ضمانة حرية الاختيار في الإسلام
يزاوج الإسلام بين الخَلق والتشريع، بين الموضوعي الذي هو إرادة الله وبين الوعي الذي من المفروض أن يتراكم حتى يدرك الموضوعي، ويدعم الخلق والتشريع. أما الديمقراطية فلا تفعل ذلك وتتجاهل القضية الخلقية. والفرق هنا واضح في عمق الطرح، وهو أن الإسلام لا يُخضِع قضية حرية الاختيار لأحوال اجتماعية وظروف متغيرة، لكنه لا يترك الإنسان كالدابة يُساق دون علم ومعرفة، فيخاطبه عقليًا ليكون على وعي بكيفية ترتيب حياته على مختلف الصعد. فقد تتغير حدة الوعي وتتبدل مع الزمن وتبعًا للظروف. لكن حرية الاختيار تبقى قائمة حتى في ظل أقسى أوقات التخلف الإنساني. أما الديمقراطية فلا تضع معيار طبيعيًا لحرية الإنسان في الاختيار وتترك المسألة ضمن سياق تاريخي ـ اجتماعي معرّض للتبدُّل والتغيير. فأي النظامين يعطي هذه الحرية الضمان الأوفى؟ وأيهما تبعًا لذلك يمكن أن يتسع صدره لحريات أوسع؟.
إن مزاوجة الإسلام للخَلق والتشريع من أجل ترسيخ الموضوعي والذاتي مزاوجة عقلانية. الله هو خالق هذا الكون وهو الذي أتقن خلق كل شيء تبعًا لنواميس دقيقة تكمل بعضها بعضًا بحيث أنها تشكل كلاً متكاملاً بنواحيه المادية والمعنوية. إنه كون لا تتناقض مكوناته، وإنما تنسجم مع بعضها البعض، فتشكل منظومة لا تنفصل أجزاؤها على الرغم من تميزها. الإنسان جزء من هذا الكون ولا بد أن النواميس التي تحكم وجوده الجسدي والمعنوي منسجمة مع مختلف النواميس الكونية ولا تتناقض معها. أي أن الإنسان في نشاطاته المختلفة المادية والذهنية والنفسية يبقى ضمن الإطار الكوني العام الذي أبدع الله صنعه. ولهذا لا يمكن أن يأتي التشريع مناقضًا للنواميس التي خلقها الله سبحانه، ولا بد أن يصب ضمن القاعدة الأمثل التي تضع الإنسان في عجلة الانسجام الكوني.
أصف هنا التشريع بالذاتي لأن تطبيقه منوط بالإنسان وليس لأنه يحتمل التبديل والتغيير. إنه ذاتي لأن اجتهاد الإنسان يُعمل عليه ولأن للإنسان أن يختار بين تطبيقه والتخلي عنه. من خلال التشريع. يقول الله سبحانه للإنسان بأن هذا هو التشريع الإلهي الذي ينسجم مع النواميس الكونية وله أن يطبقه إن شاء مع العلم بأن لاختياره عاقبة. فإن اتبع الإنسان التشريع يكون قد انسجم مع نفسه (التوافق مع الذات) ومع العالم خارج ذاته (التوافق مع الموضوع)؛ لأن التشريع يعكس التناغم الذي يجب أن يتوفر بين الطاقات الداخلية للإنسان ذاتها، وبينها وبين العالم خارجها، وبه يتحقق التلاؤم والانسجام الطبيعيين. أي أن الإنسان يتصرف طبيعيًا عند التزامه بالتشريع وهذه هي حريته، ويخرج عن الطبيعة التي فُطر عليها إذا خالف التشريع ويكون بذلك قد قيَّد نفسه ووقف ضد حريته.
الاجتهاد ومشكلة الذاتية والموضوعية
لكن تبقى هناك مشكلة وهي متعلقة بتفسير التشريع. التشريع مطلق نصا لأنه من الله سبحانه والإنسان نسبي، ولا يمكن للنسبي أن يدرك المطلق. وأرجو ألا يتسرع أحد ويقول بأن هذه جملة خاطئة ويرد بأن النسبي يدرك المطلق. من الناحية الفيزيائية ومن ناحية الإيمان لا يمكن أن يتم هذا. فعلى الصعيد الفيزيائي، نجد أن النسبي ينتمي إلى عالم مختلف الأبعاد عن المطلق، وعلى الصعيد الإيماني ينتقص هذا القول (القول بإمكانية إدراك النسبي للمطلق) من قدر صاحب الحكمة المطلقة والتعظيم والرحمانية وهو الله سبحانه. في أحسن الحالات، يصر النسبي على تطوير معارفه بحيث يقترب رويدًا رويدًا من إدراك المطلق، الإدراك الذي لن يكتمل ضمن البعد الإنساني إلا يوم الدين. ولهذا أكثر القرآن الكريم من أوامر التدبر والتفكر والنظر والتعقل، ولم يأمر الإنسان بالتوقف عن البحث والتنقيب لأن الحقيقة بكل تفاصيلها قد أصبحت جاهزة بين يديه، ومهما اتسعت معارف الإنسان ومداركه، ومهما تعددت وسائله يبقى أمامه الكثير الذي لا ينتهي. قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (محمد، 24)، في إشارة واضحة إلى أن الذين يعزفون عن تدبر القرآن (أي دراسته والتمعن فيه) إنما هم كالأنعام لا يفقهون.
إن الإسلام ثنائي في بنيته. وهو يختلف في هذا عن كل الفلسفات التي أعرفها. فالإسلام يوحد بين الطبيعي والاجتماعي، بين المطلق والنسبي، بين الخلقي والتشريعي، بين الفردي والجماعي، بين الداخلي والخارجي، بين الموضوعي والذاتي. ولا يمكن لدين أن يكون دينًا بدون هذا الجمع المحكم؛ لأن الخالق لا يزرع متناقضات لا يمكنها أن تحوز الانسجام فيما بينها.