرم تعاطي المخدرات قياساً على الخمر.

 والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله ـ تعالى ـ: )يّا أّيٍَهّا الَّذٌينّ آمّنٍوا أّطٌيعٍوا اللَّهّ وّأّطٌيعٍوا الرَّسٍولّ وّأٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنكٍمً فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى اللَّهٌ وّالرَّسٍولٌ إن كٍنتٍمً تٍؤًمٌنٍونّ بٌاللَّهٌ وّالًيّوًمٌ الآخٌرٌ ذّلٌكّ خّيًرِ وّأّحًسّنٍ تّأًوٌيلاْ( (النساء: 59).

3. تعلق الفَتْوَى بموضوع الاستفتاء

لم يشرع الإفتاء إلاّ للإجابة على التساؤلات، وحلّ ما يعرض للإنسان من مشكلات. غير أن المُفْتِي إذا توقع من السائل استغراباً للحكم، فله أن يمهد له بمقدمة حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه، فيتقبله بقبول حسن؛ ويدل على ذلك قصة نسخ القبلة؛ فإنها لمّا كانت شديدة على النفوس جداً، وطَّـأ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قبلها عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ومنها: أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم؛ فعموم قدرته، وعلمه، صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحاً للأول. ويجوز أن تكون الفَتْوَى أشمل من موضوع الاستفتاء؛ بحيث يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه لفائدة، يرى أنها تفيد السائل. وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: «باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه»، ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك. ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مدارك السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدل على ذلك قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: )يّسًأّّلٍونّكّ عّنٌ الأّّهٌلَّةٌ قٍلً هٌيّ مّوّاقٌيتٍ لٌلنَّاسٌ وّالًحّجٌَ( (البقرة: 189). فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفياً، ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان؛ فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس، التي بها تمام مصالحهم في معاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم، وهي الحج. فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه. فقد قال ابن عباس لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها، كفرت به؟ أي أنكرت هذا الحكم ( الترمذي: 0731).

4. سلامة الفَتْوَى من الغموض

فقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه الكريم بالبلاغ المبين، فقال : )وّمّا عّلّى الرَّسٍولٌ إلاَّ الًبّلاغٍ الًمٍبٌينٍ( (النور: 54). لذا، كان من وضوح الفَتْوَى: خلوها من المصطلحات التي يتعذر على المستفتي فهمها، وسلامتها من التردد في حسم القضية المسؤول عنها. غير أن هناك من يعمد إلى تضمين الفَتْوَى عدة أقوال؛ ليقحم فيها بعض الآراء الشاذة، وينشرها في الناس بدعوى التيسير والمرونة، فيلفت الأنظار إليها، ليُدخل في رُوع المستفتي أنها أقوال لا تقل شأناً عن غيرها، وله أن يختار ما شاء منها، فيدع ـ من ثَمَّ ـ الأقوال الصحيحة، ويتشبث بما وجهت الفَتْوَى الأنظار إليه.

5. مراعاة الحال، والزمان، والمكان

إن من ضوابط الفَتْوَى مراعاتها للحال، والزمان، والمكان؛ إذ قد تتغير الفَتْوَى بتغير الزمان والمكان. وقد راعى الشارع أمر الزمان والمكان؛ مثل إيقاف حد السرقة أثناء غزو الأعداء، وفي بلادهم فإنها لا تقطع هناك؛ لئلا يداخل صاحبَها حمية الشيطان فيلحق بالكفار؛ والدليل على عدم القطع في الغزو ما ورد عن بسر بن أرطأة قال: سمعت النبي صل الله عليه وسلم يقول: )لا تقطع الأيدي في الغزو( (الدارمي: 1832)، وعلى ذلك إجماع الصحابة. فالمنكر إذا ترتب على إنكاره ما هو أنكر منه فلا يسوغ إنكاره، وما قول النبي لعائشة: )لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة، ولجعلت لها بابَيْن( (الترمذي: 6235).

قال ابن تيمية: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم.

والمعروف أن أصحاب الإمام أبي حنيفة خالفوا إمامهم في مسائل كان مبناها على العرف، أو تغير الزمان والمكان والأحوال، لا سيما بعد وفاته، وعلل الفقهاء هذا النوع من الاختلاف بأنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان. والإمام الشافعي صار له مذهب جديد حين استقر به المقام في مصر، لأمور عديدة من أهمها: تغير الزمان، والمكان، والأحوال. ولهذا رجح الفقهاء بعض الأقوال على بعضها الآخر عند اختلافها اعتباراً للعرف، أو الحال، أو الزمان، أو المكان. قال الحصكفي[1]: قد يحكون أقوالاً بلا ترجيح، وقد يختلفون في الصحيح. وعلى الفقيه مراعاة الأحوال قبل إصدار فتواه؛ إذ قد يكون الحكم مبنياً على معنى معين، ثم تغير ذلك المعنى كما في صدقة الفطر؛ فقد جاء الحديث الشريف بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط. وقد قال العلماء: يجوز إخراج صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أو غيرهما، إذا كانت هذه الأصناف غالب أقوات البلد. وعللوا ذلك بأن الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت؛ لأنها كانت هي غالب أقوات أهل المدينة، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص. والمعروف أن لكلِّ زمان حكماً، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. غير أنه لا تصح مخالفة النصوص، أو تأويلها تأويلاً متعسفاً، ولا تطويعها لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، أو تغير الزمان والمكان؛ فهذا تحريف للكلم عن مواضعه، واتباع لما تهوى الأنفس.

6. عدم الإجمال فيما يقتضي التفصيل

إذا كان في المسألة تفصيل، فليس للمُفْتِي إطلاق الجواب، بل عليه أن يستفصل السائل حتى يعطيه الجواب الموافق لمسألته؛ لأن إجمال الفَتْوَى في مثل هذه الحالة تجعل الحكم واحداً لصور مختلفة تختلف الفَتْوَى باختلافها، فيجيب بغير الصواب، ويَهلك ويُهلك، وما ذلك إلا لعدم التبين.

7. تجردها من الأهواء، سواء كان مبعثها المستفتي أو المُفْتِي

أمّا المستفتي: فقد يدفعه هوى متبع، فيزين الباطل بألفاظ حسنة؛ ليغرر بالمُفْتِي؛ حتى يسوغ ذلك للناس، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل. قال ابن القيم: "فكم من باطل يخرجه الرجل ـ بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه ـ في صورة حق! وكم من حق يخرجه ـ بتهجينه وسوء تعبيره ـ في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هو أغلب أحوال الناس".

ولهذا اشترط العلماء في المُفْتِي أن يكون متيقظاً. قال ابن عابدين: "وهذا شرط في زماننا، وليحترز من الوكلاء في الخصومات، فإن أحدهم لا يرضى إلاّ بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن. ولهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحق؛ فغفلة المُفْتِي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان".

وأمّا المُفْتِي فإن تجرده من الهوى أشد لزوماً من المستفتي؛ لأنه مخبر عن حكم الله تعالى؛ فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفترياً على الله. قال ابن القيم: "لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر". وقد يداخل الهوى بعض المنتمين إلى العلم، فيتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفَتْوَى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفَتْوَى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى. وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، فإن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها.

8. مراعاة مسؤولية الفَتْوَى الشرعية

لا ينبغي للمؤسسات الإسلامية أن ترد الناس إلى المتساهل في فتواه؛ فهذا يدفعهم إلى الجرأة على الدِّين، ورد أقوال العلماء العاملين. كما لا يجوز لها تبني الفَتَاوَى الخاطئة، والآراء الشاذة، وإذاعتها بين الناس؛ بدعوى التيسير تارة؛ وفهم الواقع تارة أخرى، والضرورة تارة ثالثة.

وعلى المؤسسات الإسلامية توثيق صلتها بالمجامع الفقهية الموثوقة، في البلاد الإسلامية، التي يسهم في بحوثها وفتاواها علماء متخصصون، متفرغون للبحث العلمي والغوص على درر المسائل، مهتمون بدراسة القضايا المستحدثة لإصدار الفَتَاوَى بشأنها بعيداً عن ليِّ النصوص الشرعية، أو تحميلها ما لا تحتمل من التفسيرات القسرية.

ومن هذه المجامع الفقهية الموثوقة: المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، جدة، المملكة العربية السعودية؛ المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية؛ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، جمهورية مصر العربية؛ مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، القاهرة، جمهورية مصر العربية؛ مجلس الفكر الإسلامي، إسلام آباد، الباكستان؛ وأكاديمية الفقه الإسلامي، دلهي، الهند.

 

[1] هو محمد بن علي بن محمد المعروف بعلاء الدِّين الحَصْكَفي (1025-1088هـ، 1616-1677م)، نسبة إلى حصن كيفا، وهو موضع بين حلب والرقة بالشام. فقيه حنفي المذهب، أصولي، له مشاركة في التفسير والحديث والنحو. ومن مشايخه الخير الرملي، والفخر المقدسي الحنفي. تولى الفتوى بدمشق، حيث وُلد وتوفي فيها.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:55 pm



       
الفصل السابع

مقومات الاجتهاد المعاصر

من أسباب الخطأ في الفَتْوَى، عدم فهْم الواقع، الذي يعيشه السّائل والمسؤول، فهْماً صحيحاً. ومن الناس من يجازف بالفتاوي في أمور المعاملات الحديثة، مثل التأمين بأنواعه، وأعمال المصارف، والأسهم والسّندات، وأصناف الشركات؛ فُيَحرِّم أو يحللِّ، من دون أن يحيط بهذه الأشياء خبراً، ويدرسها جيداً. ومهما يكن علمه بالنصوص، ومعرفته بالأدلة، فإن هذا لا يغني، ما لم يؤيد ذلك بمعرفة الواقع المسؤول عنه، وفهمه على حقيقته. ومثال على ذلك تضارب علماء محدثين في الفَتْوَى في شان مشاركة الجنود المسلمين الأمريكيين في الحرب على أفغانستان. (انظر ملحق تضارب العلماء في فَتَاوَى تتعلق بأمور خطيرة ومصيرية في واقعنا المعاصر).

في الواقع العملي، لا يوجد إفتاء إلاّ ومعه اجتهاد، في الوقائع والنوازل. ويستثنى من ذلك مطلق الإخبار بحكم الله ـ تعالى ـ؛ كمن سأل عن أعظم آية في كتاب الله، فقيل له إنها آية الكرسي؛ لورود ذلك نصاً عن النبي.

وإذا كانت الفَتْوَى قد بلغت ذروة ازدهارها، في القرنَين السّابع والثامن الهجريين. ثم هزلت في القرون التالية؛ بسبب إغلاق باب الاجتهاد، على الرغم من تعرض المجتمعات الإسلامية لجملة من التحديات والأزمات والنوازل. ففي عصرنا هذا، نشط كثير من المجددين إلى ضرورة إعادة النظر في مؤهلات الاجتهاد، في ضوء الواقع. وانتهوا إلى القول بضرورة الرجوع في الفَتْوَى إلى أصحاب الاختصاص في الدِّين الإسلامي. وبرز هذا الأمر في الآونة الأخيرة، مع أحداث التفجيرات التي تعرضت لها مدينة الرياض، العاصمة السعودية؛ ماتوجب معه بيان مسائل: مثل ضوابط الجهاد، والوفاء بالعهد، وطاعة أولي الأمر، وغير ذلك. (انظر ملحق الفتيا يجب أن تكون من أصحابها العلماء).

تتحدد أدوات النظر الاجتهادي المنشود، في العصر الحاضر، في أدوات معرفية ست، هي:

1. اللغة العربية: هي وعاء النص الشرعي، الذي جاء متوشحاً بمزاياها وخصائصها وأساليبها؛ ما يستلزم ضرورة التمكن من علوم تلك اللغة، وإلا ظل فهْم النص الشرعي كليلاً؛ قرآناً وسُنة. وقد تمتع النص الشرعي بإعجاز بياني جلي، لا يمارى، وتفوق تعبيري، لا يجارى. فمن لم يكن مدركاً لأسس اللغة وقوانينها وآدابها في التعبير؛ فلن يمكنه التوصل إلى حُسن فهْم معاني النصوص ومراميها. وإذا عجز امرؤ عن هذا، فإنه لا يليق به أن يبذل وسعه في التوصل إلى المعاني، التي تدل عليها نصوص الوحي الإلهي، كتاباً وسُنة؛ لأنه لا يأمن، عندئذ، من الخطأ في تحديد المراد الإلهي.

اختلف العلماء في القدر الواجب على المرء تحصيله في علم هذه اللغة: فمن قائل إنه لا بدّ أن يبلغ مبلغ الأئمة، كالخليل بن أحمد، وسيبويه، والأخفش[1]، ومن سواهم من أساطين العربية. ومن قائل: ينبغي النظر إلى العربية، في مجال النظر الاجتهادي، على أنها مجرد أداة للنظر الاجتهادي. وقيل: "العلوم التي هي آلة لغيرها، لا ينبغي النظر إليها، إلاّ من حيث إنها آلة فقط،". ومن ثم، يكفي من علم اللغة قدر، يعين المرء على تذوقها، وفهْمها فهماً سليماً، بحيث يصبح قادراً على فهْم نصوص الوحي، كتاباً وسُنة.

2. أصول الحديث

المقصود معرفة الجانب، الذي يعرفه علماء الجرح والتعديل بعلم الحديث، رواية ودراية. ويتمثل ذلك في التثبت من صحة ورود الحديث، وصدق رواته، ثم التوصل إلى المعاني المرادة منه، شرعاً. ومن ثم؛ فالمطلوب من الفقيه الإلمام بمبادئ أصول الحديث، وقواعد قبوله وردّه، وإتقان مبادئ الترجيح بين الأحاديث المختلفة، التي قد تتعارض، ظاهرياً.

وقد اشتُرط، كذلك، حفظ عدد من أحاديث الأحكام؛ فضلاً عن إجادة مبادئ التمييز بين درجات الأحاديث، صحة وضعفاً، وقبولاً وردّاً. ومن ثم، إضافة إلى ذلك، إذا أحكم الفقيه مباحث الجرح والتعديل، وأشرف على مباحث العلل القادحة في الروايات، وتمكن من مناهج نقد متون الأحاديث وأسانيدها، فإنه يغدو قادراً على تحديد ما يستحق من النصوص الحديثية دراسة وتحليلاً؛ بما يجنبه الوقوع في متاهات الاستدلال بأحاديث ضعيفة. وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجال، عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن، بالبحث في كتب الجرح والتعديل، من معرفة حال الرجال، مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح، وما لا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هو مردود، ومعرفة ما ثبت نسخه من الأحاديث، كالأحاديث التي رويت في جواز (نكاح المتعة)، فقد ثبت نسخ حكمها، بأحاديث أخرى. ويلزمه، كذلك، معرفة أسباب ورود الحديث.

3. أصول الفقه

أي العلم بمجموع القواعد والمبادئ الأساسية الأصولية، التي يتوصل بها إلى حُسن فهْم المعاني المرادة للشارع، من نصوص الوحي، أمقاصد كانت تلك المعاني أم أحكاماً. وقد تنامت مباحث هذا العلم وموضوعاته ومسائله، وتطورت، على أيدي سائر علماء الأمة من محدثين،ولغويين، ومتكلمين، وفقهاء...إلخ. وأمكن تفصيل مباحثه، ووضع قواعده. وانتهى علماء القرن السادس الهجري إلى أنها العلم الأهم، الذي يحتاج إليه المرء للتأهل للنظر الاجتهادي، بكونه عماد الاجتهاد وركن بنائه الأساسي، الذي يُمَكِّن من إدراك الخطاب الإلهي ومراميه، من الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتفصيل، والمنطوق والمفهوم. وتشتمل مباحث هذا العلم على المعارف الجزئية من أدلة الأحكام، والقياس، والاستحسان، والإجماع، واستصحاب الحال، والبراءة الأصلية، والأدلة العقلية.

4. علم المقاصد

هو إدراك الغايات والحكم والأهداف الثابتة، العامة والخاصة، التي رتبها الشّارع الحكيم، في جميع أحوال تشريعاته، المتعلقة بالفرد والمجتمع، سواء أكانت تلك التشريعات عقدية أم خلقية أم عملية. يضاف إلى ذلك ضرورة التعامل مع كثير من مستجدات العصر وقضاياه، وتوجيهها وفق إرادة الإسلام ورؤيته؛ إذ غدت الحاجة، في هذا العصر، ملحة إلى إبراز الأهداف والأسرار، التي تحتويها الشّريعة الإسلامية، وتدل على صلاحيتها لكل زمان ومكان، وتبرهن على مرونتها وسعتها وقدرتها على تنظيم حياة البشر.

ويدخل في هذا العلم مراعاة البيئة والظروف وتأثيرهما، المباشر وغير المباشر. أمّا القدر الذي يحتاج إليه المجتهد من هذا العلم، فهو ما يكفل له القدرة على استخلاص مقاصد الشّارع من نصوص الوحي؛ ويؤهله للتمييز بين مراتب المقاصد، من حيث الكلية والجزئية، والأصلية والتبعية، والقطعية والظنية، والمصلحة الحقيقية والمصلحة المتوهمة، والثبات والتغير. (انظر ملحق الضروريات والحاجيات والتحسينات).

5. علم الخلاف

هو العلم الذي يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية، المختلف فيها بين الأئمة، أو هدمها، بتقرير الحجج الشرعية، وقوادح الأدلة، أو هو ما يعرف اليوم بالفقه المقارن، الذي يجمع الآراء الفقهية ويقومها، ويوازن بينها بالتماس أدلتها، وترجيح بعضها. ويعنى علم الخلاف بإبراز مناهج الاستنباط والاستدلال وأصولهما المرعية عند الأئمة، الذين كانت لهْم مناهج خاصة في فهم نصوص الوحي، كتاباً وسُنة؛ ما يعين على حُسن التعامل معها، وفهم المراد منها. وفهم هذا العلم، يجعل المجتهد لا يفني عمره في إعادة عقارب الساعة، وتوليد اجتهاد جديد، بل يبني على ما سبق، ويطوره، ويحاول تيسير اتساقه مع الاجتهادات المغايرة والمخالفة له.

ولا يكون العالم عالماً، إلاّ باستيعاب الاختلاف. وقد قيل في ذلك: "من لم يسمع الاختلاف، فلا تعدوه عالماً". و"من لم يعرف الاختلاف، لم يشم أنفه الفقه". و"لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس، حتى يكون عالماً باختلاف الناس. فإن لم يكن كذلك، رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه". و"أجسر الناس على الفَتْوَى، أقلُّهم علماً باختلاف العلماء".

6. مبادئ العلوم الإنسانية المعاصرة

والمقصود بها المعارف، التي تُعنى بدراسة الإنسان وواقعه، من النواحي: الاجتماعية والنفسية والتربوية والسياسية والاقتصادية والقانونية والتاريخية؛ من أجل فهم المؤثرات في توجهه وتطلعاته ورغباته، وإدراك الواقع المحيط به، وما يؤثر فيه، إيجاباً وسلباً. كل هذا يتيح لمن يتصدى للإفتاء فهم معطيات العصر، ومشكلات الناس.

وليس صحيحاً أن الاكتفاء باجتهادات السّابقين أولى، بزعم أنها تسد حاجات كل عصر؛ لأن كثيراً من الاجتهادات في حاجة ماسة إلى مراجعة وتطوير؛ وربما أمكن الاستغناء عنها. ولعل الاجتهادات، التي دارت رحاها حول المرأة وشؤونها، من حيض ونفاس وحمل، من أوضح الاجتهادات المحتاجة إلى مراجعة ونقد، في ضوء التطورات العلمية الطبية الحديثة. وكذلك اجتهادات السابقين، في شأن العلاقات الدولية، وأحكام أهل الذمة، وحقوقهم، وغيرها. فقد تأثر كثير منها بواقعهم وظروفهم وبيئاتهم، وكل ذلك قد تغير حالياً. يقول ابن القيم عن المُفْتِي، أو الحاكم، الذي لا يفهم المعارف الإنسانية والواقع، ويراعيها في اجتهاده: "كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وقد يتصور له الظالم بصورة المظلوم، والمحق بصورة المبطل، ويروج عليه المكر والخداع والاحتيال".

يرى بعض العلماء، في العصر الحديث، صعوبة النظر الاجتهادي المنشود، في ضوء أنواع التحديات وأشكال النوازل، التي تموج بها الحياة المعاصرة، ما لم يكن لدى العالم بها معرفة موازية لمعرفته الدِّينية. وأن أي مؤسسة دينية، تستبعد العلوم الحديثة من مناهجها، لا يمكن أن تُعِد علماء قادرين على الاجتهاد في قضايا عصرهم. بل قال أحد العلماء المعاصرين: لا يصح اجتهاد من تمكن من علوم الشريعة، ما لم يتمكن من العلوم الإنسانية والاجتماعية تمكناً كافياً. بل هي تقع ضمن إطار الفروض العينية، لمن يتصدى لعملية الاجتهاد. ومن ثم، يجب على علماء الدِّين، في عالمنا الإسلامي، اليوم، الاعتراف بأن آليات العلوم، قد تطورت تطوراً هائلاً، على أيدي غير المسلمين. ثم يجب عليهم دفع أنفسهم، وحث أبناء مجتمعهم على الأخذ بهذه العلوم، وبيان أن من الواجب على الأمة الإسلامية ألاّ تفوقها أمة أخرى، مهما كانت، في كل علم ينفع الناس؛ بهدف قيومية الدِّين على الواقع، وتسديد الحياة بتعاليم الدِّين السامية؛ ليتحقق لأبناء هذه الأمة الوسط، أن يكونوا شهداء على الناس.

أمّا القول بأن الصحابة وأجيال التابعين، كانوا أعظم المجتهدين، من دون أن تكون لهم معرفة شاملة بالعلوم والمعارف الحديثة، في عصورهم ـ فهو قول، يرده أن المعروف عنهم التفاوت في المستوى، المعرفي والعلمي؛ إذ كان منهم من هو عالم بالحرب، ومنهم عالم بالتجارة والسياسة، وغير ذلك. ومن ثم انتهجوا في فهمهم للنصوص المنهج الجماعي، في أكثر الأحيان؛ فيستعان بمن كان عارفاً بالطب، في المسائل الطبية، وبمن كان عارفاً بالحرب، في المسائل الحربية، وهكذا.

فقد كان مبدأ الشورى، في الإسلام، يقوم على مشاورة أهل الاختصاص والدراية والمعرفة بالموضوع المبحوث. إضافة إلى ذلك، فإن الفقه الإسلامي، عقدياً كان أو عملياً، اطَّرد بعد الرسول، وأخذ التابعون، وأتباعهم، فتاوي الصحابة، وطوروها، ووسعوها، وبنوا عليها، واستنبطوا منها الأحكام؛ التماساً للمصالح المتجددة. ووالوا تطوير الفقه، فكلما حدثت حادثة، حاصرها الفقهاء، والتمسوا لها حلاً، واستنبطوا لها أحكاماً. ولكن الأجيال، التي جاءت في أواخر القرن الثامن الهجري، وما بعده، أخذت تفرق بين العلوم المعينة على فهم الواقع، والعلوم المعينة على فهم النص الشرعي، ورأت أنه لا يصح الجمع بينهما. وازداد هذا الاتجاه الخاطئ، في القرون المتأخرة إلى يومنا هذا. ولا تزال الهوة، بين المعرفة الدِّينية النصية والمعرفة الإنسانية الواقعية، تزداد وتتعمق، يوماً بعد يوم. ولا عجب أن ينتج هذا الفصام النكد، بين المعرفتَيْن المتداخلتَيْن، شرعاً، لا واقعاً، صنفَيْن من علماء الأمة، هما:

أ.  صنف يفقه معاني النصوص، وخاصة الأحكام العملية منها؛ ولكن ليس له دراية كافية بالواقع، الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ وليس له إلمام كاف بأدواء الواقع، وسبل تطويعه للمراد الإلهي، على سائر المستويات.

ب. وصنف يفقه رجاله الواقع، الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والحضاري، ولكن ليس لهم دراية عميقة بمعاني نصوص الوحي، ومقاصدها والأهداف العامة منها. ونتيجة لهذا الاختلاف بين الصنفَيْن، غدا كل صنف مسيطراً على الدائرة، التي يفقهها ويتقنها. ففقهاء النصوص متمكنون منها؛ ومستأثرون بتقديم تفسيرها المشروع؛ ولكنهم عاجزون كلّ العجز عن تنزيل معاني تلك النصوص في الواقع، الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والحضاري؛ بغض النظر عن سائر الأعذار والعلل، التي ينسبون إليها عجزهم ذاك. وأمّا فقهاء ذلك الواقع، فهُم متمكنون منه ومسلطون على توجيهه، وفق مرادهم وخططهم ومآربهم؛ وليس في الإمكان زعزعتهم عن السيطرة والتحكم فيه. ولكنهم مع كل ذلك، عاجزون عن الاستقلال بالتنظير المنهجي، لما ينبغي أن يسير عليه نظامهم، السياسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي؛ فهُم عالة، إن على غرب أو على شرق، في التنظير والتخطيط الممنهج.

وأمّا الحوار والتشاور، بين هذَين الصنفَين من علماء الأمة، فإنهما أمسيا أمراً محالاً، في كثير من الأقطار الإسلامية المنكوبة. ومرد ذلك إلى ما يحمله كل صنف، للآخر، من تصور قائم على التشكيك والريبة. ففقهاء النصوص، يرون في فقهاء الواقع خصوما، يحولون دونهم ودون الحكم، الذي يرون أنفسهم أجدر به. وأمّا فقهاء الواقع، فإنهم ينظرون إلى فقهاء النصوص، على أنهم زمرة، تصبو إلى الاستئثار بالحكم، وتبوّء المنازل التي يتبوءونها، قهراً وقوة، لا من أجل تحقيق قيومية الدِّين، أو تسديد الحياة بتعاليم الدِّين السامية؛ وإنما من أجل تحقيق رغباتهم الشخصية، وتعطشهم إلى الحكم والسيطرة.

وهكذا فإن كلاً من الصنفَيْن، يتحمل مسؤولية عدم تحقيق قيومية الوحي الإلهي على الواقع الإنساني القائم. كما يتحمل مسؤولية عدم تسديد الحياة بالتعاليم الإلهية.

(تُعَدّ الجامعة الإسلامية العالمية، في ماليزيا، المؤسسة التعليمية العالمية، الرائدة في اعتماد سياسة الدمج بين المعرفة الدِّينية والمعرفة الواقعية في برامجها ومناهجها التعليمية. وتكاد  تكون الجامعة الوحيدة، التي تعتمد نظام التخصص المزدوج في التعليم الجامعي؛ إذ إنها تتبنى إلزام طلابها الدارسين العلوم الشرعية دراسة تخصص فرعي من المعرفة الإنسانية؛ بغية تمكنهم استيعاب المبادئ الأساسية التي تشتملها جميع المعارف الإنسانية: من اجتماع، وسياسة، وفلسفة، وتاريخ، وعلم نفس، وعلم إنسان .. إلخ. كما أن الجامعة تلزم طلابها الذين يدرسون العلوم الإنسانية ضرورة التخصص؛ تخصصاً فرعيا، في المعرفة الدِّينية بجانب تخصصهم في إحدى فروع المعرفة الواقعية. وبناء على هذه السياسة التعليمية المبتكرة والفريدة، فإن الطالب يتخرج، في هذه الجامعة، حاملاً تخصصين مختلفين: تخصص أساسي، إمّا في المعرفة الدِّينية، أو في المعرفة الواقعية، وتخصص فرعي، إمّا في المعرفة الدِّينية، أو في المعرفة الواقعية).

لذا، فليس من عجب، اليوم، أن يكون جانب كبير من الآراء والفتاوي الفقهية الاجتهادية، الموروثة من نهايات القرن الثامن الهجري إلى قرننا هذا ـ لا تخاطب، في كثير من قضاياها ومسائلها، هموم الواقع وتحدياته، الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ بل إنه ليس من المبالغة في شيء، أن يكون جانب كبير، لا يستهان به، من هم واقعنا، الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ـ لا تغطيه مدوناتنا الفقهية القديمة، ولا يمكن أن يغطيه، بأي حال من الأحوال، الفقه والفهْم، اللذان ورثناهما عن أئمة الاجتهاد، في بعض معاني نصوص الوحي، كتاباً وسُنَّة. ويمكن المرء أن يلاحظ هذا الفصام، بين تحديات الواقع والأفهام الموروثة، التي لم تجبه هذه الظروف الاستثنائية والتحديات المعقدة، التي تمر بها أمتنا الإسلامية، على جميع مستويات الحياة، وعلى الأخص بعد أن غزتنا "الحضارة الغربية، في القرنين الأخيرين، وأحدثت في واقعنا صوراً جديدة، لا تزال تتكثف، كلما تسارع عصر النهضة، وكلما تعقد المجتمع".

ولئن كان القانون، لا يتهاون في معاقبة أي إنسان، يمارس مهنة عامة، كالطب وغيره من المهن، التي لها مساس مباشر بحياة العامة والخاصة، قبل إشرافه على الأدوات المؤهلة لتلك المهنة. فما أحرى القانون نفسه، أن يعاقب أي إنسان، يمارس النظر الاجتهادي الشرعي، قبل التأهل له، والتمكن من أدواته الضرورية؛ إذ إن هذا النظر الاجتهادي، له مساس مباشر بحياة العامة والخاصة. ويكفي أن كثيرا من الأحداث والتخريبات نتجت بسبب عدم إدراك الكثيرين لمفاهيم الجهاد وضوابطه، لا سيما في العصر الحالي. فإن ما كتبه الفقهاء، قديما، في أبواب الجهاد، كان خاضعاً لظروف عصرهم، والقِيَم التي كانت سائدة فيه، وللطريقة التي كان يجري بها التعامل في تلك الازمان. فقد كان العالم يسير على قانون الغابة، في علاقات الدول والقبائل بعضها مع البعض، فكل دولة تبغي على الأخرى. ولا مانع يمنعها إلا أنْ تكون ضعيفة؛ لا تقوى على الاعتداء، أو يكون ثمة ميثاق يُحترم; ما بقيت القوتان متعادلتين. فاذا احست احداهما بضعف الأخرى، انتهزتها فرصة سانحة، وانقضت عليها، لا ترقب إلاً ولا ذمة. أمّا اليوم: فالأصل في العلاقات بين الأمم هو (الممانعة) وقد انضمت أغلب الدول إلى المعاهدة، ضمن هيئة الأمم المتحدة.

فالواجب على من يكتب في موضوع الجهاد اليوم، وفي العلاقات الدولية: أنْ يراعي تغير أوضاع العالم، وانتقال الأصل من (المقاتلة) إلى (الممانعة).

ونحن اليوم بحاجة ماسة الى كتابة فقه جديد للجهاد يراعي التغير الكبير، الذي حصل في طبيعة العلاقات بين الأمم، والاختلاف الواسع في القِيَم والأعراف الدولية، عما كانت عليه قبل قرون. ولكن لا بد من العلم الأكيد أن أدلة الأحكام بنوعيها ـ المتفق عليها والمختلف فيها ـ بعيدة كلّ البعد عن "مسرح تجديد الفقه". أمّا بالنسبة للأحكام الفقهية القديمة، التي دونت من قبل في عصور الإسلام الأولى، من مئات المصنفات والمجلدات، لجميع المذاهب الفقهية، فهي أنواع كذلك:

* الأول: ما كان دليله قطعي الثبوت، قطعي الدلالة: كمعظم القرآن وكثير من الأحاديث النبوية. مثل وجوب جلد الزانية والزاني الثابت بقوله تعالي: )الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( (النور: 2). فهذا نص قطعي الثبوت والدلالة لا مجال للاجتهاد فيه وكذلك حكم الحدود علي اختلاف أنواعها.

* الثاني: ما كان دليله ظني الثبوت والدلالة معا. مثل أحاديث الآحاد. فمن حيث الثبوت: يجتهد المجتهد بالنظر الي سند الحديث ومنزلة رواته، فإذا اطمئن الي شئ من ذلك، انتقل اجتهاده إلي المعني المراد من بين المعاني المحتملة فاذا توصل الي شئ حكم به ومثاله: قول الرسول: )لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ( (الترمذي: 230). فهذا حديث ظني الثبوت؛ لأنه لم ينقل إلينا متواتراً، وظني الدلالة؛ لأنه يحتمل أن يكون النفي فيه نفي كمال الصلاة، ويحتمل أن يكون النفي فيه نفي صحة الصلاة. فلذلك نري الحنفية قد اجتهدوا فتوصلوا الي أن المراد نفي الكمال، وعليه حكموا بصحة صلاة من ترك قراءة الفاتحة في الصلاة، بينما نري أن الشافعية أدّى اجتهادهم إلي أن المراد نفي الصحة فحكموا ببطلان الصلاة إذا لم يقرأ المُصَلِّي الفاتحة.

* الثالث: ما كان دليله قطعي الثبوت وظني الدلالة. مثل بعض نصوص القرآن مما يحتمل عدة تفسيرات. لذا، فهي، وإن كانت قطعية الثبوت فهي ظنية الدلالة. ويكون مجال الاجتهاد فيها بالبحث في معرفة المعني المراد من ذلك الدليل وقوة دلالته علي هذا المعني؛ مستعيناً في ذلك بالقواعد الأصولية ومقاصد الشرع ومبادئه العامة في التشريع. ومثاله: قال تعالي: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ( (البقرة: 228). فإن لفظ القروء في النص قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة؛ وذلك لأنه محتمل أن يراد به الحيض، كما يحتمل أن يكون المراد به الطهر. ودلالة اللفظ علي أحدهما دلالة ظنية، فلذا أجيز للمجتهد أن يجتهد فيبذل قصاري جهده للوصول الي المراد. ولذلك نجد أن العلماء قد اختلفوا في المفهوم من هذا النص علي النحو التالي :

- اجتهد الحنفية، فتوصلوا الي أن المراد بالقروء الحيض، فحكموا بأن عدة المطلقة أن تحيض ثلاثاً.

- واجتهد الشافعية: فتوصلوا إلي أن المراد به الطهر، فحكموا أن عدة المطلقة أن تطهر من حيضها ثلاث مرات.

* الرابع: ما كان دليله ظني الثبوت قطعي الدلالة. ويكون مجال الاجتهاد فيه بالبحث في سند ذلك الدليل، وطريق وصوله إلينا ودرجة رواته من حيث العدالة والضبط وغيرها. فاذا أدّى اجتهاد الي صحة الحديث وثبوته، عمل بموجبه، وإن لم يصل إلي ثبوته وصحته، تركه ولم يعمل به. ومثاله : قوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: )فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ( (البخاري: 1362)، فإنه نص قطعي الدلالة، ولكنه ظني الثبوت؛ لأنه لم يصلنا متواتراً فكان محلاً للاجتهاد من جهة الظنية في الثبوت.

والنوع الأول، يجب عدم المساس به؛ لأنه أقوى الأحكام. والنوع الرابع، وهو ظني الثبوت قطعي الدلالة، لا تخضع دلالته كذلك للتجديد. وإنما يمكن إعادة النظر في الثاني والثالث. وكذلك الأحكام التي أجمع عليها علماء الأمة، لا تخضع لإعادة النظر؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة أبدًا. لذا، فإن إعادة النظر ممكنة في كلِّ ما كان احتمالياً ظنياً، وهذا مجال الاجتهاد فيه واسع.

وفقه العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصيام، يجب إبعاده عن إعادة النظر، وخضوعه لمبدأ "تجديد الفقه". ولا إخال الذين ينادون الآن بمبدأ "تجديد الفقه" يقصدون فقه العبادات، وإنما هم يقصرون دعوتهم على إعادة النظر في "فقه المعاملات" المدنية، بمختلف أنواعها.

كما أن فقه المعاملات القطعي الدلالة والثبوت أو القطعي الدلالة، أو ما قام عليه إجماع علماء الأمة، هذه الأفرع محصنة شرعاً، فلا يجوز إعادة النظر فيها وإخضاعها لمبدأ "تجديد الفقه".

من ثَمَّ، يتضح أن مجال الاجتهاد المقبول الوحيد هو ما كان ظني الدلالة، فهذا من حيث المبدأ يجوز إعادة النظر فيه، وإخضاعه لمبدأ "تجديد الفقه". ولكن من حيث الواقع والمصير، فإن إعادة النظر فيه قليلة الجدوى. لأنه ثبت، من خلال تجربة عملية ودراسة نموذجية، وإن كانت قصيرة، لأحكام الفقه الاجتهادي عند السلف، أنهم، في كل مسألة اجتهادية، استوعبوا كلّ ما يمكن أن يقال. لذلك فإن من العسير على المجتهدين المعاصرين أن يجدوا منفذاً يأتون فيه بجديد لم يقله الأقدمون. فمثلاً قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ(، بعضهم فسر القرء بالطهر، وبعضهم فسره بالحيضة الواحدة. فإذا أعيد فيها النظر، فما الذي سيقال جديداً في المسألة ؟!

ومثال آخر: إذا طلقت المرأة من زوجها الغائب؛ مع انقطاع أخباره، وحكم لها القضاء بالتطليق؛ لرفع الضرر عنها. ثم تزوجت بآخر، وبعد زواجها عاد زوجها القديم، فهي زوجة من فيهما؟ بعضهم قال للأول، ويفرق بينها وبين الثاني. وبعضهم قال للثاني، ولا يُمَكّن منها الأول. وبعضهم قال هي للأول إلاّ إذا أنجبت من الثاني. فإذا أعيد النظر في هذه المسألة، فهل بقي شيء جديد يقال فيها؟

ومثال ثالث: إذا أكره رجل رجلاً آخر على قتل رجل ثالث، فقتله. فعلى من يقع القصاص؟ على المكرِه الذي أمر بالقتل؟ أم على المكرَه الذي قام بالقتل؟ بعضهم قال: يقتص من الاثنين معاً: الآمر بالقتل والقاتل؛ صونا للدماء. وبعضهم قال: يقتص من الآمر؛ لأنه السبب، ولا يقتص من القاتل؛ لأنه مكره فاقد الإرادة. وبعضهم قال: لا قصاص على أحد منهما؛ لأن الآمر بالقتل لم يباشر فعل القتل. ولأن القاتل مجبور لا إرادة له. وبعضهم قال: يقتص من القاتل؛ لأنه هو الذي باشر القتل، وعلى الآمر بالقتل دية الاثنَيْن: دية المقتول عدواناً وظلماً، ودية المقتول قصاصاً. هذه مسألة اجتهادية لم يرد حكم لها في الكتاب ولا في السنة، وقد استوعب الفقهاء فيها أقسام الحكم العقلي، فإذا أعيد النظر في هذه المسألة، فهل بقي شيء جديد يقال فيها؟ وهكذا صنع الفقهاء الأقدمون في المسائل الاجتهادية كلها.

إذاً فإن إخضاعها لمبدأ "تجديد الفقه"، وإن كان ممكنًا نظرياً؛ فإنه لا جدوى فيه عملياً. والأحرى بالمنادين بتجديد الفقه القديم، وإحلال فقه جديد محله، أن يرصدوا كل المستجدات، وأن يبحثوا لها عن أحكام فقهية مناسبة، بدل أن يصبوا جام غضبهم على جهود علماء كبار أفذاذ ملؤوا الدنيا نوراً وهدى. (انظر ملحق بيان المؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، التجديد في الفكر الإسلامي).

وأمّا القدر المطلوب للمجتهد تحصيله، من العلوم الإنسانية المعاصرة ـ فهو لا يجاوز الإلمام بالمبادئ والمداخل الأساسية، التي تقوم عليها هذه العلوم؛ ما يجعله قادراً على حُسن فهْم واقعه؛ إضافة إلى استعداده الدائم وترحيبه باستشارة أهل الاختصاص، في كل مسألة تتعلق به.

الاجتهاد الجماعي

الحاجة، اليوم، ماسة، في الأمة الإسلامية، إلى إعادة النظر في تشكيل المجامع الفقهية القائمة، مثل: مجمع الفقه الإسلامي، في مكة المكرمة؛ ومجمع الفقه الإسلامي، في جدة، ومجمع البحوث، في القاهرة، (انظر ملحق مجمع الفقه الإسلامي). وقد اقترح أحد العلماء تكوين ثلاثة أنواع من المجامع الاجتهادية:

الأول: مجمع اجتهادي محلي

يُعنى بالقضايا والمستجدات، ذات الصبغة المحلية، المرتبطة بمواطنين يعيشون في دولة واحدة. ويكون له الحق المطلق في تبني واختيار أي رأي اجتهادي، قديم أو جديد، في المسائل، التي تمس حياة أبناء المجتمع. ولا حرج عليهم، أن يتبنوا رأياً مخالفاً لما تبناه السلف لمجتمعاتهم، وفق الظروف والأحوال والأجواء، التي كانت سائدة آنذاك.

الثاني: مجمع اجتهادي إقليمي

يختار أعضاؤه من المجامع المحلية، وفق أسس علمية دقيقة. ويُعنون ببذل جهدهم في الاجتهاد في النوازل والقضايا والمسائل، ذات الصبغة الإقليمية البحتة، من خلال البحث في الآراء والأفهام، القديمة والجديدة، ما دامت مفضية إلى تحقيق مقاصد الشرع العامة، في واقع الدول المنضوية إلى هذا المجمع. وكذلك، لا حرج على هذا المجمع، أن يتجاوز بعضاً من الآراء والأفهام السابقة، إذا تبين له عدم جدواها.

ومهمة هذا المجمع، تعد امتداداً للمهمة الأساسية، التي تضطلع بها المجامع الاجتهادية المحلية. وينبغي ألا يكون ثمة تعارض، أو تناقض، بين قرارات هذا المجمع، وقرارات المجامع المحلية، في القضايا المتشابهة والمتداخلة؛ تحقيقاً لمقصد التضامن والوحدة والترابط بين الشعوب الإسلامية، التي تعيش في إقليم بعينه.

الثالث: مجمع اجتهادي عالمي

يختار أعضاؤه المنتدبون من المجامع، الإقليمية أو المحلية، وفق أسس علمية دقيقة. و أعضاؤه ببذل جهدهم في الاجتهاد في النوازل والقضايا والمسائل، التي تمس حياة كل مسلم من أبناء الأمة الإسلامية، بغض النظر عن دولته وإقليمه. ولهذا المجمع الحق في مراجعة الآراء والأفهام الموروثة، المتأثرة بواقع السابقين، الفكري والسياسي والاقتصادي. ولا بدّ له من بذل الوسع، لتخليص أمة الإسلام من عوامل الفرقة والخلاف، وإخراجها من دورها الهامشي، الذي تعيشه في المجتمع الدولي. وكذلك، لا حرج على هذا المجمع في التخلي عن أحكام واجتهادات سبقت؛ إذا رأى أنها أمست غير ملائمة للظروف الحالية.

وعليه كذلك محاولة حسم مسائل ملحّة عالمية، مثل رحلات الفضاء، وعقود التأمين المتنوعة، ومواعيد بدء صوم رمضان وعيد الفطر، ومواقيت الصلاة والصوم في المناطق القطبية وغيرها.

ينبغي أن تكون العلاقة بين المجامع الثلاثة مبنية على التكامل والتآزر؛ وأن يعي كلٌّ منها واجباته ومسؤولياته، ويحاول البلوغ بها درجة الإتقان الكامل.

ولا يحق للمجمع العالمي التدخل، أو مناقشة المسائل ذات الصبغة، المحلية والإقليمية. وكذلك، لا حق للمجمعَين: المحلي والإقليمي، في مناقشة أو تداول المسائل، التي تمس حياة كل مسلم بعامة. ولا حق لهما، كذلك، في تبني مواقف وآراء، معارضة لما انتهى إليه المجمع العالمي، في القضايا المصيرية لعموم الأمة الإسلامية.

أمّا عضوية المجامع، فيراعى فيها الشروط والآداب، التي ذكرت من قبل، والمطلوب توافرها في المُفْتِي. ويختار الأفضل فالأفضل، على المستوى المحلي، ثم الإقليمي، ثم العالمي. يضاف إليهم ذوو الاختصاصات الدقيقة، الذين يُستدعون، للاسترشاد بآرائهم وتقاريرهم، كلٌّ في مجال تخصصه.

وقد تبلورت كلّ هذه الأمور في مؤتمر عالمي للفتوى وضوابطها، كان لقراراته وتوصياته دوى وصدى واسع في أرجاء العالم الإسلامي، من 20 إلى 23 المحرم 1430، الموافق من 17 إلى 20 يناير 2009. (انظر ملحق ميثاق الفَتْوَى).

[1] هو الأخفش الكبير: شيخ العربية، أبو الخطاب البصري، يقال اسمه: عبد الحميد ابن عبد المجيد، تخرج به سيبويه، وحمل عنه النحو، وأخذ عنه أيضا عيسى بن عمر النحوي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وغيرهما وله اشياء غريبة ينفرد بنقلها عن العرب.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:57 pm



ملحق

تضارب العلماء في فَتَاوَى تتعلق بأمور خطيرة ومصيرية في واقعنا المعاصر

من ذلك: تضارب العلماء في شأن المريض الميت دماغياً: هل الأولى الإبقاء عليه، أم الإسراع بقطع جهاز التنفس عنه. كما تضاربوا كذلك في شأن مشاركة الجنود المسلمين في الجيش الأمريكي في الحرب على أفغانستان.

فأمّا المسألة الأولى:

أثارت فَتْوَى للمجلس الاوروبي للإفتاء، برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي، بإجازة إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي عن المريض الميت دماغياً، غضب مشايخ الأزهر وعلمائه، الذين عَدُّوه مخالفاً للشريعة. وكان القرضاوي قال في تحقيق لمجلة "الأهرام العربي"، أن فَتْوَى ما يعرف بإجازة "تيسير الموت"، استندت: إلى أبحاث علمية، وتأصيل شرعي للقضية. كما استند العلماء إلى أن الشخص قد يصاب بأمراض، لا يُرجى شفاؤه منها: مثل بعض حالات ومراحل السرطان والإيدز.

وأشار الى أن ذلك يصاحبه آلام شديدة؛ ما يدفع أهل المريض، أو الهيئة الطبية المعالجة، إلى البحث عن طريقة تُنْهي حياة المريض؛ رحمةً وشفقةً به وبأهله. مبيناً أن " قتل الرحمة "هو تسهيل موت المريض من دون ألم؛ لتخفيف معاناته. كما أكَّد أنه لا يجوز شرعاً أن يقصد الطبيب قتل المريض، والتعجيل بموته؛ بإعطائه جرعة عالية من الدواء المتسبب في الموت؛ باعتبار ذلك قتلاً، وهو يعد من الكبائر الموبقة. ولا يزيل عنه صفة القتل أن دافعه هو الرحمة بالمريض، وتخفيف المعاناة عنه.

وعَدَّ شيخ الأزهر، محمد سيد طنطاوي، هذا الموت "غير شرعي". وأيَّدته في ذلك دار الافتاء المصرية، فيما عَدَّت نقابة الاطباء المصرية وفاة جذع المخ، بمثابة موت كامل. أمّا مصلحة الطب الشرعي، في جمهورية مصر العربية، فأكدت أن هذا المتوفي مازال حيّاً يُرزق. وأعاد شيخ الأزهر إلى الأذهان، كما ذكرت وكالة الأنباء الكويتية، فَتْوَى لمجمع البحوث الاسلامية؛ أجمع من خلالها العلماء على عدم وجود أدلة شرعية، يُعْتَمد عليها في تحريم نقل الأعضاء من جسد الميت الى الانسان الحي،" بعد تحقق الموت الشرعي والنهائي. وأشار إلى أن الموت بهذه الطريقة يعني توقف جميع أعضاء جسم الانسان عن أداء وظائفها بصورة تامة، وليس بموت المخ، أو (الموت الاكلينيكي)؛ باعتباره لا يُعَدّ موتاً شرعياً. فيما جعل مفتى مصر السابق، الدكتور نصر فريد واصل، من تحقق الوفاة الكاملة لجميع أعضاء الجسد شرطاً لأخذ أحد أعضاء الميت.

ورفض كبير الأطباء الشرعيين، في مصر، الدكتور فخرى صالح، الاعتداد بوفاة جذع المخ؛ باعتبار أن الأساس العلمي، عند تشخيص الوفاة، يَعُدّ مرضى جذع المخ مازالوا أحياء، وليسوا متوفين، ويخضعون إلى العلاج. إضافة الى ضرورة التأكد من علامات الموت: مثل توقف الدورة الدموية، والجهاز التنفسي عن العمل.

ورأى أستاذ ورئيس وحدة العناية المركزة بكلية طب قصر العيني، الدكتور شريف مختار، أن موت جذع المخ يعقبه الموت الكامل؛ باعتبار أن موت الجذع هو المحطة الرئيسية في الوفاة؛ إذ تبدأ حال بقية الأعضاء بالتدهور؛ لتنتهي دورة الحياة، خلال أسبوع، أو عشرة أيام.

وأفتى البعض؛ رداً على سؤال: في حالة احتياج مريض، لا يرجى برؤه، إلى جهاز التنفس الصناعي بحيث يكون استمرار نبض القلب متوقفاً على هذا الجهاز، كما أنه وصل إلى حالة الموت الدماغي؛ فلا إحساس ولا حركة تصدر منه، وتأكد ذلك بالتخطيط الدماغي، الذي أظهر أنه لا توجد ومضات كهربائية تصدر من الدماغ. ففي هذه الحالة هل يجوز إيقاف الأجهزة والعقاقير عنه؟ فكان الجواب: إذا كانت الأجهزة والإسعافات هي المبقية لحركة القلب، وجريان الدورة الدموية، جاز قطعها. وإذا كانت مساعدة على بقائها، مع وجود بقية للحياة الذاتية؛ فلا يجوز قطعها. ومع الشك في تشخيص إحدى الحالتين يبنى على الثانية.

وأفتى البعض؛ رداً على سؤال آخر: إذا كان العلاج واستمراره مكلفاً تكاليف باهظة، لا يستطيع الورثة تحملها. علماً بأن هذه الحالات لا يرجى منها أن تتحسن، بحسب خبرة الأطباء، فهل يجوز عدم مباشرة العلاج بالأجهزة والعقاقير؛ لأنه لن يستفيد المريض منها، وستطول معاناة ذويه؟ فكان الجواب: في الحالة الأولى، من الحالتين المتقدمتين، لا يجب الاستمرار في العلاج، حتى لو لم يكن مجحفاً بمال المريض أو بمال أهله. وفي الحالة الثانية، يجب الاستمرار فيه، حتى لو كان مجحفاً بهم. بل لو عجزوا، وجب على الناس التعاون على استمرار العلاج.

وأفتى البعض؛ رداً على سؤال آخر: إذا كان هناك جهاز واحد للتنفس الصناعي، واستخدم لمريض لا يرجى برؤه؛ وقد وصل إلى حالة الموت الدماغي. ثم احتاج مريض أخر يرجى له الشفاء والبرء إلى استخدام جهاز التنفس، فهل يجوز، في هذه الحالة، أن نأخذ الجهاز من الميت دماغياً إلى المريض الأخر؟ فكان الجواب: نعم يجوز، بل يجب.

وأفتى البعض؛ رداً على سؤال آخر: هل نستطيع أن نجري أحكام الميت على المريض، الذي لا يرجى برؤه؛ وقد وصل إلى مرحلة الموت الدماغي ـ حيث لا إحساس ولا حركة ولا قدرة على التنفس ـ واستمرت هذه الحالة أكثر من ثلاثة أيام، وأكد التخطيط الدماغي عدم وجود أي ومضات كهربائية تدل على وجود حياة؛ وكذا أكَّد هذه الحالة فحص أكثر من طبيب مسلم؟ فكان الجواب: في الحالة الأولى، يحكم بموت الشخص.

وأفتى البعض؛ رداً على سؤال: في حالة الموت الدماغي، وكان المريض تحت أجهزة الانعاش الرئوي والقلبي، فهل يجوز فصل الأجهزة عنه؟ وما الحكم بالنسبة للطبيب؟ فكان الجواب: إذا كانت أجهزة الانعاش هي التي تحرك أجهزة البدن، من دون أن تكون لها قابلية استمرار الحياة؛ فيجوز فصل الأجهزة المذكورة. وأمّا إذا كانت أجهزة البدن تحمل شيئاً من بقايا الحياة، والأجهزة تساعدها على استمرار الحياة؛ فيحرم فصل الأجهزة.

وأفتى البعض؛ رداً على سؤال: بالنسبة للميت دماغياً، هل يجوز التبرع بأعضائه لمرضى في أشدّ الحاجة إليها؛ وذلك في الحالات التالية:

أ. إذا مات الشخص دماغياً، وأراد ذلك قبل موته، وكتب ذلك بخط يده، سواء رضي أهله أم رفضوا؟

ب. إذا أراد ذلك أهل الميت بقصد الكسب المادي، ولن يعلم ما إذا كان الميت دماغياً راضياً بذلك، أم لا؟

فكان الجواب: لا يجوز نقل الأعضاء من الميت المسلم إلى الحي، حتى لو أوصى بذلك، إلاّ إذا توقف عليها حياة المسلم الحي، وحينئذٍ لا يحتاج إلى وصية الميت ولا إلى رضا أهله. 

وأمّا المسألة الثانية:

فاللغط مستمر في شأن الفَتْوَى، التي صدرت في 16 سبتمبر 2002، في شأن موقف العسكريين المسلمين الأمريكيين، البالغ عددهم 15 ألف شخص، من الاشتراك في حملة ملاحقة الإرهاب، التي شنتها القوات الامريكية. والفَتْوَى المعنية، وقعها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور هيثم الخياط، والكاتب الصحفي فهمي هويدي. هذه الفَتْوَى كانت قد صدرت قبيل الحرب على أفغانستان، في 27 سبتمبر2001؛ لكنها حين ترجمت ووصلت إلى أيدي كثيرين، كانت الحرب قد أُعلنت، الأمر الذي فُهم منه أن الفَتْوَى جاءت مؤيدة للحرب، ولقتل الأفغان المسلمين. وهو أمرٌ أبعد ما يكون عن الحقيقة، ليس فقط لأنها صدرت قبل أحد عشر يوماً من بدء الحرب؛ ولكن لأن موقعيها أعلنوا موقفهم الرافض لتلك الحرب، في بيانات معلنة. لذلك فإن الزج بالفَتْوَى في سياق الحرب يضعها في غير سياقها الأصلي، فيشوهها ويسيء فهمها. فشرعية الحرب، مثلاً، خارج موضوع السؤال، كما أن ما ينطبق على الولايات المتحدة لا يسري على المسلمين في ألمانيا أو تركيا مثلاً؛ إذ طالما أن لكلِّ بلدٍ خصوصيته وملابساته، فإن كلَّ حالةٍ يكون لها وضعها الخاص، لأنه اذا كانت الفَتْوَى بمثابة تنزيل الحكم على الواقع، فمن الطبيعي أن تتغير تبعا لاختلاف ذلك الواقع في المكان والزمان.

ازاء ذلك فإن القرضاوي كتب رأياً توضيحياً للفَتْوَى، في محاولة منه لرفع الالتباس، الذي أحاط بها من إساءة فهمها. وفيه نص على الآتي: إن الاسلام قد حَرَّم على المسلم أن يواجه أخاه المسلم بالسلاح، وعَدَّ ذلك من أعمال الكفر، وأعمال الجاهلية. فقال صل الله عليه وسلم: )سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ( ( الترمذي: 2559). وقال: )لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ( (البخاري: 118). وقال: )إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. فَقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ( (البخاري 30).  وهذه كلُّها أحاديث صحيحة متفق عليها. بل حَرَّم الرسول على المسلم أن يشير الى أخيه المسلم بسلاحه ـ مجرد اشارة ـ لا جاداً ولا مازحاً.

وهنا يبرز سؤال المسلم، الذي يكون مجنداً في جيش، فهو لا يملك إلاّ طاعة رؤسائه وتنفيذ أوامرهم، التي يصدرونها إليه، وليس من حقه أن يقول: "لا"، أو: "لم"؟ وفق الانظمة العسكرية المعروفة في العالم اليوم؛ فإذا كان جيش دولته هذا يحارب دولة مسلمة، وهو جندي في هذا الجيش، فماذا يصنع؟ وهو مكره على أن يتحرك بحركة الجيش؛ إذ هو فيه مجرد آلة في ترس كبير.

الذي يتوجه اليه النظر الفقهي هنا: أن المسلم إذا أمكنه ان يتخلف عن هذه الحرب؛ بطلب إجازة أو إعفائه من هذه الحرب، لأن ضميره لا يوافق عليها، أو نحو ذلك، فالواجب عليه أن يفعل ذلك؛ حتى لا يتورط في مواجهة المسلم، بغير حق. وكذلك، إذا استطاع أن يطلب العمل في الصفوف الخلفية لخدمة الجيش، لا في مباشرة القتال، فهذا أخف. ذلك ما لم يترتب على موقفه هذا ضرر بالغ له، أو لجماعته الإسلامية، التي هو جزء منها: كأن يُصنف هو وإخوانه، في مربع الذين يعيشون في الوطن، وولاؤهم لغيره. وقد يكون في هذا التصنيف خطر على الأقلية الإسلامية ومصيرها، ووجودها الدِّيني والدعوي، وقد يؤدي بالجهود الدعوية والتربوية الهائلة، التي بذلت لعشرات السنين؛ لتقوية الوجود الاسلامي وتثبيته، واعتبار المسلمين جزءاً من مجتمعهم، يجب أن يندمجوا فيه حضارياً، ولا يذوبون فيه دينياً؛ فلا يجوز ان يتصرفوا تصرفاً يجعلهم مشبوهين، أو مشكوكاً فيهم؛ بحيث يَعُدّهم المجتمع العام طابوراً خامساً.

ولا ينبغي للأفراد أن يريحوا ضمائرهم بالتخلف عن الحرب، إذا كان ذلك سيضر المجموعة الإسلامية كلّها. فإن القاعدة الشرعية: يُتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، ويُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. وحق الجماعة مقدم على حق الأفراد، وفقه التعارض بين المصالح والمفاسد من أهم انواع الفقه؛ فهو فقه الموازنات. وهو فقه يفتقده الكثير من المسلمين، فلا يجوز أن يخضع العلماء لفقه العوام، الذين يغلبون فقه الظواهر على المقاصد.

وإذا اضطر المسلم للقتال، مكرهاً تحت ضغط الظروف، التي ذُكرت، فينبغي له أن يبتعد ـ بقدر ما يمكنه ـ عن القتل المباشر، وأن يشارك في الحرب إذا شارك، وهو كاره منكر لها بقلبه، كما هو شأن المؤمن، إذا عجز عن تغيير المنكر بيده أو بلسانه، فهو يغيره بقلبه ـ أي بالكراهية والنفور ـ وذلك أضعف الإيمان.

خلال الفترة، التي أعقبت صدور الفَتْوَى، أيَّدها البعض، وتحفظ عليها آخرون في بعض مواضعها. وصدرت فَتَاوَى أخرى مخالفة لها، كما أنها صارت هدفا للهجوم، وتعرض كاتبوها للاتهام والتجريح من قبل قلة من المُفْتِين، الذين اعتادوا أن يشّهروا بكل من يخالفهم.

ورغم أن تعدد الفَتَاوَى أمر مفهوم، ولا ضير فيه، خصوصاً بين أهل العلم، الذين يلتزمون بأدب الاختلاف، إلاّ أن الأمر يكون أحياناً مصدراً للحيرة والبلبلة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بحالة كالتي نحن بصددها. إن من شأن بعض الفَتَاوَى أن تورث بعض الجنود المسلمين الأمريكيين شعوراً بالإثم، إذا أطاعوا الأوامر الصادرة إليهم بالاشتراك في الحرب، وربما اضطر بعضهم إلى الاستقالة، إذا رفض تنفيذ تلك الأوامر. وهو ما ارتآه بعض المُفْتِين، ممن قالوا إن الاستقالة في هذه الحالة أفضل من المشاركة في قتل مسلم.

من الذين لم يختلفوا كثيراً مع الفَتْوَى الآنفة، الشيخ فيصل مولوي، من لبنان، الذي حَرَّم مشاركة الجندي الأمريكي المسلم في المهمات العسكرية، التي قد توكل إليه في أفغانستان، ثم انتهى الى أنه: "إذا ترتب على هذا الموقف نتائج أخرى ضارة، لا يمكن تحملها بالنسبة له شخصياً أو للجالية الإسلامية ككل، فإن الضرورات تبيح المحظورات، وعليه الموازنة بين الأمرين، واختيار أقلها ضررًا، وهو وحده الذي يتحمل مسؤولية اختياره".

من بين الذين عارضوا مبدأ المشاركة في العمليات العسكرية الدكتور علي جمعة، أستاذ أصول الفقه في جامعة الأزهر، والدكتور احمد الريسوتي، أستاذ الشريعة، في المغرب، والدكتور صلاح سلطان، رئيس الجامعة الإسلامية، في الولايات المتحدة. ومما قاله الدكتور علي جمعة، الذي أصدر فتواه، بعد قيام الحرب، أنه: على الجندي المسلم، في الجيش الأمريكي أن يعتذر عن هذه الحرب، فإن لم يستطع، فليكن في الجهاز الإداري مثلاً، فان لم يستطع فليقدم استقالته، فإن اضطر إلى الخروج. وكان بين الصفوف، فلا يقتل مسلماً بسلاحه. فإن قتله خطأ، فعليه الدية والكفارة، وإن قتله عمداً، ارتكب إثم من قتل مسلماً عمداً.

أمّا الدكتوران أحمد الريسوتي وصلاح سلطان، فلم يجيزا الاشتراك في الحرب بإطلاق، على الرغم من أن الدكتور الريسوتي، أباح للمسلم العادي أن يدفع الضرائب للدولة غير المسلمة، التي يعيش في ظلِّها ويحمل جنسيتها، استناداً إلى قاعدة الضرورة والإكراه.

والحقيقة أن مبعث الاختلاف ليس فقط كون الفَتْوَى الاولى صدرت قبل الحرب، حين لم يكن معلوماً، مثلاً، أن المدنيين الأفغان سيتعرضون للقصف، أو بعد ابتداء تلك الحرب، وإنما نشأ التباين في المواقف من جراء الاختلاف في الإدراك، والأولويات، وزاوية النظر. فهناك من لم يجد في الأمر ضرراً ولا ضرورة، وأن المسلمين يستطيعون إبراء ذمتهم، وعدم المشاركة في المهام الموكولة إليهم، وحتى اذا استقالوا من الجندية (لاحظ أن عددهم 15 ألفا)، فلن يصيبهم أو يصيب الجالية الإسلامية ضرر كبير كما يُظن. ومن ثَمَّ، فلن يؤثر ذلك في مستقبل الإسلام في تلك البلاد، وربما كان الاختلاف في تقدير هذه المسألة ناشئًا عن أن الذين أفتوا، لأنهم من غير المسلمين الأمريكيين، لم يكونوا على اتفاق حول الحجم الحقيقي لذلك الضرر المتوقع، وهو ما يحسمه أهل البلاد أنفسهم. ومن هؤلاء من قالوا إن الحرب غير عادلة، وليس لهم أن يشاركوا فيها، لأنه )لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ(، ما أثار سؤالَيْن: أحدهما عمّا إذا كان ذلك يسري على حكومات الدول غير الإسلامية، أم على الحكومات الإسلامية وحدها، والثاني عمّا إذا كان ذلك ينطبق على العسكريين كذلك. حيث لا يملك "المخلوق" منهم في هذه الحالة إرادته في الدول الإسلامية، فما بالك بغير الإسلامية؟

الأمر الذي بدا ملتبساً في أذهان الجميع، هو معنى ومسؤولية أن يكون المسلم مواطناً في بلد غير مسلم، لا علاقة لقوانينه وأعرافه بالاسلام، إلى أي مدى يملك ذلك المسلم أن يتحلل من التزاماته كمواطن، خصوصاً، إذا كان جندياً لا يملك إلاَّ أن يمتثل إلى الأوامر الصادرة إليه، وهو عنصر في المسألة يتعلق بحدود وطبيعة العلاقة بين الانتماء الدِّيني والانتماء الوطني، وكيف يمكنه التوفيق بين الانتماء للجماعة الدِّينية والجماعة الوطنية في الوطن نفسه، وهو الموضوع، الذي طال الجدل بشأنه حتى أدرك المتحاورون أنه يحتاج إلى مزيد من التعميق والاثراء، إذ إنه جديد على خبرة العقل الإسلامي، جدة فكرة المواطنة ومستلزماتها.

المفارقة اللافتة للنظر هنا، أن مثل هذه المناقشات لم نجد لها آثاراً، في الحالات التي تقاتل فيها المسلمون في ما بينهم، العراق وإيران مثلاً، أو الصراع الراهن بين الفصائل الأفغانية، وكأنما قتال المسلمين في ما بينهم مقبول ومحتمل، أمّا إذا قاتلهم غيرهم، فهنا تكون المشكلة ويقع المحظور من: أن "ظلم" ذوي القربى أشدُّ مضاضة، فما بالك بهم، لو أنهم قتلوا؟!

 




       

ملحق

الفتيا يجب أن تكون من أصحابها العلماء

اخذ الفتيا من أصحابها أمر أوجبه الشرع

أخذ الفتيا من أصحابها أمر أوجبه الشرع، وقرره العقل، واتفق عليه جميع البشر. فإننا نجد أنفسنا في أي شأن من شؤون حياتنا، نعود في الاستشارات الصحية والاقتصادية، وغيرها إلى أصحاب الاختصاص، وديننا من باب أولى؛ فلا نأخذ الفتيا إلاَّ عن أهلها. فلا نأخذ الفَتْوَى ولا العلم الشرعي، عن كل من انتسب اليه، وهو جاهل فيه ابتداء علمه وتعلمه. وإذا أخذ الناس دينهم عن الأحداث، فعليهم السلام. وإذا أخذوه عن علمائهم وكبرائهم فانهم يوفقون. فينبغي على الإنسان ألاّ يأخذ دينه، من غير العلماء؛ فلا يستفتي إلاّ من عُرِف عنه العلم، والورع، والعمق في الشريعة، فإنه هو الذي تُؤخذ عنه الفتيا.

للجهاد ضوابطه

الجهاد هو قتال الكفار والمشركين، وهو الدفاع عن أوطان المسلمين، إذا اعتدي عليها. وللجهاد ضوابط، وليس لكلِّ إنسان أن يحكم بأن هذا جهاداً، أو غير جهاد، إلاّ بتقرير العلماء وأهل الرأي والمعرفة بأحكام الجهاد، وهل من ورائه مقاصد، وأغراض، حين يعلن من يعلنه لا بد من معرفة أهل السياسة والخبرة، وعرض ذلك على أهل العلم، ثم إن الجهاد لا يذهب إليه الإنسان متى كان تحت ولاية، إلاّ باذن ولي أمره. وإن كان له أبوان، فلا بد أن يتفق على الإذن له بالجهاد، ولا يكون الجهاد واجباً، إلاَّ في أربعة أمور:

الأول: حين يهاجم العدو البلد الذي أنت واحد من أفرادها، وتحت ظلال حكمها.

الثاني: أن يعلن ولي الأمر التعبئة العامة والخروج إلى الجهاد.

الثالث: أن يحضر معركة بين الكفار والمسلمين، فيجب عليه أن يجاهد إن كان من أهل الجهاد، وممن تنطبق عليه الشروط، ولا يجوز أن يوليهم الأدبار.

الرابع: أن يكون لديه خبرة، لا توجد في الجيش المسلم، وإذا ذهب إليهم، أفادهم. فإنه يجب عليه، وما عداها فإنه يرد إليها. وماعدا ذلك، فإنه سنة، إن كان هناك ما لا يمنع من ولي أمر، ووالدَيْن.

الوفاء بالعهد والالتزام به

الوفاء بالعهد، أصل من أصول هذه الشريعة؛ فالله ـ جلّ وعلا ـ يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( (المائدة: 1)، وقال: )وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ( (النحل: 91).

فإن كانت العهود قائمة والمواثيق مبرمة، فلا يجوز التعدي عليها ولا إخلافها، ولا نقضها، ولا الاحتيال عليها، فإن ذلك مما يتنفى مع أحكام هذه الشريعة، وأمانتها وصدقها وأمرها بالوفاء، وأن يكون اتباعها على جانب من الصدق والوفاء والاخلاص.

التحالف ضد الإرهاب مطلوب حتى يأمن الناس

التحالف ضد الارهاب أمرٌ مطلوب، وأولى من يقوم به المسلمون. وذلك لأن الناس أصبحوا، لا يأمنون في الطائرات على أنفسهم؛ ولا يأمنون، وهم في الأسواق؛ ولا يأمنون، وهم في البيوت. فهذا هو الذي يسمى إرهاباً في هذا العصر، والتكاتف والتعاضد على منعه أمرٌ مطلوب. فإن قام به المسلمون فهو واجب، وإن قام به الكفَّار، وجب أن نؤيدهم على هذا، ونقدم لهم التسهيلات والمساعدات، فيما يتفق مع سياستنا وظروفنا، ونحو ذلك. ومكافحة الإرهاب أمرٌ جميلٌ وعظيمٌ، ينبغي انضواء الدول كلّها تحت الدعوة إليه. والإرهاب، في اللغة: هو فعل شيء يسبب الفزع والخوف ويرعب الآمنين، ويسبب لهم الاضطراب، في حياتهم وتصرفاتهم، والتوقف عن أعمالهم وإحداث الخلل في الأمن والسلوك والتعامل. وأمّا معناه في الشرع: فكلُّ ما فيه سبب لزعزعة الأمن، أو سفك الدماء، أو اتلاف الاموال أو التعدي بأنواعه.

وجوب طاعة الولاة والعلماء

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز يرحمه الله :

قال الله عز وجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا( (النساء:59).

فهذه الآية نص في وجوب طاعة أولي الأمر، وهم: الأمراء والعلماء. وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله تبين أن هذه الطاعة لازمة، وهي فريضة في المعروف. والنصوص من السُّـنَّة تبين المعنى، وتقيد إطلاق الآية بأن المراد: طاعتهم في المعروف. ويجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف، لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية، فلا يطاعون. لكن لا يجوز الخروج عليهم؛ لقوله ـ صل الله عليه وسلم ـ: )أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ( (مسلم:3448)، ولقوله: )مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً( (مسلم: 3436)، وقال: )السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ( (البخاري:6611). فهذا يدلّ على أنه لا يجوز منازعة ولاة الأمور، ولا الخروج عليهم، إلاّ أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أمّا إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج؛ رعاية للمصالح العامة .

والقاعدة الشرعية المجمع عليها، أنه لا يجوز إزالة الشرِّ بما هو أشرّ منه، بل يجب درء الشرِّ بما يزيله أو يخففه. أمّا درء الشرِّ بشرٍّ أكثر، فلا يجوز بإجماع المسلمين. فإذا كانت هذه الطائفة، التي تريد إزالة هذا السلطان، الذي فعل كفراً بواحاً عندها قدرة تزيله بها، وتضع إماماً صالحاً طيباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين، وشرّ أعظم من شر هذا السلطان، فلا بأس؛ أمّا إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير، واختلال الأمن، وظلم الناس، واغتيال من لا يستحق الاغتيال، إلي غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر، والسمع والطاعة في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تحفيف الشر وتقليله وتكثير الخير .

هذا هو الطريق السوي، الذي يجب أن يسلك؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر. نسأل الله للجميع التوفيق والهداية. أمّا بعض الشباب، ممن يرى هذا فكراً انهزامياً، وفيه شيء من التخاذل، ويدعون إلى تبني العنف في التغيير، فهذا غلط من قائله، وقلة فهم؛ لأنهم ما فهموا السنة، ولا عرفوها كما ينبغي، وإنما تحملهم الحماسة والغيرة لإزالة المنكر؛ على أن يقعوا فيما يخالف الشرع. كما وقعت الخوارج والمعتزلة، حملهم حب نصر الحق أو الغيرة للحق على أن وقعوا في الباطل؛ حتى كفروا المسلمين بالمعاصي، كما فعلت الخوارج، أو خلدوهم في النار بالمعاصي، كما تفعل المعتزلة . فالخوارج كفروا بالمعاصي، وخلّدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة، وأنهم في النار مخللدون فيها. ولكن قالوا: إنهم في الدنيا بمنزلة بين المنزلتَيْن، وكلّه ضلال .

والذي عليه أهل السُّـنَّة ـ وهو الحق ـ أن العاصي لا يكفر بمعصيته، ما لم يستحلها. فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذ شرب الخمر لا يكفر، ولكن يكون عاصياً، ضعيف الإيمان، فاسقاً، تقام عليه الحدود. ولا يكفر بذلك، إلاّ إذا استحل المعصية. وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل ؛ ولهذا قال فيهم النبي: )يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ( (البخاري:3095).

هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فلا يليق بالشباب، ولا غير الشباب، أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهْل السُّـنَّة والجماعة، على مقتضى الأدلة الشرعية؛ فيقفوا مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبه والمشافهة، بالطرق الطيبة الحكيمة، وبالجدال بالتي هي أحسن، حتى ينجحوا، وحتى يقلّ الشرّ أو يزول ويكثر الخير.

فالواجب على الغيورين لله وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا حدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور، بالكلام الطيب، والحكمة، والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير ويقل الشر، وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا لدعوتهم بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، ويناصحوا من ولاهم الله الأمر بشتَّى الطرق الطيبة السليمة، مع الدعاء لهم بظهر الغيب: أن الله يهديهم، ويوفقهم، ويعينهم على الخير، وإقامة الحق، ويعينهم على ترك المعاصي. هكذا يدعو المؤمن الله ويضرع إليه: أن يهدي ولاة الأمور، وأن يعينهم على ترك الباطل، وعلى إقامة الحق بالأسلوب الحسن؛ ويذكرهم حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، وبهذا يكثر الخير، ويقل الشر، ويهدي الله ولاة الأمور للخير والاستقامة عليه، وتكون العاقبة حميدة للجميع.

 


ملحق

الضروريات والحاجيات والتحسينات

قال الإمام أبو حامد الغزالي: "إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكلّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة..." المستصفى، ج1، ص 284.  

1. الدين: هو كلّ ما شرع الله ـ عزّ وجلّ ـ ورسوله ـ صل الله عليه وسلم ـ. وللحفاظ على الدين، شرع الإسلام الجهاد، ونَهَى عن الردة. 

2. النفس: الحياة نعمة، وهبها الله ـ تعالى ـ لخلقه. لذلك، حرّم الاعتداء عليها بغير حق. فحرّم القتل وأوجب الدية والكفارات.

3. العقل: أداة للوعي والتفكير والتدبر. لذلك، حُرِّم ما يعطل وظيفته، كالإسكار وفرض طلب العلم النافع.

4. النسل: شرّع الإسلام الزواج، وحرّم الزنا والقذف.

5. المال: نعمة وهبها الله لعباده، ودعاهم لتحصيلها بالطرق المشروعة، وحرم الربا والغش والاحتكار.

يقول الدكتور محمد رأفت عثمان، عميد كلية الشريعة بالأزهر سابقاً وعضو مجمع البحوث الإسلامية: "إن أحكام شريعة الإسلام تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة. واقتضى تحقيق المصلحة للإنسان أن تقصد الشريعة إلى المحافظة على أمور ثلاثة يسميها العلماء: الضروريات، والحاجيات والتحسينات.

فأمّا الضروريات فهي، كما عرفها الإمام الشاطبي: الأمور، التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. وبين الشاطبي أن مجموع هذه الضروريات خمسة هي: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

وأمّا الحاجيات، فهي الأمور التي لا تختل الحياة بفقدها، وإنما يترتب على فقدها أن يقع الناس في الضيق والمشقة. ومثالها: الرخص، التي جعلها الشارع مخففة للمشقة والضيق، كإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر.

وأمّا التحسينات، أي الكماليات، فهي، كما عرفها الشاطبي كذلك، الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات، التي تأنفها العقول الراجحات، وهي في النهاية قسم في مكارم الأخلاق كتحريم سب الناس و الخداع، والنصب وخروج المرأة في الشوارع بالزينة المثيرة لغريزة الرجال. فحفظ النفس إذاّ من الأمور، التي قصدت شريعة الإسلام تحقيقها، وعَدّته من الضروريات التي لا بد منها.

 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:58 pm


       

ملحق

بيان المؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية

"التجديد في الفكر الإسلامي"

من 8 إلى 11 ربيع الأول 1422

ناقش مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، في دورتين متتابعتين، "مشروعًا حضاريًا لنهضة شاملة للعالم الإسلامي"، رأى بعدهما أن الأمر يتطلب تكملة ضرورية تمثل الأساس الأهم في الوصول إلى هذه القضية، وهي قضية "تجديد الفكر الإسلامي"، التي يستحيل تحقيق أي نهضة، من دونها؛ في ظلِّ المتغيرات الهائلة، التي حدثت في العالم، والتي تفرض التعامل معها بالفكر الملائم لها.

وهنا تجب الإشارة إلى أن التجديد لا يعني، بأي حال من الأحوال، أدنى مساس بثوابت العقيدة، والعبادات، وما ورد في الكتاب والسُّـنَّة من أحكامٍ قطعية، ولكنه إعمال للعقل والفكر في مشكلات حياتنا المعاصرة لاستنباط الأحكام المناسبة لها من أدلتها الشرعية.

إضافة إلى ذلك، فإن للتجديد في الفكر الإسلامي أسساً يقوم عليها، ومعالم يسترشد بها، وضوابط يلتزم بها، وليس دعوة إلى الانفلات من كلِّ قيدٍ، أو بداية للتفريط في كلِّ شيء.

ومن ناحية أخرى، فإننا نحن – المسلمين - لا نعيش في جزر منعزلة، ولا نستطيع بحالٍ من الأحوالِ أن نعزل أنفسنا عن العالم المحيط بنا، ولا عن المتغيرات التي طرأت على عالمنا المعاصر في جميع المستويات. ومن ثَمَّ، فلا مجال للتخوف من أن يؤدي التجديد إلى التفريط في شيء من تعاليم الدِّين وقيمه الثابتة؛ فحقيقة التجديد: هي إحياء ما اندرس من سنن الإسلام، وأحكامه وقواعده، من دون أي إخلال بثوابت الشريعة وأصولها. وهذا التجديد يقوم على أصـل إسلامي، قوامـه قول الرسـول: )إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا( (أبوداود: 3740).

وهذا يعني أن التجديد سُـنَّة إسلامية لازمة لضمان حيوية الشريعة، واستمرار صلاحيتها عبر الزمان والمكان، وهو ما فهمه أئمة الفقه الإسلامي، الذين سطّروا ذلك في كتبهم، ومارسوه بالفعل في أحكامهم ومواقفهم.

لكن المستجدات، التي حدثت في العالم، فرضت أنواعاً أخرى من فقهٍ جديدٍ كان منه "فقه الواقع" و"فقه الأولويات" و"فقه البيئة" و"فقه الأقليات المسلمة"، وغيرها من القضايا الملحة، التي لا يجوز إغفالها، إذا ما أردنا لأمتنا أن تواكب متغيرات العصر، وهي تصون شريعتها، وتحافظ على هويتها.

إن القضية المصيرية لأمتنا المسلمة اليوم هي قضية التخلف، وعلى العقل المسلم أن يضطلع بدوره كاملاً؛ للخروج بالأمة من تخلفها.

والتجـديد لا يعني إهدار جهود المجتهدين السابقين، أو التقليل من شـأنها، وإنما يوجب استصحابها لاسـتخراج ما يناسب ظروف العصر منها، دون التقيد برأي فقهي معين، أو بمذهب بعينه.

ولأن دين الإسلام متسق مع سُـنَن الكون والحياة ونواميس الفطرة الإنسانية، التي أساسها الحركة والتطور، فقد شجّع الإسلام التجديد المستمر لحركة الحياة والمجتمع، وصولاً إلى المستوى الأفضل في جميع المجالات؛ لأن البديل للتجديد، هو الجمود والموت.

وقد اعتمد الإسلام آلية للتجديد متمثلة في مبدأ "الاجتهاد" في كل مناحي الحياة بما فيها الفكر الدِّيني، بطبيعة الحال. وقد كان ختم النبوة مؤذنًا برفع الوصاية عن العقل، ومطالبًا له أن يثق في قدراته، وأن يعتمد على نفسه، في كلِّ ما لم يرد فيه نص شرعي قاطع. وقد كان ذلك واضحًا، كلّ الوضوح، في حديث معاذ بن جبل عندما سأله النبي: )كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلا آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ( (آلُو: أي لا أقصر)  (أبو داود: 3119).

وكان مبدأ "الاجتهاد" من أهم الخطوات، التي قررها الإسلام للمساعدة على تطوير الفكر وتحريره للمزيد من التقدم؛ فانفسخ المجال أمام العقل للاجتهاد في رعاية القرآن الكريم والسُّـنَّة النبوية المطهرة. وفي ظلِّ القاعدة، التي تقول: )إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد( (النسائي: 5286).

وقد كان حرص مفكري الإسلام على رشد الحياة وإثرائها واضحًا في كلِّ العصور من منطلق غيرتهم على الإسلام وتعاليمه، وصفاء الفكر الإسلامي ونقائه، وكان لكلِّ منهم أسلوبه في التجديد ومنهجه في الإصلاح، ولكنهم جميعًا يتفقون في الهدف المتمثل في ضرورة فهم الدِّين على أنه دين للحياة بكلِّ أبعادها. ومن هنا، فإنه لا يجوز عزل الدِّين عن الحياة؛ فالدِّين فضلاً عن كونه عقيدة وشريعة، فهو علم ومعرفة وحضارة وثقافة.

والتجديد يتطلب التشخيص السليم لأوضاع العالم الإسلامي، والتعرف على مواطن العلة فيه؛ بهدف تقديم العلاج الصحيح والخروج بالأمة من أزمتها الحضارية الخانقة؛ حتى تشارك في صنع التقدم الحضاري للبشرية جمعاء.

يوصي المؤتمر بالتأكيد على أن التجديد لا يعني إلغاء أو إهدار جهود المجتهدين السابقة، وإنما يوجب استصحابها؛ لاستخراج ما يناسب ظروف العصر منها، من دون التقيد برأي فقهي معين أو مذهب بعينه. كما يوجب الاسترشاد باجتهاداتهم، في استنباط أحكام المستجدات، التي لم يعالجوها في كتبهم. وكلُّ ذلك في إطار اجتهاد جماعي، تتولاه المجامع الفقهية، أو الهيئات المعنية بذلك في البلاد الإسلامية، ويصدر به تشريع من ولي الأمر (السلطة التشريعية).

كما يوصي المؤتمر علماء المسلمين بإبراز جوانب الوسطية الإسلامية، القائمة على الخير والرحمة والعدل والمساواة، وتطبيقاته في التشريع الإسلامي. وخاصة مبدأ التكافل والتضامن الاجتماعي؛ ضمانًا لتماسك الأسرة المسلمة، وتربية الأجيال على أسس سوية؛ وتحقيقًا للتوازن الاقتصادي بين صالح الفرد وصالح الجماعة. كما يوصي بإبراز الجانب الإيماني لهذه الوسطية، وعدم الانسياق وراء التيارات التي تدير ظهرها للدين.

كما يوصي المؤتمر علماء المسلمين بالتأكيد على أن مبادئ الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع، في المجتمعات الإسلامية، وأن تكون هناك مجالس فقهية متخصصة يرجع إليها فيما يصدر من تشريعات.

ولمّا كان التشريع يتناول بطبيعته أمور ومستجدات الحياة المعاصرة على اختلافها وتنوعها، كان ضرورياً أن تضم الهيئات والمجامع الفقهية متخصصين في الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية بجانب الفقهاء حتى تأتي التشريعات مواكبة للتطورات في جميع هذه الأمور، ملتزمة بأحكام الشريعة ومستجيبة لحاجات الناس المتغيرة.

كما يؤكد المؤتمر ضرورة الرجوع إلى الأدلة الفقهية الاجتهادية، وخاصة المصالح المرسلة والعرف لاستنباط الأحكام حتى يتمكن المسلمون من مواجهة مستجدات العصر.

كما يوصي المؤتمر علماء المسلمين بضرورة الإفادة بما استجد من حقائق علمية مستقرة في مجالات الطب والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا ما دامت لا تخالف حكماً قطعياً ولا تؤدي إلى فساد خلقي.

كما يطالب المؤتمر بضرورة التزام كلّ من يتصدى لتفسير القرآن الكريم بالمعايير والضوابط، التي اعتمدها علماء المسلمين، ونبذ التفسيرات الشاذة، التي تخالف إجماع الأمة وتقدح في ثوابتها، مع جواز الإفادة من الحقائق العلمية المستقرة.

ويؤكد المؤتمر ضرورة الالتزام بأحكام السُّـنَّة النبوية الصحيحة بوصفها الأصل الثاني للإسلام، ورفض كلّ دعاوى التشكيك في حجيتها.

ويؤكد المؤتمر على أن حقوق الإنسان مكفولة في الشريعة الإسلامية، التي هي مصدر جميع الحقوق والواجبات. وليس من التجديد في شيء الدعوة إلى تعديل الأحكام القطعية الخاصة بالأحوال الشخصية، مثل: المواريث، أو حقوق الطفل، أو حقوق المرأة، أو غير ذلك من أحكام مقررة في الشريعة الإسلامية. فكلُّ ما خالف الشرع ليس من هذه الحقوق، وليس من حق أي منظمة أو جماعة في الخارج أو في الداخل أن تتدخل في أي أمر يتعلق بالأحكام الشرعية المطبقة في العالم الإسلامي.

ويناشد المؤتمر الدول، التي تعيش فيها أقليات إسلامية احترام العقيدة الإسلامية وما يرتبط بها من شعائر دينية، كما يناشد الأقليات الإسلامية في هذه الدول الالتزام بأحكام الإسلام مع احترام النظام العام السائد في هذه الدول.

ويناشد المؤتمر علماء المسلمين وضع القواعد الشرعية، التي تنظم حياة الأقليات الإسلامية في ضوء ظروف البلاد التي يعيشون فيها، بما يكفل تيسير حياتهم ورفع الحرج عنهم ويضمن في الوقت نفسه حسن الجوار مع أبناء هذه البلاد.

ويوصي المؤتمر بضرورة توخي الحرص التام في طريقة عرض الإسلام في الغرب، وذلك بالتركيز على ما يلي:

أ.  تقوم الدعوة الإسلامية على الحكمة والموعظة الحسنة ونبذ العنف، فلا إكراه في الدِّين، وتسوّي في المعاملة بين المسلمين وغيرهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).

ب. إبراز أن الإسلام يوفق بين العقل والإيمان، ويفسح المجال للعقل في غير أمور العبادات والعقيدة، التي تقوم على الاتباع والطاعة.

ج. أن يكون الداعية على علم تام بالموضوعات الخلافية بين الإسلام والنظم الغربية، مثل: نظام المواريث، والزواج، وغيرهما من مسائل الأحوال الشخصية.

ويوصي المؤتمر ببذل المزيد من الجهد للنهوض باللغة العربية، لغة القرآن والسُّـنَّة؛ ضمانًا لتواصل الأجيال سواء في البلاد العربية أو البلاد الإسلامية غير الناطقة بالعربية، بحيث تكون اللغة العربية هي لغة الخطاب الرسمي، والتعبير الثقافي، ولغة التعليم في جميع مؤسسات التعليم، بما فيها التعليم العالي والجامعي، بحيث تكون هي اللغة الأساسية الثانية بعد اللغة الوطنية المحلية في البلاد الإسلامية غير الناطقة بالعربية.

 




       

ملحق

مجمع الفقه الإسلامي

التأصيل الشرعي والتاريخ

قال يوسف القرضاوي: مجمع الفقه الإسلامي هو مؤسسة من مؤسسات منظمة المؤتمر الإسلامي، انبثق عنها؛ ليمثل الجانب الفقهي في الأمة الإسلامية. الأمة الإسلامية أمة تتميز بأنها أُمَّة صاحبة عقيدة وشريعة، أُمَّة منضبطة، فتنضبط بأحكام الشريعة، سواء الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو الدولة. فالفقه الإسلامي هو الذي يضبط مسيرة الفرد، ومسيرة الجماعة، بأحكام الشرع.

هناك نوعان من الاجتهاد الفقهي، هناك اجتهاد فردي، وهناك اجتهاد جماعي، هناك علماء يجتهدون وهذا هو أغلب أنواع الاجتهاد، وهناك اجتهاد جماعي، وهذا بدأ منذ عهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ التشاور في الأمور التي تطرأ على الناس لاستنباط حكم لهم، حكم لهذا الأمر الطارئ عليهم كما قال الله تعالى: )وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ(. وفي عصر الخلفاء الراشدين، كان أبو بكر وعمر يسألان الناس عن القضايا الطارئة: هل عندكم فيها شيء من كتاب الله أو من سُـنَّة رسوله؟ فإن وجد أحدهم شيئاً في الكتاب، أو في السُّـنَّة قضى به، وإن لم يجد جمع الناس، فتشاوروا، حتى يصلوا إلى الحكم، جمع رؤوس الناس فاستشارهم. وهذا أصل الإجماع، الذي يُروى. يقول لك: أجمع الصحابة كذا أو أجمع. وهذه إجماعات بدأت من عهدَيْ أبي بكر وعمر، في جمع الناس في هذه الأمور، التي تَجِدُّ عليهم. وقد سأل علي ابن طالب النبي، عن الأمر يطرأ عليهم ماذا يفعلون؟ قال: "تدعون له العابدين وتجعلونه شورى بينكم".

فعلى هذا كان الاجتهاد الجماعي. أمّا في العصور الحديثة، فقدبدأت فكرة الاجتهاد الجماعي بإنشاء هيئات لكبار العلماء. كان في الأزهر هذه الهيئة، وتُعرض عليها القضايا الكبيرة ذات الشأن، فلا يُكتفى فيها باستفتاء عالم واحد، أو بفَتْوَى عالم واحد، فتصدر هذه الهيئة فتاواها بشكل جماعي بالإجماع أو الأغلبية. وكذلك، في المملكة العربية السعودية، أُنشئت مثل هذه الهيئة. وقد ألغيت هيئة كبار العلماء في الأزهر، وأنشئ بَدَلها مجمع البحوث الإسلامية، وهي هيئة عالمية، يمثِّل فيه أناس من بلاد أخرى كثيرة من البلاد العربية، ومن البلاد الإسلامية، من باكستان، ومن الهند، ومن غيرها. ثم أنشئ بعد ذلك المجلس الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي، يُمَثل فيه علماء من بلدان شتَّى. ثم أنشئ بعد ذلك، في أوائل القرن العشرين، المجمع الفقهي الدولي العالمي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي؛ لينظر في الأحداث الطارئة والقضايا المستجدة. في العصور الماضية، كان التغير فيها بطيئاً، والحياة كانت رتيبة، قلَّما يحدث تغير، ومع هذا وجدنا الإمام الشافعي له مذهب في العراق، وقبل أن يستقر في مصر، ومذهب بعد أن استقر في مصر، يُسمى هذا الجديد، وذلك القديم. تغير الزمان، تغير المكان أيضاً؛ لأن مصر غير البلاد السابقة. وتغير النضج،  بعد كان شاباً ثم أصبح ناضجاً. هذا المجمع يمثل الدول الإسلامية المشاركة في منظمة المؤتمر الإسلامي،  كلّ بلد لا بد أن يكون لها ممثل، تختاره من علمائها، ليمثلها في هذا المجمع. المجامع الأخرى لا تلتزم بهذا، فيها أعضاء من بلدان شتى ولكن لا تلتزم بأن يمثل كلّ بلد، فهذا المجمع يمثل كلّ بلد، ويمثل المؤسسات أيضاً الأخرى، مثل مجمع البحوث الإسلامية، ومجمع رابطة العالم الإسلامي.

ومجمع الفقه الإسلامي ممثل من فئتَيْن: فئة هي أعضاء المجمع يمثلون الدول الإسلامية، أو يمثلون المجامع الأخرى، أو بعض أفراد يختارهم المجمع بصفتهم الشخصية. وهناك أيضاً ممن يشارك في المجمع خبراء، يُدعون باستمرار في المجمع، وهناك خبراء يُدعون للكشف والشرح لقضية معينة. سنة 1978، عُقدت دورة لهذا المجمع في عَمَّان؛ للبحث في قضية إثبات الأهلّة، ودور الفلك في إثبات الأهلّة، فدُعي بعض علماء الفلك ليشرح قضية الأهلّة، وكيف يولد الهلال.

تختار الأمانة العامة الموضوعات الحَيَّة، وكثيراً ما يأتي هذا باقتراح من بعض الأعضاء، فتتجمع عند الأمانة العامة عدة موضوعات، يطلبها الأعضاء أو الخبراء أو الناس من البلدان، ثم تختار هذه الموضوعات حسب الأولوية، تكتب فيها إلى الأعضاء والخبراء؛ ليبحثوها، بعد أن تقسمها إلى عناصر ومحاور، قبل انعقاد المجمع بعدة أشهر. وتمحص المسائل الفقهية بدقة شديدة؛ فالفقه هو الذي يحكم الجميع ويرجع إليه الجميع، ولذلك مما ورد عن السلف قولهم: "الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك" وفي هذا قال الشاعر:

إن الأكابر يحكمون على الورى              وعلى الأكابر يحكم العلماء

مدى إلزامية قرارات المجمع الفقهي على الدول الأعضاء

الإلزام يحتاج إلى سلطة لا يملكها المجمع. فلماذا قامت منظمة المؤتمر الإسلامي بإنشاء المجمع أساساً؟

ليفتي في المسائل، التي تطرأ على الأمة ويسأل عنها الأفراد، أو الجماعات، أو الحكومات نفسها، أو المسلمون خارج العالم الإسلامي، مثل أشياء سأل عنها معهد الفكر الإسلامي في واشنطن، وقدم إلى المجمع في أوائل دوراته أسئلة معينة مما يعانيه المسلمون في الجاليات والأقليات الإسلامية المختلفة. فالمجمع مهمته أن يجيب عن هذه التساؤلات، ويضع لمشاكل المسلمين حلولاً من داخل الشرع،  بهذا الاجتهاد الجماعي. المجمع في دوراته المختلفة ناقش  كثيراً من القضايا الحية المعاصرة التي تهم المجتمعات الإسلامية، ويسأل عنها الناس في كلِّ مكان، بعضها موضوعات اقتصادية، بعضها موضوعات طبية، بعضها موضوعات اجتماعية، بعضها موضوعات عبادية، في العبادات، في الصلاة، أو في الصيام، بعضها موضوعات سياسية. 

أول دورة عقدت، في جدة، المملكة العربية السعودية، بُحثت فيها عدة موضوعات، ستة موضوعات: زكاة الديون، وزكاة العقارات والأراضي المؤجرة غير الزراعية، وموضوع القديانية، وموضوع بنوك اللبن الحليب، وموضوع التأمين وإعادة التأمين، وحكم التعامل المصرفي بالفوائد، وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية، وخطاب الضمان.

الدورة الثانية: أجوبة على استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، في شأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع، بلا تمليك فردي للمستحق، وأطفال الأنابيب، وأجهزة الإنعاش، وتوحيد بدايات الشهور القمرية، والإحرام للقادم بالحج والعمرة بالطائرة والباخرة؛ هل يصح تأخيره إلى أن ينزل من الطائرة أو من الباخرة، ثم يحرم في جدة، أم لابد من الإحرام في الطائرة؟ وكذلك  أجوبة على استفسارات المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن.

الدورة الثالثة: انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر؛ حيّاً كان أو ميتاً، وصرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، (وصندوق التضامن الإسلامي هو أيضاً مؤسسة من مؤسسات المؤتمر)، وزكاة الأسهم في الشركات، وانتزاع الملكية للمصلحة العامة، وسندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار، وبدل الخلو، وطائفة البهائية، ومكافحة المفاسد الأخلاقية، ومجالات الوحدة الإسلامية،وأسلمة التعليم. وثمة موضوعات حية: مثل حقوق الإنسان والعنف الدولي، وقضية الإرهاب والجهاد، وقضية الشركات القابضة وأحكامها الشرعية. عدد من الموضوعات تبحث وتقدم فيها البحوث، وعادة  يعرض أحد البحوث ويلخصها ويقدمها ويبين مواضع الاتفاق ومواضع الافتراق  بينها، ثم يفتح الباب لمناقشة مستفيضة ثم تكون  لجنة تصوغه صياغة نهائية.

الجلسات كلّها مسجلة ، وتنقل  كثير منها في الصحف. والمجمع وظيفته علمية إفتائية، ومحدود العدد،  كما قلت مثلاً يمثل مصر، 70 مليوناً، يمثلها واحد، وباكستان يمثلها واحد، وبنجلاديش يمثلها واحد، والشيعة مُمثلون بممثل دولة إيران.

هل يُراعى عند صياغة الفَتَاوَى أن في بعض الدول يسود مذهب دون آخر، لو كان فيه خروج على مألوفات هذا المذهب الفقهي الدارج؟

د.يوسف القرضاوي: البحوث لا تُقدم على مذهب معين، وإنما هي تُبحث بحثاً مقارناً، بين المذاهب المختلفة بعضها وبعض، ويُرجح كلُّ باحثٍ الرأي حسب ما يراه، ومعظم الباحثين غير ملتزمين بمذهب  معين، وقد يكون أحدهم ملتزماً بمذهب، والآخر ملتزم بالمذهب الآخر، من خلال النظر في البحث، وما أتى به من مرجحات، من خلال  الموازنة بين المرجحات بعضها وبعض يكون الوصول إلى القرار، لا  يُلتزم مذهب معين، الراجح الذي قامت عليه الأدلة ودلَّت عليه الأدلة.

الفَتْوَى الجماعية بدأت منذ عصر الصحابة، كانوا يجمعون رؤوس الناس ويستشيرونهم،  فيما ليس فيه كتاب ولا سُـنَّة، في عهد أبو بكر وفي عهد عمر وهو أصل الإجماع في الفقه الإسلامي، هذا أمر عُرف في هذا العصر، عصر هيئات كبار العلماء، وهذا أمر مطلوب، والله تعالى يقول: )وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى(، ما يبين ضرورة الاجتهاد الجماعي؛ لأن الأمَّة تحتاج إلى أن تتجمع العقول وتبحث.

 


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالأربعاء 15 يونيو 2016, 11:59 pm

       

ملحق

المؤتمر العالمي للفَتْوَى وضوابطها، الذي عقده المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، في مكة المكرمة

في المدة من 20 إلى 23 المحرم 1430، الموافق من 17 إلى 20 يناير 2009

 

أولاً: البيان الختامي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:

فبرعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفَيْن، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، دعت رابطة العالم الإسلامي من خلال المجمع الفقهي الإسلامي في الرابطة إلى عقد "المؤتمر العالمي للفَتْوَى وضوابطها".

وتم انعقاد المؤتمر في مكة المكرمة، قبلة المسلمين ومأوى أفئدتهم، ومهبط الوحي، وذلك في المدة من 20 إلى 23 المحرم 1430، الموافق من 17 إلى 20 يناير 2009 .

وقد افتتح المؤتمر نيابة عن خادم الحرمين الشريفَيْن، صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، وألقى كلمة خادم الحرمَيْن الشريفَيْن الذي رحب بضيوف المؤتمر وخاطبهم بقوله: "إنكم تجتمعون اليوم على أمر جلل، لتدرأوا عن أمتكم خطراً عظيماً يتهددها، في وقت تواجه هذه الأمة الحملات، من الخارج، لتشويه صورتها وتلفيق التهم بحقها، وتتعرض للكثير من المحن في بعض مواطنها، وما يجري في غزة الآن صورة من المشهد المؤلم. كلّ هذا يقتضي رأب الصدع، ونبذ الخلاف، وتوحيد الصف، والاتفاق على خطاب واحد نتوجه به إلى العالم".

وأضاف قائلاً: "إن الجهل بالدِّين واتباع الهوى في الفَتْوَى أخطر ما يواجه المجتمعات المسلمة ولاسيما أجيال الشباب الذين تسلل الخلل إلى تصورات بعضهم بسبب الآراء الشاذة التي ينسبها أصحاب الأهواء إلى الشريعة، مؤكداً على أن المملكة تدعوكم اليوم لمعالجة المشكلات التي تتعلق بواقع الفَتَاوَى وحال المتصدين لها. والأمل أن ينجح مؤتمركم في وضع منهاج علمي خاص بالتصدي للفَتَاوَى الفردية الشاذة بالحجة الشرعية وإبطالها ومعالجة سوء الفهم والاستنباط عند أصحابها "، وأشاد سموه بجهد الرابطة في هذا المجال.

وتحدث في جلسة الافتتاح سماحة المُفْتِي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس المجلس التأسيسي للرابطة، الذي أكد أهمية المؤتمر، وما يتوقع أن يصدر عنه. كما تحدث كلٌّ من الأمين العام للرابطة، والأمين العام للمجمع الفقهي، وفضيلة الشيخ محمد رفيع العثماني مُفْتِي باكستان، نيابة عن أعضاء المؤتمر، الذين أشادوا برعاية خادم الحرمَيْن الشريفَيْن للمؤتمر وبافتتاح سمو أمير منطقة مكة له، وباهتمام سماحة مُفْتِي المملكة به.

وقد استعرض المشاركون في المؤتمر أكثر من أربعين بحثاً، أَعَدَّها نخبة من العلماء المتخصصين، تناولت المحاور التالية:

1. الفَتْوَى وأهميتها.

2. الفَتْوَى وتأكيد الثوابت الشرعية.

3. الاجتهاد الجماعي وأهميته في مواجهة مشكلات العصر.

4. تغير الفَتْوَى.

5. الفَتَاوَى الشاذة وخطرها.

6. التلفيق.

7. تنظيم الفَتْوَى، أحكامه وآلياته.

8. فَتَاوَى الفضائيات، وآثارها.

وبعد الاستماع إلى الأبحاث والمناقشات المستفيضة حولها والنظر في المقترحات والآراء المقدمة لأمانة المؤتمر. انتهى المؤتمرون إلى ما يلي:

أولاً: إصدار ميثاق للفَتْوَى، يتواصى المؤتمرون على التقيد به، ويدعون ولاة أمر المسلمين وعامتهم إلى العمل بما فيه.

ثانياً: توصيات عامة، تتعلق بالعناية بأمور الفَتْوَى ودعم مؤسساتها.

وبالنظر إلى ما حدث في غزة من عدوان وجرائم إسرائيلية فقد أصدروا بيان مكة المكرمة بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية.

 

ثانياً: ميثاق الفتـــوى

(الصادر عن: المؤتمر العالمي للفَتْوَى)

(رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، المحرم 1430)

 

الباب الأول

(مبادئ وأساسيات)

(حقيقة الفَتْوَى، ومجالاتها، وأهميتها، وحكمها، وشروط المُفْتِي، وصفاته، وآدابه، وآداب المستفتي)

1. الفَتْوَى هي: الإخبار بحكم الله عن دليل لمن سأل عنه.

وهي من البيان الذي أوجبه الله على العلماء في قوله: )وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ( (آل عمران: 187).

وحَذَّر سبحانه من كتمانه، قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ( (البقرة: 159).

كما حَذَّر نبيه ـ صل الله عليه وسلم ـ من ذلك في قوله: )مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ( (أخرجه أبو داود والحاكم).

2. المُفْتِي هو: المخبر بحكم الله عن دليل لمن سأل عنه.

3. مجالات الفَتْوَى: تشمل الفَتْوَى جميع تصرفات العباد، لا يخرج عنها اعتقاد، أو قول، أو عمل، وهذا يشمل علاقة المكلف بربه، وبنفسه وبغيره، وبالدولة التي يعيش فيها، وعلاقة الدولة بغيرها من الدول في زمن السلم والحرب. أيْ إن الفَتْوَى تتصل بمختلف المجالات: العقيدة والعبادة والمعاملة والمال والاقتصاد والأسرة والسياسة والحكم والقضاء وغير ذلك.

4. أهمية الفَتْوَى: الفَتْوَى شأنها عظيم، فالمُفْتِي مخبر عن الله وعن رسوله صل الله عليه وسلم، وبقدر عظم شأن الفَتْوَى وشرفها وأجرها يكون عظم خطرها واشتداد ضررها ـ إذا تصدى لها من ليس أهلاً لها ـ على من يستفتيه، وعلى سائر الأمة.

قال صل الله عليه وسلم: )مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ( (رواه أبو داود واللفظ له والحاكم وصححه).

وقال صل الله عليه وسلم: )إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا( (متفق عليه).

ولهذا كان السلف رحمهم الله مع غزارة علمهم، وحرصهم على تعليم الناس وإجابة أسئلتهم يردون السائل إلى غيرهم ليكفيهم عهدة الفَتْوَى.

5. للفَتْوَى الصادرة عن أهلها أثر كبير في بيان حقائق الإسلام وتفنيد أباطيل خصومه، وتأكيد أن الشريعة الإسلامية صالحة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وصالحة لتنظيمِ مختلف نواحي الحياة الخاصة والعامة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والإدارية وغيرها، على أتم الوجوه وأعدلها.

6. حكم الفَتْوَى: الأصل في الإفتاء أنه فرض كفاية. قال تعالى: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ( (التوبة: 132). وتجب الفَتْوَى وجوباً عينياً على المُفْتِي المؤهل في بعض الأحوال، نحو ألاّ يوجد مؤهل غيره.

7. يحرم على المُفْتِي الفَتْوَى في الأحوال الآتية:

أ . إذا كان لا يعلم حكم المسألة أصلاً. ولا يستطيع استنباط حكمها وفق الأصول الشرعية.

ب. إذا كان الإفتاء بهوى من المُفْتِي.

قال تعالى: )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( (الأعراف: 33).

وقال الله تعالى: )وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النحل: 116 و117).

وقال تعالى: )وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا المائدة( (المائدة: 48).

ج. إذا كان منشغل الفكر، وفي حال لا يتمكن معها من التأمل والنظر.

د . إذا خشي غائلة الفَتْوَى بأن تؤدي إلى مآلات غير محمودة.

ويجوز امتناع المُفْتِي عن الفَتْوَى في الأحوال الآتية:

أ . إذا خشي لحوق ضرر به.

ب. إذا قام غيره مقامه.

ج. إذا كانت الفَتْوَى مما لا نفع فيها للسائل.

د . إذا كانت المسألة المسؤول عنها غير واقعة.

8. شروط المُفْتِي: يشترط في المُفْتِي شروط، لا يجوز له التصدي للإفتاء قبل تحققها، ولا يحل لأحد أن يستفتيه بدونها، وهي:

أ . الإسلام.

ب. البلوغ.

ج. العقل.

د . العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها.

هـ. العدالة، فمن اختل دينه، أو فسدت مروءته لم يصلح للفتيا، وذلك لعدم الوثوق بقوله.

9. من كان من أهل الاجتهاد، وجب عليه الإفتاء بما أداه إليه اجتهاده.

ومن لم يبلغ رتبة الاجتهاد من أتباع المذاهب الفقهية وكان من أهل التخريج أو الترجيح جاز له الإفتاء تخريجاً على أقوال المجتهدين، أو ترجيحاً بالدليل من هذه الأقوال.

ومن كانت رتبته دون ذلك، جاز له الإفتاء بما علمه بدليله، من مذهبه أو مذهب غيره.

10. من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المُفْتِي:

أ . أن يكون صحيح التمييز، قوي الفطنة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل.

ب. أن يتصف بالأناة والتثبت والحلم والمهابة والوقار.

ج. أن تكون له معرفة بأحوال المستفتين وبالواقع الذي يعيشون فيه، إما بنفسه أو بمن يستعين به من أهل الخبرة.

د . أن تكون لديه خبرة في تنزيل الأحكام على الوقائع، وذلك بالتتلمذ على من صقلتهم التجربة، والاطلاع على فتاواهم، والتأمل في مآخذها، وكيفية تنزيل الأحكام على الوقائع.

11. من أهم واجبات المُفْتِي وآدابه:

أ . الإخلاص لله تعالى، ومراقبته.

ب. مشاورة أهل العلم والاختصاص عند الالتباس.

ج. التوقف عن الإجابة عند عدم ظهور الحكم له، وعدم التحرج من قول: لا أدري.

د . عدم التردد في الفَتْوَى عند ظهور الحكم له.

هـ. المحافظة على أسرار المستفتين.

و. دلالة المستفتي على ما ينفعه، ومراعاة الجوانب التربوية والتوجيهية في فتواه.

ز. عدم التعرض لشخص المُفْتِي عند مناقشة رأيه الشرعي.

12. من آداب المستفتي:

أ . اجتناب السؤال عما يؤدي إلى الارتياب في دينه وعمله.

ب. البحث عن المُفْتِي الأهل، إما بنفسه إن قدر، أو بخبر العدل، أو نحو ذلك.

ج. الحرص على العلم بالحكم المبرِّئ لذمته، وليس البحث عمن يفتيه وفق رغبته وهواه.

د . التأدب مع المُفْتِي، وعدم التلبيس عليه.

 

الباب الثاني

(مشكلات الفَتْوَى، وأسبابها، وآثارها)

13. أهم المشكلات التي تواجه الفَتْوَى في العصر الحاضر:

أ. ابتعاد بعض المتصدين للفَتْوَى عن منهج الوسطية المبني على الكتاب والسنة، وسلوكهم أحد طريقين متطرفين: إمّا التشدد، وإمّا التساهل المفرط.

ب. صدور بعض الفَتَاوَى بآراء شاذة عارية عن الدليل الصحيح المعتبر.

ج. انفراد بعض المتصدين للفَتْوَى بالإفتاء في نوازل تمسُّ المجتمعات، وتتصف بطابع العموم، والتشعب الذي تخرج به الفَتْوَى عن حيز الفن الواحد إلى حيز الفنون المتنوعة، ما يجعل أمر استيعابها وتصورها على حقيقتها معتركاً صعباً لا يستطيع خوض غماره الواحد بمفرده.

د. صدور بعض الفَتَاوَى المخالفة لأصول الاعتقاد، وكليات الشريعة، ومبادئ الأخلاق، وما شرع من الأحكام بنصوص ثابتة قطعية.

هـ. التصدي للفَتْوَى ممن لم تتحقق فيه شروط المُفْتِي وصفاته وآدابه.

و. اجتراء من ليس من أهل العلم الشرعي على فَتَاوَى العلماء الربانيين، وقرارات المجامع الفقهية والتشكيك فيها.

ز . تعارُض بعض الفَتَاوَى في المسائل المتجانسة، وما يؤديه ذلك أحياناً من الحيرة والشكّ لدى العامة.

ح. توسع بعض المُفْتِين في ذكر الخلاف دون بيان الرأي المختار.

14. أهم أسباب مشكلات الفَتْوَى في العصر الحاضر، ما يلي:

أ. ضعف العلم بالنصوص ودلالاتها، وبالضوابط والأصول الحاكمة للاستنباط والتفسير والتأويل.

ب. قلة عدد المؤهلين للفَتْوَى الذين تتوافر فيهم شروط المُفْتِي وصفاته وآدابه.

ج. التذرع بالمحافظة على المصالح وتلبية الضرورات والحاجات الموهومة.

د. دعوى التجديد ومسايرة العصر.

هـ. طلب بعض وسائل الإعلام الفَتْوَى ممن ليس أهلاً لها.

و . مراعاة المصالح الخاصة، والهوى والتشهي، أو حب الشهرة والظهور، أو عدم الخوف من الله ومراقبته.

ز. الفهم غير الصحيح لمعنى التيسير في الإسلام.

ح. عدم فهم بعض المتصدرين للفَتْوَى فقه الواقع ومآلاته، وعدم مراعاتهم ما قد تحدثه هذه الفَتَاوَى من المفاسد والأضرار.

15. أهم الآثار السلبية التي نتجت بسبب هذه المشكلات في حالات عدة:

أ. تحريم الحلال، وتحليل الحرام، الذي يعد من كبائر الذنوب، بل قد يخرج المسلم عن دائرة الإسلام.

ب. بروز القول بالتكفير بالمعصية، واستحلال دماء المسلمين والخروج على ولاة الأمر.

ج. تشويه صورة الإسلام، والتنفير منه.

د. حصول الفرقة في بعض المجتمعات الإسلامية، وانقسام المسلمين فيها إلى فرق وأحزاب.

هـ. زعزعة الأمن والاستقرار، وإشغال الأمة عما هو أهم وأصلح للمجتمع.

و. ظهور الريبة والشكوك بين أفراد المجتمع وولاة أمورهم.

ز. إضعاف جهات الفَتْوَى المعتبرة، والتسبب في عدم القناعة بها لدى البعض.

ح. النيل من العلماء الربانيين، ورميهم بالجمود والتشدد في الفَتْوَى.

ط. الوقوع في الحِيل المحرمة، وتتبع الأقوال الشاذة المعارضة للأدلة المعتبرة، وسلوك منهج التلفيق غير الصحيح؛ اتباعاً للهوى وما تميل إليه النفس، والتماساً لرغبات البعض.

 

الباب الثالث

(الحلول والضوابط)

من أهم الحلول والضوابط لكي تحتل الفَتْوَى مكانها اللائق بها ما يأتي:

16. تعميق الشعور لدى المجتمع والأفراد بأهمية منصب الإفتاء، وأنه ليس إبداء للآراء الشخصية، أو تحكيماً للعقل المجرد، أو استجابة للعواطف النفسية، أو تحقيقاً للمصالح الدنيوية المتوهمة، بل هو تبيين لما شرع الله سبحانه وتعالى لعباده من شرائع وأحكام بأدلتها.

17. تأسيس الفَتْوَى على علم صحيح مبني على الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما من إجماع أو قياس صحيح أو أصل شرعي معتبر، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( (النساء: 59).

وقال تعالى: )يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( (المائدة: 15 و16).

وقال تعالى: )اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" (الأعراف: 3).

وقال صل الله عليه وسلم: )عَلَيْكم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ( (رواه أحمد واللفظ له وابن ماجه والحاكم).

18. الحذر من أي ضغوط قد تؤثر في المُفْتِي في بيانه لحكم الله في المسألة، قال تعالى: )الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا( (الأحزاب: 39).

19. التحوط البالغ في الحكم بتكفير أحد من المسلمين، فلا يجوز تكفير مسلم إلاّ بإتيانه ناقضاً من نواقض الإسلام، لا يقبل تأويلاً، فإن تكفير المسلم من أعظم ما حذّر منه رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ حيث قال: )إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا( (رواه مسلم).

20. الحذر من الفَتَاوَى الضالة المضلة التي تدعو الناس إلى سفك الدماء المعصومة بغير حق، والتأكيد على أن حفظها من أعظم مقاصد الشريعة الغراء، قال تعالى: )مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا( (المائدة: 32).

21. وجوب اتباع ما ورد فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله ـ صل الله عليه وسلم ـ، لأنه الحق والعدل، ولا حق ولا عدل في غيره، ولأنه المصلحة، ولا مصلحة فيما سواه، وما قد يُظن مصلحة مما يصادم النص ليس في الحقيقة مصلحة، بل هو أهواء وشهوات زينتها النفوس، وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح، قال تعالى: )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( (الأحزاب: 36).

وقال تعالى: )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النور: 63).

وقال تعالى: )وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا( (الحشر: 7).

فالأقوال والأعمال توزن بميزان الكتاب والسنة الصحيحة، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان.

قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: أجمعَ الناسُ على أن من استبانت له سنة رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ لم يكن له أن يدعها لقول أحد.

22. الحذر من الحيل الباطلة للوصول إلى استباحة المحرمات في الشريعة، قال ـ صل الله عليه وسلم ـ: )قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا( (متفق عليه).

وقد نقل الثقات إجماع الصحابة على تحريم الحيل الباطلة، وإجماع الصحابة من أقوى الأدلة وآكدها.

23. أهمية تحرير عبارة الفَتْوَى تحريراً رصيناً واضحاً بعيداً عن الإيجاز المخل، أو الإطناب الممل، مع ذكر الشروط والقيود التي تتعلق بالحكم؛ لئلا تُفهم الفَتْوَى على وجه غير صحيح، وحتى لا يستغلها الذين يبغون إثارة الفتن بين المسلمين، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا( (الأحزاب: 70).

24. عدم التوسع في ذكر الخلاف الفقهي في المسألة، وعلى المفتَى عند ذكر الخلاف أن يختار من الأقوال، التي ذكرها الأسعد بالدليل.

25. التحذير من الفَتَاوَى الشاذة المصادمة لنصوص الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة الصالح ومن الأخذ بها، أو تقليد صاحبها، أو نقلها والترويج لها؛ لأنها مخالفة للشرع. ولا تُعَدّ خلافاً معتبراً في المسائل الشرعية.

26. المنهاج الشرعي مبني على الوسط، لا على مطلق التشديد، ولا على مطلق التخفيف، والحمل على ذلك هو الموافق لقصد الشارع، وهو منهج السلف الصالح، قال تعالى )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( (البقرة: 143).

27. التأكيد على أهمية الثقة بفَتَاوَى العلماء الربانيين والاطمئنان إليها، ونشرها في المجتمع؛ لما لها من أثر كبير في حمل الناس على المنهج الوسط في الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وإبعادهم عن الغلو والتشدد، والتساهل والانحلال.

28. وجوب قيام المُفْتِين بواجباتهم والتصدي للفَتَاوَى الشاذة والرد عليها؛ لما في ذلك من مصالح للإسلام والمسلمين، ومنها:

أ . وحدة الأمة، وحفظ هويتها، واجتماع كلمتها على الشريعة الإسلامية.

ب. الحفاظ على وسطية الأمة في دينها، وإظهار الصورة الحقيقية للإسلام.

ج. اطمئنان أفراد المجتمع الإسلامي إلى ما يصدر منهم من فَتَاوَى.

د . الحد من الغلو والتطرف، والتساهل والانحلال.

هـ. تعرية المذاهب والشعارات الإلحادية والتكفيرية ونحوها.

و. استتباب الأمن في المجتمع المسلم، وحقن دماء المسلمين، وحفظ أموالهم وأعراضهم.

29. التأكيد على الفرق في الفَتْوَى بين التيسير المنضبط بضوابط الشريعة، وبين التساهل غير المنضبط بتلك الضوابط، فالتيسير لا يقصد به التساهل، وإنما يقصد به الاعتدال وعدم إلحاق العنت بالسائل، وتقديم الأيسر على الأحوط في حال تساوي الدليلين.

30. الحذر من التساهل في الفَتْوَى، سواء أكان عن طريق التساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، أم عن طريق التساهل بطلب الرخص وتأوُّل الشُّبَه.

31. ليس التيسير هو المقصد الوحيد الذي يراعيه المُفْتِي، بل يوجد مقصد آخر تجب مراعاته، وهو إخراج المكلف من اتباع هواه إلى طاعة مولاه.

32. من ضوابط التيسير في الفَتْوَى:

أ. أن يكون وفق أصول الشريعة وأدلتها.

ب. ألا يفضي إلى التحلل من التكاليف.

ج. أن يكون المقتضي للتيسير متحققاً من دفع مشقة عامة أو خاصة.

33. لا يصير المُفْتِي إلى التلفيق، أو القول المرجوح، ولا العمل بالرخصة الفقهية، إلا بعد تحقق شروطها.

34. يتغير الاجتهاد بتغير المناطات والمدارك، بحيث تحدث وقائع جديدة غير السابقة، فإذا تحقق المُفْتِي من ضعف المدرك السابق أو زواله، أو ترجح غيره عليه لمصلحة معتبرة شرعاً وغير متوهمة، صح منه النظر في أمر تغيير الفَتْوَى. وعلى المُفْتِي عدم النزوع إلى تغيير فتواه لأول سانحة من حاجة أو مصلحة غير معتبرة شرعاً، كما يجب عليه عدم البقاء على فتواه في كلِّ حال، بل يسلك في ذلك طريق الراسخين في العلم ممن أخذ بالنصوص واجتهد في تنقيح مناط الحكم وتحقيقه.

35. تغيير الفَتْوَى سواء أكان بسبب تغير الأعراف والعوائد، أم بسبب المصالح الطارئة المعتبرة، أم بسبب فساد الزمان وأهله، وما تقتضيه السياسة الشرعية، مشروط بعدم معارضة النصوص القطعية والكليات الشرعية، والمبادئ الأساسية، والمقاصد والغايات التي جنسها مراد لله ورسوله ـ صل الله عليه وسلم ـ. وقد أخطأ من ظن أن الأحكام تتغير بتغير الزمان، على وفق ما تقتضيه مصالح موهومة، ولو أدَّى ذلك إلى مخالفة نص أو إجماع.

36.أهميـة المجامع الفقهية، وسائر مؤسسات الفَتْوَى، والاجتهاد الجماعي، عملاً بسنة النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ، واستناداً لمنهج الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين.

37. القضايا التي تتعلق بمصالح الأمة، وتتصف بطابع العموم الذي يمس المجتمعات كافة، وتخرج عن القضايا الفردية إلى القضايا المتنوعة والعامة، تتطلب اجتهاداً جماعياً، يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر، قال تعالى: )وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً( (النساء: 83).

38. الاجتهاد الجماعي أقرب إلى الحق، وأدعى إلى القبول والاطمئنان من عامة المسلمين، وله أهمية بالغة لأسباب منها:

أ. أن مؤسساته وهيئاته تضم عدداً من الفقهاء المؤهلين وأهل الخبرة، فالفقهاء يعلمون النصوص ومدلولاتها ومقاصدها، والخبراء يعرفون الواقع ومآلاته، والحكم الشرعي مركب من العلم بالنصوص والعلم بالواقع.

ب. أن المناقشات في مؤسسات الاجتهاد الجماعي قد تبرز نقاطاً كانت خافية، وتجلي أموراً كانت غامضة، وتذكر بأمور كانت منسية.

ج. أن الاجتهاد الجماعي وسيلة لتنظيم الاجتهاد والفَتْوَى، ومنع غير المختصين من الخوض في غير تخصصاتهم، وسد الباب أمام فوضى الفَتَاوَى غير المنضبطة في وسائل الإعلام المختلفة.

د.  تجنُّب ما قد يكون في الاجتهاد الفردي من قصور أو شذوذ، أو تأثر ببعض النزعات الخاصة.

هـ. تقريب وجهات النظر، وتقليل مساحات الخلاف بين المسلمين.

39. الفَتَاوَى القائمة على الضرورات ينبغي أن تنضبط بضوابط، منها:

أ. أن تكون صادرة عن اجتهاد جماعي إذا كانت مما يتعلق بعموم الأمة، ولا ينفرد بها الآحاد، إلا أن تكون الضرورة مما لا يختلف فيها.

ب. أن يستعان في تقدير الضرورات والحاجات في الأمور المتخصصة؛ كالطب والاقتصاد ونحوهما بأهل الاختصاص والخبرة. قال تعالى: )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( (الأنبياء: 7).

ج. الفَتْوَى الخاصة المبنية على أساس الضرورة لا تعم جميع الأحوال والأزمان والأشخاص، إذ إن الضرورة تقدر بقدرها، وهي حالة استثنائية تنتهي بمجرد انتهاء موجبها، ويجب السعي لإيجاد بديل عنها قدر المستطاع.

40. أهمية الاعتناء في الإفتاء للأقليات المسلمة بالقواعد الفقهية الميسرة بشروطها؛ وذلك محافظة على سلامة حياتهم الدِّينية وتطلعاً إلى الإسهام في نشر الإسلام.

41. يتأكد على المُفْتِي عبر وسائل الإعلام وبخاصة البث المباشر أن يتصف بما يأتي:

أ. القدرة على استحضار أحكام المسائل وشروطها وضوابطها وموانعها في حال الإفتاء.

ب. التنبه للمقاصد غير المشروعة لبعض السائلين، ولا يفتي بالظاهر الذي قد يتوصل به السائل إلى مقصوده غير المشروع، وتفادي الحديث عن مسائل تخدش الحياء، أو لا يحسن عرضها على الجمهور.

ج. معرفة مراد السائلين وأعرافهم وأحوالهم المؤثرة في الأحكام قدر الإمكان، وتنزيل الكلام على حال المستفتي.

د. عدم الفَتْوَى في المسائل القضائية التي تحتاج إلى سماع أقوال الأطراف الأخرى، وكذلك القضايا العامة التي تحتاج إلى نظر جماعي.

هـ. الظهور بالمظهر اللائق، والحرص على عدم الوقوع في المخالفات الشرعية في أثناء عرض البرنامج.

و. إذا كانت الفَتْوَى خاصة بالمستفتي فينص على ذلك.
 
ثالثاً: التوصيات العامة

أوصى المؤتمرون بتوصيات عامة من شأن الأخذ بها العناية بالفَتْوَى ودعم مؤسساتها في الأمة الإسلامية، وهي:

1. أهمية أن تعتني الدول الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية في نواحي الحياة كافة.

2. العناية بتدريس أصول الفَتْوَى وضوابطها وما يتعلق بها من شروط المُفْتِي وصفاته وآدابه في كليات الشريعة والمعاهد الشرعية العليا.

3. إدراج الفَتَاوَى الجماعية المعاصرة في مقررات التعليم العام.

4. إقامة المجامع الفقهية ومؤسسات الفَتْوَى والمعاهد والكليات الشرعية الندوات واللقاءات للتعريف بالفَتْوَى، وضوابطها، وبيان أهميتها، وخطرها، وحاجة الناس إليها.

5. عناية الدول الإسلامية بمؤسسات الفَتْوَى، وتوفير المُفْتِين في أنحاء كل دولة، بحسب الحاجة، تيسيراً على الناس، ورفعاً للحرج عنهم.

6. اهتمام المجامع الفقهية وسائر مؤسسات الاجتهاد الجماعي إلى مجالات عملها، عبر ما يأتي:

أ. العمل على استيعاب القضايا والنوازل والإشكالات المستجدة في حياة المسلمين، مع إعطاء الأولوية لأكثرها إلحاحاً وشيوعاً وتأثيراً بين المسلمين.

ب. العمل على استفادة المجتمعات من الجهود والقرارات التي تصدرها، وذلك بتبليغها والمساعدة على تطبيقها.

ج. التواصل والتنسيق في ما بينها في واجباتها المشتركة، وتعزيز روح التعاون والتكامل، وتجنب الازدواجية والتعارض.

د . التأصيل الفقهي للعلاقات مع غير المسلمين في الواقع المحلي والعالمي في ضوء أحكام الشريعة وسماحة الدِّين.

7. دعم الدول الإسلامية والهيئات ذات العلاقة لمؤسسات الاجتهاد الجماعي مادياً وأدبياً بما يمكنها من أداء رسالتها، والقيام بواجباتها.

8. عرض المؤسسات الرسمية والشعبية في الأمة الإسلامية للنوازل المُشْكِلة والمستَجَدَّة على المجامع الفقهية وهيئات الفَتْوَى المعتبرة وتنفيذ ما يصدر عن تلك المجامع والهيئات من فَتَاوَى وقرارات.

9. قيام الدول الإسلامية بصيانة منصب الفَتْوَى والمُفْتِين بما يأتي:

أ . اتخاذ الوسائل الكفيلة بجعل المُفْتِي الأهل المعين من قبل ولي الأمر مستقلاً في فتواه، بعيداً عن المؤثرات غير الشرعية.

ب. منع غير المؤهلين للفَتْوَى والمتساهلين فيها، وأهل الأهواء والحيل الباطلة من ممارسة الفَتْوَى، حماية للدين والمجتمع.

10. نشر وسائل الإعلام المختلفة لقرارات المجامع الفقهية وفَتَاوَى مؤسسات الإفتاء المعتبرة، والتعريف بها، وعدم إتاحة المجال لغير  المتخصصين في الشرع من التعرض لها والتشكيك فيها.

11. التزام القائمين على وسائل الإعلام المختلفة بما يأتي:

أ . عدم تمكين غير المؤهلين للفَتْوَى علماً وعدالةً من ممارستها عبر الوسائل الإعلامية.

ب. عدم نشر الفَتَاوَى الشاذة والترويج لها، والاستعانة بأهل العلم الموثوقين لمعرفة ما يجوز نشره وما لا يجوز.

12. استثمار العلماء والمتصدين للفَتْوَى وسائل الإعلام المختلفة في نشر الفضيلة والعلم الشرعي، وما يؤدي إلى صلاح الأمة والنهوض بها.

13. استفادة المتصدين للفَتْوَى وهيئات الرقابة الشرعية مما يصدر عن المجامع الفقهية وجميع مؤسسات الفَتْوَى.

14. تدريس أساتذة الجامعات قرارات المجامع الفقهية ومجامع البحوث، وهيئات كبار العلماء والاستفادة منها في البحوث العلمية.

15. إنشاء معاهد عليا للإفتاء يدرس فيها المتفوقون من خريجي كليات الشريعة؛ ليتأهلوا لهذا الشأن.

16. التأكيد على ما سبق أن صدر من الملتقى العالمي الأول للعلماء والمفكرين المسلمين، المنعقد في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، عام 1426هـ، بدعوته «الرابطة» إلى إنشاء هيئة عليا للتنسيق بين المجامع الفقهية ودور الفَتْوَى في العالم الإسلامي.

 

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69641
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الفتوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتوى   الفتوى Emptyالخميس 16 يونيو 2016, 12:00 am

المصادر والمراجع

أولاً: الكتب

1.        إبراهيم موسى بن محمد الشاطبي، "الموافقات"، ط3، القاهرة، ج4، 1978.

2.        ابن حمدان الحنبلي، "صفة الفَتْوَى والمُفْتِي والمستفتي"، المكتب الإسلامي، بيروت ـ دمشق، ط2، 1394هـ.

3.        ابن قيم الجوزية، "أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين"، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبدالرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، محرم 1388ـ 1968.

4.        ابن منظور، "لسان العرب"، إحياء التراث العربي، ط2، 1997.

5.        أبو الفداء إسماعيل بن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1999، ج8.

6.        أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، "آداب الفَتْوَى والمُفْتِي والمستفتي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1988.

7.        أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري، "الإحكام في أصول الأحكام"، تحقيق وتقديم وتصحيح محمد أحمد عبدالعزيز، مكتبة عاطف، القاهرة، 1978.

8.        أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي"، بتحقيق الدكتور عدبالعظيم الشناوي. دار المعارف، القاهرة، 1978.

9.        أحمد كمال زكي، "ابن المعتز العباسي"، ط1، المؤسسة المصرية للتأليف، القاهرة، 1964.

10.    جاد الحق علي جاد الحق، "تصدير الإفتاء، الفَتَاوَى الإسلامية"، دار الإفتاء المصرية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، ج1، 1980.

11.    جمال الدِّين القاسمي، "الفَتْوَى في الإسلام"، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.

12.    الحافظ الذهبي، "سير أعلام النبلاء"، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي.

13.    حسن الترابي، "قضايا التجديد نحو منهج أصولي"، معهد البحوث والدراسات، الخرطوم، ط1، 1990.

14.    الخطيب البغدادي، "الفقيه والمتفقه، حققه عادل يوسف العزايزي، دار ابن الجوزي، جدة، 1986.

15.    السخاوي، "الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر"، طبع في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، ثلاث مجلدات ، 1970.

16.    شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام "، مطبعة الأنوار، القاهرة، ط 1938، ص 283. نقلاً عن بحث "المُفْتِي في الشريعة الإسلامية"، مجلة البحوث الإسلامية، عدد 1 ص 168.

17.    عامر سعيد الزيباري، "مباحث في أحكام الفَتْوَى"، القاهرة، 1988.

18.    عبدالعزيز بن عبدالرحمن الربيعة، "المُفْتِي في الشريعة الإسلامية" مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، العدد الأول، 1997.

19.    علي حسب الله، "أصول التشريع الإسلامي"، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1976.

20.    علي حسن عبدالقادر، "نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي"، مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1956،.

21.    علي الصلابي، "سلسلة فقهاء النهوض: الشيخ عز الدين بن عبدالسلام.. سلطان العلماء وبائع الأمراء". ط1، طرابلس، ليبيا، 1987.

22.    قطب مصطفى سانو، "أدوات النظر الاجتهادي المنشور في ضوء الواقع المعاصر"، دار الفكر، دمشق، 2000.

23.    لينة الحمصي، "تاريخ الفَتْوَى في الإسلام وأحكامها الشرعية"، دار الرشيد، دمشق ـ بيروت، ط1، 1996.

24.    مصطفى جواد وأحمد سوسة، "دليل خارطة بغداد المفصل"، ط المجمع العلمي العراقي، 1958.

25.    محمد بن الحسن الشيباني، "الآثار"، بيروت، ط2، 1981.

26.    محمد بن علي الشوكاني، "إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول"، تحقيق محمد سعيد البدري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1992.

27.    محمد رأفت عثمان وآخرون، "الفقه المقارن"، مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1989.

28.    محمد سليمان عبدالله الأشقر، "الفتيا ومناهج الإفتاء. بحث أصولي"، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط1، 1976.

29.    يوسف القرضاوي، "الاجتهاد في الشريعة"، دار الثقافة، الدوحة، ط1، 1987.

30.    يوسف القرضاوي، "الفَتْوَى بين الانضباط والتسيب"، دار الصحوة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1988.

 

ثانياً: الجرائد

1.    جريدة "الشرق الأوسط"، الأعداد: 8371 (29 أكتوبر 2001)، و 8834 (4 فبراير 2003)، و 9033 (22 أغسطس 2003).

2.    جريدة "الوطن"، العدد: 12166 (15 أكتوبر 2001).

3.    مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية، العدد 2164 (17 شوّال 1429).

4.    مجلة "الأهرام العربي"، 26 يوليه 2003.

5.    مؤسسة أمان الصحفية، القدس، العدد 29 (يناير 2009).

6.    صحيفة "السودان الدولية"، العدد 1190 (6 مارس 2009).

 

ثالثاً: المواقع الإلكترونية

    http://www.alarabiya.net/articles/2008/03/07/46610.html
    http://ar.wikipedia.org
    http://www.alriyadh.com/2006/12/27/article212450.html
    http://www.islamweb.net/newlibrary
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الفتوى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الكيفية الأفضل في قضاء الفوائت، اقتباس: مركز الفتوى
»  قراءة حول المعيار الشرعي رقم 29 بشأن ضوابط الفتوى وأخلاقياتها

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: الدين والحياة :: المكتبة الاسلاميه-
انتقل الى: