قصيدة الحمى - أبوالطيب المتنبي -
أصيب الشاعر الكبير أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي الكوفي ، المتنبي بالحمى ، و هو يستعد للرحيل عن أرض مصر ، والخوض في متاهات الصحراء ، موليا وجهه لهجيرها وتقلبات اجوائها ، و وطء الحمى التي تصهر جسده ، في شهر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين و ثلاثمائة (348 هـ) ، وعمره خمسة و أربعون عاما ، اي قبل وفاته بست سنين ، و هي المرحلة التي ارخت لبداية نهاية اختلافه مع كافور الاخشيدي ، بعد ان مل كل الوعود المؤملة الكاذبة ، و التسويفات الوهمية ، و استنفذ كل أمل له في الحصول على ولاية او امارة
تقع قصيدة الحمى في اثنين و أربعين بيتا ، و يستهلها المتنبي بالفخر و الاعتداد بالنفس جريا على عادة أشعاره ، ثم يتنقل بين ابيات الحكمة التي اصبحت مضربا للامثال ، الى وصف حاله و تيهه في الصحاري بلا دليل ، و مقاساته و مكابداته بين حرين ، حر الالم و الارق و الاوجاع ، وما لاقاه من صدود و مكر و خيبة آمال ، مع اشارات جانبية للؤم كافور و بخله و كذبه و خداعه ، و حث النفس على الاصطبار و عدم الاستسلام للحمى او التوسل و التزلف لاحد
و يحكي عن المتنبي أنه قال: "كنت إذا دخلت على كافور و أنشده يضحك إليَّ و يبش في وجهي حتى أنشدته هذين البيتين ، فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا فعجبت من فطنته و ذكائه."
والبيتان هما :
فلما صار ود الناس خبا = جزيت على ابتسام بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه = لعلمي أنه بعض الأنامِ
و نستطيع اخيرا القول بأن الحديث عن الحمى يبدأ بالتحديد مع البيت السابع عشر ، و يسميها تارة بالزائرة و طورا ببنت الدهر
قصيدة الحمى
أبوالطيب المتنبي
مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ = وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ
ذَرَاني وَالفَلاةَ بِلا دَليلٍ = وَوَجْهي وَالهَجِيرَ بِلا لِثَامِ
فإنّي أسْتَرِيحُ بذي وَهَذا = وَأتْعَبُ بالإنَاخَةِ وَالمُقَامِ
عُيُونُ رَوَاحِلي إنْ حِرْتُ عَيني = وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغامي
فَقَدْ أرِدُ المِيَاهَ بِغَيرِ هَادٍ = سِوَى عَدّي لهَا بَرْقَ الغَمَامِ
يُذِمّ لِمُهْجَتي رَبّي وَسَيْفي = إذا احْتَاجَ الوَحيدُ إلى الذّمَامِ
وَلا أُمْسِي لأهْلِ البُخْلِ ضَيْفاً = وَلَيسَ قِرًى سوَى مُخّ النّعامِ
وَلمّا صَارَ وُدّ النّاسِ خِبّاً = جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسَامِ
وَصِرْتُ أشُكُّ فيمَنْ أصْطَفيهِ = (لعِلْمي أنّهُ بَعْضُ الأنَامِ
يُحِبّ العَاقِلُونَ على التّصَافي = وَحُبّ الجَاهِلِينَ على الوَسَامِ
وَآنَفُ مِنْ أخي لأبي وَأُمّي = إذا مَا لم أجِدْهُ مِنَ الكِرامِ
أرَى الأجْدادَ تَغْلِبُهَا كَثِيراً = على الأوْلادِ أخْلاقُ اللّئَامِ
وَلَسْتُ بقانِعٍ مِن كلّ فَضْلٍ = بأنْ أُعْزَى إلى جَدٍّ هُمَامِ
عَجِبْتُ لمَنْ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ = وَيَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ
وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي = فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِ
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً = كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
أقَمْتُ بأرْضِ مِصرَ فَلا وَرَائي = تَخُبُّ بيَ الرّكابُ وَلا أمَامي
وَمَلّنيَ الفِرَاشُ وَكانَ جَنبي = يَمَلُّ لِقَاءَهُ في كُلّ عامِ
قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي = كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مَرَامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ = شَديدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ
وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً = فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظّلامِ
بَذَلْتُ لهَا المَطَارِفَ وَالحَشَايَا = فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ في عِظامي
يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسي وَعَنها = فَتُوسِعُهُ بِأنْوَاعِ السّقَامِ
إِذا ما فارَقَتني غَسَّلَتني = كَأَنّا عاكِفانِ عَلى حَرامِ
كأنّ الصّبْحَ يَطرُدُها فتَجرِي = مَدامِعُهَا بأرْبَعَةٍ سِجَامِ
أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيرِ شَوْقٍ = مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ
وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصّدْقُ شرٌّ = إذا ألْقَاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
أبِنْتَ الدّهْرِ عِندي كُلُّ بِنْتٍ = فكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ منَ الزّحامِ
جَرَحْتِ مُجَرَّحاً لم يَبقَ فيهِ = مَكانٌ للسّيُوفِ وَلا السّهَامِ
ألا يا لَيتَ شِعرَ يَدي أتُمْسِي = تَصَرَّفُ في عِنَانٍ أوْ زِمَامِ
وَهَلْ أرْمي هَوَايَ بِرَاقِصَاتٍ = مُحَلاّةِ المَقَاوِدِ باللُّغَامِ
فَرُبَّتمَا شَفَيْتُ غَليلَ صَدْرِي = بسَيرٍ أوْ قَنَاةٍ أوْ حُسَامِ
وَضَاقَت خُطّةٌ فَخَلَصْتُ مِنها = خَلاصَ الخَمرِ من نَسجِ الفِدامِ
وَفَارقْتُ الحَبيبَ بِلا وَداعٍ = وَوَدّعْتُ البِلادَ بِلا سَلامِ
يَقُولُ ليَ الطّبيبُ أكَلْتَ شَيئاً =وَداؤكَ في شَرَابِكَ وَالطّعامِ
وَمَا في طِبّهِ أنّي جَوَادٌ = وأضَرَّ بجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ
تَعَوّدَ أنْ يُغَبِّرَ في السّرَايَا = وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ في قَتَامِ
فأُمْسِكَ لا يُطالُ لَهُ فيَرْعَى = وَلا هُوَ في العَليقِ وَلا اللّجَامِ
فإنْ أمرَضْ فما مرِضَ اصْطِباري = وَإنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعتزَامي
وَإنْ أسْلَمْ فَمَا أبْقَى وَلَكِنْ = سَلِمْتُ مِنَ الحِمامِ إلى الحِمامِ
تَمَتّعْ مِنْ سُهَادٍ أوْ رُقَادٍ = وَلا تَأمُلْ كرًى تحتَ الرِّجَامِ
فإنّ لِثَالِثِ الحَالَينِ مَعْنًى = سِوَى مَعنَى انتِباهِكَ وَالمَنَامِ