ولد الزنا في الفقه الإسلامي
قراءة وتقويم
ذكر الفقهاء المسلمون أنّ ابن الزنا لا يحظى ببعض المناصب أو المواقع أو الحقوق الماليّة وغيرها مثل إمامة الجماعة والجمعة، والمرجعية وولاية الأمر، والقضاء، والشهادة، والإرث، والديات..
ففي الوقت الذي يمكن أن يكون أيّ مسلم عادل قاضياً أو إماماً للجماعة أو شاهداً في المحكمة أو نحو ذلك، إلا أنّ الفقهاء يذكرون أنّ ذلك محظور في حقّ ولد الزنا، وأنّ هذا اعتبارٌ قانوني تشريعي وضعته الشريعة ليس عقاباً له، فهو غير مذنب، وإنّما لدواعٍ أخر.
بل تعدّى الأمر حدود ذلك، فسُلب عن ابن الزنا ـ عند بعض الفقهاء ـ وصفان أساسيّان:
الوصف الأوّل: وصف البنوّة وعلاقاتها، فاعتبره بعض الفقهاء بلا أسرة، فالشرع أبطل بنوّته، وأبطل أبوّة وأمومة أمّه وأبيه وغيرهما. وبعبارة أخرى: تمّ اقتطاعه من الحياة الأسريّة تماماً، أو بشكل شبه تام.
الوصف الثاني: وصف الإسلام، حيث ذهب بعض الفقهاء إلى الحكم بكفره، وما يترتّب على الكفر من أحكامٍ معروفة كالنجاسة وغيرها.
وعلى أية حال، فنحن نريد قراءة (ابن الزنا) في الفقه الإسلامي، وتقويم القراءة المدرسيّة؛ لنرى الموقف الشرعيّ منه في هذا السياق.
ونشير إلى أنّ الكلام كلّه هنا يدور حول ابن الزنا، وليس ابن الملاعنة، ولا ولد الشبهة، ولا اللقيط، ولا ما يسمّى بظاهرة أولاد الشوارع والمتشرّدين، ولا ولد التلقيح المحرّم لو قلنا بحرمته كتلقيح ماء الأجنبي لبويضة الأجنبيّة، ولا الولد الذي يكون عن وطءٍ محرّم للزوجة كالوطء حال الإحرام أو حال الحيض مع تحقّق الحمل في هذه الحال.. فإنّ هذه كلّها لا تساوق مفهوم الزنا شرعاً حتى لو كان بعضها محرّماً كما هو واضح، فهؤلاء الأولاد لا يُحرمون شرعاً من شيء ممّا يُحرم منه ابن الزنا، على تفصيل في ابن الملاعنة في قضيّة الإرث كما هو معروف.
ونقدّم بدايةً بالموضوعين (الوصفين) المشار إليهما؛ لأنّهما مفتاح ما بعدهما.
1 ـ الانتماء الأسري لولد الزنا
يستوحى من الموروث الفقهي أنّ ابن الزنا ليس ولداً شرعيّاً؛ لهذا فلا تترتّب آثار البنوّة الشرعيّة عليه، فلا يُلحق بوالديه أو بأبيه، فالحديث الشريف يقول: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»([1])، وهذا معناه أنّه لا توجد للزاني أيّ نتيجة من فعله سوى الحجر، فلا يُلحق به ولدُه، وليست الأسرة الشرعيّة إلا تلك التي تكون ناتجةً عن الفراش، أي عن سرير الزوجيّة لا غير.
كما أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ ابن الزنا (لِغَيّة)([2])، أي وكأنّه لا أثر له، إنما هو ابن زنية، لا قيمة له، وهو ساقطٌ عن الاعتبار، وهذا معناه أنّ الشرع سلب منه مقوّمات الارتباط الأسري، فأصبح بلا أسرة.
إلا أنّ بعض المتأخّرين ـ وعلى رأسهم السيد الخوئي ـ ذهبوا إلى أنّ مفاهيم الأبوّة والبنوّة والأمومة والأخوة والعمومة و.. هي عناوين واقعيّة تكوينيّة لم تقم الشريعة بوضعها، وكلّ ما فعلته الشريعة أنّها لم تورّث ولد الزنا، وهذا غير نفي إلحاق ولد الزنا بأبيه حتى نقتلعه من مناخه الأسري، فالصحيح ترتيب كلّ الآثار الأسريّة على ولد الزنا عدا الإرث؛ لورود النصّ فيه([3]).
وأمام هذا المشهد المنقسم يمكننا التعليق:
أولاً: إنّ النبويّ المعروف: «وللعاهر الحجر»، والوارد من طرق السنّة والشيعة، يؤسّس لقاعدة فقهيّة معروفة، وهي قاعدة الفراش، وهذه القاعدة ينحصر موردها، كما هو سياق هذه الروايات جميعاً تقريباً، بحالة الزنا بامرأة متزوّجة أو مملوكة، ففي هذه الحال حَرَمَت الشريعةُ ـ عند الشك ـ الزاني من نسبة الولد إليه، وقالت: كلّما كان بالإمكان نسبة الولد إلى زوج المرأة الشرعي أو مالكها على تقدير كونها أمةً، كان هذا هو المتعيّن، فيما لا ينال الزاني شيئاً، كما يقال: ألقم حجراً، وليس له إلا التراب، بمعنى أنّه لن يحظى بشيء.
ومن الواضح أنّ هذه القاعدة الفقهيّة لا تهدف إلى نفي الترابط بين ابن الزنا وأسرته أبداً، وإنّما تهدف إلحاق الولد بالفراش عند الشك، وأين هذا مما نحن فيه، حتى نقفز من هذه الدائرة الضيّقة لمعنى عام؟! وقد أبطل العلماء في محلّه ما نُسب إلى الإمام أبي حنيفة ـ انسجاماً مع هذا الفهم غير الصحيح للحديث ـ حيث عمّمه إلى حالة اليقين بانتساب الولد للزاني.
وعليه، فالحديث النبويّ والنصوص المستندة إليه لا يمكن الجزم بانعقادها على ما هو أوسع من هذا، بل غايته اختصاص النصّ بحال كون المرأة المزنيّ بها متزوّجةً أو أمةً، لا مطلقاً؛ بقرينة إقحام الفراش هنا، وليس الحديث بصدد حصر الولديّة بالفراش، فهذا غير مُحْرَز من سياقاته.
وبعبارة أخرى: إنّ الحديث النبويّ لا يُحرز صدوره بصدد بناء قانون عام مطلقاً في أنّ الولد لا يُنسب لأهله إلا عبر الفراش، فيما لا ينال الزاني شيئاً، بل من المحتمل جداً ـ بقرينة أغلب، وربما كلّ، موارد ورود هذا الحديث سنّياً وشيعياً ـ أن يكون المراد منه حالة الزنا بالمتزوّجة أو الأمة، فيلحق الولد بالزوج لا بالزاني.
ولهذا كلّه، وجدنا فريقاً كبيراً في الفقه السنّي يعترف بالعلاقة النسبيّة بين الولد وأمّه دون العلاقة بينه وبين أبيه([4])، ولعلّ هذا يكون مؤشراً لكون السبب هو أنّ علاقته بأمّه واضحة، بخلاف علاقته بأبيه الزاني، حيث لا فراش، كما لا توجد معطيات علميّة قاطعة بالنسب في تلك العصور بالخصوص.
وربما لهذا أيضاً نُسب إلى بعض القدماء أنّه كان يرى إلحاق الولد بأبيه الزاني إذا لم تكن الأم في فراش الزوجيّة أو الملك، واستلحقه الزاني بنفسه، مثل إسحاق بن راهويه، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي في رواية([5])، وعطاء بن أبي رباح، وهو اختيار الشيخ ابن تيمية([6])، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا أرى بأساً إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوّجها مع حملها ويستر عليها، والولد ولدٌ له([7]). ويستند بعضهم إلى ما رواه سليمان بن يسار، من أنّ عمر بن الخطاب كان يليط ـ أي يُلحق ـ أولاد الجاهلية بمن ادّعاهم في الإسلام([8])، حيث فهمه بعض على أنّه محاولة من عمر لحلّ مشكلة أولاد الزنا في الجاهليّة.
ولعلّ التأمّل في عدم إلحاق ولد الزنا بالزاني في حالة كون المرأة فراشاً بالزوجيّة أو الملك لشخص آخر شرعي، هو أنّهم في تلك الأزمنة قليلاً ما كانوا يتمكّنون من التأكّد من نسبة الولد إلى الزاني تكويناً، فكان يُلحق بالحالة الغالبة، إضافةً إلى أنّ ذلك نوعٌ من العقوبة للزاني وإدراج للولد في أسرة متكوّنة شرعيّة، وإلا فلو تيقّنّا من أنّه ولده ولو عبر الفحوصات العلميّة الدقيقة، فاللازم هو الأخذ بالحكم القرآني في حرمة نسبة الولد لغير أبيه وحرمة التبنّي في هذه الحال، وادّعاء الولد لنفسه، مع أنّه ابن الزاني، لهذا يجب النظر في هذا الموصوع هنا من هذه الزاوية أيضاً وتفصيله في محلّه في مباحث الأنساب وللمسألة صور تتصل بالملاعنة وغيرها.
ونحن لو تأمّلنا قاعدة الفراش في الفقه الإسلامي لوجدنا مسارها واضحاً في حالة وجود زوجيّة أو ما هو بحكمها، فقد اختلف الفقهاء في حالة الدوران بين فراشين، كما لو طلّقت المرأة ثم تزوجّت بآخر، فولدت ولداً بعد زواجها الثاني بستة أشهر، فبأيّ الفراشين يتمّ الإلحاق؟ وكما لو حكمت القيافة بنسبة الولد لغير الفراش، وأنّ ذلك لا قيمة له؛ لأنّه مجرّد ظنون، ولهذا قالوا بأنّ الزوج لا يمكنه نفي الولد عنه إلا باللعان إذا انطلق من يقينه بعدم كون الولد له، فاللعان حكم قضائي يرفع قاعدة الفراش نتيجة يقين الزوج بعدم النسبيّة بينه وبين الولد، ولا يمكن تحميله هذا النسب قهراً عليه. ومراجعة تطبيقات قاعدة الفراش تشرف بالإنسان على اليقين باختصاص موردها بحال وجود زوجيّة مسبقة وأمثالها، مع عدم العلم أو قيام الحجّة القضائية على نفي الولد عنه، فهذه القاعدة حكم ظاهري قضائي عام في حال عدم العلم بالنسبيّة مع وجود فراش الزوجيّة.
يضاف إلى ذلك أنّ القائلين بقطع العلاقات النسبيّة يلزمهم مبدئيّاً ترتيب تمام الآثار مثل إلغاء ثبوت الدية على العاقلة في موارد قتل الخطأ، وعدم ترتيب آثار الهاشمية عليه لو كان الزاني هاشميّاً، وإسقاط النفقة عن الأب (والأم) تجاه هذا الولد، وبالعكس، وسقوط ولايتهم عليه مطلقاً، وقضايا الرضاع والحضانة وبعض أحكامهما، وبعض قضايا ملك اليمين كما لو ملك أحد العمودين، ومسألة قتل الوالد بولده في باب القصاص، ونحو ذلك. كما يلزمهم اعتبار هذا الولد فاقداً لأيّ أسرة إطلاقاً لو عمّموا قطع النسب للأب والأم معاً ولا فراش في البين، وهذا يعني أنّ هذا الولد لن يمكن بسهولة إصدار هويّة شخصيّة له تنسبه لوالده أو لوالديه معاً على اختلاف الآراء في نسبته لأمّه.. وفي ذلك الكثير من التأثيرات التي تقع على الطفل، والتي ينبغي التنبّه لها. ولا نريد اعتبارها دليلاً على بطلان هذه الفكرة، بقدر ما هي منبّه. ولهذا اضطربوا في كثير منها لمحاولة وضع حلّ لها فلتراجع بحوثهم، لاسيما في الفقه السنّي.
يضاف إلى ذلك أنّ القول بنسبته للأمّ دون الأب، يعني أنّ الأم ستتحمّل مسؤوليّة الولد، وسيعفى الزاني من تحمّل هذه المسؤولية، ونخلي مسؤوليّته من هذا الأمر، وهذه أيضاً ظاهرة اجتماعيّة قد لا يجدها الإنسان متناسبةً مع الفضاء التشريعيّ في الإسلام، لاسيما لو كانت الأم زانيةً أيضاً.
ثانياً: إن تعبير (لغية) لا يُفيد سقوط الولد عن الاعتبار قانونيّاً، بل هو توصيف؛ لأنّ الرواية تقول: الولد لغيّة لا يورث، ومعنى ذلك أنّ الولد الذي يكون لزنيةٍ وضلالة لا يورث، فكلمة (لغيّة) مثل كلمة (لزنية) لا فرق بينهما، فلا تفيد في حدّ نفسها سوى توصيفه بأنّه ولد نزوةٍ وسقطةٍ وزنا، لا غير، ولا أقلّ من عدم ظهور الحديث في غير ذلك، وسيأتي التعليق على هذا الحديث بالتفصيل عند الكلام عن إرث ولد الزنا إن شاء الله.
ثالثاً: إنّ ما ذكره السيّد الخوئي من واقعيّة هذه التوصيفات صحيحٌ، بمعنى أنه لو فسّرنا الأبوّة بأنّه من وُلِدَ من منيّه الولد، لكان هذا توصيفاً واقعياً، إلا أنّ كلامنا ليس في هذا، وإنّما في ترتيب آثار الأبوّة على الزاني، أو البنوّة على ولد الزنا، فكلام السيد الخوئي ينفع في مقابل دعوى أصالة عدم الأبوّة حتى تثبت بنصّ، ولا ينفع في مورد القول بأنّ الشريعة يمكنها نفي الأبوّة ادعاءً واعتباراً، استطراقاً لنفي تمام آثارها، فإنّ هذا من حقّ الشارع. وتكوينيّةُ الأبوّة لا تمنع منه هنا؛ وعمدة دليل القائل بالنفي هنا هو ورود النصّ المسقِط لاعتبار الأبوّة، لا عدم ورود النصّ المثبت للأبوّة، فلاحظ.
وعليه فضمّ كلام السيد الخوئي، مع الإطلاقات والعمومات، الواردة في الأبواب المختلفة، إلى جانب ما سجّلناه من ملاحظات آنفاً على أدلّة النافين للعلاقة الأسريّة.. هذا بمجموعة هو الدليل المثبت لقيام هذه العلاقات.
قد يقال: بأنّ سبب الإرث هو النسب، فلو نفي الإرث فمعنى ذلك نفي النسب.
ولكنّه يمكن الجواب عنه بما أفاده العلامة فضل الله، من أنّ النسب مقتضٍ للإرث، فلا يؤثر أثره إلا إذا لم يمنع الشارع عن تأثير المقتضي فيما يقتضيه([9])، والأمر بيد الشارع في ذلك؛ لأنّ هذه العلاقات ـ أعني العلاقة بين النسب والإرث ـ ليست تكوينيّةً، بل هي اعتباريّة قانونيّة، كما هو واضح، فيمكن للشارع الإقرار بالنسب مع الحرمان من الإرث، كما هو الحرمان بالحجب والقتل والكفر وغير ذلك مع الإقرار بالنسب في هذه كلّها.
ولعلّ ما ينبّه على صحّة ما توصّلنا إليه هو أنّ فريقاً كبيراً من فقهاء المسلمين لا يجيز لولد الزنا أن ينكح أحد محارمه المفترضين في الأسرة التي هو منها واقعاً، بمعنى أنّه لو زنا شخص بامرأة، فولدت بنتاً، يحرم على الزاني نكاح هذه البنت، وكذلك يحرم على أولاده نكاحها، وهكذا، مع أنّ المفروض أنّ علاقة النسبيّة قد تلاشت وفقاً للادّعاء الفقهي المشهور، ولهذا يميّز بعض فقهاء أهل السنّة فيقولون بأنّ ولد الزنا هو ولد تحريم، وليس ولَدَ محرميّة، لكي يحرّموا عليه النكاح في أقربائه الذين سلبت عنهم سمة القرابة بالنسبة إليه شرعاً.
وليس هناك دليل صريح وواضح في هذه التمييزات، فإذا سُلبت العلاقة النسبية تماماً فكيف عرفنا أنّه لا يجوز له النكاح في أقاربه الواقعيّين الذين سلبت قرابتهم عنه؟! والأدلّة التي ذكروها كثير منها استحسانيّ. والغريب أنّهم استدلّوا بنصوص قرآنية تعترف ضمناً بكون الولد ابناً للزاني والزانية وأمثال ذلك، مع أنّهم نفوا عنه هذه الصفة شرعاً، وما ذلك في تقديري إلا لتضارب الأمر عندهم وشعورهم بصعوبة هذه النتائج التي وصلوا إليها، ولهذا تجد من يعتبر التحريم هنا احتياطاً في الفروج، ولا أدري ما هو موجب الاحتياط اللزومي في خصوص هذا المورد مع ثبوت الدليل على قطع النسبيّة دون سائر الموارد الأخرى التي لم يحتاطوا فيها! ولهذا تجد من أدرجها في الربيبة وألحقها بها، على أساس أنّها بنت موطوءته([10])، مع أنّه لا يوجد في الإسلام شيء اسمه حرمة بنت الموطوءة إذا لم يكن هناك عقد نكاح مع هذه الموطوءة أساساً، حيث نصّ القرآن على كون أمّها ﴿مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾، والمفروض أنّ الموطوءة هنا ليست زوجةً له، بل لو صحّ هذا القول للزم تحريم نكاح الزاني في سائر بنات المزنيّ بها ولو من غيره، ولا أظنّ أحداً يقول بذلك.
وفي تقديري، فما ذهب إليه بعض الشافعية، وبعض المالكية([11])، من تجويز هذا النكاح بين الزاني وابنته الواقعيّة هو الأنسب بمبانيهم والمنسجم مع نظرياتهم.
وعليه، فلو تيقّنا من أنّها ابنته واقعاً بالأدلّة العلميّة، لزم الترخيص في أن يتزوّج منها وفقاً لقانون فكّ النسبيّة! وربما هذا منبّه على بطلان مثل هذه النظريات الفقهيّة، وعلى فهم قانون الولد للفراش بطريقة غير صحيحة، فالنبيّ لم يكن يريد فكّ العلاقات الواقعيّة النسبيّة، بل كان يريد أن لا نعمل بالاحتمالات والظنون التي ترفع نسبة الولد إلى فراش الزوجيّة وتلغيها، تنظيماً للأمور وتقديماً لفراش الزوجيّة على غيره.
فالصحيح ترتيب تمام آثار العلاقات الأسريّة من المحرّمات والرخص على ولد الزنا، إلا ما خرج بالدليل، كما أنّ الأصل طهارة المولد مع احتماله، وعليه فلا يدفع الأب زكاته له، إذ إنّه ولده تجب عليه نفقته، ولا تدفع الزكاة لمن تجب نفقته على الدافع، وكذلك تجري فيه أحكام العقيقة، وسائر أحكام الأولاد والنفقات والمحارم والأنكحة وغير ذلك، إلا ما خرج بالدليل.
2 ـ الانتماء الديني لولد الزنا (إسلام ولد الزنا)
من الواضح أنّ لولد الزنا حالات:
1 ـ أن لا يبلغ سنّ العقل واتخاذ قرارٍ تديّني، كما لو كان طفلاً صغيراً، وكان والداه كافرَين، وقد حكموا هنا بإلحاقه بهما، والحكم بكفره.
2 ـ أن يكون ولو أحد والديه الزانيين مسلماً، ويبلغ هو سنّ الرشد والعقل، فيكفر بالله ورسوله، ومن الواضح هنا أيضاً الحكم بكفره.
3 ـ أن يكون ولو أحد والديه الزانيين مسلماً، ويكون هو صغيراً.
4 ـ أن يكون والداه كافرين أو مسلمين أو أحدهما مسلماً، ويبلغ الولد سنّ العقل فيُسلم ويتشهّد الشهادتين.
وهنا يُسأل ـ في الحالة الثالثة والرابعة ـ: هل يُحكم بإسلامه إلحاقاً له بأحد والديه المسلمين أو عملاً بشهادته الشخصيّة أو أنّه رغم ذلك يُحكم بكفره وترتيب آثار الكفر عليه؟
ذهب الشيخ ابن إدريس الحلّي (598هـ) إلى الحكم بكفر ابن الزنا، في رأيٍ مخالف لجمهور العلماء، ورتّب على ذلك مجموعةً من الأحكام، كتحريم مناكحته؛ لأنّ القرآن حرّم نكاح الكافر، وعدم اعتبار شهادته، وعدم اعتبار عتقه، فإنّ هذه كلّها مشروطة بعدم الكفر، وابن الزنا كافر([12]).
وإذا صحّت هذه النظرية فقد تفسّر كلّ الأحكام التي قيلت في ولد الزنا، مثل منعه من حقّ المرجعيّة والولاية والقضاء وإمامة الجماعة والجمعة والإرث والشهادة وغير ذلك، حيث يرى الفقهاء سلب هذه الأمور عن الكافر، في الرأي المعروف بينهم.
وقد نُسب القول بكفر ونجاسة ولد الزنا إلى السيد المرتضى والشيخ الصدوق أيضاً، بل ادّعي نفي الخلاف فيه والإجماع عليه([13]).
والمستند في الحكم بكفر ولد الزنا ما دلّ على نجاسته، وهو ما يلي:
1 ـ خبر الوشاء، عن الصادق×: «أنه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ من خالف الإسلام، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب»([14]).
2 ـ خبر ابن أبي يعفور: «لا تغتسل من البئر التي يُجمع فيها غسالة الحمام؛ فإنّ فيها غسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء..»([15]).
3 ـ خبر الديلمي، عن الصادق× وجاء فيه: «إنّ ولد الزنا يقول يا ربّ فما ذنبي؟! فما كان لي في أمري صنع! فيناديه منادٍ ويقول به: أنت شرّ الثلاثة، أذنب والداك فنشأت عليهما، وأنت رجس ولن يدخل الجنّة إلا طاهر»([16]).
وهذا الحديث ورد عن أبي هريرة في كتب أهل السنّة أيضاً، بمضمون قريب يثبت كونه أشرّ (أو شرّ) الثلاثة([17]). ولكن ورد اعتراض من عائشة على أبي هريرة في هذا الحديث، كما نقلت عائشة وابن عباس أنّه يكون شرّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه لا مطلقاً، وأنّ أبا هريرة التبس عليه الأمر في الموضوع([18]). وقد أكثروا من التأويلات في معنى هذا الحديث فليراجع حتى لا نطيل بتتبّع بعضها ممّا هو من التكلّفات. وقد روي عن الحسن البصري أنه قال بأنّه إنّما سمّي ولد الزانية شرّ الثلاثة لأنّ أمّه قالت له: لست لأبيك الذي تُدعى به، فقتلها؛ فسمّي شرّ الثلاثة([19]). فتكون الجملة إشارة إلى شخص بعينة وإلى حادثة بعينها، لا إلى مطلق ولد الزنا.
4 ـ خبر زرارة، عن الباقر× قال: «لا خير في ولد الزنا، ولا في بَشَره، ولا في شعره، ولا في لحمه، ولا في دمه، ولا في شيء منه، عجزت عنه السفينة وقد حُمل فيها الكلب والخنزير»([20]).
5 ـ خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: «لبن اليهوديّة والنصرانية والمجوسية أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا، وكان لا يرى بأساً بلبن ولد الزنا إذا جعل مولى الجارية الذي فجر بالجارية في حِلّ»([21]).
6 ـ خبر علي بن الحكم، عن أبي الحسن× ـ في حديث ـ أنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، ويغتسل فيه ولد الزنا، والناصب لنا أهل البيت، وهو شرّهم»([22]).
7 ـ خبر إبراهيم بن أبي زياد الكرخي، عن الصادق× قال: «علامات ولد الزنا ثلاث: سوء المحضر، والحنين إلى الزنا، وبُغضنا أهل البيت»([23]).
8 ـ خبر أبي خديجة، قال: سمعت أبا عبدالله× يقول: «لا يطيب ولد الزنا أبداً، ولا يطيب ثمنه أبداً»([24]).
9 ـ خبر أبي خديجة الآخر، عن أبي عبدالله× قال: «لو كان أحد من ولد الزنا نجا، نجا سائح بني إسرائيل»، قيل له: وما كان سائح بني إسرائيل؟ قال: «كان عابداً، فقيل له: إنّ ولد الزنا لا يطيب أبداً، ولا يقبل الله منه عملاً، فخرج يسيح بين الجبال، ويقول: ما ذنبي؟!»([25]).
10 ـ مرسل العياشي، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله× قال: «إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا»([26]).
11 ـ خبر نصر الكوسج، عن مطرف مولى معن، عن أبي عبد الله×، قال: «لا يدخل حلاوة الإيمان قلب سنديّ، ولا زنجي، ولا خوزيّ، ولا كرديّ، ولا بربريّ، ولا نبك الريّ، ولا من حملته أمّه من الزنا»([27]).
12 ـ خبر سعد بن عمر الجلاب، قال: قال لي أبو عبد الله×: «إنّ الله تعالى خلق الجنّة طاهرة مطهّرة، فلا يدخلها إلا من طابت ولادته»، وقال أبو عبد الله: «طوبى لمن كانت أمّه عفيفة»، وورد مضمونه في خبر عبد الله بن سنان أيضاً([28]).
13 ـ خبر عبد الله بن عمرو، عن النبي قال: «لا يدخل الجنّة ولد زنية، ولا منّان، ولا عاقّ، ولا مدمن خمر»([29]). وروي مرفوعاً عن مجاهد عن أبي هريرة. وروي قريب منه عن أبي هريرة بأنّه لا يدخل الجنّة، ولا ولده ولا ولد ولده([30]).
وهذا الحديث قال فيه الملا علي القاري: «زعم ابن طاهر وابن الجوزي أنّ هذا الحديث موضوع، لكن رواه أبو نعيم في الحلية عن مجاهد عن أبي هريرة به مرفوعاً، وأعلّه الدارقطني بأنّ مجاهداً لم يسمعه من أبي هريرة»([31]).
وقال العجلوني: «لا يدخل الجنّة ولد زنية. رواه أبو نعيم عن أبي هريرة مرفوعاً، وأعلّه الدارقطني بأنّ مجاهداً لم يسمعه من أبي هريرة، وقال في المقاصد: وأخرجه أبو نعيم والطبراني والنسائي لكن باضطراب، بل روي عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما بيّنت ذلك في جزء مفرد، وزعم ابن طاهر وابن الجوزي بأنّ الحديث موضوع، وليس بجيّد، ورواه النسائي أيضاً عن عبد الله بن عمرو بلفظ: لا يدخل ولد زنية الجنّة، قال الحافظ ابن حجر: فسّره العلماء ـ على تقدير صحّته ـ بأنّ معناه: إذا عمل بمثل عمل أبويه، واتفقوا على أنّه لا يُحمل على ظاهره، وقيل في تأويله أنّ المراد به من يواظب الزنا، كما يقال للشهود بنو صحف وللشجعان بنو الحارث، ولأولاد المسلمين بنو الإسلام»([32]).
وقد ذكروا أنّ في السند سالم عن نبيط عن جابان عن عبد الله بن عمرو، وأنّه لم يعلم لجابان سماع عن عبد الله، ولا لسالم سماع من جابان، ولا لنبيط([33]).
14 ـ خبر ميمونة بنت سعد، مولاة النبي، قالت: سئل رسول الله صل الله عليه وعلى آله وسلم عن ولد الزنا، قال: «لا خير فيه، نعلان أجاهد بهما في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أعتق ولد زنا»([34]).
15 ـ خبر أبي هريرة، قال: قال رسول الله: «لأن أمتع بسوط في سبيل الله عز وجل أحبّ إليّ من أن أعتق ولد زنية»([35]). وهذا الخبر تارةً نقل أنّه من قول أبي هريرة وأخرى مرفوعاً إلى رسول الله.
هذا كلّه مضافاً لما ورد في ديته وأنّها ثمانمائة درهم، فتساوي دية أهل الكتاب، بل قد صرّح في بعضها بأنّ ديته دية اليهودي كما سيأتي.
فإنّه لو ضممنا هذه كلّها إلى بعضها بعضاً، وأضفنا إليها حكم ولد الزنا في القضاء والشهادة وولاية الأمر والمرجعية وإمامة الجمعة والجماعة وغير ذلك.. يحصل العلم أو الحجّة بأنّه غير مسلم، بل هو ملحقٌ بالكافر، فيُحكم بترتيب آثار الكفر عليه.
إلا أنّ هذا المستند يتعّرض لمناقشات عديدة أبرزها:
أوّلاً: إنّ بعض هذه الروايات لا يفيد شيئاً في المقام، كمسألة السؤر (خبر رقم 1)؛ اذ قد يكون حكماً تعبديّاً لا يعني النجاسة ولا الحرمة، تماماً كالذي ورد في سؤر الحائض والجنب، وقد يكون مرتبطاً بالحزازة المعنويّة لا بالنجاسة.
وكذلك خبر تفضيل لبن المجوسية على ابن ولد الزنا (رقم 5)؛ فإنّ له علاقة باللبن الذي عند الأمّ (أمّ ولد الزنا) لا بولد الزنا نفسه، فيكون موضوع اللبن مرتبطاً بكونه متولّداً عن زنا، ولا تلازم بينه وبين أن يُحكم ولد الزنا بذلك، علماً أنّه على أبعد تقدير سيُحكم بنجاسة اللبن أو بحرمة إرضاع الولد منه، وهذا لا يلازم نجاسة ابن الزنا لو بلغ فأسلم وتشهّد الشهادتين.
وكذلك الحال في النهي عن الاغتسال بغسالة ماء الحمام (رقم 6)، فإنّه لا وجه لاعتبار ذلك من باب كفر ولد الزنا أو نجاسته، ولعلّه تنزّهاً عن كلّ ما يرتبط بالزنا، ويشهد له أنها ذكرت أيضاً غُسالة الزاني المغتسل نفسه، ولا فرق فيه بينه وبين غير الزاني من حيث النجاسة، ما لم نقل بنجاسة عرق الجنب من الحرام، واعتبار غسالته هذه هي تلك التي تتصل بفعله الزنا وتتعقّبه مباشرةً، بل في بعض هذه الروايات التعليل بأنّه يغتسل فيه المجنب مطلقاً، مع أنّ المجنب ليس بنجس، فتكون هذه النصوص إمّا تنزيهاً عن نجاسة عرضيّة أو تنزيهاً عن الغسالة مطلقاً، لا كشفاً عن وجود نجاسة ذاتيّة بالضرورة.
كما أنّ كون ديته مطابقة لدية الذمّي أو اليهودي، لا يعني كفره، وإن كان مؤشراً عليه ظنّاً، فهو حكم تعبّدي، ومجرّد التشابه ليس بدليل، وسيأتي بحثه، وإلا فهل كون دية المرأة أقرب إلى دية اليهودي دليلٌ على قربها من الكفر؟!
ثانياً: إنّ بعض هذه الروايات باطل متناً، ومخالف للقرآن الكريم ولحكم العقل، مثل خبر الديلمي (رقم 3)، وخبر أبي خديجة الثاني (رقم 9) وخبر الجلاب وغيرها من الأخبار، إذ كيف يحكم بعقابه ودخوله جهنّم فيما القرآن يجعل ـ في العديد من الآيات ـ المعيار في الخلاص هو الإيمان والعمل الصالح والتقوى وأنّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرّة وأنّه يجزى بعمله مهما كان قليلاً، مع أنّه لا علاقة له بما فعل أبوه وأمه؟!
بل كيف يُعقل أنّه لو تاب والداه دخلا الجنّة، فيما هو لا يدخل الجنة حتى لو تاب وآمن وعمل صالحاً؟! مع أنّه لو عصى لعصى بغير اختيارٍ منه، على خلافهما حيث عصيا باختيارهما.
فهذه الروايات لا يمكن تصديقها، ولو كانت معتبرة السند.
كما أنّ القرآن صريح بأنّ الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فكيف ذهبت جهود سائح بني إسرائيل وأمثاله سدى؟!
كما أنّ خبر نصر الكوسج باطل متناً، وواضحة عليه معالم النزعة القومية، فما معنى عدم دخول حلاوة الإيمان في قلوب الأكراد والبربر والزنج وغيرهم؟! وهل هذا يتوافق مع المناخ القرآني العام في التعامل مع البشر في قضايا الإيمان والدين؟!
ولنعم ما قال فيه المحقق العراقي حيث قال: «علامة الوضع في هذا الحديث ظاهرة؛ إذ لم تكن المنطقة ذات تأثير في نجابة إنسان أو شقائه. وإنّما كان يختلق أمثال هذه الأحاديث الكاذبة، من كان يروقه ضرب خصومه بسلاح الدين، فكان هذا يختلق حديثاً في ذمّ قبيلة خصمه، وذاك في ذمّ قبيلة هذا. وقد راجت سوق وضع الحديث يومذاك في ذم بلاد وقبائل ومدح بلاد وقبائل أخرى. أفترضى نفس ذكيّة مؤمنة الاعتماد على هكذا مخاريق؟»([36]).
ثالثاً: إنّ جملةً من هذه الروايات ضعيف السند، وما بقي لا ينفع، وذلك:
أ ـ أما من الناحية السنديّة، فخبر الوشاء مرسل؛ لأنّه رواه عمّن ذكره. وخبر ابن أبي يعفور ضعيفٌ بابن جمهور وبالإرسال أيضاً. وخبر الديلمي مرسل، مضافاً لضعف الديلمي نفسه المتهم بالغلوّ والكذب، والملحق به من خبر أبي هريرة لا يؤخذ به؛ لعدم الأخذ برواية أبي هريرة بعد ورود النص عن عائشة بنقد فهمه ونقله للحديث. وخبر علي بن الحكم هو مرسل؛ إذ رواه عن رجل، وخبر الكرخي ضعيف بابن مسرورٍ وغيره، وخبر أبي خديجة ضعيف بمحمد بن خالد البرقي، حيث لم تثبت وثاقته عندي([37]). وخبر العياشي ضعيف بالإرسال، وخبر نصر الكوسج ضعيف السند بالكوسج نفسه فهو مهمل جدّاً، وكذلك ورد في السند سهل بن زياد المتهم بالضعف. وخبر الجلاب وعبد الله بن سنان ضعيف السند بالحسن بن راشد، فلم تثبت وثاقته، كما وفي السند محمد بن علي الكوفي ولم تثبت وثاقته إن لم نقل بأنّه أبو سمينة الضعيف الكذاب، وخبر ميمونة ضعيف بأبي يزيد الضبّي (الضنّي)؛ حيث لم تثبت وثاقته، بل قد صرّحوا بكونه مجهولاً، وقد ضعّف ابن حزم إسرائيل الوارد في السند، وهذا الرجل فيه كلام أيضاً بينهم([38]). وتقدّم الكلام في بعض الأخبار الأخرى فلا نعيد. وحديث أبي هريرة الأخير لا نعمل به؛ نتيجة أبي هريرة نفسه حيث نتوقّف في حديثه.
.... يتبع