تواصل العنف في عامي 2001 و2002 رغم محاولات لجنة ميتشل وغيرها من أجل استعادة الهدوء وقد كان للهجمات الإرهابية التي استهدفت مركز التجارة العالمية في الولايات المتحدة يوم 11 أيلول 2001 آثارٌ وبيلة مباشرة على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. فمن جهةٍ أولى حاولت البلدان العربية والإسلامية الاستفادة من الحاجة إلى تعاونها في الحرب على الإرهاب بغية انتزاع تنازلات في صالح الفلسطينيين. ومن جهةٍ ثانية، بدأ كثير من الأمريكيين في النظر إلى الأعمال الإرهابية في ضوء جديد عندما بدأ الربط بين منظمات من قبيل حماس وحزب الله وبين جماعة القاعدة بزعامة أسامة بن لادن. وأما ما كان له أثر مؤذٍ متميز على الفلسطينيين فهو المظاهرات التي خرجت تأييداً لابن لادن والأدلة التي ربطت بين سفينة اعترضتها إسرائيل (اسمها كارين آ) كانت تحمل أسلحة مهربة وبين الدعم الإيراني المقدم إلى السلطة الوطنية الفلسطينية. تم اعتراض هذه السفينة يوم 3 كانون الثاني 2002، وهو يوم وصول المبعوث الأمريكي أنتوني زيني من أجل محاولة التوصل إلى تسوية. وعلى ضوء هذه الصورة. بدا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمنحان إسرائيل مجالاً أوسع للتحرك ضد الفلسطينيين. نفذت إسرائيل اقتحامات متزايدة في المناطق الفلسطينية وحاصرت الرئيس ياسر عرفات في المجمع الرئاسي في رام الله. لكن الفلسطينيين قاموا بتصعيد هجماتهم ضد الجنود الإسرائيليين إضافةً إلى تصعيد التفجيرات الانتحارية.
اقتراحات السعودية السلمية وقرار الدولة الفلسطينية ـ طرح ولي العهد السعودي الأمير عبد الله اقتراحاً جريئاً من أجل إنهاء الحرب الطويلة بين العرب وإسرائيل مقابل انسحاب الإسرائيليين من المناطق الفلسطينية، ومقابل انسحاباً في الجولان مع ترتيبات ملائمة فيما يخص القدس واللاجئين. وقد جرى تبني هذا الاقتراح بعد تعديله ليكون أكثر وضوحاً فيما يخص مسألة اللاجئين في اجتماع الجامعة العربية؛ وفي النهاية جرى إدخاله ضمن خطة الطريق التي طرحتها اللجنة الرباعية. وفي 12 آذار 2002 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 1397 الذي دعا الأطراف إلى وقف العنف من جديد وتطرق إلى ذكر خطة الأمير عبد الله للسلام، وكذلك دعا للمرة الأولى منذ عام 1947 إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
عملية الجدار الواقي
لكن الإرهاب والهجمات الانتحارية وردات الفعل الانتقامية الإسرائيلية تواصلت في هذه الأثناء. أعلن ياسر عرفات وقف العنف عدة مرات، لكن هذا لم يكن ذا تأثيرٍ ظاهر على اشتداد التفجيرات الانتحارية والكمائن. أما الإسرائيليون فقد واصلوا من جانبهم سياستهم في اغتيال المطلوبين في المناطق الفلسطينية. وخلال الأسبوع الأخير من شهر آذار، أي حين كان الجنرال زيني على وشك الذهاب إلى الشرق الأوسط من جديد، كان الفلسطينيون ينفذون هجمة انتحارية ناجحة كل يوم تقريباً، إضافةً إلى الكثير من الهجمات الفاشلة. أدى تفجير في فندق بارك في ناتانيا إلى مقتل 27 شخصاً كانوا يحتفلون بأحد الأعياد الدينية اليهودية. ردت إسرائيل بغارة ضخمة أسمتها "عملية الجدار الواقي" أرادت من خلالها استئصال البنية التحتية للإرهاب، بما في ذلك إعادة احتلال رام الله ونابلس وجنين وطول كرم، وبلدات أخرى. زعمت إسرائيل أن 50 شخصاً فقط قتلوا في مخيم اللاجئين في جنين وأن أكثرهم أعضاء في كتائب شهداء الأقصى الانتحارية التابعة لحركة فتح. لكن الفلسطينيين اتهموا الإسرائيليين بارتكاب مجزرة في مخيم جنين قتلوا فيها أكثر من 500 شخص. وقد كرر هذه الاتهامات أكثر المصادر الإخبارية في أوروبا رغم تراجعها عنها فيما بعد. وقد قالت منظمات حقوق الإنسان التي دخلت مخيم جنين بعد الغزو الإسرائيلي إن فيه قدراً كبيراً من الدمار وإن من المرجح أن يكون جيش الدفاع الإسرائيلي قد ارتكب فيه جرائم حرب من خلال منع وصول المساعدة الطبية؛ لكنها قالت إن عدد القتلى لم يتجاوز الخمسين وإن أكثر من نصفهم إرهابيون. وبهذا أكدت الرواية الإسرائيلية عن الأحداث.
خفت الهجمات الانتحارية لكنها لم تتوقف. وخلال مجرى القتال وضعت إسرائيل يدها على وثائق كثيرة تدل على أن ياسر عرفات كان قد وافق شخصياً على تنظيم خلايا إرهابية، وكذلك على أن خزينة السلطة الوطنية الفلسطينية وافقت على دفع أموال من أجل شراء أحزمة ناسفة يستخدمها الانتحاريون. اعتقل الإسرائيليون أو قتلوا كثيراً من الأشخاص الذين شكوا في تورطهم في النشاطات الإرهابية. وقام جيش الدفاع الإسرائيلي أيضاً بإتلاف سجلات وأبنية وطرق وغير ذلك من البنية التحتية المدنية البريئة في المصارف والمنظمات غير الحكومية وغيرها من المنظمات التي من الواضح أن لا علاقة لها بالإرهاب. وفي وقتٍ لاحق من مجريات القتال تمكن جيش الدفاع من تحديد مكان وجود مروان البرغوثي الذي يقود "التنظيم" في فتح، واعتقلته. زعمت إسرائيل أن لديها أدلة على صلة البرغوثي بكثير من الأعمال الإرهابية. وفي النهاية قدمته إلى المحكمة فتلقى خمسة أحكام بالسجن المؤبد بسبب التواطؤ على القتل. ذهب منتقدو السياسة الإسرائيلية إلى أن من غير الممكن إنهاء العنف بالوسائل العسكرية في غياب التقدم باتجاه الحل السلمي. لكن عدد الهجمات الإرهابية الناجحة وتواترها راحا يتراجعان في أعقاب عملية الجدار الواقي، وذلك مع استخدام قوات الأمن الإسرائيلية المتزايد للمعلومات الاستخباراتية التي جمعتها خلال هذه العملية من أجل رصد الهجمات الإرهابية وإحباطها. لكن عدد محاولات شن تلك الهجمات لم يشهد تناقصاً كبيراً.
وقبيل نهاية عملية الجدار الواقي وصل إلى المنطقة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول لمحاولة وقف العنف فقد كان في حاجة إلى الهدوء في إسرائيل وفلسطين من أجل إتاحة المجال للولايات المتحدة لبناء تحالف ضد العراق. لكن مهمة باول لم تحقق شيئاً إذ لم يتمكن من جعل الإسرائيليين ينسحبون انسحاباً كاملاً من المناطق التي احتلوها ولم يتمكن من جعل الفلسطينيين يوافقون على وقف إطلاق النار. وقد أدى الغضب الشعبي والمظاهرات في البلدان العربية بفعل اتهام إسرائيل بارتكاب المجازر إلى دفع الأمم المتحدة إلى التحرك. وقد أمر قرار الأمم المتحدة رقم 1402 إسرائيل بالانسحاب الفوري. ومع مغادرة باول كان الجيش الإسرائيلي قد انسحب من بعض البلدات لكن ياسر عرفات كان لا يزال حبيس المقر الرئاسي في رام الله وكان الإسرائيليون يحاصرون كنيسة المهد في بيت لحم حيث التجأ فيها فلسطينيون مسلحون هرباً من جيش الدفاع الإسرائيلي. تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1403 الذي يعرب عن سخط المجلس لعدم تنفيذ القرار 1402. وفي 19 نيسان تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1405 الداعي إلى تشكيل فريق تحقيق محايد وإرساله للتحقق من صدق المزاعم الفلسطينية. اعترضت إسرائيل على تركيبة الفريق. لقد وافقت إسرائيل على التحقيق في البداية لكنها عادت عن موافقتها ومنعت إجراء تحقيق زاعمة أن تركيبة الفريق وإجراءات التحقيق غير منصفين بالنسبة لها وقالت إن الأمم المتحدة تراجعت عن الاتفاقات الأولية بشأن هذا التحقيق. كانت معارضة التحقيق في إسرائيل مدفوعة بذكريات مؤتمر دربان الذي لم يمض عليه وقت طويل إضافة إلى قرار الأمم المتحدة المشين "الصهيونية أحد أشكال العنصرية" الذي جرى استحضاره كثيراً في الجدل العام في إسرائيل.
قام رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون بزيارة الولايات المتحدة في أيار 2002 بضغط من الإدارة الأمريكية من أجل طرح برنامج سلمي يمكن أن يكون مقبولاً لدى الفلسطينيين والدول العربية. ناقش الزعيمان خطط عقد قمة إقليمية في وقت لاحق من عام 2002 وعرض الجانب الإسرائيلي وثائق زعم أنها تثبت تورط ياسر عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية في الأعمال الإرهابية. وقد وردت أثناء اجتماع بوش وشارون أنباء عن تفجير انتحاري قامت به حماس فقطع شارون زيارته وعاد إلى إسرائيل.
تم التوصل إلى حل لحصار مبنى المقاطعة (مقر الرئاسة الفلسطينية) وكنيسة المهد في أيار 2002. جرى إبعاد المسلحين في كنيسة المهد إلى قبرص وأوروبا. وأما بعض المطلوبين الذين كانوا في مجمع المقاطعة في رام الله فقد جرى حبسهم في أريحا؛ لكن من الواضح أن قسماً من المطلوبين ظل في المجمع. وقد زعم أن زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كان يتولى تنسيق الهجمات الانتحارية من زنزانة سجنه في أريحا. وتحت ضغط من أجل الإصلاح الديمقراطي، وقع ياسر عرفات في نهاية أيار القانون الأساسي، أو دستور الدولة الانتقالية الفلسطينية. وينص هذا القانون على أن القانون الفلسطيني قائم على مبادئ الشريعة الإسلامية.
وبعد موجة جديدة من الهجمات الانتحارية الفلسطينية في حزيران أعادت القوات الإسرائيلية احتلال معظم أنحاء الضفة الغربية. وسرعان ما زعمت الحكومة الإسرائيلية أن إعادة الاحتلال هذه لن تستمر من غير نهاية، لكنها عادت فأشارت إلى غير ذلك في وقتٍ لاحق. وألقى الرئيس بوش كلمة طال انتظارها تناولت سياسة الشرق الأوسط ودعت إلى قيام دولة فلسطينية، لكنها أصرت على ضرورة الإصلاح الديمقراطي في السلطة الوطنية الفلسطينية.
وفي شهري آب وأيلول 2002، أحبطت عدة محاولات لوقف إطلاق النار من جانب الفلسطينيين بفعل رفض الجماعات المتطرفة المشاركة فيها وبفعل الأعمال التي قامت بها إسرائيل من قبيل قتل صلاح شحادة الذي كان قائد الجناح العسكري في حماس، وذلك خلال غارة صاروخية على غزة سقط ضحيتها 13 مدنياً. حل محمد ضيف محل صلاح شحادة. مرت ستة أسابيع من شهري آب وأيلول هدأت فيها الهجمات الإرهابية والانتحارية الكبيرة مما سهل وضع خطة إسرائيلية فلسطينية من أجل إعادة السلطة الفلسطينية الكاملة في غزة وبيت لحم أولاً. لكن هذا فشل بعد عدد من الهجمات العنيفة في غزة. وفي أوائل شهر أيلول أحبطت قوات الأمن الإسرائيلية كثيراً من الهجمات الانتحارية وضبطت شاحنة تحمل أكثر من 600 كغ من المتفجرات وعبوات الغاز كان الفلسطينيون يعتزمون استخدامها في هجوم انتحاري.
انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في أيلول للموافقة على الوزارة الجديدة التي جرى اختيارها انسجاماً مع المساعي الإصلاحية. لكن أعضاء الحكومة في المجلس رفضوا المصادقة على الحكومة الجديدة حتى يقبل ياسر عرفات بوجود رئيس للوزراء يقاسمه السلطة. بدلاً من ذلك وافق عرفات على إجراء الانتخابات في كانون الثاني 2003 رغم الاحتلال الإسرائيلي. كانت شعبية عرفات في الحضيض. ولم تجر تلك الانتخابات أبداً.
انتهت فترة الهدوء النسبي بتفجير انتحاري في أم الفحم وفي حافلة في تل أبيب. ردت الحكومة الإسرائيلية بالهجوم على غزة ودخلت مدينة غزة نفسها كما حاصرت ياسر عرفات ومعه نحو 200 شخص في مبنى المقاطعة في رام الله. طالبت إسرائيل الفلسطينيين بتسليم الأشخاص المطلوبين الذين لجأوا إلى مبنى المقاطعة، وكان من بينهم رئيس الأمن الوقائي الفلسطيني توفيق طيراوي. ظل عرفات على عناده. وقامت إسرائيل بتدمير جميع مباني مجمع المقاطعة باستثناء المبنى الرئيسي، لكنها وعدت بعدم إيذاء عرفات. وبعد سريان شائعة قالت إن إسرائيل تعتزم نسف مبنى المقاطعة انطلقت مظاهرات ضخمة في الضفة الغربية وغزة سقط فيها 4 قتلى. ضغطت الولايات المتحدة على إسرائيل لكي تتوقف عن تدمير المباني في مجمع المقاطعة وتنسحب. استمر الحصار الإسرائيلي رغم قرار الأمم المتحدة. شهدت شعبية عرفات زيادة كبيرة لدى الفلسطينيين. رفع الحصار في النهاية لكن عرفات ظل محتجزاً ومعزولاً في رام الله. جرى فرض حصار جديد في الخريف. وفي نيسان 2002 أطلقت الحكومة الأمريكية سلسلة مشاورات مع مجموعة من الدبلوماسيين صارت تعرف باسم "اللجنة الرباعية". وضعت هذه اللجنة خطة طريق فيما يخص الاستيطان تتضمن انسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية.
وفي تشرين الأول 2002 انسحب حزب العمل من حكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية. دعا رئيس الوزراء آرييل شارون إلى انتخابات فورية تجري في 28 كانون الثاني. وفي الانتخابات حظي حزب شارون، الليكود، بتفويضٍ ساحق لمواصلة السياسات المتشددة إزاء الفلسطينيين. رفض حزب العمل الإسرائيلي تشكيل حكومة وحدة وطنية. وواصلت إسرائيل احتلال معظم أجزاء الضفة الغربية.
وخلال هذه الفترة واصلت الولايات المتحدة حشد القوات من أجل غزو العراق، وواصلت مع شركائها في اللجنة الرباعية طرح خطة الطريق من أجل السلام في الشرق الأوسط. قام أعضاء اللجنة الرباعية، الولايات المتحدة خاصةً، بالضغط على الفلسطينيين من أجل الالتزام بالإصلاح الشامل في حكومتهم الذي من شأنه أن يقضي على الفساد وعلى دعم الإرهاب. وقد اقترح أن يتولى محمود عباس (أبو مازن) رئاسة الوزراء. بحيث يطغى حضوره على ياسر عرفات الذي مازال يتمتع بالشعبية.