الدور المصري في غزة: وسيط من أجل التهدئة أم شريك في صنع السلام؟
ما تبقى لمصر في فلسطين يجب أن يكون أكثر من مجرد أن تلعب دور الوسيط، بين الفلسطينيين أنفسهم، من أجل إحلال مصالحة صعبة، أو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من أجل إحلال تهدئة تبدو متوترة وقلقة. علاقات مصر بالسلطة في رام الله أصبحت محكومة بعوامل معقدة، وتوازنات وتحالفات متقلبة بين يوم وآخر، وأمزجة سياسية تحركها دوافع شخصية، أو حسابات عشوائية قصيرة النظر، وهي حاليا أقل مما كانت عليه قبل عام. أما علاقتها بقطاع غزة فهي علاقة تفرضها ثوابت الوجود والتاريخ والصراع السياسي في المنطقة. ومهما كانت المتغيرات المحيطة بهذه الثوابت، فإن مصر ليس أمامها طريق غير المحافظة على العلاقة عند أعلى مستوى ممكن من الدفء السياسي، والمحافظة على المصالح المتبادلة، مهما كان تأثير عوامل عدم التوافق السياسي مع حركة حماس، التي تحكم غزة بقوة الأمر الواقع، ونتائج انتخابات عام 2006.
ويشمل تأثير عوامل عدم التوافق السياسي أيضا، تداخل مصالح القوى السياسية في القطاع مع أطراف إقليمية ذات علاقات قلقة مع مصر مثل قطر وإيران. ونظرا لأن العلاقة بين مصر وقطاع غزة هي «قدر تاريخي وجيوستراتيجي» فإن مصر يجب أن لا تكتفي بدور يراد لها أن تلعبه هناك، بل إن عليها أن تطور هذا الدور، رغم كل التحديات، إلى المستوى المكافئ لطبيعة العلاقة بين مصر والقطاع على مرّ التاريخ، ولطبيعة المصالح المتبادلة بين المصريين والفلسطينيين في غزة. هذا المستوى المكافئ يجب أن يتطور من مجرد دور «الوسيط من أجل المصالحة والتهدئة» إلى دور «الشريك في صنع السلام» وهو دور تتوفر لمصر مقومات النهوض به. لكنها لن تتلقاه من الآخرين، يقدمونه إليها على طبق من ذهب، بل إنها يجب أن تبذل جهدا غاليا من أجل تحقيقه. ويتطلب القيام بدور الشريك في صنع السلام أولا، وقبل كل شيء وجود رؤية مصرية لصورة السلام الإقليمي، وعلى وجه التحديد صورة للسلام الدائم في غزة، تتجاوز الحسابات اليومية الصغيرة المرتبطة بأعمال وإجراءات «إدارة الأزمة» التي تهدأ أو تتصاعد طبقا للتفاعلات اليومية للمتغيرات الرئيسية في داخل الأزمة وتلك المحيطة بها.
وساطات ناجحة
وقد برهنت مصر خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، على قدرتها الكبيرة في لعب دور الوسيط من أجل التهدئة. وكانت وساطتها لتحقيق وقف إطلاق النار في حرب الـ11 يوما في مايو الماضي (10- 21 مايو 2021) عاملا حاسما في منع تدهور الموقف العسكري إلى مواجهة أبعد مدى، وتقليل حدة الخسائر البشرية والمادية التي تعرض لها القطاع بسبب القصف الإسرائيلي، واحلال هدنة يمكن أن تصبح أرضية انطلاق إلى سلام طويل المدى، وليس مجرد فرصة لالتقاط الأنفاس، من أجل استئناف الحرب من جديد. ويمكن القول إن مصر وهي تمارس دور «الوسيط من أجل التهدئة» في تلك المواجهات الأخيرة كانت تضع عينيها على واشنطن بقدر أكبر وأعمق من حساباتها لردود فعل حركة حماس، أو الحكومة الإسرائيلية. وقد أسهم الدور المصري فعلا في حصول حكومتها على رصيد قيمة مضافة في واشنطن، يلغي تقريبا أثر قيمة الرصيد المخصوم، بسبب ملف حقوق الإنسان. ومن ثم لم يكن من المنطقي أن تستمر واشنطن في تجاهل القاهرة، نظرا لأهمية الدور الذي برهنت أنها تستطيع أن تلعبه دون غيرها من الأطراف الإقليمية الأخرى.
في الزيارة الأولى التي قام بها وفد أمني مصري إلى قطاع غزة للتأكيد على ضرورة الالتزام بشروط وقف إطلاق النار في غزة، أعرب الفلسطينيون عن امتنانهم لقرار مصر بفتح معبر رفح، من أجل نقل مصابي الحرب للعلاج في المستشفيات المصرية، وإرسال مساعدات إنسانية من مصر إلى غزة. وقد جاء ذلك على التوازي مع كلمات التقدير للدور المصري، في ترتيب وقف إطلاق النار في غزة، التي جاءت قوية من الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي وجه الشكر إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي للمرة الأولى منذ تولى بايدن السلطة في يناير 2021، ووصف الدور المصري في ترتيب وقف إطلاق النار بـ«الحاسم». وكذلك بيانات الترحيب بوقف إطلاق النار وتوجيه التحية إلى الدور المصري من جانب الأمين العام للأمم المتحدة، وقيادات دول الاتحاد الأوروبي والقوى العالمية والإقليمية. وعلى الرغم من أن رصيد القيمة المضافة الذي حصلت عليه مصر، لم يكن كافيا لحدوث اتصال مباشر بين الرئيسين الأمريكي والمصري، إلا أن العلاقات ومستوى الاتصالات بين الطرفين، في النصف الثاني من العام الماضي على وجه العموم، كانا أفضل بكثير عما كانا عليه منذ بدأت إدارة بايدن ممارسة صلاحياتها التنفيذية في يناير الماضي.
يمكن القول إن مصر في دور «الوسيط من أجل التهدئة» كانت تضع عينيها على واشنطن أكثر من حساباتها لردود فعل حركة حماس، أو الحكومة الإسرائيلية
في شهر نوفمبر الماضي، خلال مشاركة قطر في لقاء وزاري للجنة الاتصال المخصصة لتنسيق المساعدات الدولية للشعب الفلسطيني، في العاصمة النرويجية أوسلو، وقعت مصر وقطر عددا من المذكرات بشأن التزام قطر بتمويل إمدادات مصرية إلى قطاع غزة، تشمل الوقود ومواد البناء. ولا شك في أن إنهاء القطيعة بين مصر وقطر، وعودة الدفء النسبية إلى العلاقات بين البلدين، من شأنه أن يؤثر ايجابا في الدور المصري في غزة، سواء على الصعيد السياسي، أو على صعيد برنامج الإعمار وإعادة البناء، وتوسيع الطاقات الاقتصادية في قطاع غزة الذي يعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني في ظروف صعبة جدا، نظرا لضيق الطاقات الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى ظاهرة بطالة مزمنة في القطاع، تشمل نصف قوة العمل تقريبا، حيث يرتفع معدل البطالة إلى أعلى المعدلات في العالم. وتقدر قطر قيمة المساعدات التي قدمتها إلى الشعب الفلسطيني بحوالي 1.5 مليار دولار أمريكي، ذهبت لتمويل مشروعات تهدف أساسا إلى «تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين» خُصصت لقطاعات الصحة والتعليم والإسكان والصناعة والزراعة ومشاريع البنية التحتية والطرق والإنشاءات.
دور مصر في إعادة الإعمار
في 18 مايو 2021 تعهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، وبعدها بيومين نجحت الوساطة المصرية في إقناع إسرائيل وحماس بقبول وقف إطلاق نار متبادل وغير مشروط، دخل حيز التنفيذ يوم 21 من الشهر نفسه. عندما أعلن الرئيس المصري تعهده بتقديم الدعم المالي لغزة، كانت الهجمات الإسرائيلية على القطاع قد تسببت في هدم وتحطيم ما يزيد عن 450 مبنى. وبعد أسبوعين فقط، شوهدت معدات البناء المصرية في طريقها إلى غزة، لتبدأ عملها، مع فتح الحدود لاستقبال المصابين الفلسطينيين، وعلاجهم في المستشفيات المصرية، إضافة إلى إرسال مساعدات إنسانية مصرية إلى غزة.
جمود برنامج الإعمار
لكن الأشهر التالية شهدت حالة جمود في تدفق المساعدات المصرية، والبدء في إعادة الإعمار، بسبب اشتراط إسرائيل أن يتم أولا التوصل إلى اتفاق لتبادل السجناء الفلسطينيين في إسرائيل، والمفقودين والأسرى الإسرائيليين في غزة، وجثتين لاثنين من الجنود الإسرائيليين تحتفظ بهما حماس. ولذلك فإن حالة من الإحباط تسود غزة في الوقت الحاضر، بينما يلوح البعض بالعودة إلى التصعيد عبر الحدود إذا لم تتحرك جهود الإعمار في الاتجاه الإيجابي.
رؤية مصرية للسلام؟
على الرغم من المستوى الدبلوماسي الاحترافي في «إدارة التطبيع» مع إسرائيل، فإن الدبلوماسية المصرية لم تتمكن بعد من بلورة رؤية واضحة للسلام، أبعد من نطاق ترديد الالتزام بحل الدولتين. ونظرا للظروف المعقدة التي تمر بها القضية الفلسطينية فإن مصر تحتاج إلى تكثيف اتصالاتها مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وحركة حماس، وإسرائيل وقطر، من أجل تقريب المواقف، حتى لا تتبخر أحلام الإعمار في غزة، ويعود اليأس إلى قطاعات واسعة من الشباب، فتكون العودة إلى الحرب هي الطريق الوحيد إلى مستقبل أفضل. وأيا ما كانت البدائل المطروحة للمستقبل في غزة، فإن البديل العملي يجب أن يحظى بقبول الفلسطينيين. الخطوة الأولى على هذا الطريق هي الاستماع إلى الفلسطينيين أنفسهم، والعمل على تقليل حدة الاستقطاب بين السلطة وحماس، خصوصا أن حماس تشعر بأنها أصبحت في وضع استراتيجي أقوى منذ مايو الماضي. إن عام 2022 يحمل في طياته الكثير من التوقعات بالنسبة للقضية الفلسطينية، فهل تستطيع مصر ان تلعب دورا جوهريا في صنع السلام في غزة وفلسطين عموما، كما نجحت في دورها كوسيط من أجل المصالحة والتهدئة؟