منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

  فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69754
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

 فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Empty
مُساهمةموضوع: فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران    فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Emptyالثلاثاء 26 أكتوبر 2021, 11:56 am

فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران

في 19 آب/أغسطس عام 1953، سيطرت وحداتٌ من الجيش الإيراني على المراكز الحسّاسة في العاصمة طهران مُعلنة الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مُصدّق، وذلك بعد معركة دامية دارت على مشارف بيته مع الوحدات العسكريّة التي بقيت على ولائها له. جاء هذا الانقلاب بعد ما يزيد عن عامين على قرار البرلمان الإيراني بتأميم أصول الشركة «الأنجلو إيرانية» الذي أنهى احتكارها لإنتاج النفط في البلاد، وهو القرار الذي فتح الباب أمام سلسلة من التطوّرات التي عصفت بإيران وحدّدت ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

 تستعرض هذه الدراسة، التي نشرت في ثلاثة أجزاء، فصولًا من تاريخ إيران في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان الصراع على النفط في صُلبه، وصولا إلى الانقلاب على حكومة مُصدّق والذي مهّد الطريق لزلزال الثورة الإسلاميّة التي أطاحت بالنظام الملكيّ في العام 1979، ليكون بذلك أحد أهم الأحداث التي شكّلت المنطقة في النصف الثاني من القرن.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69754
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

 فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران    فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Emptyالثلاثاء 26 أكتوبر 2021, 12:00 pm

فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (1): بزوغ سؤال السيادة
في مثل هذا اليوم من العام 1953، سيطرت وحداتٌ من الجيش الإيراني على المراكز الحسّاسة في العاصمة طهران مُعلنًة الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مُصدّق، وذلك بعد معركة دامية دارت على مشارف بيته مع الوحدات العسكريّة التي بقيت على ولائها له. جاء هذا الانقلاب بعد ما يزيد عن عامين على قرار البرلمان الإيراني بتأميم أصول الشركة «الأنجلو إيرانية» الذي أنهى احتكارها لإنتاج النفط في البلاد، وهو القرار الذي فتح الباب أمام سلسلة من التطوّرات التي عصفت بإيران وحدّدت ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

تستعرض هذه الدراسة، التي تُنشر في ثلاثة أجزاء، فصولًا من تاريخ إيران في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان الصراع على النفط في صُلبه، وصولًا إلى الانقلاب على حكومة مُصدّق والذي مهّد الطريق لزلزال الثورة الإسلاميّة التي أطاحت بالنظام الملكيّ في العام 1979، ليكون بذلك واحدًا من أهم الأحداث التي شكّلت المنطقة في النصف الثاني من القرن. 

***

عام 1901، منح الشاه القاجاريّ مُظفّر الدين، امتياز التنقيب عن النفط في بلاد فارس لرجل أعمالٍ إنجليزيّ أستراليّ يُدعى وليام نوكس دي آرسي. وبعد مجموعة من المُحاولات التي خاضها فريقه للكشف عن الخام الأسود هناك، والتي كلّفته جزءًا من ثروته التي جمعها من مُغامراته الرابحة في مناجم الذهب في أستراليا أواخر القرن التاسع عشر، استيقظ دارسي في يومٍ ربيعيّ من أيّام العام 1908 على برقيّة تزفّ إليه نبأ اكتشاف النفط أخيرًا بالقرب من قرية «مسجد سليمان» غربيّ فارس.

إذا كان نبأ اكتشاف النفط في فارس قد حمل السرور لقلب دارسي، فإنّه لم يُستقبل بنفس القدر من الحفاوة لدى كبار رجال الصناعة في مكاتب الشركات النفطيّة العملاقة. ففي مطلع القرن العشرين، كانت الحفنة الصغيرة من الشركات النفطيّة الأمريكيّة والبريطانيّة والهولنديّة والألمانيّة، التي كانت تُهيمن على إنتاج النفط وتكريره وتوزيعه حول العالم، ترى في اكتشاف موارد نفطيّة جديدة ودخولها إلى السوق، تهديًدا لنظام «الكارتيل» الذي فرضته للتحكّم بالأسعار من خلال تحالفاتها التجاريّة في آسيا وأوروبا والقارّة الأمريكيّة.

وتُوضّح التفاصيل المأخوذة من السجلات الرسميّة والمراسلات التجاريّة والدبلوماسيّة بين الأطراف المعنيّة في تلك الحقبة، كيف كانت الشركات تُدبّر المكائد فيما بينها لشراء الامتيازات النفطيّة الجديدة بغية تعطيل تطوير مواردها، وكيف أنّ سعيها للسيطرة على الحيّز الجغرافيّ الذي كانت تَشغَلُه تلك الامتيازات،[1] كان يرمي بحدّ ذاته إلى منع احتماليّة إنشاء خطوط أنابيب أو سكك حديديّة تنقل النفط من مناطق الإمبراطوريّة الروسيّة المُطلّة على بحر قزوين إلى سواحل الخليج جنوبًا أو سواحل البحر المتوسّط غربًا.

وعلى سبيل المثال، فقد اشترى بنك «دوتشه» الألمانيّ من الإمبراطوريّة العثمانيّة امتياز التنقيب عن النفط في شمال العراق في العام 1904، واشترت شركة «بورما أويل» البريطانية حصّة من امتياز دارسي في فارس عام 1905، رغم أنّها لم تكن متحمّسة له بالمعنى التجاريّ، وذلك خشية التهديد الذي قد يُشكّله نقل النفط الروسيّ عبر بلاد فارس على احتكار الشركة لسوق الهند.[2] 

لم يُواجه وليام دارسي مشكلة تمنّع الشركات النفطيّة الكبرى عن تبنّي مشروعه فقط، بل كان يُواجه أيضًا مشكلة أخرى تتمثّل في طبيعة النفط الذي اكتشفه فريقه بالقرب من «مسجد سليمان». فقد كان النفط المُستخرج من الآبار هناك من النوع الثقيل،[3] الأمر الذي كان يعني عمليًّا عدم إمكانيّة تحويله إلى وقودٍ للإضاءة وتسويقه، وهو بالتالي ما وضع شركة دارسي على حافّة الإفلاس في نهاية المطاف.

ولمّا كان هذا النوع من النفط أكثر ملاءمة للمُحرّكات الثقيلة، فقد نَشَطَ دارسي بدأب في مناشدة الحكومة البريطانيّة لتشتري نفطه لأسطول البحريّة البريطانيّ الذي كان لا يزال يعتمدُ على الفحم بشكلٍ كبير آنذاك.[4] 

ومع أنّ الحكومة البريطانيّة لم تُلقِ بالًا في البداية لمناشدات دارسي، إلا أنّ موقفها من استثماره تغيّر بالكامل بعد فترة وجيزة. فقد كان ونستون تشرشل، أدميرال (قائد أسطول) البحريّة البريطانيّة في ذلك الوقت، يحثّ الخطى لتحويل الأسطول البريطانيّ من العمل على الفحم إلى العمل على الوقود، وبناء سفنٍ حربيّة جديدة بمُحركاتٍ أقوى، وذلك لضمان الحفاظ على قوّة الأسطول الضاربة وتفوّقه العسكريّ في المعارك البحريّة. ولأنّ نُذر الحرب بين القوى العظمى كانت قد بدأت تلوح في الأفق، فقد كان هاجس تشرشل أيضًا تأمين احتياجات بريطانيا النفطيّة والحفاظ على احتياطيّ ضخم منها في البرّ الإنجليزيّ، لحماية بريطانيا من ألاعيب وابتزاز الشركات النفطيّة الكبرى في حال نشوب الحرب. وهكذا أصبحت السيطرة على نفط فارس مسألة حيويّة لمصالح بريطانيا العظمى.

دبّر الأدميرال في النهاية حيلة في أروقة البرلمان البريطانيّ استطاع من خلالها أن يفرض على الحكومة في العام 1914، شراء حصّة مقدارها 51% من أسهم الشركة «الإنجلوفارسيّة» التي أسّسها دارسي،[5] وهي الشركة التي ستغدو بعد سنواتٍ قليلة المورّد الأساسيّ للنفط لبريطانيا وأسطولها الحربيّ، وإحدى أعمدة هيمنتها السياسيّة والاقتصاديّة في الشرق الأوسط خلال فترة مفصليّة من تاريخ المنطقة.

ربما كان السيّد دارسي من أولئك الرجال الذين يحتفظون في داخلهم بتعويذات روحيّة غامضة تُعينهم على فكّ مغاليق الحظ الجيّد ومعرفة أسرار مُستقبلهم الزاهر، لكنّ المُؤكّد أنّه لم يكن يتوقّع حين خاض مُغامرته تلك، أنّ حفاراته البدائيّة كانت ستُفجّر بحركتها الدؤوبة بعض الإرهاصات الأولى لإيران الحديثة، البلد الذي سيغدو النفط مركز سياساته الملتهبة منذ ذلك الوقت.


مهندسون بريطانيون عاملون في شركة دارسي، في قرية «مسجد سليمان» قرابة عام 1909. المصدر: أرشيف «بريتيش بتروليوم».
نهايات الدولة القاجارية
حكمتْ أسرة القاجار المُنحدرة من أصلٍ تُركمانيّ، والتي كانت تستوطن بعض المناطق الواقعة ضمن حدود ما يُعرف اليوم بجمهوريّة أذربيجان، بلاد فارس في نهاية القرن الثامن عشر، وذلك بعد نجاح التحالف العشائريّ الذي كانت تقفُ على رأسه، في تقويض حكم السلالة الزنديّة وتوحيد البلاد تحت راية حكمٍ ملكيّ جديد.

مثّلتْ أسرة القاجار امتدادًا للسلالات العائليّة التي حكمتْ البلاد منذ ما يزيد عن ألفيّ عام. وفي ظلّ افتقارهم لبنية دولة مركزيّة وبيروقراطيّة حديثة، فقد لجأ ملوكهم إلى النموذج الكلاسيكيّ لممارسة السلطة، أي عبر الاعتماد على الوجهاء المحليّين من زعماء القبائل وكبار ملاك الأراضي ورجال الدين في المُقاطعات المُختلفة من أجل تسيير الشؤون اليوميّة للعامّة وجمع الضرائب وفضّ النزاعات وتنظيم وسائل الزراعة والري.[6] 

لم يكن التخلّف المؤسسي والافتقار لوسائل السلطة، وعلى رأسها امتلاك جيش حديثٍ وتقانة عسكريّة مُتقدّمة بمعايير ذلك الزمن، السبب الوحيد في الضعف البنيويّ الذي اعترى حكم القاجار منذ بدايته. فبالإضافة لذلك، تزامن صعود الأسرة القاجاريّة إلى الحكم مع بدايات ما يُعرف في الأدبيّات التاريخيّة بـ «اللعبة الكبرى»، كنايةً عن الصراع الذي اندلع بين الإمبراطوريّة الروسيّة والإمبراطوريّة البريطانيّة على مدّ نفوذهما في مناطق آسيا الوسطى. وقد تعرّضتْ بلاد فارس لهزيمتين كبيرتين على يد الجيش القيصريّ الروسيّ في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، خسرت على إثرهما مناطق شاسعة من القوقاز، وهي المناطق التي تضمّ في يومنا هذا جمهوريّات أذربيجان وجورجيا وداغستان وأجزاء من أرمينيا. وفي المقابل، ألحق الإنجليز بالقاجار خلال حربٍ قصيرة في أواسط القرن هزيمةً قاسيةً وأجبروهم على التخلّي عن مناطق شاسعة من غرب أفغانستان وذلك خشية التمدّد الروسيّ إلى حدود الهند.

مع نهاية القرن التاسع عشر، كان الاختراق السياسيّ والتجاريّ الغربيّ لبلاد فارس، معطوفًا على فساد الأسرة القاجاريّة وغرقها في الديون، قد وصل حدودًا لا تُطاق، مُهدِّدًا وجود الاقتصاد المُتداعي أصلًا وواضعًا الملايين من الإيرانيين تحت مقصلة الفاقة والعوز والجوع.


كان من الطبيعيّ لهذه الهزائم العسكريّة، والتي تُوّجتْ بفرض معاهدات مُذلّة على القاجار (معاهدتي غلستان 1813 وتركمانجاي 1828 مع روسيا القيصريّة، ومعاهدة هراة 1857 مع بريطانيا)، أن تفتح الباب على مصراعيه أمام تمدّد النفوذ الغربيّ في بلاد فارس مُتجسّدًا في تدخل القناصل الروس والإنجليز في الشؤون الداخليّة للبلاد وفي سياسات القصر الملكيّ، والأهم من ذلك، في منح امتيازاتٍ تجاريّة هائلة للمستثمرين الغربيين، وهي الامتيازات التي توسّعت في نهاية القرن التاسع عشر لتطال غالبيّة الثروات الطبيعيّة والزراعيّة والمائيّة للبلاد بالإضافة لخطوط التلغراف والسدود والبنوك بل وحتّى إدارة مصلحة الجمارك التي تمّ تلزيمها لمتعهدين بلجيكيين.[7]

مع نهاية القرن التاسع عشر، كان الاختراق السياسيّ والتجاريّ الغربيّ لبلاد فارس، معطوفًا على فساد الأسرة القاجاريّة وغرقها في الديون، قد وصل حدودًا لا تُطاق، مُهدِّدًا وجود الاقتصاد المُتداعي أصلًا وواضعًا الملايين من الإيرانيين تحت مقصلة الفاقة والعوز والجوع. وقد هدّدت الأزمة الاقتصاديّة الطاحنة التي نجمتْ عن سياسة الامتيازات وسوء الإدارة، المصالح الحيويّة لتجار البازار ورجال المؤسسة الدينيّة لتدفع الطرفين نحو بلورة تحالفٍ سياسيّ وجد تعبيره الأمثل في «انتفاضة التبغ» في العام 1891، والتي أجبرتْ الحكومة الفارسيّة على إلغاء الامتياز الذي أعطتْ من خلاله للمستثمر البريطاني جيرالد تالبوت احتكار بيع وتصدير التبغ لخمسين عامًا، وذلك بعد أن أصدر المرجع الديني ميزرا حسن أشتياني فتواه الشهيرة بتحريم تدخين التنباك.

الثورة الدستورية
وهكذا، ففي مطلع القرن العشرين، كانت الظروف الموضوعيّة قد اختمرت تمامًا لتهيئة الأرضيّة لما هو أكبر وأعمق من موجات الاحتجاج الشعبيّ ضدّ الامتيازات الأجنبيّة وفساد القصر الملكيّ. فقد تمكّنتْ طبقة الإنتلجنسيا الجديدة التي خلقتها سياسة التحديث القاجاريّ المتأخّرة، والتي كانت متأثرة بأفكار التنوير الأوروبيّة وأساليبها في تنظيم الروابط والجمعيّات السياسيّة ودور النشر والصحافة، في إلباس تحالف البازار ورجال الدين لباسًا سياسيًّا، عبر الدعوة إلى إنهاء الحكم الملكيّ المُطلق والاستعاضة عنه بسلطة مرتكزة إلى مباديء السيادة الشعبيّة والمساواة والحريّة. وقد بلغت هذه الحركة السياسيّة ذروتها في اندلاع «الثورة الدستوريّة» في العام 1905، والتي ربما يُمكن النظر إليها بوصفها أوّل ثورة ديمقراطيّة في التاريخ السياسيّ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط.

رغم أنّ الثورة الدستوريّة نجحت في كتابة أوّل دستور لبلاد فارس يُحدّد سلطات الشاه ويضعها تحت الرقابة الشعبيّة، ونجحت علاوة على ذلك في وضع اللبنات الأولى للدولة الإيرانيّة الحديثة عبر صياغتها للقواعد النظريّة الناظمة لمؤسّسات هذه الدولة على مستوى المركز والمقاطعات، وتأسيسها لأوّل مجلس نيابيّ مُنتخب، وفتحها الباب واسعًا أمام المشاركة الشعبيّة في المجال العام، إلا أنّها سرعان ما تعرّضت لانتكاسة كبيرة بفعل عوامل خارجيّة وداخليّة على حدّ سواء.

وقد تجسّدت العوامل الخارجيّة في الاتّفاق بين الإمبراطوريّة الروسيّة والإمبراطوريّة البريطانيّة في العام 1907 على تقاسم البلاد بشكلٍ رسميّ بحيث يُهيمن الروس على قسمها الشماليّ والإنجليز على قسمها الجنوبيّ، وهو ما قوّض أي معنى للسيادة والاستقرار، وأفرغَ الحركة الدستوريّة من مضمونها العمليّ. وبموازاة ذلك، نجح القصر الملكيّ بالتعاون مع القوى التقليديّة من كبار ملاك الأراضي وطبقة رجال الدين التي كانت تنظر للأفكار الثوريّة بارتيابٍ شديد وكتهديد لهيمنتها الأيدولوجيّة، في الانقلاب على نتائج الثورة مبكّرًا.[8]

بدلًا من أن تُفضي الثورة الدستوريّة إلى وضع الإصلاحات الجذريّة التي بشّرت بها موضع التنفيذ، فقد أفضت إلى زيادة حدّة الاستقطاب السياسيّ بين أنصار الدستور وأنصار الملكيّة وصولًا إلى الحرب الأهليّة.


وبدلًا من أن تُفضي الثورة الدستوريّة إلى وضع الإصلاحات الجذريّة التي بشّرت بها موضع التنفيذ، فقد أفضت إلى زيادة حدّة الاستقطاب السياسيّ بين أنصار الدستور وأنصار الملكيّة وصولًا إلى الحرب الأهليّة. وكما لفت المؤرّخ الإيرانيّ أروند إبراهيميان في ملاحظة ذكيّة، فإنّ السهولة النسبيّة التي نجحت بها الثورة والسهولة التي فشلت بها كانتا تعودان إلى نفس الظاهرة؛ وهي الافتقاد إلى دولة مركزيّة قابلة للحياة.[9] فقد نجحت الثورة في البداية بسبب افتقار النظام القديم إلى آليّة لقمع المعارضة، وبالمثل فقد فشلت الثورة لاحقًا لأنّها افتقرت لآليّاتٍ لتطبيق الإصلاحات التي وعدت بها، نظرًا لافتقاد الدولة للهياكل المؤسسيّة اللازمة لتحقيق هذا الهدف. وحتّى تكتمل قتامة المشهد، فقد جاء اندلاع الحرب العالميّة الأولى ليحوّل بلاد فارس إلى ساحة للصراع بين القوى الكبرى، وليضعها على حافّة التفكك والفوضى الشاملة، التي تزامنت مع حالة جفافٍ أدخلت البلاد في نفق المجاعة المُظلم، مودية بحياة ما يزيد عن مليوني إيراني في نهاية سنوات الحرب.[10] 

أمام هذا الواقع المُنهار، وجدتْ بريطانيا نفسها في حاجة ماسّة لإرساء دعائم نظامٍ جديدٍ في طهران يُعيد إلى البلاد شيئًا من الاستقرار. وكان الحافز الرئيسيّ وراء هذه الاستراتيجيّة يتمثّل في اندلاع الثورة الاشتراكيّة الكبرى في روسيا في العام 1917. فقد تبنّت القيادة البلشفيّة التي وصلت إلى السلطة سياسةً جديدةً انقلبت من خلالها على السياسات الإمبرياليّة التوسعيّة للنظام القيصريّ البائد، بإعلانها عن انسحاب روسيا من الحرب الكبرى ودعوتها للدول المُتحاربة إلى عقد صلح شاملٍ يُنهي الحرب. كما أقدمت القيادة البلشفيّة على نشر المعاهدات السريّة التي عقدتها روسيا القيصريّة مع بريطانيا وفرنسا مُعلنة عدم التزامها بها، مُوجّهة بذلك ضربة كبيرة لأساليب الدبلوماسيّة الاستعماريّة السريّة ومؤامراتها.

رأى البريطانيّون أنّ حالة الفوضى السائدة في فارس في ظلّ الواقع الجديد الذي خلقته الثورة الاشتراكيّة قد يدفعان البلاد إلى دائرة النفوذ البلشفي. وعلى هذا الأساس، فقد وضعوا كامل ثقلهم وراء رضا خان، الضابط في فرقة القوزاق، فرقّوه إلى رتبة جنرال وأمدوه بالمال والسلاح وشجّعوه على فرض النظام الجديد. وهكذا، زحف رضا خان على رأس لوائه المُؤلّف من ثلاثة آلاف رجلٍ إلى العاصمة طهران في ربيع العام 1921، فهزم حاميتها وأعلن الأحكام العرفيّة في البلاد. وقد اجتهد في السنوات اللاحقة في تنظيم قوّاته وتعزيز هيمنته على المشهد السياسيّ كقائدٍ للجيش ثم كوزيرٍ للحرب ورئيسٍ للوزراء، قبل أن يُقرّر في العام 1925 الإطاحة بآخر ملوك السلالة القاجاريّة مُعلنًا نفسه ملكًا متوّجًا على بلاد فارس.[11] 

حكم رضا خان
كان رضا خان رجلًا عسكريًّا فظًّا وشبه أمي، وضع نصب عينيه هدف بناء دولة مركزيّة قويّة تُعيد الاستقرار والنظام إلى البلاد المُفكّكة. افتتح الرجل عهده بتطبيق الخدمة الإلزاميّة في الجيش على جميع الذكور الذين بلغوا سنّ التجنيد، وبتشييد نظامٍ بيروقراطيّ حديثٍ تكون مُهمّته جمع الضرائب اللازمة لتمويل الدولة ومدّ نفوذها إلى كامل التراب الفارسيّ. وما إن أصبحت لديه القوّة العسكريّة اللازمة، حتّى سحقَ تمرّدات قبائل الكرد والعرب والبشتو وغيرها من القبائل التي كانت تتمتّع في مناطقها بنوعٍ من الإدارة الذاتيّة المستقلّة عن المركز، وأخضعَها لسلطته الحديديّة، وسحب منها امتيازاتها التي كانت قد حصلت عليها مع بريطانيا لحماية المرافق النفطيّة.

وقد خلخل الملك الجديد المصالح التقليديّة لكبار الملاك في الأرياف عبر حملة واسعة لمصادرة أراضيهم، وأجبرهم على الرضوخ لسياساته، جاعلًا من القصر الملكيّ ممرًّا إجباريًّا للترقي الاجتماعيّ والحصول على الامتيازات التي يطمح لها أعضاء الطبقة العليا. وقد شملتْ عمليّة التحديث القسريّ التي أطلقها أيضًا إصلاح نظام الري، ووضع أوّل موازنة شاملة للحكومة، وتوسيع نطاق التعليم النظاميّ والبدء بمشروعٍ هائل لربط البلاد بخطوط السكّة الحديديّة، واحتكار الصناعات الرئيسيّة وبناء بنكٍ وطنيّ لسك العملة.

وعلى الصعيد السياسيّ، قوّض رضا خان الحياة البرلمانيّة وأحال المجلس النيابيّ، عبر الهيمنة الأمنيّة على العمليّة الانتخابيّة، إلى صالونٍ سياسيّ لأعضاء الطبقة الرفيعة، الذين كانوا يؤدّون مُهمّتهم الطقوسيّة في البصم على فرماناته. واستخدم أساليب الاغتيال والنفي والسجن من أجل منع أيّ صوتٍ معارضٍ لسياساته ولضمان أن تحتفي الصحافة بحكمته وبُعد نظره على الدوام.[12] 

ولم تكتفِ إجراءات رضا خان بتنظيم الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والإداريّة للدولة عبر القبضة الحديديّة، بل طالت حتّى أعمق الجوانب الثقافيّة المكوّنة لوجدان الفسيفساء العرقيّة في بلاد فارس. فبالإضافة إلى إلغاء التقويم الهجريّ الإسلاميّ والاستعاضة عنه بالتقويم الفارسيّ الشمسيّ، فقد منع الشاه الرجال من ارتداء الأزياء التقليديّة المُميزة للمجموعات العرقيّة والقبائليّة المُختلفة وأجبرهم على الالتزام بالزيّ والقبّعات الغربيّة وعلى حلق شواربهم الطويلة. كما عمد إلى تشجيع النساء على استبدال الشادور بملابس أكثر عصريّة ومنع التعرّض للنساء غير المُحجبات في الأماكن العامّة ووسائل النقل.

لم يكن الشاه رضا باني إيران الحديثة فحسب، بل أحد المُساهمين في صقل جوانب من الهويّة الوطنيّة الإيرانيّة كما نعرفها اليوم.


وقد بدأ علاوة على ذلك حملة واسعة لإحلال اللغة الفارسيّة في كلّ مكانٍ أمكن الوصول إليه، بدءًا من لافتات المحال التجاريّة، مرورًا بتغيير أسماء المدن والشوارع، وصولًا إلى تغيير اسم البلاد نفسها في المعاملات الدوليّة في العام 1934 من «فارس» إلى «إيران» والذي يعني «موطن الآريين»، في إشارة لا تُخطئها العين للسعي لتمييز الأمّة الإيرانيّة عن شعوب المنطقة الأخرى وإبراز سموّها العرقيّ.[13] وبهذا المعنى، لم يكن الشاه رضا باني إيران الحديثة فحسب، بل أحد المُساهمين في صقل جوانب من الهويّة الوطنيّة الإيرانيّة كما نعرفها اليوم.

رغم أنّ رضا شاه كان يُدين بصعوده للسلطة إلى البريطانيين، إلا أنّه استطاع مع الوقت بناء نوعٍ من الاستقلاليّة السياسيّة إزاء البريطانيين. فقد سعى في السنوات الأولى لعهده إلى مُراجعة وإلغاء وإعادة التفاوض على الامتيازات التي وقّعتها بلاده خلال حكم القاجار مع القوى الأجنبيّة، ومن ضمنها اتّفاقية امتياز وليام دي آرسي النفطيّ، التي أُلغيت لتحلّ محلّها اتّفاقيّة جديدة وُقّعتْ بين الشركة «الإنجلوفارسيّة» والحكومة في العام 1933.[14] 

وبموازاة ذلك، سعى الشاه إلى تنويع الشراكات التجاريّة والاستثماريّة لبلاده. وقد حظيتْ الشركات الألمانيّة بشكلٍ خاص بوضع مميّز في اقتصاديّات المشروعات الإيرانيّة الضخمة التي اعتمدتْ بشكلٍ كبيرٍ على التقنيات والمعدّات التي تُصنّعها شركات كـ«سيمينز» و«لوفتهانزا» وغيرها، وعلى التقنيين الألمان الذين لعبوا دورًا مُهمًّا في تشغيل المصانع الإيرانيّة وتأهيل وتدريب العاملين فيها (كانت سكّة حديد إيران، درّة مشروعات التحديث الإيرانيّة وأكبرها وأكثر تعقيدًا على الإطلاق، أفضلٍ نموذجٍ لهذه الشراكة، إذ شيّدها تحالفٌ شركاتٍ اسكندنافيّ ألمانيّ). وبحلول مطلع الأربعينيّات، كانت ألمانيا قد تحوّلت إلى أكبر شريكٍ تجاريّ لإيران، حيث شكّلت السلع الألمانيّة نصف واردات البلاد من العالم الخارجيّ.

عند اندلاع الحرب العالميّة الثانية في العام 1939، أعلنت إيران وقوفها على الحياد بين القوى المُتحاربّة. وقد رأى البريطانيّون أن هذا الموقف لا يتناقض مع مصالحهم طالما أنّ الشاه سيبقى مُحافظًا على الأمن والاستقرار في البلاد. لكنّ هذه النظرة بدأت بالتغيّر بشكلٍ جذري في العام 1941، مع نجاح حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق بالإطاحة بالملكيّة بدعمٍ من ضبّاط ما عُرف آنذاك بـ«المربّع الذهبيّ»، الذين كانوا مُتعاطفين مع ألمانيا النازيّة. وقد تخوّف البريطانيّون من أن تستغل ألمانيا حضورها الكثيف في إيران للقيام بأعمالٍ تخريبيّة ضدّ المرافق النفطيّة التابعة للشركة «الإنجلوفارسية»، التي بات اسمها الشركة «الإنجلوإيرانيّة»، ولتدبير انقلابٍ عسكريّ على الشاه على غرار ما جرى في العراق.

ومن هُنا، فقد سارعت بريطانيا للطلب من الحكومة الإيرانيّة لاتّخاذ تدابير صارمة ضدّ الوجود الألمانيّ في إيران تتضمّن إبعاد الألمان عن المرافق النفطيّة الحيويّة وطرد بعضهم من البلاد والإبقاء على رقابة لصيقة على أنشطتهم.

إلا أنّ الشاه لم يبدِ الكثير من التعاون في هذا الصدد خشيةَ أن تُفسّر خطواته على أنّها اصطفافٌ إلى جانب الحلفاء في الحرب، والأهم من ذلك، خوفًا من خسارة واردات المعدّات والتقانة الألمانيّة التي كانت المشروعات الصناعيّة الإيرانيّة تعتمدُ عليها بشكلٍ كبير.

وقد وصلت المخاوف البريطانيّة والسوفييتيّة ذروتها مع انطلاق عمليّة «بارباروسا» في تموز/يوليو 1941 عندما بدأت القوّات الألمانيّة بغزو أراضي الاتّحاد السوفييتي، والذي كان نجاحها يعني عمليّا سيطرة الجيش الألمانيّ على منطقة القوقاز ومنها على إيران، وبالتالي تهديد المصالح النفطيّة الروسيّة والبريطانيّة بشكلٍ مباشر، وقطع طريق الإمدادات العسكريّة إلى عمق البرّ السوفييتيّ من الجهة الجنوبيّة. وهكذا، وفي خطوة استباقيّة، قامت قوّات البلدين باجتياح إيران في آب، وحوّلتها إلى مركزٍ للعمليّات العسكريّة الهادفة إلى احتواء الهجوم الألمانيّ والإبقاء على طريق إمدادات الروس مفتوحًا.[16] 

في تلك اللحظة، أصبح مصير الشاه رضا على المحك. فالسفير البريطانيّ في طهران، ريدر بولارد، الذي كان يُولي عنايةً خاصّةً لمراقبة الرأي العام الإيرانيّ خلال سنوات الحرب في ضوء حملة الدعاية الألمانيّة في منطقة الشرق الأوسط، رأى أنّ بقاء الشاه على عرشه، سيمثّل إثباتًا عمليًّا للقناعة الشعبيّة الإيرانيّة الراسخة بأنّ الشاه مُجرّد دمية بريطانيّة. وهكذا، كان استمرار دعم الشاه بعد هذا الحدث الجلل يُمثّل كما رأى بولارد، تهديدًا للمصالح البريطانيّة في إيران في لحظة حرجة من الصراع الدوليّ.

وكانت سياسات البطش التي تبنّاها الشاه خلال سنوات حكمه ونهمه الأسطوريّ لمصادرة الأراضي وضمّها إلى ملكيّته الخاصّة وإجبار جنود الجيش على العمل بالسخرة لديه وغرق حاشيته في الفساد، قد جعلتْ منه مع الوقت شخصًا مكروهًا للغاية لدى عامّة الإيرانيين ونخبهم على السواء.[17] وقد استخلص السفير بولارد بالاعتماد على ملاحظات طاقم سفارته أنّ الإيرانيين ليسوا متعاطفين مع طرفٍ بعينه من القوى الدوليّة المُتحاربة، لكنّهم سيكونون سعداء ومرحّبين بأيّ طرفٍ يُخلّصهم من الشاه المُستبد. مُتسلّحًا بهذا الرأي، قاد السفير حملةً لإقناع أركان المؤسسة البريطانيّة بضرورة التخلّي عن الشاه وإيصال رسالةٍ حازمةٍ له بأنّ أحد لا يريد وجوده في المشهد الإيرانيّ من الآن فصاعدًا.

وصلتْ الرسالة. ومع تقدّم القوّات الروسيّة نحو العاصمة طهران في أيلول/سبتمبر، وقّع رضا خان تنازلًا عن العرش، كما وقّع تنازلًا عن أملاكه الخاصّة لصالح الدولة، قبل أن يُنقل بإحدى السفن إلى جزر الموريشوس ومنها إلى جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا ليقضي ما تبقّى من حياته في المنفى. أمّا الإنجليز، وبعد أن تداولوا بضع أسماء للمرشّحين المُحتملين لشغل العرش الملكيّ، فقد وقع اختيارهم أخيرًا على ابن الشاه محمّد كملكٍ جديد.[18] 

محمد رضا وحياة سياسية جديدة
كان الشاه محمّد رضا يبلغ من العمر 22 عامًا حين تُوّج ملكًا لإيران. وكانت السفارة البريطانيّة حينها المُتحكّم الفعليّ بالبلاد، وقد أوضح البريطانيّون للشاه الجديد منذ البداية أنّه سيكون في فترة اختبار وأنّ عليه أن يثبت خلالها سلوكه الجيّد إذا ما أراد الحفاظ على عرشه. وكان السلوك الجيّد هُنا يعني التعاون مع قوّات الحلفاء وتطبيق إصلاحاتٍ سياسيّة واقتصاديّة تُنفّس الاحتقان والغضب اللذين خلّفهما حكم والده الاستبدايّ لدى عموم الإيرانيين. ولم يكن الشاه الشاب بطبيعة الحال في موقعٍ يسمح له بالرفض أو المناورة. وهكذا، فقد شهد العقد الأوّل من عهده قدرًا من الانفتاح السياسيّ وإعادة توزيع السلطة التي تجمّعت في قبضة والده بشكلٍ حصريّ في السابق.

فتحت العودةُ النسبيّةُ لمبادئ الحكم الدستوريّ البابَ لطبقة الأعيان الذين كان الشاه رضا قد أجبرهم على الرضوخ الكامل لسلطانه، لاحتلال المشهد السياسيّ من جديد وخلق نوع من التوازن بين القصر الملكيّ والمجلس النيابيّ، الذي تحوّل إلى نادٍ لطبقة ملاك الأراضي والتجار وكبار موظفي الدولة الذين كانت لديهم الوسائل والإمكانيّات لحشد الفلاحين الأميّين من الأرياف للتصويت لهم في الانتخابات.[19]

وقد تحوّلت السياسة الداخليّة الإيرانيّة في تلك الفترة إلى ضربٍ من المؤامرات والمكائد الصغيرة التي تُميّز الأنظمة الملكيّة غير المستقرّة


وقد تحوّلت السياسة الداخليّة الإيرانيّة في تلك الفترة إلى ضربٍ من المؤامرات والمكائد الصغيرة التي تُميّز الأنظمة الملكيّة غير المستقرّة، إذ لم تكن الحكومة المُشكّلة حديثًا تستكمل في العادة ستّة أشهرٍ في موقعها حتى تُستبدل بواحدة أخرى، وهكذا دواليك. ويبدو أنّ الشاه كان مُسلّمًا بهذا الوضع طالما أنّ أحدًا لن ينازعه سيطرته الكاملة على الجيش، وطالما أنّ حالة السيولة هذه ستُتيح للقصر إمكانيّة التلاعب بالسياسات المحليّة عبر تبديل التحالفات اللحظيّة مع رجال طبقة الأعيان واستغلال شبكات الزبائنيّة والمحاباة لاستمالتهم أو عقابهم.  

لكنّ الانفتاح السياسيّ هذا أتاح في المقابل تبلور ضربٍ جديدٍ ومميّز من السياسات الشعبيّة المرتكزة إلى الأنتلجنسيا الجديدة في المراكز الحضريّة وعمّال المصانع وطلبة الجامعات، وهي الفئات التي مثّلت المولود الشرعيّ لسياسات التحديث السلطويّ التي تبنّاها الشاه الأب. ولا شكّ أن الصعود المدويّ للاتّحاد السوفييتيّ بنموذجه الاقتصاديّ ودعايته عن العدالة الاجتماعيّة التي انتشرت في أصقاع الأرض قد مهّدت الأرضيّة لانتشارٍ أوسع للأفكار الاشتراكيّة ولأساليب التعبئة السياسيّة المُستلهمة من النموذج اللينينيّ في بلد خَبِرَ أصلًا، وبالتجربة المريرة، التوليفة الكاملة للاستبداد السياسيّ والقهر الاجتماعيّ والهيمنة الأجنبية.

برز حزب «توده» (حزب الجماهير) بوصفه المُعبّر عن هذه الاتّجاهات السياسيّة الجديدة، إذ تأسّس في مطلع الأربعينيّات على يد مجموعة من الشبّان المُتخرّجين حديثًا من الجامعات الغربيّة والمتأثّرين بالأفكار الاشتراكيّة. وهَدَفَ الحزبُ إلى تشكيل تحالفٍ سياسيّ واجتماعيّ عريض يضمّ الشيوعيين الإيرانيين إلى جانب القوى التقدّمية والإصلاحيّة والدستوريّة المناوئة للحكم الملكيّ ولسياساته الاقتصاديّة وللهيمنة الغربيّة على البلاد. وتمكّن الحزب من تنظيم الآلاف من طلبة الجامعات والمهنيين والعمّال وتحديدًا في منطقة عبادان، مركز العمليّات النفطيّة للشركة «الإنجلوإيرانيّة»، متحوّلًا خلال سنواتٍ قليلة لأكبر قوّة سياسيّة مُنظّمة في إيران آنذاك.

وتمثّل إنجاز «توده» الأهم في الإضراب العام الكبير في المرافق النفطيّة عام 1946 والذي تمخّض عنه تسليمُ الشركةِ لأوّل مرّة بمبدأ ثماني ساعات عملٍ في اليوم، ودفع أجر مقابل يوم الإجازة الأسبوعيّ، وتقديم خدمات السكن للعمّال وعائلاتهم.[20] 

ومع أنّ شعبيّة الحزب وسمعته تعرّضت لانتكاسة كبيرة بسبب تأييده الأعمى لسياسة الاتّحاد السوفييتي، وتحديدًا بعد أزمة عامي 1945 و1946، حين دعم السوفييت قيام جمهوريتين تتمتّعان بالحكم الذاتيّ في مقاطعتي أذربيجان وكردستان الإيرانيتين، ومع أنّ الحزب حُظر في العام 1949، إثر محاولة اغتيال فاشلة للشاه اُتّهم بها أحد عناصره، إلا أنّ تأثيره في الحياة العامّة ظلّ حاضرًا بقوّة من خلال موجة التسييس العارمة التي أحدثها في أوساط الطبقة الوسطى والعمّاليّة، ومن خلال ابتكاره للغة سياسيّة جديدة استخدمتها هذه الطبقات للتعبير عن تطلّعاتها الاجتماعيّة ورؤيتها السياسيّة لعالمها في ذلك الوقت.

لم تقتصر الحركات السياسيّة الجديدة التي انبثقتْ خلال تلك المرحلة على حزب «توده» فحسب. ففي نهاية الأربعينيّات، انبثقت «الجبهة الوطنيّة» كتحالفٍ سياسيّ عريضٍ ضمّ مجموعة من الأحزاب والنقابات وقطاعًا من المؤسسة الدينيّة، آخذة على عاتقها إعادة تشكيل المشهد السياسيّ الإيرانيّ بالكامل من خلال الدعوة لتحقيق مبادئ الملكيّة الدستوريّة وضمان الحريّات السياسيّة وحريّة الصحافة ونزاهة الانتخابات وإعادة توزيع الثروة الوطنيّة ومحاربة الامتيازات الأجنبيّة. وقد كان يقف على رأس هذا التحالف، الدكتور محمّد مُصدّق، الرجل الذي سيحفر خلال سنواتٍ قليلة اسمه في الوجدان الإيرانيّ كواحدٍ من أهمّ الشخصيّات الوطنيّة في التاريخ الحديث للبلاد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69754
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

 فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران    فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Emptyالثلاثاء 26 أكتوبر 2021, 12:05 pm

فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (2): مصدّق، التأميم، والانقلاب

في 19 آب/أغسطس عام 1953، سيطرت وحداتٌ من الجيش الإيراني على المراكز الحسّاسة في العاصمة طهران مُعلنة الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مُصدّق، وذلك بعد معركة دامية دارت على مشارف بيته مع الوحدات العسكريّة التي بقيت على ولائها له. جاء هذا الانقلاب بعد ما يزيد عن عامين على قرار البرلمان الإيراني بتأميم أصول الشركة «الأنجلو إيرانية» الذي أنهى احتكارها لإنتاج النفط في البلاد، وهو القرار الذي فتح الباب أمام سلسلة من التطوّرات التي عصفت بإيران وحدّدت ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

 تستعرض هذه الدراسة، التي تُنشر في ثلاثة أجزاء، فصولًا من تاريخ إيران في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان الصراع على النفط في صُلبه، وصولًا إلى الانقلاب على حكومة مُصدّق، الذي مهّد الطريق لزلزال الثورة الإسلاميّة التي أطاحت بالنظام الملكيّ في العام 1979، ليكون بذلك واحدًا من أهم الأحداث التي شكّلت المنطقة في النصف الثاني من القرن.


ولد محمّد مُصدّق في طهران في نهايات القرن التاسع عشر لعائلة أرستقراطيّة خدم أعضاؤها طويلًا في مناصب رفيعة في البيروقراطيّة الإيرانيّة خلال عهد الأسرة القاجاريّة. فقد كان والده وزيرًا للماليّة وابن عمّ والده رئيسًا للوزراء، أمّا والدته فقد كانت ابنة عم ناصر الدين شاه، ملك فارس خلال طفولة مُصدّق. تفتّح وعي مصدّق على السياسة في سنّ مبكرة، فقد انتخب عضوًا في أوّل مجلس نيابيّ في البلاد في أعقاب الثورة الدستوريّة عام 1906، نائبًا عن مدينة أصفهان حين كان يبلغ من العمر 21 عامًا. انتسب مُصدّق لمدرسة العلوم السياسيّة في طهران قبل أن يُكمل دراساته في باريس، ثمّ في سويسرا حيث نال درجة الدكتوراه في القانون من جامعة نيوشاتيل عن أطروحته عن الوصيّة في الشريعة الإسلاميّة. عاد الدكتور، كما كان يُحبّ أن يُلقّب، إلى بلاده ليتقلّد مناصب رفيعة في الدولة، فعمل حاكمًا لمقاطعتي فارس وأذربيجان ووزيرًا للماليّة والخارجيّة. وخلال هذه الفترة، درّس في جامعة طهران ونشر بضعة كُتبٍ تُعالج مسائل على صلة بالإصلاح التشريعيّ والضريبي، وقد اكتسب شهرة على نطاقٍ واسعٍ كرجلٍ نزيه نظيف اليد وكمناهضٍ للهيمنة الأجنبيّة وكمثقفٍ دستوريّ لا يُشقّ له غُبار.[1] 

عندما انقلب رضا خان على حكم الأسرة القاجاريّة، كان الدكتور مُصدّق من موقعه كعضو في البرلمان، من أشد المعارضين للحكم الجديد، وقد كلّفته معارضته سنواتٍ في السجن والإقامة الجبريّة، قبل أن يُقرّر اعتكاف العمل السياسيّ ليُقيم في قريته بالقرب من طهران مُنشغلًا بالزراعة والقراءة.[2] 

عندما تنازل الشاه رضا عن العرش، استغلّ الدكتور مُصدّق الفرصة للعودة إلى الحياة السياسيّة. وقد انتُخب في العام 1944 عضوًا في البرلمان عن مدينة طهران. ومن هناك قاد حملته من أجل تأميم النفط في البلاد. كانت الاتّفاقيّة المُوقّعة في العام 1933 بين الحكومة والشركة البريطانيّة لا تمنح الحكومة من عوائد بيع النفط سوى الفتات، إلى حدّ أنّ قيمة الضرائب التي كانت تجبيها الحكومة البريطانيّة على أعمال الشركة في منتصف الأربعينيّات كانت تزيد على ثلاثة أضعاف المبلغ الذي دخل الخزينة الإيرانيّة في نفس الفترة، هذا دون أن تُؤخذ في الحسبان الأرباحُ التي كانت تتبقّى للشركة بعد خصم الضرائب، والتي كانت تتشارك مع إيران نسبة ضئيلة منها. كانت هذه القسمة المُجحفة، في تلك اللحظة التي شهدت تنامي المشاعر الوطنيّة، كافيةً بحدّ ذاتها لتأليب قطاعٍ واسعٍ من الجمهور المُسيّس وأعضاء الطبقة السياسيّة ورجال الحوزة الدينيّة، وخاصّة مع تصاعد الأنشطة العماليّة الاحتجاجيّة في مصفاة عبادان ضدّ ظروف العمل في مرافق الشركة والتمييز العنصريّ ضدّ العمّال الإيرانيين.[3]



حركة التأميم تثمر
تحت ضغط مُصدّق ونشاطيّته السياسيّة، أقرّ البرلمان الإيرانيّ قانونًا في أواخر العام 1944 يقضي بعدم منح الحكومة لأيّ امتيازات جديدة أو التفاوض على شروط الامتيازات القائمة دون أخذ موافقة البرلمان أولًا.[4] وفي العام 1947، أقرّ البرلمان قانونًا آخر يفرضُ على الحكومة إعادة التفاوض على شروط اتّفاقيّة العام 1933.[5] وقد دخلت الحكومة الإيرانيّة بالفعل مفاوضاتٍ مع الشركة في نهاية الأربعينيّات مُطالبةً بزيادة نسبة الريع والأرباح المُتحصّلين من مبيعات النفط، وترقية المزيد من العمّال الإيرانيين إلى وظائف تقنيّة مُتقدّمة، وتخفيض أسعار المُشتقّات النفطيّة المُباعة في السوق المحلّي. وتوصّل الجانبان إلى ملحقٍ لاتّفاقيّة الامتياز في العام 1949، إلا أنّ البرلمان، الذي رأى أنّ الاتّفاقيّة الجديدة لا تُحقّق المصالح الإيرانيّة، رفض التصديق عليه.[6] وفي العام التالي بدأت تخرجُ إلى النور شروط الاتّفاقيّة التي وقّعتها شركة «أرامكو» الأمريكيّة مع الحكومة السعوديّة والتي نصّت على مبدأ 50/50 لتقاسم الأرباح بين الطرفين (وهو المبدأ الذي كانت الشركة البريطانيّة تبدي تعنّتًا إزاء القبول به حتّى ذلك الوقت).[7] وكان من شأن ذلك أن يضع المفاوضات بين الحكومة الإيرانيّة والشركة في حالة تجميد وأن يُعزّز موقف المُطالبين بالتأميم الكامل وعلى رأسهم الدكتور مُصدّق.

وفي قلب هذا الاضطراب الكبير الذي كان يعتملُ الساحة السياسيّة الإيرانيّة، اغتيل في مطلع العام 1951، رئيس الوزراء الإيرانيّ الجنرال علي رازماراه، والذي كان يرفض مبدأ التأميم الكامل خلال قيادته للمفاوضات مع الشركة، وذلك على يد مجموعة «فدائيي الإسلام» التي أسّسها مُجتبى مير لوحي (المعروف بِنوّاب صفوي). وكانت حادثة الاغتيال هذه كاشفة للمستوى الذي وصلته المعارضة الشعبيّة لامتياز الشركة البريطانيّة كتجسيدٍ للهيمنة الغربيّة على إيران ومقدّراتها الاقتصاديّة. خلِفَ رازماراه في منصبه رئيس الوزراء حسين علاء، أحد مستشاري الشاه، أملًا في احتواء الأزمة المُتصاعدة والتوصّل إلى تسوية تُطفيء نار الاحتقان الشديد في الشارع، لكنّ الرجل لم يصمد في موقعه أكثر من شهرين. لم يجد الشاه أمام هذا المشهد المُشتعل سوى القبول باختيار البرلمان للدكتور محمّد مُصدّق رئيسًا للوزراء، ليصوّت البرلمان في 15 آذار على  تأميم أصول الشركة «الإنجلوإيرانيّة»، فاتحًا الباب أمام فصول دراما جديدة ستعصف بإيران وتُحدّد ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

كان مشروع التأميم يعني عمليّا حرمان بريطانيا من مصدر دخلٍ مُعتبر لخزينتها خلال فترة حرجة من إعادة الإعمار والتسلّح في أعقاب الحرب العالميّة الثانية.

مثّل مشروع تأميم النفط الذي تبنّاه البرلمان الإيراني، ومنذ لحظته الأولى، تحدّيًا خطيرًا ومباشرًا لمصالح مُتداخلة وعلى أكثر من مستوى. فقد كان يُهدّد أولًا، المصالح البريطانيّة الحيويّة في المنطقة وعلى مستوى العالم على حدّ سواء. فمن جهة، كانت الشركة «الإنجلوإيرانيّة» تُزوّد بريطانيا وأسطولها الحربيّ بالوقود، حيث بلغ إنتاج الحقول الإيرانيّة في العام 1950، عشيّة قرار التأميم، قُرابة 32 مليون برميل، أي أقلّ بقليل من نصف إنتاج حقول النفط في منطقة الخليج مُجتمعة في نفس الفترة.[8] وكانت الشركة تُمثّل أكبر استثمارٍ بريطانيّ خارج الحدود، خاصّة أنّها كانت تمتلك وتدير مصفاة عبادان، أكبر مصافي النفط في العالم في ذلك الوقت. ولذلك، فقد كان مشروع التأميم يعني عمليًّا حرمان بريطانيا من مصدر دخلٍ مُعتبر لخزينتها خلال فترة حرجة من إعادة الإعمار والتسلّح في أعقاب الحرب العالميّة الثانية.

ومن جهة ثانية، كانت السيطرة الإيرانيّة على أصول الشركة، تُمثّل ضربة لأحد أعمدة النفوذ البريطانيّ في منطقة الشرق الأوسط، والذي كان تقويضه بهذه الطريقة يعني تعريض هيبة القوّة البريطانيّة للخطر وتشجيع حركاتٍ جديدة في أماكن أخرى في العالم على المسّ بها بجرأة أكبر. وقد كان هذا التخوّف بالذات حاضرًا بشدّة أمام الجنرالات البريطانيين، الذين تداعوا بعد أيّامٍ قليلة من قرار التأميم لوضع سيناريوهات الخطط العسكريّة الرامية لاستعادة منطقة عبادان، إمّا باجتياحها برًا من العراق أو التسلّل إليها بالزوارق السريعة من مياه الخليج. ولربما كانت الصدمة التي أحدثها قرار التأميم في المؤسسة البريطانيّة، واحدة من الحوافز الرئيسيّة وراء الردّ العنيف على تأميم قناة السويس في العام 1956 في مصر، مع عودة تيار الصقور بروحه الحربيّة إلى قيادة حزب المُحافظين البريطانيّ.

وعلاوة على ذلك، جسّد مشروع التأميم خطرًا على النظام الاحتكاريّ الذي تحكّم «كارتيل» النفط الدوليّ من خلاله بإمدادات النفط في سوق الطاقة العالميّة آنذاك.[9] وقد كانت الشركة «الإنجلوإيرانيّة» التي فوجئت بخطوة التأميم، على استعدادٍ للتوصّل لاتّفاقيّة جديدة مع الحكومة الإيرانيّة تقوم على مبدأ 50/50 لتقاسم الأرباح، والذي كان قد بدأ بالانتشار في بعض البلدان النفطيّة. إلا أنّها لم تكن مستعدّة للتنازل للحكومة عن سيطرتها الكاملة على عمليّة إنتاج وتكرير وتسويق النفط، لأنّ هذه السيطرة كانت تُمثّل في الواقع حجر الأساس في قدرة «كارتيل» النفط على فرض التسعيرة التي تُناسبه، من خلال التحكّم بالكميّات المعروضة من الخام الأسود في السوق. وقد نُظر إلى خطوة التأميم في أوساط شركات «الكارتيل» كإشارة سلبيّة للغاية، خشية أن تتحوّل إلى مثالٍ تحتذيه بلدان أخرى بطريقة تُهدّد مصالح الشركات النفطيّة واستقرار السوق العالميّ.[10] 



تضافرت هذه العوامل مُجتمعة لتدفع بالشركة «الإنجلوإيرانيّة» ومن ورائها الحكومة البريطانيّة بالطبع، لشنّ حربٍ اقتصاديّة على طهران. وبحلول خريف العام 1951، سحبت الشركة كافّة فنييها ومهندسيها من المرافق النفطيّة.[11] وتعاونت مع شركات «الكارتيل» النفطيّ من أجل منع الصادرات النفطيّة الإيرانيّة من الوصول إلى الأسواق العالميّة (وقد كان «الكارتيل» يُهيمن على ما يزيد على 75% من ناقلات النفط في ذلك الوقت)،[12] مُعلنةً أنّها ستُقاضي أي شركة تقوم بشراء النفط الإيرانيّ الذي اعتبرته ملكها الخاص. وعلاوةً على ذلك، بذلت الحكومة البريطانيّة جهودًا دبلوماسيّةً مُثمرةً ضغطت من خلالها على الدول الصناعيّة لمنعها من إرسال تقنيين لمساعدة إيران على تشغيل آبار الإنتاج وخطوط الأنابيب من جديد، وأرسلت فرقاطاتها العسكريّة إلى مياه الخليج مُحكمة طوقها على إيران.[13] وقد هدفت هذه الإجراءات إلى إجبار حكومة مُصدّق على الرضوخ والتراجع عن قرار التأميم تحت طائلة انهيار الوضع الاقتصاديّ للبلاد.

لم تكتفِ بريطانيا بهذه التدابير الاقتصاديّة، بل ذهبت إلى حدود مناقشة الخطط العسكريّة الأنسب للسيطرة على المنطقة النفطيّة في عبادان ومحيطها وإخضاع الحكومة الإيرانيّة لشروط الشركة بالقوّة. وحين وجدتْ أنّ العمل العسكريّ غير واقعي وقد تكون له عواقب وخيمة، فقد لجأت إلى كلّ ما في جعبتها من وسائل دبلوماسيّة واستخباريّة وإعلاميّة من أجل الإطاحة بحكومة مُصدّق. ونظرًا لنفوذها القديم في بلاد فارس، فقد استطاعت بريطانيا بناء شبكة واسعة من المُتعاونين في أوساط القصر الملكيّ والجيش والبيروقراطيّة والأحزاب السياسيّة ومجتمع التجار والصحافة، ناهيك عن رجال طبقة الأعيان الذين ارتبطوا بها تاريخيًّا بعلاقاتٍ مميّزة وكان بعضهم على استعدادٍ لتقديم خدماته العملياتيّة والاستشاريّة بدون مقابل طالما أنّ الأمر سيقود في النهاية إلى تخليصهم من مُصدّق.

وبرز في إطار هذه الجهود، بشكلٍ خاص، الأخوة رشيديان (أسد الله، قدرة الله، وسيف الله) أبناء رجل الأعمال الثريّ حبيب الله رشيديان، الذي ورّث أبناءه علاقته الممتازة مع الأجهزة البريطانيّة. وقد نجح الأخوة الثلاث بتوجيهات جهاز الخدمة السريّة البريطانيّ (SIS) وتمويله، من إطلاق حملة تحريضٍ واسعة النطاق على حكومة مُصدّق في الصحافة الإيرانيّة، من خلال رشوة العشرات من الصحفيين الإيرانيين بل وافتتاح صحفٍ جديدة لهذا الغرض بالذات.[14] كما تمكّنوا أيضًا من شراء خدماتٍ مثيري الشغب في البازار لمساعدتهم في تنظيم احتجاجاتٍ صاخبة ضدّ الحكومة، بالإضافة إلى بعض رجال الدين الذين طُلب منهم التحريض على مُصدّق من منابر المساجد. لكنّ الاختراق الأهم الذي حقّقه الأخوة الثلاثة تمثّل في تقديمهم راتبًا شهريًّا لعشراتٍ من أعضاء المجلس النيابيّ لدفعهم لحجب الثقة عن حكومة مُصدّق ومعارضة سياساتها والتشويش على عملها، أملًا في إسقاطها في النهاية من خلال القنوات الدستوريّة.[15] وقد كانت أنشطة رشيديان مع أعضاء المجلس مفضوحة إلى حدّ إدانتها من مصدّق شخصيًّا والذي انتهى به الأمر بالرد عليها عبر طرد أعضاء البعثة الدبلوماسيّة البريطانيّة في طهران في خريف العام 1952.

الولايات المتحدة وإن كانت قد دعمت تدابير بريطانيا المُتعلّقة بحظر تصدير النفط، إلا أنّها عملت على التوسّط بين الطرفين من أجل إنهاء الأزمة بطريقة دبلوماسيّة وبما يحقّق لها أهدافها في إطار استراتيجيّتها في الحرب الباردة.

أمّا الولايات المُتّحدة فكانت نظرتها إلى العالم في ذلك الوقت محكومة بالدرجة الأولى للتصدّي للاتّحاد السوفييتيّ والعمل على منع نفوذه من الانتشار عالميًّا، خاصّة بعد وصول الشيوعيين إلى السلطة في الصين عام 1949، واندلاع الحرب الكوريّة في العام التالي. وقد تنامتْ أهميّة إيران ضمن هذه النظرة كحائط صدّ جغرافيّ وسياسيّ يحول دون وصول الاتّحاد السوفييتي إلى منابع النفط في الخليج في أعقاب أزمة أذربيجان 1945- 1946، عندما أقام انفصاليّون مدعومون من موسكو، لفترة قصيرة، جمهوريتين اشتراكيتين تتمتّعان بالحكم الذاتي في مهاباد وتبريز.

إذًا، كان الهاجس الأمريكيّ متركّزًا بدرجة رئيسيّة على الحيلولة دون سقوط إيران في مدار النفوذ السوفييتي من خلال تأثير حزب «توده» إذا ما سقط مصدّق. ولذلك، كانت إدارة ترومان ترى في الرجل قوّةً موازنةً للحزب، خاصة أنه كان يتبنّى أصلًا نظرةً حذرةً تجاه «توده» والاتّحاد السوفييتي ضمن سياسته في «الحياد السلبيّ» إزاء القوى الكبرى. وعلى هذا الأساس، فقد سعت إدارة ترومان إلى الإبقاء على خطوط التواصل معه ومنعت بريطانيا من تنفيذ خططها التي كانت ترمي إلى تنفيذ عملٍ عسكريّ ضدّ طهران. وهي، وإن كانت قد دعمت تدابير بريطانيا المُتعلّقة بحظر تصدير النفط، إلا أنّها عملت على التوسّط بين الطرفين من أجل إنهاء الأزمة بطريقة دبلوماسيّة وبما يحقّق لها أهدافها في إطار استراتيجيّتها في الحرب الباردة.

انتفاضة تمّوز 1952
على المستوى الداخليّ، كان جدول أعمال حكومة الدكتور مُصدّق بعد قرار التأميم مليئًا بالمهمّات الصعبة. فقد كان عليها خوض المعركة القانونيّة التي أشعلتها بريطانيا ضدّ إيران في محكمة العدل الدوليّة في لاهاي سعيًا للحصول على حكمٍ يُجرّم خطوة التأميم.[16] وكان عليها، علاوة على ذلك، العمل من أجل إيجاد الوسائل التي تُتيح لها التفلّت من الحظر النفطيّ الذي فرضته بريطانيا على صادرات النفط، حتّى لو اضطرها الأمر لعرضه للبيع بخصومات كبيرة، (وهي لم تنجح في هذا المسعى كثيرًا بكلّ الأحوال). وبموازاة ذلك، كانت الحكومة مشغولة بتنفيذ سياساتٍ اقتصاديّة جديدة من أجل احتواء الأزمة الماليّة التي خلّفها فقدان خزينتها لأهمّ مصدرٍ من مصادر العملة الصعبة وللاستمرار في دفع رواتب الآلاف من عمّال المرافق النفطيّة في عبادان. وقد تبنّت الحكومة في هذا الصدد سياساتٍ تقضي برفع الرسوم الجمركيّة على واردات السلع الكماليّة، وحفّزتْ تصدير المنتجات الزراعيّة والصناعيّة، وأصدرت سنداتٍ لتمويل الخزينة الحكوميّة. وقد كان لهذه السياسات أثرٌ مهمٌ في تقليل الضغوط الهائلة على الاقتصاد الوطنيّ وتجنّب انتفاضات الخبز ومعالجة الاختلال الهائل في الميزان التجاريّ الموروث من الاعتماد على اقتصاد الريع النفطيّ.

وكان مُصدّق، بالإضافة لذلك، يخوض معركة مُهمّة مع القصر الملكيّ على صلاحيّاته الدستوريّة كرئيسٍ للوزراء. ففي تموز 1952، طالب مُصدّق الشاه بمنحه صلاحيّة السيطرة على الجيش كوزيرٍ للحربيّة، لكن الشاه رفض هذا المطلب، فما كان من مصدق سوى الاستقالة من منصبه احتجاجًا. وقد تنفّس رجال القصر الملكيّ ومن ورائهم بريطانيا الصعداء، فقد وفّر عليهم مُصدّق، كما ظنّوا للوهلة الأولى، مشقّة إسقاطه. لكن الرياح لم تجر بما اشتهته سفنهم، إذ سرعان ما اندلعت انتفاضة شعبيّة عارمة في طهران دعمًا لمصدّق، الذي عاد مُظفّرًا بعد بضعة أيّامٍ إلى منصبه، الذي احتلّه لأيام قليلة أحمد قوام، بصلاحيّاتٍ أوسع من تلك التي امتلكها في السابق، بما فيها صلاحيّة السيطرة على الجيش. كان شعار مصدّق بأنّ «الشاه يملك ولا يحكم» يتحقّق في تلك اللحظة على أرض الواقع بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.



يمكن القول أنّ انتفاضة تموز 1952 كانت نقطة مفصليّة في مسار الأزمة الإيرانيّة. فقد أثبتت لبريطانيا وللمتعاونين معها من رجال القصر والأعيان أنّ شعبيّة الدكتور مُصدّق المُنبثقة من الإرادة الوطنيّة الحرّة المُناهضة للهيمنة الغربيّة كانت أكبر من أن تهزّها المكائد والمؤامرات وتدابير الحصار الاقتصاديّ، وأنّ الروح الكفاحيّة التي أبداها الإيرانيون بتمسّكهم بحقّهم في تأميم النفط، تجعل من احتماليّة إيجاد بديلٍ لمصدّق بالطرق الدستوريّة في تلك اللحظة المُلتهبة ضربًا من المستحيل.

أمّا الأمريكيّون الذين كانوا يرون في مُصدّق قوّة موازنة لحزب «توده» وللنفوذ السوفييتي، فقد بدأت نظريّتهم هذه بالتغيّر بعد الانتفاضة. فبالنسبة لهم، كان العجز عن التوصّل إلى تسوية بخصوص أزمة التأميم وهيمنة احتجاجات الشارع على السياسة الإيرانيّة، بما ينطوي عليه ذلك من فقدان الحكومة لسيطرتها على الوضع، يعني تمهيد الأرضيّة لحزب «توده» للاستحواذ على السلطة وتحقّق أسوأ مخاوفهم في نهاية المطاف. وإذا كانت إدارة ترومان قد توصّلت إلى هذا الاستنتاج متأخّرة وعوّلت على الحلول الدبلوماسيّة منذ بداية الأزمة، فإنّ الإدارة الجمهوريّة بقيادة دوايت آيزنهاور، الذي فاز بالانتخابات في تشرين الثاني من ذلك العام، رأت أنّ الأزمة بحاجة إلى مُقاربة أكثر حزمًا، مُنتقدة إدارة ترومان على تلكّؤها وعلى سياستها الانتظاريّة التي تُهدّد بتحويل إيران إلى «صينٍ جديدة».

وقد تسببت الانتفاضة، علاوةً على ذلك، بأول الصدوع في تحالف «الجبهة الوطنيّة» الذي قاد الحملة من أجل تأميم النفط. فقد بدأت بعض أقطاب الجبهة، مدفوعةً بالحسابات قصيرة النظر والمصالح الشخصيّة الضيّقة وتحت تأثير الاختراق البريطانيّ للطبقة السياسيّة، بالابتعاد عن مُصدّق تدريجيًّا وتوجيه انتقاداتٍ حادّة له على خلفيّة السلطات الواسعة التي حصل عليها، مُتّهمةً إياه بالتأسيس لنظامٍ دكتاتوريّ. وكان آية الله أبو القاسم كاشاني الداعم الأبرز لمصدّق في حملته للتأميم من أهمّ أقطاب الجبهة الذين ابتعدوا عن رئيس الوزراء وبدأوا التعاون مع معسكر مناوئيه من رجال القصر.[17] 

 خطة انقلاب
هكذا، ففي نهاية العام 1952، كانت سُحب الانقلاب على الدكتور محمّد مُصدّق قد بدأت بالتجمّع في سماء طهران. في تشرين الثاني من ذلك العام، زار وفدٌ من جهاز الخدمة السريّة البريطانيّ يقفُ على رأسه كريستوفر وودهاوس، مدير محطّة الجهاز في طهران، الولايات المُتّحدة للقاء مسؤولي الاستخبارات هناك، مُقترحًا عليهم تنفيذ عمليّة مشتركة للانقلاب على حكومة مُصدّق، وقد وعد المسؤولون الأمريكيّون بدراستها. أخذت الخطّة زخمها الفعليّ في شتاء عام 1953، بعد انتقال مقاليد السلطة إلى إدارة آيزنهاور التي كانت تهدف إلى إسقاط مُصدّق بأي طريقة، وفي آذار حصلت وكالة الاستخبارات المركزيّة (CIA) على الضوء الأخضر لتخطيط وتنفيذ الانقلاب.[18] اختير «TP-AJAX» رمزًا للعملية،[19] وكُلّف دونالد ويلبر، الأكاديميّ المتخصّص في تاريخ العمارة المشرقيّة وخبير الحرب النفسيّة في الـ«CIA» الذي سبق له الخدمة في إيران، بوضع الخطّة العملياتيّة للانقلاب، وكُلّف كيرميت روزفلت، مسؤول عمليّات الوكالة في الشرق الأدنى، بقيادتها على الأرض.[20] 

في نيقوسيا ولندن وواشنطن وبيروت، كان ضبّاط جهاز الخدمة السريّة ووكالة الاستخبارات المركزيّة يعملون بدأب منذ ربيع العام 1953 من أجل وضع تفاصيل خطّة الانقلاب بما يشمل استعراض شبكات المُتعاونين الإيرانيين التي ستُسهم فيها ومناقشة أسماء المُرشّحين المُحتملين لخلافة مُصدّق واختيار الطريقة الأنسب لمقاربة الشاه لإقناعه بالعمليّة.

وبحلول الصيف، كانت الخطوط العريضة والتفاصيل العملياتيّة للخطّة قد اكتملت. قضت الخطّة ببدء الانقلاب عبر خطواتٍ مُتسلسلة تبدأ بحملة بروباغندا واسعة النطاق ضدّ حكومة مُصدّق، على أن يتبع ذلك تنظيم الجنرال فضل الله زاهدي (الذي وقع عليه الاختيار ليكون خليفة مُصدّق) لشبكة من الضبّاط في المواقع المُهمّة في الجيش بهدف السيطرة على المواقع الحسّاسة في العاصمة، ثمّ إقناع الشاه بإصدار فرمان بتعيين زاهدي قائدًا للجيش ودعوة القوّات المسلحة للانصياع لأوامره. وقد تضمّنتْ الخطّة في مراحلها النهائيّة قيام أعضاء المجلس النيابيّ الذين اشتراهم وسيشتريهم الأخوة رشيديان بالتصويت على حجب الثقة عن مُصدّق وصولًا إلى تنظيم مظاهراتٍ كبيرة في يوم الانقلاب تنطلق من البازار بقيادة رجال الدين إلى مقرّ المجلس النيابي لتعتصم فيه مُندّدة بمصدّق كعدوٍ للإسلام. وقد شدّدت الخطّة على أنّه وفي حال الفشل في إسقاط مُصدّق من خلال التصويت في المجلس النيابيّ، فإنّ الجنرال زاهدي سيُبادر للسيطرة على السلطة بالقوّة بموافقة الشاه أو بدونها.[21] 

بدأت العمليّة كما خُطّط لها بحملة تحريضٍ شعواء ضدّ حكومة مُصدّق بالاعتماد على شبكة الصحفيين الذين جنّدتهم الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة.[22] وقد تزامنت هذه المرحلة مع عمليّات تخريبٍ استُخدم فيها اسم حزب «توده» لتنظيم مظاهراتٍ عدوانيّة استهدفت المساجد والمحلات التجاريّة ولإرسال طرودٍ مُفخّخة لبيوت رجال الدين وتخويفهم من ثورة شيوعيّة قادمة في البلاد.



أمّا الجنرال زاهدي، فقد بدأ دوره في الخطّة بمحاولة التواصل مع ضبّاط الجيش المُناوئين لمُصدّق والمستعدّين للمشاركة في الانقلاب لكنّه لم يلقَ الكثير من النجاح بالنظر أوّلًا لكفاءته المحدودة في هذا المضمار، وثانيًا للتأييد الكبير الذي كان يتمتّع به مُصدّق في أوساط قادة الجيش، وتحديدًا في الألوية المُتمركزة حول طهران (وكان الرجل قد قام بعمليّة تطهيرٍ كبيرة في الجيش في أعقاب انتفاضة تمّوز 1952)، وهو الأمر الذي اضطرّ وكالة الاستخبارات المركزيّة لأخذ زمام المبادرة منه وتجنيد شبكة من الضبّاط بمساعدة المُلحق العسكريّ في سفارة إيران في واشنطن.

وقد واجهت خطوّة إقناع الشاه بالانقلاب هي الأخرى بعض العقبات. فقد عُرف عن الشاه أنّه كان صاحب شخصيّة انطوائيّة مُتردّدة ومهجوسة بقلقٍ وجوديّ عميق. ولم يكن الشاه مُتحمّسًا للعمليّة ولا لرؤية فضل الله زاهدي رئيسًا للوزراء، كما لم يكن واثقًا من ولاء الجيش له. وقد اضطرّ جهاز الخدمة السريّة البريطانيّ لرشوة أخته التوأم الأميرة أشرف، صاحبة الشخصيّة القويّة، للذهاب إلى طهران لإقناعه، لكنّه ظلّ مُتمنّعًا عن توقيع الفرمان الذي كان عليه توقيعه. وقد زار الشاه في قصره لاحقًا كلٌ من أسد الله رشيديان والجنرال نورمان شوارزكوف (والد قائد قوّات التحالف الدولي في عمليّة «عاصفة الصحراء» عام 1991) الذي جاء خصّيصًا من واشنطن بغرض إقناع الشاه بتجهيز الفرمان وتوقيعه ولكن دون جدوى. في النهاية زار كيرميت روزفلت الشاه وحذّره من أنّ الولايات المُتّحدة سوف تتصرّف من تلقاء نفسها ودون الحاجة لموافقتها، ما دفعه إلى الرضوخ وتوقيع الفرمان في نهاية المطاف.[23] 

لم تكتنف عمليّة «TP-AJAX» بعض الثغرات العملياتيّة منذ البداية فحسب، بل إنّ الضجّة التي رافقت تنفيذ بعض مراحلها قوّضت جدار السريّة الذي كان ينبغي أن تُحاط به كعمليّة استخباريّة على درجة عالية من الخطورة.

لم تكتنف عمليّة «TP-AJAX» بعض الثغرات العملياتيّة منذ البداية فحسب، بل إنّ الضجّة التي رافقت تنفيذ بعض مراحلها قوّضت جدار السريّة الذي كان ينبغي أن تُحاط به كعمليّة استخباريّة على درجة عالية من الخطورة. وقد استُقبلت زيارة الأميرة أشرف التي سبق لمصدّق إجبارها على مغادرة البلاد، ثمّ زيارة الجنرال شوارزكوف بشكلٍ خاص، بمقدارٍ كبيرٍ من الارتياب لدى رئيس الوزراء وأنصاره الذين نظروا إليها كجزءٍ من مؤامرة مُشينة وقد بدأت تفوح في طهران رائحة المراحل التنفيذية الأخيرة من عمليّة الانقلاب، بما فيها الجهود الحثيثة التي كان يبذلها الأخوة رشيديان لشراء أعضاء المجلس النيابيّ، الذين وقعت على كاهلهم مهمّة إسقاط مصدّق من خلال حجب الثقة عن حكومته.

عند هذا المفصل، وإدراكًا منه للنقطة الحرجة التي وصلها الموقف، أعلن مُصدّق عن استفتاءٍ شعبيّ لحلّ المجلس النيابيّ في أوائل آب، في مفاجأة غير متوقّعة للخطّة الأمريكيّة البريطانيّة التي كانت تقضي بالاعتماد على تصويت حجب الثقة في المجلس لإسقاطه في ظلّ المظاهرات العارمة، ليبدو المشهد كما لو كان انتفاضة شعبيّة ضدّ رئيس الوزراء. وكان على مدبّري الانقلاب أن يُعدّلوا خطّتهم على عجل من خلال الاعتماد على صلاحيّات الشاه الدستوريّة بدلًا من المجلس، ليوقع الشاه، الذي كان يقيم آنذاك في منتجعه الصيفي في رامسار على بحر قزوين (وكان إبعاد الشاه عن العاصمة طهران جزءًا من خطّة الانقلاب)، على فرمانين يقضي أولهما بعزل مصدّق، فيما يقضي الآخر بتعيين الجنرال فضل الله زاهدي بدلًا منه.[24] 

لقد مثلت الأحداث التي تلت عزلَ الشاه لمصدق أخطر الفصول في تاريخ إيران الحديث. إذ توجه الجنرال نعمة الله نصيري، قائد الحرس الإمبراطوريّ، على رأس مجموعة من الضبّاط والجنود، لتسليم مُصدّق فرمان عزله في ليلة السادس عشر من آب 1953. لكنّ رئيس الوزراء الذي كانت قد تسرّبتْ له تفاصيل خطّة الانقلاب أمر حراسه بإلقاء القبض على الجنرال نصيري، وكلّف الجيش بشنّ حملة لاعتقال الانقلابيين.

بدى أنّ عمليّة «TP-AJAX» قد انهارت تمامًا في تلك اللحظة. فقد رفض الضبّاط الذين جنّدتهم الـ«CIA» التحرّك ضدّ وحدات الجيش المؤيّدة لمصدّق، واختفى الجنرال زاهدي ومساعدوه عن الأنظار. أمّا الشاه، فقد استقلّ الطائرة إلى بغداد التي مكث فيها لبعض الوقت قبل أن يُغادرها إلى روما. وفي مقر الـ«CIA» في لانغلي، سادت أجواء الإحباط واليأس، وأُصدرت الأوامر من هناك لكيرميت روزفلت بضرورة الانسحاب الفوريّ وإنهاء العمليّة.[25] 

لكن روزفلت كان له رأيٌ آخر. فقد ارتجل على عجل بمساعدة زاهدي والأخوة رشيديان وأعضاء آخرين في شبكة المتعاونين مع الـ«CIA» في طهران خطّة جديدة من أجل عكس الموقف لصالح الانقلابيين مُجدّدًا. فأعطى أوامره لحشد مظاهراتٍ من مثيري الشغب على أنّها مظاهرات لحزب «توده»، وهي المظاهرات التي اخترقت شوارع طهران في اليوم التالي لتقوم بأعمال تخريب من خلال تكسير تماثيل الشاه ومهاجمة المحال التجاريّة ونهبها واستهداف المساجد والتحريض على رجال الدين بغية إشاعة أجواء من الفوضى والخوف. وبموازاة ذلك، سعى روزفلت إلى طباعة فرمانات الشاه وتوزيعها على نطاق واسع في طهران وتعميمها على الصحافة المحليّة والعالميّة لخلق الانطباع أنّ مصدّق هو الذي يقود الانقلاب على التاج الملكيّ برفضه الانصياع للقواعد الدستوريّة وأنّ النظام السياسيّ الإيرانيّ برمّته أصبح مُهدّدًا بالانهيار لصالح جمهوريّة اشتراكيّة.

كما قامت البعثة العسكريّة الأمريكيّة في تلك الأثناء بمحاولة حشد الجيش وراء الحكم الملكيّ من خلال توزيع المساعدات والأغذية والمولدات الكهربائيّة على القطعات العسكريّة المُحيطة بطهران. وفي الثامن عشر من آب، التقى السفير الأمريكيّ لوي هندرسون القادم من واشنطن بمصدّق وحذّره من مغبّة استمرار الفوضى في الشارع تحت طائلة سحب أعضاء البعثة الدبلوماسيّة الأمريكيّة والمستشارين الاقتصاديّين والعسكريّين من البلاد، فأصدر مصدّق أوامره لقوّات الشرطة لفضّ التظاهرات بما فيها تظاهرات أعضاء حزب «توده» الحقيقيين الذين اتّخذت قيادتهم قرارًا بسحبهم من الشارع على الفور.[26] 

لكنّ أعمال الفوضى المدبّرة من قبل «CIA» لم تتوقّف. فقد التحقت وحدات الجيش المناوئة لمصدّق في يوم التاسع عشر من آب بالغوغاء في الشوارع لتُسيطر على المراكز الحسّاسة في العاصمة، وصولًا إلى بيت مُصدّق الذي دارت على مشارفه معركة دامية استمرّت بضع ساعات قبل أن يتمّ اقتحامه والسيطرة عليه ونهبه. وعند ساعة العصر، أعلن الجنرال فضل الله زاهدي عبر إذاعة طهران أنّه رئيس الوزراء الشرعيّ. أمّا مصدّق، فقد استسلم في اليوم التالي لقوّات زاهدي، قبل أن يُقدّم لاحقًا إلى مُحاكمة قضت بحبسه ثلاث سنوات قبل أن يُطلق سراحه ليقضي حكمًا بالإقامة الجبريّة في منزله بقرية أحمد أباد حتّى وفاته في العام 1967
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69754
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

 فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران    فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران Emptyالثلاثاء 26 أكتوبر 2021, 12:08 pm

فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (3): دروس عملية «TP-AJAX» وأسئلتها

في 19 آب/أغسطس عام 1953، سيطرت وحداتٌ من الجيش الإيراني على المراكز الحسّاسة في العاصمة طهران مُعلنة الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مُصدّق، وذلك بعد معركة دامية دارت على مشارف بيته مع الوحدات العسكريّة التي بقيت على ولائها له. جاء هذا الانقلاب بعد ما يزيد عن عامين على قرار البرلمان الإيراني بتأميم أصول الشركة «الأنجلو إيرانية» الذي أنهى احتكارها لإنتاج النفط في البلاد، وهو القرار الذي فتح الباب أمام سلسلة من التطوّرات التي عصفت بإيران وحدّدت ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

 تستعرض هذه الدراسة، التي تُنشر في ثلاثة أجزاء، فصولًا من تاريخ إيران في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان الصراع على النفط في صُلبه، وصولا إلى الانقلاب على حكومة مُصدّق والذي مهّد الطريق لزلزال الثورة الإسلاميّة التي أطاحت بالنظام الملكيّ في العام 1979، ليكون بذلك أحد أهم الأحداث التي شكّلت المنطقة في النصف الثاني من القرن.

لقد حظيتْ أزمة تأميم النفط في إيران 1951- 1953 وعمليّة الانقلاب على رئيس الوزراء محمد مُصدّق، عبر عقودٍ طويلة، بعددٍ كبيرٍ من الدراسات والأبحاث ومحاولات الاستقصاء الحثيثة بالنظر للسياق التاريخيّ الغنيّ والطويل الذي أفضى إليها، وربما، وهو الأهم، بالنظر للعقابيل السياسيّة طويلة الأمد التي ترتّبت عليها في إيران والمنطقة. ولا يزال إرث تلك الدراما وإرث بطلها يرزح بثقله على العلاقة بين إيران والعالم، ولا يزال يشكّل ميدانًا للتنازع بين تيّاراتٍ فكريّة وسياسيّة مُختلفة في حقل الأكاديميا وحتّى في السياسات المحليّة الإيرانيّة.

ولا شكّ أنّ كتابة تاريخٍ مُكتملٍ ودقيقٍ لعمليّة الانقلاب سيبقى مسألة عسيرة بالقطع، لا لأنّ الكتابة التاريخيّة مُهمّة لا تكتمل بطبيعتها، بل لأنّه، وبعد ما يزيد عن 60 عامًا على إسقاط الحكومة الإيرانيّة المُنتخبة ديمقراطيّا، لا يزال الغموض يكتنفُ الكثير من الجوانب المُحيطة بعمليّة «TP-AJAX»، التي دبرت عبرها الـ«CIA» الانقلاب، والمُساهمين المحوريين فيها والمسار الدقيق الذي اتّخذته أحداثها في صيف العام 1953. ويمكن القول بمقدارٍ ما من اليقين أنّ جانبًا من هذا الغموض لن ينجلي مُطلقًا. فغالبيّة المُساهمين في العمليّة والذين عاصروها عن قرب رحلوا عن عالمنا، كما أنّ الكثير من الوثائق السريّة المُتعلّقة بها أُتلف (أو هكذا قيل)، فيما لا يزال بعضها الآخر حبيس الأدراج المُغلقة لأجهزة الاستخبارات البريطانيّة والأمريكيّة.

وعلاوة على ذلك، فقد أضافت التطوّرات السياسيّة التي أعقبت قيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران عام 1979، مزيدًا من التعقيد على المشهد. إذ يرى المسؤولون الأمريكيّون، الذين تجنّبوا طويلًا الاعتراف بدور بلادهم في إسقاط مُصدّق، أنّ أيّ كشفٍ جديدٍ حول العمليّة من شأنه أن يُشكّل إضافة للذخيرة الحيّة للنظام الإيرانيّ في حربه الدعائيّة ضدّ الولايات المتّحدة وإضفاء للشرعيّة على مُنطلقاته الأيدولوجيّة المرتكزة على العداء للهيمنة الغربيّة وفي القلب منها الهيمنة الأمريكيّة.[1] 

وبمقدار ما ساعدتْ الوثائق والتواريخ الرسميّة والمراسلات الدبلوماسيّة والسير الذاتيّة والاستقصاءات الأكاديميّة في كتابة قصّة ما جرى في الأيّام الفاصلة من صيف العام 1953، فقد تركت الكثير من الأسئلة المُثيرة مُعلّقةً دون إجابة. ويجد المرء على نحوٍ خاصٍ صعوبةً كبيرةً في تقبّل السهولة التي انقلبت بها الكفّة لصالح أعداء مُصدّق في يومي الثامن عشر والتاسع عشر من آب، والسرعة التي تمّ فيها حشد المُتظاهرين من البازار ليرافقوا وحدات الجيش المؤيّدة للشاه للسيطرة على المراكز الحسّاسة في العاصمة، خاصّة في ظلّ التأييد الذي كان يحظى به مُصدّق في أوساط قادة وضبّاط الألوية الخمسة المُحيطة بطهران.


هل كانت الدعوة لإسقاط النظام الملكيّ الذي بدأت العناصر الراديكاليّة من حزب «توده» والجبهة الوطنيّة بترويجها خلال المظاهرات التي أعقبت فشل المحاولة الانقلابيّة الأولى كفيلة بتخويف الشارع والجيش إلى حدّ تحرّكهم بسرعة لإنقاذ مليكهم خشية من المجهول القادم؟ أم أنّ الدعاية التي لعب فيها رجال الدين دورًا كبيرًا في التخويف من مخاطر الشيوعيّة هي التي قادتْ العامّة للتحرّك لإنقاذ الموقف ودعم الحركة الانقلابيّة؟ أم لعلّها حالة الفوضى التي يختلط فيها الحابل بالنابل في مثل هذا النوع من الأحداث، فيكون من الصعوبة تحديد المسؤوليّات الواقعة على كلّ طرفٍ بدقّة؟ وكيف حدث أن انهارت دفاعات أنصار مصدّق العسكريّين بهذا الشكل؟

بكلّ الأحوال، فإنّ تفاصيل الأحداث في الأيّام الحاسمة من صيف العام 1953، والتي تُشبه إلى حدّ كبيرٍ أحداث فيلمٍ سينمائيّ مشوّق، لا يجب أن تُعمينا عن رؤية السياقات الأوسع لما جرى في نهاية المطاف. لقد تعرّضتْ حكومة مُصدّق لانقلابٍ دُبّر بليل، وعن سبق إصرار وترصّد، من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكيّة والبريطانيّة، لأنّها كنت تُمثّل خطرًا على المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة للقوّتين الكبيرتين آنذاك.

البنية التحتية للتدخّل الخارجي في إيران
لقد حظيتْ بريطانيا بموطئ قدمٍ في بلاد فارس منذ أواسط القرن التاسع عشر وتزايد دورها في السياسات الإيرانيّة منذ ذلك الوقت وصولًا إلى احتلالها البلاد عام 1941. وقد استطاعت أجهزتها عبر تلك العقود أن تنسج شبكة علاقاتٍ ونفوذ واسعة اخترقت قطاعاتٍ من الطبقة السياسيّة والعسكريّة والبيروقراطيّة والإعلاميّة، ناهيك عن التأثير الذي كانت تمتلكه شركتها النفطيّة على مسار التنمية الاقتصاديّة في البلاد. أمّا الولايات المتحدة، فقد بدأت اهتمامها بإيران بالتزايد بعد أزمة أذربيجان 1945-1946 واجتياح الجيش السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1948، ضمن استراتيجيّتها لمواجهة تمدّد النفوذ السوفييتيّ في إطار الحرب الباردة.

وقد أطلقت الأجهزة الأمريكيّة في نهاية الأربعينيّات عمليّة سريّة في إيران تحت اسم «TPBEDAMN» أشرف عليها دونالد ويلبر، المُهندس المركزيّ لعمليّة الانقلاب على مُصدّق وخبير الحرب النفسيّة، بُغية مُهاجمة حزب «توده» والاتّحاد السوفييتي عبر حملة بروباغندا ضخمة جرى خلالها نشر مقالاتٍ ورسوماتٍ كاريكاتوريّة مناوئة للطرفين في عشرات الصحف الإيرانيّة وتوزيع كتب دعاية وملصقات ومطويّات على نطاق واسع حول ظروف الحياة البائسة في الاتّحاد السوفييتيّ وحول التهديد الشيوعيّ للقيم الإسلاميّة.


لم تستطع بريطانيا استيعاب حقيقة أنّ الدوافع الإيرانيّة وراء قرار التأميم كانت تنبثق من اعتباراتٍ سياسيّة بحتة بالنسبة للحركة الوطنيّة ومُصدّق.


بهذا المعنى، كانت الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة عشيّة قرار التأميم تمتلك «بنية تحتيّة» تُؤهلها لتقويض الاستقرار في إيران والتلاعب في شؤونها الداخليّة وصولًا إلى الإطاحة العنيفة بحكومتها. وكانت الإمكانيّات والموارد المتاحة للحكومة الإيرانيّة بطبيعة الحال أكثر تواضعًا من أن تجابه أو تحتوي هذا النوع من الأنشطة، ناهيك عن كشفه أصلًا.

ولم تكن التدخلات عبر العمليّات السريّة والمكائد التي كانت تُدبّر من وراء ستار هي النهج الوحيد الذي تبنّته بريطانيا لإضعاف مُصدّق. فبالإضافة للحصار الاقتصاديّ المدعوم بالقوّة العسكريّة والدبلوماسيّة، اتّخذت حكومة المُحافظين البريطانيّة موقفًا مُتشدّدًا في مفاوضاتها مع إيران بخصوص تأميم أصول الشركة «الإنجلوإيرانيّة»، رافضة في الواقع كلّ المبادرات التي من شأنها التوصّل إلى حل، ناهيك عن رفضها لمبدأ التفاوض المباشر مع الحكومة الإيرانيّة. ولم تستطع بريطانيا استيعاب حقيقة أنّ الدوافع الإيرانيّة وراء قرار التأميم كانت تنبثق من اعتباراتٍ سياسيّة بحتة بالنسبة للحركة الوطنيّة ومُصدّق. فقد كانت تُفاوض بعقليّة رجل الأعمال الإنجليزيّ المهجوس بحسابات الربح والخسارة الرقميّة، مشترطة توقيع عقد امتيازٍ جديد أو قيام الحكومة الإيرانيّة بتعويضها عن أصولها المؤمّمة وعن الأرباح التي كانت ستجنيها لو أنّ التأميم لم يحدث واستمرّ عقد الامتياز حتى نهايته بشكلٍ طبيعيّ في العام 1993. ومع أنّ مُصدّق أبدى الموافقة على الشرط الأخير مقابل تحديد بريطانيا لقيمة التعويض المطلوب، إلا أنّ الأخيرة وجدت طريقة من التهرّب من هذا الالتزام، إذ كان هدفها الرئيسيّ هو إسقاط مُصدّق بأيّ وسيلة.

الديناميّات الداخلية التي سهّلت الانقلاب
بالرغم من ذلك، تبقى الحاجة مُلحّة لتناول الديناميّات الداخليّة التي رافقت التدخّل الخارجيّ وسهّلتْ مهمّته، وكذلك الأخطاء التكتيكيّة والاستراتيجيّة التي وقع فيها الدكتور مُحمّد مصدّق والتي ساعدت بشكلٍ أو بآخر على إسقاطه.

لقد بنى الدكتور مُصدّق حساباته على الوزن النسبيّ الكبير الذي كان يُمثّله نفط إيران في إمدادات الطاقة العالميّة، وافترض على هذا الأساس أنّ وقف الإنتاج الإيرانيّ من النفط سيكون مؤثّرًا اقتصاديًّا إلى الحد الذي سيدفع معه بريطانيا للرضوخ والتنازل لشروط حركته. لكن الرجل كان غافلًا على ما يبدو عن التطوّرات التي وصلت إليها الصناعة النفطيّة في البلدان المجاورة مثل العراق والكويت، وعن الاستثمارات التي أنفقتها الشركة «الإنجلوإيرانيّة» لزيادة الطاقة الإنتاجيّة في تلك البلدان. فقد ارتفع إنتاج الكويت من 12 مليون برميل عام 1950، عشيّةَ قرار التأميم، إلى حوالى 42 مليون برميل في العام 1953، بينما ارتفع إنتاج العراق من 4 ملايين برميل إلى 27 مليون برميل في الفترة ذاتها.[2]

ولا شكّ أن هذه الزيادة في الطاقة الإنتاجيّة للبلدان الواقعة على الحدّ الآخر من مياه الخليج، معطوفة على زيادة طاقة التكرير في المصافي النفطيّة في البرّ الأوروبي، لعبت دورًا مُهمًّا في تحييد الآثار السلبيّة التي كان من الممكن أن تترتّب على غياب النفط الإيرانيّ من السوق العالميّ وسهلت مهمّة بريطانيا، بالتعاون الوثيق مع تحالف الشركات الأمريكيّة، في منع تسويقه، الأمر الذي وضع مُصدّق تحت ضغط انهيار الاقتصاد الوطنيّ. وقد عوّل الدكتور مُصدّق على إمكانيّة إعادة تشغيل المرافق النفطيّة من خلال التعاقد مع تقنيين غربيين، لكنه لم يفطن على ما يبدو إلى احتماليّة رفض الدول الغربيّة التعاون معه تحت تأثير القوّة الدبلوماسيّة البريطانيّة. وعلاوةً على ذلك، فقد افترض أن بإمكانه المناورة من خلال لعب ورقة التأثير الشيوعيّ في إيران أمام الأمريكيين، وأنّ الأمريكيين سيذهبون تبعًا لذلك إلى حد منع بريطانيا من فرض حظرها النفطي على إيران أو تخفيفه، لكنّ حساباته في هذا الصدد لم تكن دقيقة أيضًا.

بالإضافة إلى ذلك، فشل الدكتور مُصدّق وأنصاره المُخلصون من الاستفادة من الزخم الشعبيّ الذي حظيت به خطوة تأميم النفط من أجل بناء تنظيمٍ قويّ قادر على القيام بمهام الحزب السياسيّ في تجنيد الأنصار وبثّ الدعاية السياسيّة والتصدّي لحملات الخصوم السياسيين في الشارع وفي الصحافة. كانت الجبهة الوطنيّة التي قادها مُصدّق صيغة جبهويّة تضمّ مكوناتٍ سياسيّة متباينة جمعتها مبادئ عريضة على رأسها تأميم النفط ومناهضة الهيمنة الغربيّة، لكنّ هذه الصيغة لم تكن مُتماسكة إلى الحدّ الذي يُؤهلها للصمود حتّى النهاية للدفاع عن الشعارات التي رفعتها. وقد تآكلت تجربة الجبهة وانشقّت بعض مكوّناتها الرئيسيّة عنها لتنتقل إلى معسكر أعداء مُصدّق خلال وقتٍ قياسيّ مُشاركة في التحريض عليه ومُساهمة بفعاليّة في إسقاطه.


وكانت مناقبيّة مُصدّق الرفيعة والتزامه المثاليّ بقيم الديمقراطيّة وحريّة التعبير تحول دون قيامه باتّخاذ إجراءاتٍ صارمة ضدّ معارضيه، حتّى أولئك الذين ثبت تورطهم في التآمر مع الاستخبارات الأجنبيّة ضدّ حكومة بلادهم، أو أولئك الذين اشتركوا في عمليّات اغتيالٍ وتخريب من أجل تقويض دعائم الاستقرار وبثّ الفوضى في الشارع الإيرانيّ. كما أنّه لم يسعَ لاحتواء حملة الدعاية الصاخبّة والشنيعة التي انطلقت ضدّه منذ اتّخاذ قرار التأميم في الصحافة المحليّة. إذ كانت صحف طهران المعارضة في عهده قد وصلت في هجائه حدودًا تجاوزت كل القيم والمبادئ التي تنظم هذا الحقل. ولم يستطع الدكتور مُصدّق الخروج من عالمه التقليديّ كدستوريٍّ قديمٍ آمَنَ إلى أبعد حدّ بمبادئ الملكيّة الدستوريّة كناظمٍ للحياة السياسيّة في إيران. وقد جعلته خلفيّته هذه مُقيّدًا وعاجزًا عن المبادرة والتفكير خارج الصندوق واتّخاذ مواقف ثوريّة عندما تطلّب الأمر ذلك، وتحديدًا بعد إفشال محاولة الانقلاب الأولى، أي حين كان النظام الإيرانيّ برمّته على المحك.

وقد ارتكب مُصدّق في الأيام الأخيرة من عمر حكومته خطأين تكتيكيين ساهما إلى حدّ كبير في إضعاف موقفه في مواجهة الحركة الانقلابيّة. تمثّل الأوّل في دعوته للاستفتاء الشعبيّ على حلّ المجلس النيابيّ. فبالإضافة إلى أنّ هذه الدعوة كانت محلّ معارضة شديدة من قِبل بعضٍ من أقرب معاونيه وأنصاره البرلمانيين ما دفعهم إلى الانفضاض عنه، وأنّها صبّت الوقود على نار التحريض الموجّه ضدّ من قِبل أعدائه الذين قدّموها بوصفها إثباتًا عمليّا على دكتاتوريّة مُصدّق، فإنّ حلّ المجلس أفسح المجال للشاه (بتحريض من الأجهزة الغربيّة) لاستخدام صلاحيّاته الدستوريّة لعزل مُصدّق مباشرة.

ولربما كان لاستمرار وجود المجلس، حتّى وإن لم يكن يعملُ بشكلٍ فعّال آنذاك، أن يشكّل قوّة موازنة للمعسكر الانقلابيّ وأن يُحصّن الموقف الدستوريّ لمُصدّق. أمّا الخطأ الثاني فقد تمثّل في القرار الذي اتّخذه مُصدّق يوم الثامن عشر من آب/أغسطس 1953 بحظر المظاهرات وإعطاء الأوامر لشرطة العاصمة لفضّها. فقد كانت هذه الخطوة بمثابة هديّة مجانيّة للانقلابيين مكّنتهم من استعادة زمام المبادرة للاستيلاء على العاصمة بعد فشل محاولة الانقلاب الأولى. ولربما كان من شأن استمرار التظاهرات المؤيدة لمُصدّق في الشارع ورفدها بالمزيد من الأنصار أن يُشكّل ظهيرًا شعبيًّا للحكومة يحول دون تقدّم الانقلابيين ونجاحهم في استكمال مخططهم أو أن يقود إلى تأخيره على الأقل.

هكذا، كان مُصدّق في أشهره الأخيرة يستقطب لأسبابٍ متنوّعة عداء مكوناتً رئيسيّةً في السياسة الإيرانيّة. فأنصار القصر الملكيّ المتعاونون في أغلبهم مع بريطانيا كانوا يستعدونه لأنّ حركته كانت تُهدّد مصالحهم التقليديّة كطبقة أرستقراطيّة استطاعت إعادة إنتاج النظام الإقطاعيّ مُجدّدًا من خلال علاقتها بسيّد القصر ومن خلال التلاعب بالعمليّة الانتخابيّة. كما كانت الشعارات التي طرحتها حركة مُصدّق حول الديمقراطيّة والسيادة الشعبيّة ومحاربة الاحتكارات الأجنبيّة تُناقض فكرتهم عن السياسة بوصفها ممارسة تتمّ في صالونات النخبة بعيدًا عن رعاع الشوارع والساحات العامّة.


كان مُصدّق في أشهره الأخيرة يستقطب لأسبابٍ متنوّعة عداء مكوناتً رئيسيّةً في السياسة الإيرانيّة.

أما عناصر المؤسسة الدينيّة وعلى رأسهم آية الله محمّد بهبهاني -الذي لعب دورًا كبيرًا في التحشيد ضدّ مصدّق أثناء الانقلاب وقبله- وبدرجة أقل آية الله أبو القاسم كاشاني، فقد كانوا يعارضون مُصدّق على أرضيّة الموقف الدينيّ، إذ كانوا يرون فيه بأفكاره الوطنيّة العلمانيّة تهديدًا للقيم الراسخة للمجتمع الإيرانيّ وتقاليده العريقة المرتكزة إلى مدوّنة الإسلام الشيعي، كما كانوا يرون في تسامحه مع أنشطة حزب «توده» تمهيدًا لاستيلاء الشيوعيّة على السلطة. أمّا أنصار حزب «توده»، وتحديدًا الراديكاليون منهم، فقد كانوا يعادون الرجل على أرضية موقفه «البراغماتي» وسياسته في «الحياد السلبيّ» إزاء القوى الكبرى وتمنّعه عن إحداث قطيعة كاملة مع الأمريكيين. وقد رأى أنصار الحزب أنّ برنامج مُصدّق لم يكن جذريًّا بما فيه الكفاية، وأنّه في جوهره يسعى لإحلال الهيمنة الأمريكيّة محلّ الهيمنة البريطانيّة في نهاية المطاف. وبهذا المعنى، فقد كان مُصدّق وحيدًا إلى حدّ ما وتحديدًا في الأسابيع الأخيرة التي سبقت محاولة الانقلاب عليه.

إنّ التشديد على الدور المركزيّ الذي لعبته الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة في إسقاط حكومة مُصدّق مهمٌ من الناحية التاريخيّة، لا لأنّ الوقائع العيانيّة لما جرى في إيران بين العامين 1951 و1953 تُؤكّده بشكلٍ دامغ، ولا لأنّ عمليّة «TP-AJAX» ستكون في الواقع، الدافع وراء حقبة نوعيّة من التدخلات الأمريكيّة السريّة في بلدان العالم الثالث فحسب، بل لأنّ بعض المُعالجات التاريخيّة الرائجة للحدث تُحاول تحميل مصدّق و«ديماغوجيّته» المسؤوليّة عن المصير المأساويّ الذي لقيه، وتحاول إعطاء الفاعلين الإيرانيين دورًا كبيرًا في مسار الأحداث بطريقة تُظهر الدورين الأمريكيّ والبريطانيّ كعاملين مُساعدين لا أكثر. وينطوي التشديد المذكور على أهميّة سياسيّة أيضًا، لأنّه يكشفُ بجلاء عن الجذور الكامنة وراء المسار الذي اتّخذه التاريخ السياسيّ لإيران مُذّاك وصولًا إلى اندلاع الثورة الإسلاميّة في العام 1979 ووراء الشعارات والسياسات التي تبنّاها النظام الجديد في طهران منذ ذلك الوقت.


ما بعد هزيمة مشروع تأميم النفط
لقد أفضت هزيمة مشروع تأميم النفط الذي قادته الجبهة الوطنيّة إلى عمليّة إعادة هيكلة جذريّة لقطاع الطاقة في إيران. فقد فُكّك احتكار الشركة «الإنجلوإيرانيّة» (التي سيُصبح اسمها منذ العام 1954 «بريتش بتروليوم»)، وشُكّل عوضًا عنه «كونسورتيوم» جديد استحوذت فيه الشركات الأمريكيّة النفطيّة الكبرى على حصّة 40% من الامتياز مقابل حصول الشركة البريطانيّة على نفس النسبة، فيما وُزّع ما تبقى من حصص على شركاتٍ فرنسيّة وهولنديّة وأمريكيّة أخرى.

وقد أُعيد إدماج إيران بشكلٍ تدريجيّ في سوق الطاقة العالميّ لتتحوّل مع الوقت إلى واحدة من أكبر مُنتجي الخام في العالم. وجاءت عمليّة إعادة الهيكلة هذه، والتي تبعتها حزمة مساعداتٍ ماليّة كبيرة، في إطار مشروعٍ أمريكيّ استراتيجيّ تضمن فيه إيران الجديدة استمرار تدفّق إمدادات الطاقة بدون تعطيل وتحمي أمن الخليج وتُشكّل حائط صدّ قويّ لمجابهة النفوذ السوفييتي. وقد شكلت هذه الديناميّات الجديدة الأساس الماديّ لقيام نظامٍ سلطويّ يقف الشاه على رأسه بسلطة لا ينازعه فيها أحد.

كان الشاه مهووسًا بتحديث إيران على الطريقة الغربيّة، وقد آمنَ بأنّه يمكن تحقيق هذا الهدف، إذا استُخدمتْ عوائد بيع النفط لشراء السلاح والتكنولوجيا والخبرات والسلع الغربيّة وللإنفاق على المشروعات الكبرى لعجلة التنمية والتصنيع. لكنّ هذا النمط التحديثي ربط مصير الاقتصاد الإيرانيّ بشكلٍ أكبر بالنفط وتقلّبات أسعاره. وكان بتركّزه على صفقات التسلّح الضخمة والمشروعات الكبرى يستنزف الموارد الماليّة لإيران، ويُذكي نار التضخّم، ويعجز عن خلق فرص عملٍ جديدة، ويشرخ المجتمع الإيرانيّ أفقيًّا بين الأغلبيّة المُفقرة التي بدأت زحفها من الريف إلى ضواحي المُدن، والشريحة الصاعدة المُرفّهة من الأعضاء الرفيعين في البيروقراطيّة العسكريّة والمدنيّة ومجموعات الخبراء التقنيين والسماسرة وحاشية الشاه وعائلته.

لم تستطع قبضة النظام الأمنيّة التي أصبحت أكثر سطوة وتشعبًا بفضل المساعدة الأمريكيّة والإسرائيليّة أن تمنع جيلًا جديدًا من المناضلين السياسيّين الإيرانيين من البزوغ، ولم تستطع البهرجة التي أحاط بها الشاه مشروعاته وخططه الكبيرة أن تمحو من الذاكرة الوطنيّة حركة التأميم التي كانت القابلة التي سمحت بولادة أوسع حركة تسييس في إيران في النصف الثاني من القرن العشرين مُمهدة الطريق للزلزال الكبير الذي سيطيح بالنظام الملكيّ مرّة واحدة وإلى الأبد في العام 1979. لقد تجرّع الدكتور محمّد مصدّق مرارة الهزيمة لكنّه ارتاح على الأقل في تراب بلاده، أمّا الشاه فقد خرج من إيران جارًّا ذيول الخيبة باحثًا عن منفى يأويه مُطاردًا بأشباح مُصدّق حتّى آخر أيّام حياته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حان وقت الاستعداد لانهيار إيران السياسي
» التاريخ السياسي للجيش السوداني
» التاريخ الإسلامي السياسي.... د.جاسم الجزاع
» سلسلة التاريخ السياسي للدولة العباسية
» تسع دول للشيعة على مر التاريخ، خمس منها في منطقة إيران

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث ثقافيه :: البترول ومشتقاته واهميته-
انتقل الى: