استطاع النبي محمد صل الله عليه وسلم أن يبتكر الكثير من فنون الحرب والمخابرات التي لم تعرف إلا بعد وفاته بعدة قرون، وذلك في الحروب المعاصرة ومنها الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وكان منهجه صل الله عليه وسلم في الحرب والسلام والمخابرات يتلخص في عدة نقاط أهمها الاستعانة بأهل الخبرة حتى لو كانوا من غير المسلمين، فقد استعان في هجرته من مكة إلى المدينة بعبد الله بن أريقط رغم أنه كان مُشركاً لكنه كان خبيراً في الطرق والأودية.
وتعددت مظاهر النبي صل الله عليه وسلم ومنهجه في المخابرات الحربية نذكر منها ما يلي:
1- كان الرسول صل الله عليه وسلم لا يدخل معركة إلا بعد أن يعرف معرفة كاملة حالة العدو ومعسكراته ومواقفه العسكرية وطبيعة الأرض التي ستتم عليها المعركة·
2- كان النبي صل الله عليه وسلم يجيد استثمار المواقف حيث استثمر إسلام نعيم بن مسعود أثناء غزوة الخندق من خلال حيلته الذكية لإفشال الأحزاب وإيقاع الفتنة بين اليهود وقريش.
3- كان رسول الله حريصاً على أن لا تتسرب المعلومات إلى العدو ومن أهم السبل إلى ذلك الكشف عمن يقوم بأعمال التجسس وتعقبهم ومتابعة نشاطهم لإحباط أية محاولة للحصول على الأخبار.
4- كان شديد الحرص على السرية التامة ولم يكن يعلن الأخبار إلا ساعة الصفر، فعند الهجرة إلى المدينة لم يخبر أبا بكر بموعد الهجرة إلا في ليلتها وعند فتح مكة لم يخبر أحداً حتى عائشة عندما كانت تساعده في ارتداء ملابسه.
5- كان للنبي صل الله عليه وسلم شبكة عيون مبثوثة في كل مكان بالجزيرة العربية تأتيه بالمعلومات من داخل أرض العدو.
6- انتهج النبي صل الله عليه وسلم منهج (اعرف عدوك) ذلك الشعار الذي انتشر في الوطن العربي أواخر الستينيات، حيث حض الصحابة الكرام على تعلم لغة اليهود، وبرع في ذلك الصحابي الجليل زيد ابن ثابت، حيث أمره النبي صل الله عليه وسلم بتعلم هذه اللغة.
لقد اقتضت سنة الله في خلقه التدافع بين أهل الحق، وأهل الباطل، وبين أصحاب الرسالات والدعوات، وأهل الغي والضلالات. فمرحلة البدء تتميز بتحلي أهل الحق والدعوة بالحيطة والحذر والتكتم, ذلك لأن أهل الباطل ـ خشية علي مصالحهم وأهوائهم وأفكارهم الباطلةـ سيقفون لهم بالمرصاد، وسيحاولون القضاء على المعتقدات وأصحابها، والأفكار الجديدة وأهلها، وهم لما يشتد عودهم، ولم يكثر أتباعُهم بعد (راجع د. إبراهيم علي محمد أحمد: في السيرة النبوية..قراءة لجوانب الحذر والحماية، كتاب الأمة ،العدد:54، رجب 1417هـ).بدأ رسول الله صلي الله عليه وسلم دعوته سرًا، وكان دقيقًا في كل خطواته، وحذرًا يقظًا في كل تعاملاته، وبهذا التخطيط والتنظيم استطاع أن ينتصر على جميع أعداء الإسلام.المتتبع لسيرته صل الله عليه وسلم يجد أن جانب الحذر والتحوط واضحًا بادياً طوال المرحلة الأولي من بدء الدعوة الإسلامية. و(لا ريب أن تكتم النبي صل الله عليه وسلم في دعوته خلال السنوات الأولى، لم يكن بسبب خوفه على نفسه، فهو حينما كُلِّف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: (يا أيها المدثر)، علم أنه رسول الله إلى الناس، وبذا كان يؤمن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس. لكن الله عز وجل ألهمه، ¬والإلهام للرسول وحي،¬ أن يبدأ الدعوة في فترتها الأولى بسرية وتكتم، وأن لا يلقي بها إلا إلى مَن يغلب على ظنه أنه سيصغي لها، ويؤمن بها، تعليمًا وإرشادًا لمن بعده إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهــرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. (د. محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر ، ط 2،1400هـ، ص 94). مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية في بدء الدعوة الإسلامية
-كان صل الله عليه وسلم يجيد اختيار من يدعوهم (نوعاً وأهلية)، متحرياًً الدقة المتناهية، والحيطة. ذلك لأن أولئك المستجيبين للدعوة آنذاك، هم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسؤولياتها، فلابد أن يكونوا من خيار المجتمع.. صدقًا، واعتدالاً، ومروءة، ونخوة، واستقامة، ليكونوا أهلاً للقيام بتبليغ الدعوة، وتحمل تبعاتها بكل تجرد وإخلاص لله تعالي.- وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلم أن أي خلل في التصرف، أو تسرب معلومة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها التأثير على مستقبل الدعوة. إن أول من دعاهم الرسول صل الله عليه وسلم: زوجه السيدة خديجة، وعليّ بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وحاضنته أم أيمن(البخاري، باب بدء الوحي، ج1،ص:2-3)، رضي الله عنهم أجمعين.. والمتأمل في هؤلاء النفر الكريم، يجدهم تضمهم أسرة واحدة، هي أسرة رسول الله صل الله عليه وسلم. هم أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، لعشرتهم له، وهذا مما يجعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين، وهو ما حدث فعلاً.. وهذا النوع من الإيمان هو ما تتطلبـه المرحلة، فهـؤلاء يكتمـون السـر ولا يفشونه، ويساعدونه في تحمل أعباء الدعوة، ويخففون عنه وطأة معاناتها، ولا يثقلون كاهله بأعباء ثانوية.- ومما يدلل علي حسن الاختيار ذلك الموقف الباهر للسيدة خديجة عند بداية نزول الوحي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي... لقد خَشِيتُ على نفسي)، كان ردها رضي الله عنها : (كلا، والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الـمَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوائبِ الحق) (ابن هشام: السيرة النبوية، ج1، ص:238).. ولم تكتف بذلك، بل انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي طمأن رسول الله صل الله عليه و سلم، وهدأ من روعه، وأخبره بأن الذي يأتيه هو الناموس الذي كان ينزل على موسى(الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج1،ص:142).. موقف أعان رسول الله صل الله عليه وسلم ، وزاده ثقة أن ما يأتيه حق، فمضي في طريقه بعزم وحزم.. فضلاً عن مواساتها رضي الله عنها للرسول، بمالها وجاهها. وأما زيد فقد خرج معه إلى الطائف، وكان رفيقه، ومؤازره في تلك الرحلة، وكان يقيه بنفسه من حجارة الصبية، والسفهاء(البداية والنهاية لابن كثير،ج 3،ص:174). أما علي فقد نام على فراشه عند الهجرة، وهو \"عمل فدائي\" عمِّي على قريش، وخدعهم أيما خدعة.- هذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة، (مما حقق تأمين جبهته الأسرية الداخلية، فلا أحد سيسرب معلومات عن تحركات، ولقاءات من يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة) مما ساعد على الانطلاق من البيت إلى خارجه، وفوت على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده، عندما يعرض الدعوة عليهم، فيقولوا له مثلاً : اذهب وقوّم بيتك أولاً، ثم ائتنا ثانيًا!وكانت هدايته الباهرة في اختيار دار الأرقم- وقع اختيار الرسول صل الله عليه وسلم على دار الأرقم، لتكون مقرًا غير معلن للمستجيبين من المؤمنين (ما يربو على الثلاثين.. لزمهم تعلم أمور دينهم، ولقائهم بنبيهم الخ)، وذلك لتفردها بعدة صفات، وميزات منها:1- اختار الرسول صل الله عليه وسلم دار الأرقم ابن أبي الأرقم، لوقوعها بمعزل أسفل جبل الصفا، وكانت غير مكشوفة لأعين الطغاة ومجالسهم ومراقبتهم (السيرة النبوية لابن هشام، ج1،ص:253)، وهي محاطة بالسرية، ولا تحتاج عملية الوصول إليها، أو الخروج منها، إلى كبير عناء، أو احتياطات معقّدة، مع صعوبة رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.2- ليس بالدار موضع قد يستغله أعداء الدعوة، فيطلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها، وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيدًا عن أعين الأعداء.. يضاف إلى ذلك، أن صاحبها الصحابي (الأرقم)، لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هذه الدار للمؤمنين، هذا بخلاف ما إذا كانت الدار لكافر.3- لم يكن الأرقم معروفًا بإسلامه، ولم يعلنه بعد، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول صل الله عليه وسلم وأصحابه بداره. فضلاً عن أنه كان فتى عند إسلامه (في حدود 16 من العمر). ولا يتوقع أن تبحث قريش في بيوت الفتيان من أصحاب الرسول، بل يتجه تفكيرها إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم. هذا إلى جانب أن الأرقم من بني مخزوم، التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه، لصعب أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو(منير محمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية، مكتبة المنار، ط 6، ص49).4- لم يرد ¬أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا \"المقر السري\"، بل أقصى ما توصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دارٍ عند الصفا. ومما يدل على ذلك، أن قياديًا مثل \"عمر بن الخطاب\"، رضي الله عنه، عندما أراد إعلان إسلامه، لم يعرف مكان النبي صل الله عليه وسلم، فلو كانت تلك الدار معلومة لدى قريش، لما سأل عنها، بل لذهب إليها مباشرة.. وهذا يظهر مدى حرص الصحابة رضي الله عنهم على إخفاء خبر هذه الدار، فلم يبوحوا بها إلى أحد سوى المسلمين فقط.5ــ كانت براعة عملية تنظيم الدخول والخروج (وهي تعد من أخطر الجوانب الأمنية، التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر) قد ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر. وهذه الدقة البارعة، تتبدي من خلال موقفين: الأول، لسيدنا \"علي\" مع سيدنا \"أبي ذر\"، رضي الله عنهما. فعندما أراد سيدنا عليّ أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم، لمقابلة الرسول صل الله عليه وسلم، اتفق معه على مصطلح معين في حالة وجود مراقبة، أو متابعة من قِبَل الأعداء، فقال له : (إن رأيت أحدًا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي)، وفي لفظ : (كأني أريق الماء، فامض أنت) (ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب، مطبعة التوفيق، مصر، ص:10). بذا يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر، فهو يدل على أن عليًا بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه، فإذا رأى من يراقبــه غيَّر وجهتــه، وأمـــر أبا ذر ¬هنا¬ أن يغير وجهته، بقوله: (فامض أنت). أما الموقف الثاني، فلأم جميل مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما. فعندما أخذت أم جميل وأم الخير سيدنا أبا بكر رضي الله عنه، إلى دار الأرقم، قال ابن كثير: (فأمهلتا ¬أي أم جميل وأم الخير¬ حتى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صل الله عليه وسلم)(ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص:30)..6- ومن جوانب الحماية التي روعيت في دار الأرقم، تصميم الباب الذي ترك فيه شقوق / فتحات¬ (عين سحرية) يمكن من خلالها مشاهدة مَن بالخارج، ومعرفة هويته، ومن ثم يتم التصرف، وفقًا لذلك. يظهر لنا ذلك في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، حين طرق الباب، فقبل أن يُفتح له، نظر أحد الصحابة من خلل الباب، فتأكد من هوية الطارق، بأنه عمر، جاء متقلدًا سيفه فأخبر بذلك النبي صل الله عليه و سلم (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3،،ص:86، دار بيروت للطباعة).7- التصرف السليم إبان حالات الطوارئ، ضروري وهام، ومكملاً للالتزام بالمنهج الأمني، فما قام به النبي صل الله عليه وسلم تجاه سيدنا عمر، حينما دخل دار الأرقم، يعد تصرفًا مهمًا ودقيقًا.. فأخذ بمجامع ثوب عمر، وحمائل سيفه، وقال له: (ما أنت بمنته يا عمر، حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزله الله بالوليد؟) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية،1320هـ، ج1،ص:36). فمنعه صلي الله عليه وسلم من استخدام سلاحه، وسهل ردعه وترهيبه.دروس في السرية من السيرة النبوية
عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتى عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟، قلت: بعثني رسول الله -صل الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟، قلت: إنها سر!!، قالت: لا تخبرنّ بسر رسول الله -صل الله عليه وسلم- أحدا، قال أنس : والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به يا ثابت " متفق عليه واللفظ لمسلم .
وفي رواية البخاري: " أسرّ إليّ النبي -صل الله عليه و سلم- سِرّاً، فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم رضي الله عنها -أمّه- فما أخبرتها به".
وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل (يعني عمر بن الخطاب) يقدمك على الأشياخ (يعني كبار الصحابة) فاحفظ عني خمسا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة.
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كان أجدادنا الأوائل يعلمون أولادهم المحافظة على السر، وهي من ألزم الأمور لسلامة الأمة وأمنها.
والواقع أن المدرسة الإسلامية عنيت بالأمن والمحافظة على الأسرار، أشد العناية ووضعت لهما المبادئ والأصول والأساليب، وأثبت تاريخ صدر الإسلام أن من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم الكثيرين أن أسرار النبي صل الله عليه وسلم، وأسرار المسلمين كانت مصونة وبعيدة عن متناول الأعداء، في الوقت الذي كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يطلع على نيات أعدائه العدوانية عن طريق عيونه وأرصاده (رجال مخابراته) قبل وقت مبكر، فيعمل من جانبه على إحباط ما يبيتونه للإسلام من غدر وخيانة ودسائس.
كذلك لم يستطع المشركون وأعداء الإسلام أن يباغتوا قوات النبي صل الله عليه وسلم في الزمان والمكان وأسلوب القتال، بينما استطاع صلوات الله وسلامه عليه أن يباغت أعداءه في معظم غزواته وسراياه.
كذلك لم يرد في تاريخ صدر الإسلام حوادث خيانة أو تخابر مع العدو إلا في حادثة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وهي حادثة واحدة واعتذر منها صاحبها.
الكتمان أساس النصر
كل ذلك من منهج الإسلام في تربية المسلمين على الأمن والمحافظة على الأسرار، ومن المبادئ المعروفة أن الأمة التي تكتم أسرارها هي الأمة التي يمكن أن تنتصر، والأمة التي لا تكتم أسرارها هي الأمة التي لا يمكن أن تنتصر، وما يقال عن الأمة يقال عن الأفراد لأن الأمة تتكون من أفراد.
واللسان الذي هو نعمة من نعم الله على عباده، يستطيعون بها التعبير عن آرائهم وتبادل المنافع مع الناس، هو وسيلة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا أحسن استعماله، كما أنه سبب قوي للشر والشقاء في الدارين إذا أسيء استعماله، فهو سلاح ذو حدين يمكن به النفع ويمكن به الضر.
والقرآن الكريم ينبئ بأن كل لفظ من الإنسان مسجل عليه، فيقول الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق 18) فالكلمة أمانة عظمى لها مكانتها في الإسلام، وتقدير أمرها والتدبر فيها قبل التلفظ بها مرتبط بالإيمان كما يفهم من قول النبي صل الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)
ويقول الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة احتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} (إبراهيم 24- 26)
والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل دعوة الإسلام، وقيل: كل كلمة حسنة.. والمراد بالكلمة الخبيثة: كلمة الكفر أو الدعوة إليه أو الكذب، أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة. ويقول النبي صل الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن ليتكلم بالكلمة من سخط الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه)
وعن شعبان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم استقم) قال: قلت يا رسول الله، وأخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا).
كتمان الأسرار من الحذر والفطنة
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعاللى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن) فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الله أمانة من الآمانات التي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (الأنفال 27)
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) وقال أيضا: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وقال: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهو أمانة). وقال: (إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره) وقال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)
الصمت
والصمت من أكبر أسباب الوقاية من إفشاء الأسرار (الوقاية خير من العلاج) والإسلام يرشد إلى الصمت ويدعو المسلمين إليه، فإن رسول الله صل الله عليه وسلم يقول:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت). (طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله). وغير ذلك من الأحاديث التي تدعو إلى التمسك بهذه القيم الإسلامية
دروس علمية من هدي النبي
والدروس العلمية التي يستطيع المسلمون أن يتعلموها من النبي صل الله عليه وسلم في مجال السرية والأمن أكثر من أن تحصى.
فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بدأ سرا ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صل الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: يا محمد ما هذا؟ قال: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى.. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب (أي أباه).
لكن الرسول صل الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم. فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صل الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه ولم يظهره.
وقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور: (ليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته)
وهجرته صل الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أعظم الدروس في السرية والأمن والكتمان حتى بلغ المدينة بسلام.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ولم يكن رسول الله صل الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى )
ومن الأمثلة العلمية في ذلك أنه صل الله عليه وسلم لما أراد تأديب بني لحيان، الذين غدروا بدعاة المسلمين - وكان هؤلاء الدعاة ستة من كبار الصحابة- أظهر أنه يريد الشام. وتحرك فعلا بقواته شمالا، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار تحركه إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعا في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان.
وفي غزوة الخندق جاء نعيم بن مسعود الغطفاني (وكانت غطفان من القبائل التي انضمت إلى قريش للقضاء على المسلمين) إلى رسول الله صل الله عليه وسلم وأخبره أنه أسلم ولا يعلم قومه، وطلب منه أن يأمره بما يشاء، فقال الرسول: (إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة).
فقام نعيم بمهمته خير قيام، ونجح في التفريق بين القوى الثلاث التي تجمعت لقتال المسلمين (قريش، والقبائل العربية ومنها قبيلته غطفان، ويهود بني قريظة)، وكان مما ساعد على نجاح مهمته مراعاة الأمن والسرية.
وقد ابتكر الرسول صل الله عليه وسلم (الرسالة المكتومة) مراعاة للسِّرِّية والأمن، وحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين وأهدافهم، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وسلمه رسالة (مكتومة) تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين.
وتعتبر غزوة فتح مكة من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان: إن أقرب المقربين إلى رسول الله صل الله عليه وسلم هو صاحبه أبو بكر الصديق، أول من آمن به كما أن عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت أحب نسائه إليه (فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قالوا: إنما نعنى من الرجال، قال: أبوها) ومع ذلك كانت عائشة لا تفشي لأبيها شيئا من سر رسول الله صل الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق وابنته عائشة لا يعلمان من أسرار غزوة الفتح إلا قليلا .
ولقد احتوت غزوة الفتح على الكثير من إجراءات الأمن التي كان لها أكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الكاملة وفتح مكة بلا قتال.