منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70285
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Empty
مُساهمةموضوع: قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"   قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Emptyالأحد 09 أبريل 2017, 8:44 am

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"


سعيد الناصر
يقول ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة البشر المتجه نحو التجمع والتكتل على شكل مجتمعات :"ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم Sadالإنسان مدني بالطبع)؛ أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران".
إن طبيعة خلق الإنسان تجعله محتاجا في كل شؤون حياته إلى من يعاونه على العيش؛ فهو بحاجة إلى طعام وشراب وبحاجة إلى لباس ومسكن وبحاجة إلى إشباع غريزته الجنسية مما تجعله يرتبط بأشخاص آخرين وتجعل لديه شبكة من العلاقات "الأسرة والأصهار وغيرهم"، وحاجة الإنسان إلى الأمور الأساسية في حياته ليبقى على قيد الحياة الطعام واللباس .. إلخ؛ تجعله أيضا يقيم شبكة من العلاقات الاجتماعية لأن الإنسان لا يستطيع القيام بجميع هذه الأمور بمفرده.
ثم هناك جانب آخر في الإنسان وهو الجانب الفكري والروحي؛ وهذا يحتاج إلى تغذية ويدفع الإنسان إلى حب الاستكشاف والمغامرة والبحث عن العلم والحقيقة فيحتاج في حياته إلى معلم وإلى من يعينه على فهم بعض الظواهر، وهذا الجانب أيضا ينشئ شبكة علاقات اجتماعية لدى النوع الإنساني.
والمجتمعات نوعان مجتمعات بدائية تبحث فقط عن أسباب استمرارها على قيد الحياة؛ أي أنها مجتمعات تنظر إلى الجانب الجسماني من الإنسان الذي هو "الحيوان الناطق"، فهي تبحث عن جانب الحيوانية وتغذية هذا الجانب، وإن كان لديها بعض الأمور الروحية والفكرية والنفسية "الناطقية في حقيقة الإنسان" فيكون ذلك فقط لتكميل اللذة الجسمانية لديه.
ومثال هذه المجتمعات هي المجتمعات العربية البدوية التي كانت تقطن الجزيرة العربية، وكذلك المجتمعات المغولية القديمة والمجتمعات الإفريقية قبل وصول الحضارات إليها.
وهناك مجتمعات متطورة أو متحضرة وإن كنت لا أريد استخدام مصطلح الحضارة للتعبير عن هذه المجتمعات لأن كثيرا منها متمدن ولديه تطور ولكنه غير متحضر فنريد البحث عن مصطلح الحضارة ولكن لنرجئه إلى وقته.
والذي نريد أن نبحثه هنا كيف تتشكل المجتمعات المتمدنة أو "المدنية" بصطلاح الحكماء (الفلاسفة)، إن المجتمعات تتشكل بطريقتين إما أن تتشكل عن طريق ظروف طبيعية (جغرافية) كما حصل في أمريكا؛ فإن هجرة السكان الأوربيين إلى أمريكا دفعتهم إلى إنشاء مجتمع (أي مدينة)؛ مع أنهم كانوا مختلفن في طباعهم وأفكارهم وتوجهاتهم الاجتماعية والدينية ولكن الظروف التي مروا بها والهجرة إلى بلد جديد جعلتهم يقيمون مدينة.
وكذلك الحال في مجتمع الأسكيمو الذي تكون بسبب هجرة المجتمعات المغولية الصينية في الشرق الأقصى.
وهناك مجتمعات تشكلت بسبب فكرة؛ أي أنها مجتمعات ومدن أيديولوجية، فكان المقوم الرئيس لهذه المدينة هي فكرة ورسالة يريد أصحابها إيصالها إلى البشرية وتطبيقها في واقع حياتهم وهذه الفكرة وهذه الأيديولوجية هي المكون الرئيس لهذه المجتمعات، بحيث إذا فُقدت هذه الفكرة يَفقِد المجتمع مبرر وجوده وينخرط في مجتمعات أخرى بل يصبح مجتمعاً متخلفاً بلا أية قيمة ولا إنجاز ولا هدف.
والمثال على هذه المدينة هي المجتمعات المسلمة فقد قامت هذه المدينة على أساس فكري عقدي أيديولوجي وكانت هذه المدينة صاحبة رسالة ومبشرة للعالم كله وفاتحة للمجتمعات الأخرى، لقد قام المجتمع الإسلامي (المدينة الإسلامية) على أسس أيديولوجية بحتة لم يكن الهدف من قيام هذه المدينة أي أمر يخص الجانب الحيواني من مفهوم الإنسان بل كان قيام هذه المجتمعات من أجل الجانب الفكري الروحي "الناطق" من حقيقة الإنسان.
ولا يعني ذلك أن هذا المجتمع أهمل الجانب الجسدي أو الحيواني بل قام بتنظيمه وتقنينة بشكل يضمن استمرار هذا المجتمع وقام بترقية هذا الجانب فجعل له آداب تميزه عن الحيوان، ولكن لم يكن هذا الجانب هو الأساس في نشوء هذه المدينة.
ونخالف هنا بعض المفكرين الذين لهم مكانة في عالمنا الإسلامي وفي عالمنا الروحاني أن هناك مجتمعات أخرى أيديولوجية كالمجتمع المسلم، فالمجتمع النصراني عندما تشكل لم يكن الهدف الرئيس منه هو الفكرة والروح والجانب الناطقي من الإنسان ولم يكن صاحب فكرة بل جعل النصرانية وسيلة لتجميع الشعوب المختلفة حول مملكة واحدة وتخفيف النزاعات القائمة.
إن قسطنطين وما فعله في مجمع نيقية ما كان يهدف من ورائه أية أهداف فكرية بل كان الهدف ـــ من وراء إقرار الدين المسيحي للحاضرة الأوروبية وحتى الشرق ــــ هو تثبيت ملكه وبسط نفوذ مملكته على بقاع كبيرة من الأرض؛ فهو لم يكن صاحب رسالة أو فكرة أيديولوجية.
وحتى عندما استُخدم الدين المسيحي لإلهاب مشاعر الشعوب وقامت الحروب كان كل شيء يسير من أجل بقاء المجتمع الطبقي متماسكا، وكانت الكنيسة نفسها طبقية صاحبة إقطاع، فالجانب الروحي الفكري بعيد كل البعد عن المجتمعات "الصليبية" في ذلك الوقت، وهذا ظاهر جلي في طبيعة المجتمع الصليبي وفي طبيعة الحروب الصليبية وتعامل هذا المجتمع مع غيره من المجتمعات.
أما المجتمع الإسلامي فقد كان صاحب فكرة لم يكن مجتمعاً طبقياً حيث كانت حروبه تمثل فكرته؛ فلم يقطعوا شجرة ولم يقتلوا طفلا ولا امرأة ولم يعتدوا على صاحب صومعة في صومعته، فعندما دخل عمر بن الخطاب لبيت المقدس وعندما دخل صلاح الدين الأيوبي إلى بيت المقدس مرة أخرى لم يفعل ما فعله الصليبيون عندما دخلوا بيت المقدس، فعندما دخل المدينة المسلمون حل فيها السلام، وعندما دخلها الصليبيون حل فيها الدمار والقتل حتى قال مؤرخوهم إن الدماء وصلت إلى الركب من شدة القتل في الرجال المسلمين والنساء والأطفال.
وكذلك الحال عندما دخل المسلمون باقي البلدان كانوا يسعون في تطوير البلاد من الناحية الصناعية والاقتصادية والفكرية ويتركون للمواطنين حرية اختيار الدين فينشرون الحريات على نطاق واسع لا يستخدمون القوة والقتل والتعذيب على العكس من الصليبيين أو المغول فبشاعة ما فعله النصارى في القدس والأندلس وبشاعة ما فعله المغول في بغداد وكثير من حواضر العالم الإسلامي وما فعله المستعمر الحديث في كثير من دول العالم الإسلامي يدلل على عدم وجود حضارة لدى هؤلاء أو رسالة أو فكر، فهم يعيشون على التخريب لا الإعمار والبناء ونشر الأفكار والحريات كما فعل المسلمون.
إذن فنحن نزعم أنه لا يوجد مجتمع ومدينة فكرية وأيديولوجية غير المجتمع الإسلامي والمدينة الإسلامية، ولا يوجد أصحاب رسالة يريدون نشرها واقناع الناس بها بالحجة والبرهان والتطبيق غير "مدينة" المسلمين.
وأما باقي المجتمعات والمدن هي مدن جغرافية وتشكلت بسبب عوامل طبيعية وانتخاب طبيعي لا أكثر، وإن كانت تحمل في بعض الأحيان مجموعة من الأفكار التي تريد تطبيقها على نفس مدينتها ولكنها في ذات الوقت تطبق على باقي المجتمعات البشرية أفكاراً وسياسات مختلفة، والاستعمار الغربي الأوروبي خير مثال على ذلك ومن قبله الصليبيون وحروبهم ومن قبلهم المغول وحروبهم.
ونحن نرى كثيراً من الشعوب تأثرت بالحضارة الإسلامية، تأثرت إلى مدى بعيد بالمدينة الإسلامية حتى أن كثيرا من الشعوب تركت لغتها الأم وأصبحت تؤلف وتكتب باللغة العربية لغة مدينة الإسلام، وكثيراً من الشعوب أصبحت تكتب لغاتها بالأحرف العربية وهذا يدل على مدى التأثير الفكري، فاللغة هي أساس الفكر والحضارة وانتشار اللغة بهذه الطريقة وهذا الاتساع ودون إجبار يدل على مدى التأثر بالأيديولوجية الإسلامية والأفكار والرسالة التي كانت تبثها المدينة الإسلامية في شعوب الأرض.
والذي نتوصل إليه من خلال هذا العرض السريع أن المجتمع المسلم هو مجتمع أيديولوجي فكري قام بإنشاء حضارة ممتدة شملت أغلب أصقاع الأرض أو العالم القديم وأثّرت إلى مدى بعيد في جميع المجتمعات والمدنيات.
ونحن نهدف في هذه السلسلة من المقالات أن نلتمس الطريق والمقومات التي تصنع الأمم وتنشئ المجتمعات الأيديولوجية لنرسم طريق الحضارة للجيل وكيف يمكن أن نعيد للأمة الإسلامية مجدها وتاريخها العريق المليء بالإنجازات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70285
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Empty
مُساهمةموضوع: رد: قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"   قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Emptyالسبت 15 أبريل 2017, 7:47 pm

الفكرة والتحدي والاستفزاز والثورة ونشوء المدينة

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Mrh57064


سعيد الناصر
تكلمنا في المقال السابق عن المجتمعات وأنواعها وحاولنا الوصول إلى كيفية قيام المجتمع المتحضر أو المدينة بمصطلح الحكماء، واليوم نحاول تسليط الضوء أكثر على كيفية قيام المجتمع أو المدينة وكيفية استمرار الحضارة وتطورها ورقي المدينة.
إن الكلام على كيفية قيام (المدينة) يختلف باختلاف وجهات النظر الأيديولوجية، فمثلا يذهب (جورج فيلهلم فريدريش هيغل) إلى أن النزاع الاقتصادي هو سبب نشوء المجتمعات أو المدينة، ويجعل فكرة ومبدأ التعارض المستقى من نظرية التطور المبنية على مبدأ التناقض للفيلسوف (تشارلز روبرت داروين) هي أساس قيام المدينة.
فبحسب هيغل يحصل من هذا التناقض والتعارض والاندماج تركيب محتوم لمدن جديدة ومجتمعات جديدة، فلا يوجد تغير اجتماعي ونشوء مدينة إلا عن طريق الأفعال وردود الأفعال، ومنشأ هذه الأفعال وردود الأفعال هو الحالة الاقتصادية التي تعيشها المجتمعات، إذن فقيام المدينة عند الفكر الماركسي ينشأ عن التعارض الاقتصادي، والمقصود من التنازع والتعارض الاقتصادي عند هيغل هو أن المجتمع يكون بدائي يعتمد على الصيد وبعض ثمار الأشجار وغير متملك لشيء ثم بعد ذلك ينزع الإنسان إلى حب التملك فينشأ المجتمع الزراعي الرعوي الطبقي (الإقطاعي)، ثم تثور طبقة العبيد وينشأ المجتمع الرأسمالي، ثم نتيجة لسيطرة أصحاب رؤوس الأموال وتحكمهم في المجتمع ينشأ المجتمع الشيوعي الأخير وكل ذلك يحدث بثورات مضادة للمجتمع القائم.
في حين يحاول المؤرخ الإنجليزي (جون آرنولد توينبي) أن يحلل النظرية الماركسية والتناقض الاقتصادي الماركسي بالقول أنه تحدي يتوجه إلى ضمير الفرد أو الجماعة، ثم يكون هذا التحدي استفزازا للضمير ليدفعه إلى التغيير وإلى إنتاج ثورة تؤسس مدينة جديدة، وبقدر ما يكون هذا التحدي والاستفزاز قوياً بقدر ما تكون الاستجابة له قوية، ويكون عاملاً مهما في إحداث التغيير الاجتماعي ونشوء مدينة جديدة.
في حين يمكننا أن نحلل الموضوع بطريقة أكثر منطقية حين نقول إن نشوء هذا التناقض بين مجتمع موجود ومجتمع ينشأ ويتمخض من رحم هذا المجتمع؛ هو وجود فكرة ثائرة على هذا المجتمع الموجود وهذه المدينة القائمة، وبقدر ما تكون هذه الفكرة حية في الضمير أو مؤدية إلى استفزاز حركي نحو تحقيق هذه الفكرة في أرض الواقع بقدر ما يتسارع هذا التناقض ونشوء المدينة وبقدر ما تكون هذه الفكرة ضعيفة لا تؤدي إلى الاستفزاز المطلوب بقدر ما تموت ويبقى المجتمع والمدينة كما هو.
إن خلو المجتمع من الأفكار وجفافه الفكري هو الذي يؤدي إلى انهيار هذا المجتمع، حتى لو صعد في البداية عن طريق فكرة، فالمدينة تنشأ بسبب وجود الفكرة ولكن استمرار المجتمع مبني على بقاء هذه الفكرة أما إذا ذهبت الأفكار وخلت منها المدينة فإنها معرضة للانهيار من جديد، حيث يقول الفيلسوف البريطاني (ماثيو ارنولد):"إذا لم تحاول الطبقة الوسطى الارتفاع بمستواها، ... فإن بريطانيا ستنهار بسبب فقرهم الثقافي وأفكارهم المنحطة".
بل إن الأمر ليذهب إلى مدى أبعد من ذلك وهو أن المدينة إذا لم تمتلك منظومة فكرية متماسكة ومتكاملة فإن عمر هذا المدينة سيكون قصيرا جدا بالنسبة لعمر الأمم، فوجود نظرية معرفية متكاملة هو الذي يضمن للمدن حياةً أطول لا مجرد وجود فكرة فقط، فإن الفكرة تحتاج لكي تبقى حية متماسكة إلى نظرية معرفية متكاملة تدعمها.
ونحن قد رأينا مجتمعات قامت من أجل فكرة وكان هناك نظرية معرفية خلف هذه الفكرة ولكن كانت نظرية متهافتة فسرعان ما رأينا هذه المدينة تنهار، ومثال ذلك الفكرة الماركسية ونظرية المعرفة القائمة عليها، فقد كانت هذه المدينة قصيرة العمر بالنسبة لعمر المدن البشرية والأمم البشرية، وإن كان هناك عوامل أخرى ساعدت على الانهيار ولكن نحن نعد هذا السبب هو الرئيس في انهيار المدن.
وكذلك الحال في بعض المدن التي ظهرت في القرن المنصرم كانت سريعة الانهيار لأنها حملت فكرة ولم تحمل نظرية معرفية كالمدينة النازية والفاشية، وإن كانت تلك الأفكار قد وصلت إلى قوة من استفزاز الضمير البشري بحيث أنها توسعت بشكل كبير وخلال فترة زمنية قصيرة ولكنها سرعان ما انهارت.
وإذا نظرنا إلى المدن المتمدنة في عالمنا المعاصر أمريكا مثلا؛ فقد قامت على أفكار ونظريات معرفية هزيلة أيضا، ولذلك نحن نراها الآن تنهار وهي لم تعش طويلا ومائة سنة في عمر المدن والأمم لا شيء.
وإذا نظرنا في اتجاه آخر وبعيدا عن نظرية التناقض لأنها لا تصلح في المثال الذي سنذكره الآن فإن الفكرة والدافع الذي انتج الأمة المسلمة والمدينة الإسلامية هي فكرة قوية نبضت في دماء أولئك العرب البدو الذين لم يصلهم شيء من المدنيات التي كانت في ذلك الوقت، ولم يصلهم التطور الذي كان في ذلك الزمان، ومع ذلك فإن عروقهم كانت تنبض بدماء جديدة أنتجتها فكرة ونظرية معرفية تعدّ بزعمنا أقوى نظرية معرفية وصل إليها الجنس البشري في طوال عمره المديد.
بل إن هذه النظرية وهذه الفكرة التي أنتجت هذه المدينة الإسلامية لم تتعرّض فكرة في العالم إلى النقض الذي تعرضت هي له ولم تُطرح أدلة على أي نظرية بقدر الأدلة التي طرحت من أجل بناء هذه النظرية المعرفية الإسلامية، واستعصت هذه النظرية على كل جهود الهدم ووقفت بقوة، بل ودخلت إلى قلوب وعقول وأفكار كثير من البشر حتى غيرتهم وجعلتهم ينضمون إلى هذه المدينة بكل قناعة وبكامل إرادتهم.
هذه الفكرة التي قام بصياغتها بأكثر من قالب حسب ما تقتضيه الظروف والخصوم مفكرون عظام في تاريخ المسلمين أمثال أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل والأشعري والماتريدي والباقلاني والجويني والغزالي والرازي والسبكي والسعد والسيد الشريف الجرجاني والرافعي والنووي وغيرهم كثير جعلوا هذه النظرية أكثر تماسكا بصياغات مختلفة تواجه خصوما مختلفين.
وبقيت هذه المدينة التي قامت على هذه الفكرة وهذه النظرية قرونا طويلة تطورت خلالها المدينة بشكل ملحوظ واتسعت اتساعا كبيرا ملحوظا مقارنة بأي مدينة أخرى في التاريخ، وحتى عندما تخلى أصحابها عنها وبدأت في الانهيار وبمصاحبة عوامل أخرى فقد استغرق الانهيار قرنين من الزمن، ومع ذلك ما تزال الفكرة والنظرية موجودة وتعد اللاعب الأساسي في سياسات العالم الحديث وما تزال تلهب شعور كثير من الشعوب ولكنها لم تصل اليوم إلى درجة الاستفزاز المطلوب داخل ضمير هذه الشعوب حتى تعود من جديد مدينة قوية كما كانت.
ويمكننا أن نخلص من هذا الكلام إلى أن (المدينة) لا تقوم إلا بفكرة ولا تستمر إلا بوجود نظرية معرفية قوية تضمن لها الاستمرار، فإن أي تغير يحدث في المجتمعات هو ناتج من فكرة وهدف ونظرية معرفية تساند هذه الفكرة وهذا الهدف.
ويمكن لهذه الفكرة والهدف أن يبدأ من شخص واحد وفرد واحد يكون هو نواة هذه المدينة الجديدة وذلك بلا شك هو المقصود من كلمة (أمة) كما يقول الفيلسوف مالك بن نبي في قوله تعالى :"إن إبراهيم كان أمة"، ففي هذه الحالة نجد المجتمع (الأمة) يتلخص في إنسان يمثل فكرة وهدف ونظرية معرفية ينتج عنه تغير في مجتمع، ولكن ما دامت هذه الفكرة في شخص فهي في حيز القوة وستكون يوماً ما في حيز الفعل حينما تؤازرها قوى أخرى تتحمل هذه الفكرة وتسعى في سبيلها.
إذن فميلاد مجتمع كما يسميه الفيلسوف مالك بن نبي أو نشوء حضارة أو وجود مدنيات أو نشوء (مدينة) كما اصطلحنا عليه في هذه المقالات تبعا للحكماء (الفلاسفة) لن يكون إلا إذا وجدت الفكرة والهدف والنظرية المعرفية، ووجد من يقتنع بهذه الفكرة وتصل به الفكرة إلى حد الاستفزاز والعمل ليخرجها من حيز القوة إلى حيز الفعل؛ وتحتاج أيضا إلى تظافر الجهود وإلى عمل مجتمعي فكري حي لا إلى حركة فقط خالية عن الفكرة والأهداف "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70285
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Empty
مُساهمةموضوع: رد: قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"   قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Emptyالسبت 22 أبريل 2017, 9:36 pm

عالم الأفكار وعالم الأشياء في "المدينة"

سعيد الناصر

تكلمنا في المقالات السابقة عن أهمية الأفكار في بناء ونشوء (مدينة)، واليوم نتحدث عن أمر في غاية الأهمية وهو وجود مدينة قائمة على أفكار ونظرية معرفية ثم يحدث أن تنهار هذه المدينة، فإما أن تحافظ على أفكارها وتنهض من جديد وإما أن تتخلى عن أفكارها وأهدافها فتسقط ولا تعود.

ومن هنا نقول إن المجتمع المتحضر ليس هو المجتمع الذي تكثر فيه الأشياء ويتضخم فيه "عالم الأشياء" كما يسميه الفيلسوف مالك بن نبي، فليس المجتمع المتحضر هو المجتمع الذي يملك الآلات والإنتاج والمباني الضخمة والأسلحة المتطورة والرفاه المعيشي؛ وإن كان كل ذلك وسيلة من وسائل المدينة ولكن ليس هو الحضارة بعينها.

والذي نريد أن نبينه هو أن عالم الأشياء وإن كبر وتضخم ليس هو الذي يمثل الحضارة، بل الحضارة تكمن في القيم والأفكار والبنية المعرفية التي يحملها المجتمع داخل المدينة، فإذا كان المجتمع خلوّ من هذه الأفكار والقيم فهو مجتمع غير متحضر، وإن كان في نفس الوقت مليء بالأشياء وعنده من الرفاه الشيء الكثير، ففي مثل هذا المجتمع أعني الذي يخلو من الأفكار وتزدحم فيه الأشياء في هذا المجتمع يكمن ضعف المدينة وتحمل بذور انهيارها لأن هذه المدينة لا تعمل من أجل الإنسانية ولا تعمل من أجل البشرية ورفع مستوى الإنسان كإنسان.

في هذه المدينة سوف نرى تسلط القوي على الضعيف وسنرى انهيارا للأخلاق وإن عمّ قانون يحكم هذا المجتمع لأن القانون والمحاكم ليست هي الضابط الوحيد في المدينة، ولأن القانون أصم ويمكن الإلتفاف عليه ويمكن أن يكون وسيلة لاستغلال الضعفة الذين لا يعرفون القانون من قبل الأقوياء الذين يمتلكون المال والسلطة وفهم القانون ومداخله، فالضابط الذي يضبط البشر هو القيم والأفكار فإذا لم توجد هذه القيم والأفكار فإن المدينة سوف تحمل بذور انهيارها وإن وصلت لحد الإشباع في عالم الأشياء.

إن المدينة التي يكون فيها التجمع على عالم الأشياء أو على فكرة رذيلة مثل الجنس أو اللون أو العرق أو البلد هي في الحقيقة مدينة منحطة من جهة عالم الأفكار لأن هذه الأمور لا يستطيع الإنسان اختيارها؛ فهو مجبر على ولادته في مكان معين وقبيلة معينة ولون معين، أما التجمع الذي ينشئ مدينة متحضرة هو التجمع على فكرة وهدف ومنظومة معرفية، لأن الإنسان قادر وبمحض اختياره أن يغير أفكاره وأن يختار ما يقتنع به من فكر بذلك يستطيع أن يبني مدينة وهو مندفع عن طريق فكرة تستفزه لتطبيقها على أرض الواقع.

ويقارن المفكر سيد قطب بين المدينة التي تكون ناشئة عن فكرة وبنية معرفية والمدينة التي تكون مبنية على لون أو عرق أو غير ذلك، يقول إن المجتمع الذي يحمل فكرة وبنية معرفية :"يكون ذلك المجتمع ممثلا لأعلى ما في الإنسان من خصائص .. خصائص الروح والفكر .. فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض وما إلى ذلك من روابط فظاهر أن الجنس واللون لا تمثل الخصائص العليا للإنسان .. فالإنسان يبقى إنساناً بعد اللون والعرق والأرض، ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر، ثم هو يملك بمحض إرادته أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته، ولكنه لا يستطيع أن يغير لونه وجنسه، فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة واختيارهم الذاتي هو المجتمع المتحضر".

ونضيف إلى ذلك أن الفكرة التي ينشأ عنها مدينة يجب أن تكون فكرة إنسانية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فبعض الأفكار اللاإنسانية التي تجعل المدينة تحمل بذور عدمها هي فكرة أيضاً غير صالحة للبناء، فمثلا فكرة الحرية والمساواة والفردية التي نشأت عليها بعض المدن في القرن المنصرم هي فكرة غير نافعة حينما تكون من غير ضوابط؛ فالحرية الاقتصادية والفردية سمحت لظهور طبقة من أصحاب رؤوس الأموال قاموا باستغلال الفقراء والمعدمين فأصبح المجتمع طبقي ينظر إلى الإنسان بما يملكه من أشياء لا ما يملكه من أفكار.

إن فكرة المساواة جعلت المرأة في القرن المنصرم تعاني أشد المعاناه عن طريق استغلالها في العمل بأقل الأجور من أجل المساواة، وجعلت المرأة تتخلى عن أهم دور تلعبه في حياتها وهو بناء الجيل وزرع الأفكار والقيم، وبذلك بدأت المدينة تنهار عندما فقدت المرأة دورها الرئيس في عالم القيم والأفكار وأصبحت بدعوى المساواة والحرية والفردية ــــ من غير ضوابط ــــ أصبحت المرأة سلعة رخيصة وبذلك حمل المجتمع وحملت المدينة بذور العدم.

ولنعد إلى فكرة كنا قد طرحناها في البداية؛ وهي أن بعض المدن قد نشأت عن طريق فكرة وبنية معرفية متماسكة كالمدينة الإسلامية، ولكنها بعد قرون من حضارتها ولأسباب داخلية وخارجية ليس الوقت مناسبا لذكرها بدأت تنهار وبقيت قرونا وهي في حالت الانهيار حتى عدمت من الوجود، ولكن بقيت أفكارها حاضرة وبقيت بنيتها المعرفية محرك في هذا العالم الذي نعيشه، ولكن الأمر الذي نريد الإشارة إليه هو أن أبناء هذه المدينة وبعد انهيارها تخلو في الغالب الأعم منهم عن أفكار مدينتهم وبدؤوا يتقمصون الأفكار من هنا ومن هناك، ولم يعد لهم ما يميزهم بين الأمم بل أصبحوا كالمسخ يقلدون هذه وتلك.

كل ذلك بسبب أنهم اعتقدوا أن أفكارهم هي من جلبت لهم الانهيار؛ وفي الحقيقة بعدهم عن فكرتهم وعن هدفهم هو من جلب لهم الدمار، هو من جعل مدينتهم التي صمدت قرونا بل هي من أطول المدن التي صمدت في التاريخ رغم ما تعرضت له من هزات عنيفة في عالم الأشياء فالحملات الصليبية كانت تدمر عالم الأشياء لديهم برمته ولكنها كانت وكرد فعل تبني عالم الأفكار بكل ما أوتيت من قوة، فبقي أبناء المدينة الإسلامية صامدون وعادوا من جديد أقوى من السابق.

وعندما تدمر عالم الأشياء عندهم بسبب اجتياح المغول لهم بقي عالم الأفكار هو المحرك لنهضتهم من جديد وهذا ما حصل، فقد نهضوا من جديد وبنوا ما ذهب من عالم الأشياء مرة أخرى بل أبعد من ذلك فقد جعلوا عدوهم (المغولي) يتأثر بعالم الأفكار لديهم ويصبح هو عامل بناء لهذه المدينة بعد أن كان عامل هدم في عالم الأشياء لهذه المدينة الإسلامية.

فإن المدينة التي تنهار في عالم الأشياء إن تمسكت بعالم الأفكار لديها فسوف تقوم من جديد وإن تخلت عن عالم الأفكار لديها وعن هدفها في هذا الوجود فسوف تنهار نهائيا، وفي القرن المنصرم كان هنالك نماذج من المدن التي انهار فيها عالم الأشياء ولكن بقي لهم هدف وفكرة فعملوا على إعادة عالم الأشياء وبناء مدينتهم ونجحوا في ذلك مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فقد نجحت هذه المدن لأنها في عالم الأفكار لم تصبح مسخا فعادت للنهوض من جديد وتمسكت بعالم الأفكار لديها وقامت بإعادة بناء عالم الأشياء، وإن كانت كل من هذه الدول قد تأثرت نوعا ما في عالم الأفكار ولكنها لم تتخل تماما عن عالم الأفكار ولم تقلد غيرها في كل ما يفكر به في عالم القيم والأفكار.

بينما المدينة الإسلامية كان انهيارها من جانبين جانب عالم الأشياء بعد أن كانت أكثر المدن تطورا في العالم في وقتها وكذلك من جانب عالم الأفكار فأصبح أبناؤها كالمسخ يقلد كل واحد منهم ما يراه من عالم الأفكار عند الدول المتمدنة، فترى بعضهم اشتراكيا والآخر رأسماليا وترى منهم الملحد والمؤمن بوجود الإله، وترى منهم الحداثي والعلماني واللبرالي والبراجماتي، وهكذا اعدد ما شئت من أفكار تجدها موجودة عند أبناء المدينة الإسلامية وتخلوا تماما عن أفكارهم وأهدافهم وبنائهم المعرفي وقيمهم فلم تقم لهم قائمة منذ أن انهارت أفكارهم ولم يعد لمدينتهم وجود بل دخلت في حيز العدم.

فالسبيل إلى عودة تلك المدينة الرجوع والتمسك بعالم الأفكار الذي لم يوجد ولا يوجد في تاريخ البشرية مثله، فهو الممثل للإنسانية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهو الذي يمثل الخير لا لمدينتهم بل للبشرية جمعاء، فيجب على أبناء هذه المدينة فهم بنائهم المعرفي من جديد وفهم فكرتهم وهدفهم في هذا الوجود لكي يعيدوا بناء تلك المدينة وتلك الحضارة التي لم يشهد التاريخ مثلها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70285
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Empty
مُساهمةموضوع: رد: قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"   قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" Emptyالسبت 29 أبريل 2017, 11:00 pm

السياسة الأخلاقية والمدينة الفاضلة

قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة" %D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8_%D9%82%D8%A8%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85


سعيد الناصر
كنا قد تكلمنا عن بناء المجتمعات ونشوء المدينة وكان تركيزنا في السابق على الفكر والنظرية المعرفية، وأن المدينة من غير هذا لا تكون مدينة والحضارة لا تسمى حضارة إلا بوجود الفكر والهدف والبنية المعرفية من وراء ذلك، مع عدم إغفالنا للأشياء؛ فعالم الأشياء مهم ولكن عالم الأفكار هو الأهم في نشوء المدينة.
واليوم نتكلم عن عامل آخر مهم غاية الأهمية في نشوء المدينة وهو عالم الأرواح والأخلاق وتهذيب النفوس، فإن المدن مهما وضعت من قوانين ومهما سنت من عقوبات ما لم تكن هنالك أخلاق تضبط أهل المدينة فلن نصل إلى رقي ولن نصل إلى مدينة تحترم الإنسان لأنه إنسان؛ بل سنبقى ندور في فلك الأشياء وسوف تصيطر علينا أخلاق وقوانين الأشياء التي تهدم ولا تبني وهي في الحقيقة عامل لفناء المدن لا لنشوئها وإعمارها، فمهما حاولنا إنشاء مدينة فاضلة فبغير الأخلاق فلا وجود لها وإن كان الفكر فيها عامرا.
ثم إن الإنسان كما هو مكون من الجسد الذي يمثل عالم الأشياء ومن العقل الذي يمثل عالم الأفكار فهو كذلك مكون من الروح التي تمثل عالم الملكوت والأسرار والنفس الزكية، فلا وجود للمدينة إلا بتكامل هذه الجوانب الثلاث وبها تكتمل النفس الإنسانية، وإذا اكتملت النفس الإنسانية تعمر المدن وتنشأ المدينة الفاضلة، ولذلك نرى أكثر الفلاسفة والمفكرين اهتموا بالأخلاق وذلك منذ القدم، فذاك أرسطو ألف كتابا في الأخلاق، وتتابع الفلاسفة على البحث والتأليف في الأخلاق لأنهم يعلمون أن صلاح النوع الإنساني لا يكون إلا بوجود الأخلاق ووجود المدينة الفاضلة لا يكون إلا بوجود الأخلاق.
ونحن نجد في كلام كثير من المنظرين والفلاسفة والمفكرين التركيز على الأخلاق، فهذا ابن خلدون يقول :"السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه"، فهو بهذا الكلام يربط بين قيام المدينة وإحكام سياستها وبين الأخلاق والفكر، ويجعل بقاء المدينة بل بقاء النوع الإنساني لا يكون إلا بالأخلاق والفكر وسياسة المدينة بذلك.
بل نجده في مواضع أخرى يربط خراب المدن بخراب الأخلاق فيقول :"الترف يؤدي بأصحابه الى التخلق بالفحشاء والعكوف على الشهوات والإقبال على الدنيا، والظلم يؤدي بهم إلى التخلق بالكذب والمكر والنفاق"، ثم يضيف "الظلم مؤذن بخراب العمران"، فإننا نرى من خلال كلام ابن خلدون تركيزا على عالم الروح لأنه أساس بقاء المدينة أو خرابها.
إننا في الأخلاق نبني الأنسان والإنسانية وهي فقط التي تحفظ لنا المدينة من الانهيار والدمار، والإنسانية لا توجد من غير عالم الروح، حيث يقول تشي جيفارا :"ماذا يفيد المجتمع إذا ربح الأموال و خسر الانسان؟" إنه لن يستفيد شيئا لأن عالم الأشياء سيفنى ويذهب إذا لم يوجد فكر وخلق وستنهار المدينة وتخسر كل ما كسبته في عالم الأشياء.
إذن فالفكر وحده لن ينشئ مدينة على عظم أهميته بل يجب أن تترابط العوالم الثلاث ليتنج مدينة فاضلة؛ عالم الأفكار وعالم الروح وعالم الأشياء، ويقول أرسطو :"الأخلاق تتطلب منا شيئاً أكثر من مجرد العلم بما هو صواب وبما هو خطأ، شيء أكثر من المعرفة. كل المعارف في هذا العالم وحدها لا تكفي، ولن يكون لها تأثير يذكر، إذا لم تكن لدينا حرية الإرادة والقدرة على الاختيار. الأخلاق تتطلب معرفة وإرادة، لا معرفة فقط"، وهذا كلام في غاية الأهمية؛ فما فائدة الأفكار والإيمان بها أو الاقتناع بصوابها إذا لم يكن الإيمان مشعلاً للحركة، وإذا لم تترجم هذه الأفكار على أرض الواقع فلا فائدة تذكر للفكر ولن تترجم إلا بنظام أخلاقي وبوجود عالم الروح في أرض الواقع.
والأخلاق علم يُبحث فيه ثم يطبق على أرض الواقع كي يستفاد من النظرية تطبيق، بمعنى أننا بحاجة إلى نظرية في الأخلاق والتزكية وعالم الروح نبني عليه عملا ينتج لنا مدينة راقية فاضلة يقول أرسطو :"الأخلاق باعتباره علم عملي - والعمل يتجه بالضرورة إلى تحقيق غاية - ومن ثم أصبح من الطبيعي أن يبدأ بحثه في تحديد غاية الحياة، لأن الغايات متعددة ومترتبة فيما بينها، لكن لابد من التوقف عند حد لتسلسلها وهي الغاية القصوى التي تحتفظ بقيمة ذاتية؛ وهي غاية الأفعال جميعا هذه الغاية هي من غير شك الخير الأعظم، وإن معرفتها لتهمنا إلى أكبر حد، لأن على معرفة الخير يتوقف توجيه الحياة".
بهذا الكلام نصل إلى أننا نبني الأخلاق على نظرية معرفية؛ فعالم الروح يبتنى دائما على نظرية معرفية، ونحن المسلمون لدينا كما قلنا أقوى نظرية معرفية وعليها انبني أعظم عالم أرواح عرفه التاريخ، فالمدرسة الصوفية القائمة على البناء المعرفي لأهل السنة والجماعة هي البناء الروحي القائم على البنية المعرفية الإسلامية، وهو تصوف مستمد من أصول البناء المعرفي لأهل السنة وهو العقل والشرع؛ فبالشرع وفهم العقل نبني منهجاً متزناً في التصوف نفهم من خلاله نصوص القرآن والسنة على أساس هذا المنهج وننتج عالماً للروح يسمو بنا إلى بناء مدينتنا الإسلامية.
ولنضرب لذلك مثالا من قول الشيخ محمد الغزالي وهو يفهم إحدى التشريعات الإسلامية المالية فهما يرتقي بالإنسان كإنسان ويرتقي بالروح ويحلق بها في عالم الملكوت فيقول :"الزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب بل هي أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله Sadخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، فتنظيف النفس من أدران النقص والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى، ومن أجل ذلك وسع النبي صل الله عليه وسلـم في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم فقال Sadتبسمك فى وجه أخيك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة). وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التي عاشت دهورا على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التي رسمها الإسلام وقاد العرب في الجاهلية المظلمة إليها".
وبهذا الكلام الراقي نفهم كم هو الإسلام عظيم يبني عالم الأفكار وهو في نفس اللحظة يبني عالم الروح ويبني عالم الأشياء، كل ذلك في ترابط وتناسق عجيب لا يصدر إلا عن ملك الملوك الحق الذي ليس بعده حق، نعم لقد أقام المسلمون على البنية المعرفية الإسلامية عالم الأرواح وأطلقوا عليه اسم التصوف وبدأ التأليف فيه منذ زمن مبكر وهذا يدل على التكامل الذي نشأت عليه المدينة الإسلامية.
وعالم الروح يجعلك في مدينتك تنظر إلى ما هو أبعد من عالم الأشياء كي لا تؤسر بالأشياء فتفقد إنسانيتك كي تحصل على الأشياء، فعالم الروح هو الضابط الوحيد الذي يستطيع أن يبني مدينة فاضلة عندما يحرر قلبك وروحك من التعلق في عالم الأشياء ويجعلها وسيلة لبناء المدينة لا غاية للإنسان، يقول مولانا جلال الدين الرومي هذا الفيلسوف العظيم :"كم هم سعداء أولئك الذين يتخلصون من الأغلال التي ترسخ بها حياتهم"، ولكننا من أجل أن نرتقي بإنسانيتنا ونبني مدينتنا علينا أن نتخلق بهذه الأخلاق ونتدرج في عالم الأرواح فبقدر ما نرتقي في عالم الروح بقدر ما نرتقي بمدينتنا يقول الرومي :" وضع الله أمامنا سلّمًا علينا أن نتسلقه درجةً إثر درجة لديك قدمان فلِمَ التظاهر بالعرج؟" فالتظاهر بالعرج يعني أنك لا تريد مدينة فاضلة ويعني أنك في طريق يوصلك إلى العدم.
نختم بقول الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عندما بدأ التأليف في كتاب له في الأخلاق وهو إمام من أئمة المسلمين في عالم الفكر وعالم الروح قال :"لما كانت السعادة التي هي مطلب الأولين والآخرين لا تُنال إلا بالعلم والعمل.. وجب معرفة العمل المسعد والتمييز بينه وبين العمل المشقي، فافتقر ذلك أيضاً إلى ميزان، فأردنا أن نخوض فيه.. ونبين أن لا طريق إلى السعادة إلا بالعلم والعمل، ثم نبـين العلم وطريـق تحـصـيله، ثم العمل المـسـعد وطريـقه".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» على إسرائيل أن تواجه ما تخشاه وهو قيام الدولة الفلسطينية
» الساعات والحضارات
»  الساعات والحضارات
» الدولة الأيوبية.. ودور الدولة الزنكية في نشأتها
» ما هي صلاة قيام الليل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث متنوعه-
انتقل الى: