منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69938
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان Empty
مُساهمةموضوع: التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان   التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان Emptyالسبت 14 سبتمبر 2013, 11:49 am


التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان
اقتباس :
نشر هذا المقال في منبر الإسلام
العدد (10) السنة (39) شوال 1401هـ أغسطس 1981م
----------------------------------------------
التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان
ـ
ومن خصائص التشريع الإسلامي أنه يوافق الطبيعة الإنسانية ، ولا يجافيها، وهو يصطحبها في جميع تفاصيل التشريع ـ بحيث لا يقع بينه وبينها تناقضا أو اختلافا.
غير أن هذه الموافقة للطبع الإنساني كلمة عامة تحتاج إلى تبيان المراد منها والتعرف على مدلولها والقصد من ورائها.
ونحن إذا تأملنا طبيعة الإنسان نجد أن هناك بعض الأفعال خارجة عن طاقته متأبية على قدرته فإذا كلف بأدائها، فإنه يكون قد كلف بشئ يكون مستحيل الأداء بالنسبة إليه، وإن كان هو ممكن الأداء في ذاته.
وهناك أفعال أخرى تكون ممكنة الأداء بالنسبة إلى عامة أفراد الإنسان، ولكنها قد تكون متأبية على الأداء بحكم ظرف طارئ أو عجز قاهر في بعض أفراد الإنسان لا يمثل قاعدة عامة وإنما يمثل شذوذا فرديا، فإذا كلفت به الإنسانية فإنها تطيق أداءها على الجملة، ولكنها تتعثر حين تطرأ هذه الظروف على بعض الأفراد أو يقع العجز على من شاءت القدرة الإلهية أن تسلب منه بعض مقوماته، وهذه الظروف الطارئة تمثل استثناء في القاعدة العامة كما قلنا، ولكنه استثناء لو لم يأخذ في الاعتبار لعرض القاعدة التشريعية إلى شئ من الهزال والضعف أو شئ من النقص الذي يسلبها تمام الكمال.
ومن وجهة نظر ثالثة فإننا نجد بعض الأفعال يستطيع الإنسان أن يأتيها إذا توفر له قدر كاف من العزيمة وقوة الإرادة في حين أن بعض أفراد الإنسان لا يطيقون مثل هذا اللون من الأفعال، وإن كانوا يطيقون ما دونها من أضرب الفضيلة وخيار الأفعال، والمتأمل يجد أن هاتين الإرادتين جميعا قد تلمستا الطريق إلى الفضيلة ووضعتا الأقدام على درجها الصاعد من السفح الهابط إلى القمة السامقة، غير أن إحدى الإرادتين قد قطعت شوطا اختياريا بالقدر الذي لم تتمكن الأخرى من الملاحقة فيه.
ومن هنا فهل نستطيع أن نحكم على الإرادتين بأنهما فاضلتان كلتاهما مع تفاوتهما في درجات الفضل ؟ أم أننا نحكم على الصاعدة في سلم الفضيلة القريبة من القمة أنها هي الفاضلة وما دونها لا فضل لها ولا قيمة في معيار الخير والفضيلة ؟.
تلك هي المشاكل الثلاث التي يمكن لنا أن نتصورها حين نتصدى لمشكلة التوافق بين الطبع الإنساني والقانون أو التشريع، فإذا نجح التشريع (أي تشريع) أن يحدث نوعا من الوفاق بين الطبيعة الإنسانية ومواد التشريع بحيث يستشعر الإنسان الذي شرع له بأنه قد أشرب حب هذا التشريع، وأن التشريع قد خالط لحمه وعظمه، فإن ذلك يكون منتهى أمل المشرع، ذلك لأنه يكون قد حل مشكلة التناقض المفتعل بين المشرع باعتباره سلطة يحرص على سلطانه ودوام هذا السلطان وبين المشرع له بوصفه مأمور ومقهور وخاضع لأوامر المشرع، وتلك مشلكة يستشعرها المشرع إذا كان المشرع إنسانا، ولكنها قد تذوب وتختفي إذا كان التشريع له صلة وثيقة بالسماء .
ونحن نريد الآن بتوفيق الله أن نعرض عليك هذه المظاهر الثلاثة للطبيعة الإنسانية مع الإلزام بالتكليف وكيفية تحليلها من وجهة نظر المشرع الإسلامي دون الأخذ في الاعتبار وجهات النظر الأخرى لوضوحها في التقصير المحسوس عن إيجاد هذا التوافق بين ما تراه من قوانين ومبادئ الإلزام وما يستشعر الإنسان من نفسه من فطرة وطبيعة .
( أ ) التشريع لا يكلف بمستحيل :
إن التشريع الإسلامي لا يتأتى له أن يكلف بأمر هو مستحيل بالنسبة إلى طبيعة أفراد الإنسان وقدرهم لأن التكليف بأمر لا يستطيعه الإنسان ليس أمرا تأباه الفطر السليمة فقط ولكنه أمر يرفضه المشرع الإسلامي أيضا. 
فإذا كان الطبع لا يتحمل أن يطيق تكليف الإنسان بغير أجنحة أن يطير في الهواء بلا وسائط أو أن يحبس أنفاسه الساعات الطوال حتى الموت بغير استمتاع بالهواء، فإن الإسلام كذلك لم يرد عنه أنه قد كلف الإنسان بما يقارب هذه التكاليف المستحيلة النفاذ من الناحية العملية، ولم يدع التشريع الإسلامي لنا أن نجتهد لاستنباط هذه القاعدة، ولكنه صرح تصريحا واضحا بما يشرحها ويؤكدها. قال تعالى في محكم التنزيل " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " الطلاق 7 " لا تكلف نفسا إلا وسعها " الأنعام 52 " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة 286.
وليس من قبيل الوسع والطاقة أن يكلف الإنسان بفعل هو فوق طاقته وإرادته بمعنى أن الأفعال اللاإرادية لا تدخل ضمن مسئولية الإنسان ولا تنحصر في المنطقة التي يترتب عليها الثواب والعقاب، وتلك نتيجة هامة يجب أن تأخذ في الاعتبار، غير أن هذه النتيجة نفسها قد يقلقها ويزعجها أن هناك في التنزيل أيضا آيات تفيد أننا مكلفون بخلجات النفس ووساوس الصدور قال تعالى : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير " البقرة 284.
ولقد استشعر الصحابة أنفسهم هذه الصعوبة في التكليف على نحو ما تطلبه هذه الآية الكريمة، وانزعجوا لذلك انزعاجا شديدا على نحو ما حدثنا عنه أبو هريرة في حديث مطول (مسلم كتاب الإيمان) وقد روى ابن عباس هذه الحادثة نفسها بأسلوب مختصر قال: لما نزلت هذه الآية ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) قال دخل قلوبهم منها شئ لم يدخل قلوبهم من شئ، فقال النبي صل الله عليه وسلم قولوا : سمعنا وأطعنا وسلمنا قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: قد فعلت، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال: قد فعلت، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا قال: قد فعلت ). (مسلم كتاب الإيمان).
وتصرح رواية أبي هريرة بأن الآية الثانية " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" تعتبر ناسخة للتي قبلها بحيث تبقى القاعدة على أصلها، وهي أن التكليف لا يكون إلا بأمر مستطاع فعلا.
ولو أننا تأملنا التشريع في جملته وتفصيله فإننا لن نجد فيه مسألة واحدة تكلف الإنسان فيها أكثر من طاقته إلى الحد الذي يضاد القاعدة العامة ويقف معها على طرف النقيض ، فالقرآن والتشريع الإسلامي على العموم لا يكلفنا بالوساوس ولا بخلجات النفس، ولا يحاسبنا على نتائج عمل قلبي لا إرادي فيما عدا أن يكون هذا العمل القلبي نتيجة أو سببا لفعل إرادي نحن نستطيع أن نتحكم فيه أو نتغلب عليه. 
وطبقا لهذا التحليل فنحن مأمورون بحب الله تعالى، وحب الله عمل قلبي لا إرادي، ولكن الوسائل التي تؤدي إليه، ويصبح هو نتيجة لها مملوكة لنا من الناحية الإرادية، فنحن نملك أن نتأمل في نعم الله علينا، ونحن نملك أن نحلل أسباب وجودنا وأسباب استمرار هذا الوجود باعتبار أن لهذه وتلك ارتباطا سببيا بالله خالقها ومدبرها، وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي الشريف (احبوا الله بما يغذوكم به الله من نعمة) (الترمذي ـ السيوطي في جامع الصغير).. وهكذا يتضح أن عاطفة الحب وهي عمل قلبي لا إرادي إنما تتكون من مجموعة انفعالات يوجه إليها مثيرات متعددة هي التفكر في نعمة الله التي لا تحصى.
وحين يأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نمسك عن انفعال الغضب فإننا ربما نتوهم أننا مكلفون بالإمساك عن الغضب وهو انفعال نفسي وفيزيقي معا في جسم الإنسان وروحه على نحو يشبه أن يكون ميكانيكيا بحتا، ولقد أجمع شراح الحديث على أننا غير مكلفين بمقاومة الغضب كانفعال طبيعي وإنما نحن مكلفون بمقومات مثيرات الغضب وعدم التجاوب معها وهي أمور إرادية واختيارية، وإذا فاتنا مقاومة المثيرات ووقع الانفعال فعلا فعلينا أن نشغل المركز العصبي بشئ آخر حتى لا يتوجه إلى الجسم بإشارات تجل فيه نظام الحركة كأن نغير وصفنا إلى وضع آخر أو ننصرف إلى وضوء أو نفزع إلى الصلاة، وهذه الأخيرة اشغال للمركز العصبي وتوجيه للنفس نحو الأسمى وشغل الجسم بحركات وأعمال وهي أمور في مجموعها تذهب أثر الانفعال الذي هو في الحقيقة فعل غير إرادي يتوسط فعلين كلاهما يعد من قبيل الأفعال الإرادية.
وإذا تأملنا القرآن الكريم والسنة النبوية لوجدنا فيها هذه اللفتة الكريمة إلى فن مقاومة العواطف والانفعالات ففي نحو انفعال الغضب يقول تعالى: " والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " .
ومن أحاديث النبي ما رواه البخاري في كتا الأدب (عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال: لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب ). وهذا أمر عام يبينه ما روى عن النبي في أكثر من موضع متصل بباب الغضب والنهي عنه روى أبو هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وعن سليمان بن صرد قال: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صل الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا ألا تسمع ما يقول النبي صل الله عليه وسلم ؟ قال إني لست بمجنون ) (كلاهما في البخاري)، ولقد أوصانا النبي " فإذا غضب أحدكم فليتوضأ " (أبو داود ـ كتاب الأدب باب /3 ) و " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليقعد ، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع " (نفس المرجع).
ولو أننا تأملنا الأوامر أو النواهي التي تتصل بالعواطف والانفعالات لوجدناها جميعا تركز على أمور وأفعال تتقدم العاطفة تقدم السبب على المسبب أو تصاحبها أو تتأخر عنها كنتيجة أو أثر لها، وكل هذا إنما يقصد الإسلام من ورائه أن يحتوي أثر ومسببات الأعمال القلبية بإقرارها والدفع إليها إن كانت فاضلة، وبمجامدتها والنهى عنها إن كانت رذيلة من الرذائل.
وهذا كله وغيره مما يشابهه يؤكد من غير تهيب إن الإسلام حين يكلف أو يشرع إنما يكلف أو يشرع بأمور تتصل بإرادة الإنسان وتقع في نطاق قدرته.
وهذه الخاصية في التشريع الإسلامي يؤكدها الفحص العملي والواقع الميداني لتطبيق الشريعة نفسها، وهذا هو أسلم الطرق للبحث عن خاصية أو ميزة التشريع الإسلامي وتفوقه على غيره.
أما علماء العقائد فقد اتجهوا بالمسألة وجهة أخرى حولتهم عن طريق الجادة إلى أسلوب الجدل ذلك أنهم قد طرحوا المسألة على هذا النحو: هل يجوز للمشرع في الإسلام أن يكلف الإنسان بما لا يطيقه الإنسان أم أنه يجب عليه أن يراعي طبيعة الإنسان فلا يكلفه بأمر مستحيل النفاذ عمليا من ناحية ؟.
ونحن نرى أن طرح المسألة على هذا النحو يعد انتقالا مباشرا من بحث الموضوع بحثا موضوعيا إلى الجدل الميتافيزيقي، ومنذ أن طرح السؤال على هذا النحو وإلى فترات طويلة تالية قد شهدت الساحة الإسلامية وسوف نشهد خلافا مستعرا بين علماء أصول الدين الإسلامي، ولسوف نحاول أن نعرض نماذج من الإجابات الخاصة بهذا التساؤل والتي تنتسب إلى كبريات المدارس الإسلامية. 
يرى المعتزلة أن الله سبحانه وتعالى يستحيل عليه استحالة مطلقة أن يكلف الإنسان بما هو مستحيل بالنسبة إليه، إذ أن التكليف بذلك المستحيل فضلا عن أنه ضرب واضح من ضروب العبث فإنه لا يليق بالعناية الإلهية أن تفعل مثله.
ولقد حاول المعتزلة من منطلق عقلي أن يدافعوا عن وجهة نظرهم هذه باعتبار أنها مسألة حساسة في المذهب الاعتزالي كله لا تتصل بالتشريع والتكليف وحده وإنما تتصل بكل مناحي الحياة واحتياجات الإنسان بالمعنى الواسع لهذه الكلمة بحيث تشمل رعاية الصلاح والأصلح من الله للعباد واستحالة صدور القبح عنه ووجوب إثابة المطيع وتعذيب العاص إلى آخره.
وهذا الخط الاعتزالي العام قد أحدث رد فعل بعيد الأثر عند مدرسة كلامية من كبريات المدارس في الإسلام وهي مدرسة الأشاعرة الذين رأوا أن الله له السيطرة الكاملة على الكون كله بما في ذلك الثقلين وهو يتصرف بحكم هذه السيطرة في الكون تصرفا مطلقا، ومن هنا فإنه يكون من حق الإرادة الإلهية أن تكلف الإنسان مثلا بشئ هو من قبيل المستحيلات في الواقع العملي.
وهاتان المدرستان المتقابلتان قد تطرفت إحداهما في الجانب العقلي، والأخرى قد بالغت في التطرف في فهم النصوص الخاصة بالتشريع.
ولقد رأينا قبل قليل أن حسم هذا الخلاف لا يتأتى عمليا إلا بطرح المسألة طرحا صحيحا كما طرحناها في صدر معالجتنا لهذه الجزئية، ولو أننا تأملناها على نحو ما طرحناها سلفا ثم تتبعنا جزئيات الشرع الحكيم لم نجد مسألة واحدة قد كلفنا الله فيها بما هو فوق طاقتنا.
ويحاول الأشاعرة أن يتلمسوا في القرآن الكريم مسألة تؤيد وجهة نظرهم، واعتقدوا أنهم قد توصلوا إلى ما يريدون حين رأوا أن القرآن قد حكم على بعض الناس بالكفر المؤبد والعذاب المقيم، كما حدث بالنسبة لأبي لهب أن الله قد حكم عليه بالهلاك في الآخرة باعتبار أن هذا الهلاك هو الجزاء الطبيعي الذي يناله عقوبة له على كفره وعناده، على أن أبا لهب هذا من جهة أخرى يعتبر داخل في التكليف بالإيمان ومتابعة النبي، وهم يقولون أن أبا لهب يستحيل أن يؤمن برغم أن الله قد أمره بالإيمان ضمن الأمر العام الإلهي بأنه لن يؤمن ، وبذلك يكون الله قد كلفه بالمستحيل، وقل مثل هذا في الكافرين الذين علم الله عدم إيمانهم ثم كلفهم بالإيمان.
ويلحظ بعض الكتاب في حديث الأشاعرة هذا شيئا من التطرف المذهبي غير قليل كما أن في هذا الاستدلال مغالطة منهجية لا تخفى، ذلك أننا نعلم ـ وحتى على مذهب الأشعرية أنفسهم ـ أن صفة العلم ليست صفة تأثير ، وإنما هي صفة انكشاف وفقط، ومن هنا فإنه لا يترتب عليها تأثير عملي في أحداث الكون أو تتابع الوجود، ولو كان الأمر كذلك الذي يدعيه الأشاعرة لوقعنا في خلط منطقي لا مبرر له، فنحن نعلم أن الأشياء تنقسم عقليا إلى الواجب والممكن (الجائز) المستحييل، فلو قلنا أن كل ما علم الله عدم وجوده يكون مستحيل الوجود فإنه يكون بالقياس على ذلك أن كل ما علم الله وجوده في المستقبل يكون واجب الوجود، ومن حقنا هنا أن نسأل عما عسى أن يكون قد بقى للقسم الثالث الذي هو الجائز، وإذا لم يبق للجائز شئ من حظ في هذا الواقع العملي فما هو متعلق الإرادة والقدرة إذا ؟ إنها معضلات ومشاكل يمكن إثارتها أمام مذهب الأشاعرة بحيث يصعب عليهم اجتيازها، الأمر الذي دفع بالقاضي عبد الرحمن الإيجي إلى التعليق على نحو هذا الاستدلال بقوله : ( .... وبه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب نصب للدليل في غير محل النزاع ).
ولقد حاول الإيجي أن يقترب من الواقعية شيئا من الاقتراب وهو يحلل مسألة التكليف بالمحال، فهو يقسم هذا الذي يتراءى لنا على أنه محال إلى أقسام ثلاثة: أولها: الأشباه التي علم الله عدم وجودها كإيمان أبي لهب وغيره، وهذا القسم لا يبدو أنه من قبيل المحالات عمليا على نحو ما بينا سلفا، وأن التكليف بمثل هذه الأشياء التي تعد من قبيل المحالات أمر لا يقتصر على إيمان أبي لهب، وإنما ينطبق كذلك على تكليف العاصي بالإقلاع عن المعصية والتزام الطاعة مع أنه ينكشف للعلم الإلهي أن بعض العصاة لن يقلعوا عن عصيانهم.
وثاني هذه الأقسام : المستحيلات بحسب مفهومها كأن يكلفنا الله بالجمع بين الضدين أو قلب الأجناس أو نحو ذلك ، وهذا أمر اختلف الناس في كيفية تصوره وعلى الجملة فإن من يقر التكليف به يكون قد خالف عقله وفكره، وهناك نوع ثالث من الأفعال التي قد يقال عنها بأنها مستحيلة كأن يكلف الإنسان بفعل هو ممكن في ذاته، ولكنه فوق طاقة الإنسان كأن يكلف بالطيران في الهواء أو حمل أثقال لا تتحملها طاقة الإنسان ، ولا يطيقها أو ، لا يقوى عليها. وهذا اللون برغم أنه من الناحية العقلية ليس بمستحيل ولكنه من الناحية الإجرائية كا يرى الإيجي لا وجود له في الشريعة الإسلامية.
وها التحليل الموضوعي الذي اختار الإيجي أن يسير عليه منهجيا لا يفيدنا في هذه المسألة إلا فائدة ضئيلة في كسر حدة الخلاف المذهبي، والذي ينبغي أن يرفع عن علماء الأمة الإسلامية وعامتهم رفعا تاما، ولا يتأتى له أن يرفع إلا بإعادة طرح المسألة على نحو جديد.
( ب ) التشريع والموقف :
في الفقرات السالفة الذكر اتضح لنا بجلاء أن الشريعة الإسلامية قد أزاحت من طريق الإنسان التكليف بأمر هو من قبيل المستحيلات على الأداء الفعلي للإنسان.
ويبدو أن هذه الخاصية لابد وأن تكون ميزة كل تكليف سماوي أو فكر إنساني يتصل بالإنسانية ويكون ناتجا عن عقل رشيد ومفكر يتحمل مسئولية فكره.
غير أن التشريع الإسلامي هنا ـ وفي هذا الموضوع الذي نتصدى له الآن ـ يعلن عن إرادة قوية ترغب في إزالة كل عقبة تشريعية من طريق الإنسان ، ولكن العقبة هذه المرة لا تتصل بأمر مستحيل الأداء بالنسبة للإنسان ، ولكنها تتصل بأمور هي في طاقة القدرة الإنسانية إلا أن الإنسان يتحمل في سبيل أدائها شيئا من الجهد ونوعا من الإرهاق ، وهي أمور يرغب المشرع الإسلامي أن لا تكون سمة التشريع وظاهرة أساسية في التكليف بأداء الأمور العملية.
ونحن نستطيع أن نتأمل بعض نصوص القرآن الكريم لنجد فيها لفتة قوية إلى إزالة هذه العقبات عن طريق التكليف بأمور الشريعة " يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر" البقرة 185 " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 " يريد الله أن يخفف عنكم " النساء 28 " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الأنبياء 107.
وهذه الآيات ومثيلاتها تعلن عن بداية تشريع التكليف الإسلامي موافق لطبيعة الإنسان جديد ربما تغيب سماته في التشريعات الأخرى التي عدلت من طبيعتها في بعض المواقف لترضع نشوزا طرأ على مواقف المكلفين، كما حدث من الإجراءات الطارئة على الخط العام للرسالات السماوية حين كانت الرسالة موجهة إلى بني إسرائيل ، وهذه الإجراءات الطارئة حملت الإسرائيليين من الجهد ما يرهقهم ومن التكليف ما يتعذر عليهم "ذلك جزيناهم ببغيهم".
ولقد لفتنا القرآن الكريم إلى أن نعني بالاستعاذة من هذا الموقف الشديد "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" البقرة 286.
وفي التشريع الإسلامي مراعاة شديدة للموقف بحيث يتأتى أن يكون له اعتبار شديد في القاعدة التشريعية نفسها سواء في الصعود بها أو في التنازل عن بعض مستلزماتها.
ففي آداء العبادات مثلا نجد التشريع الإسلامي يتلاءم مع طبيعة الإنسان غاية التلاؤم، فهو يطالبه بأداء ما كلف به دون أن يكلفه أن يشتط في هذا الأداء إلى درجة التحمل مع المشقة الشديدة.
فإذا كان الإنسان المكلف قد زود بنفسية قوية يتحمل أكثر مما يتحمل غيره من الناس بحيث يكون هو شاذ في هذا المجال، فإنه يكون له في الشريعة ما ليس لغيره، وهذه النفسية الشاذة في الكمال التي قد توفر لها من الاستعداد ما لم يتوفر لغيرها منحصرة تمام الانحصار في شخص النبي محمد نفسه، ولذا كان هو المخاطب بقوله تعالى: " قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا " المزمل 2 ـ 4، وهذا التكليف الذي اختص به النبي قد رأى بعض الصحابة أن يقلدوه فيه إلا أنهم في حقيقة الأمر ربما لا يطيقونه لأنهم ليس لهم من المؤهلات ماله ، ولا من قوة النفس مثل ما للنبي منها، ولذا يوجههم القرآن إلى شئ أيسر عليهم في الأداء فيقول: " فاقرءوا ما تيسر منه" المزمل 20. 
وأنت ترى من مقارنة هذين الموقفين أن التكليف في الشريعة الإسلامية إنما يراعي تماما الموقف التكليفي بكل ظروفه ، ذلك أن الشرع في الإسلام لا يريد أن يكون التكليف مظهرا لعلاقة بين حاكم ومحكوم أو بين متسلط بالقهر والغلبة وخاضع بالذلل والاستكانة ، وإنما المشرع يقصد إلى تكليف يتعشقه المكلف ويتودد إلى المشرع بحب لا بنفاق وتزلف.
رغب بعض الصحابة أن يتابع النبي فيما اختص به من التكليف بالتهجد فاشتدوا على أنفسهم فكره النبي منهم ذلك حيث روى أنس بن مالك عنه قال : ( دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت فقال النبي صل الله عليه وسلم لا. حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ) وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ( كان عندي امرأة من بني أسد فدخل على رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: من هذه قلت فلانة لا تنام بالليل فذكر من صلاتها فقال: مه عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا ) (كلاهما في البخاري ـ باب التهجد). 
وهذه الميزة في الإسلام ربما يستثمرها بعض ضعفاء النفوس استثمارا خاطئا فيقصر في التشريع ، ويتهاون في بعض الأداء أو يحول العبادة إلى شئ آلي ميكانيكي، وتلك هي خطيئة في حق التشريع الإسلامي وفهمه يترتب عليها من الضرر ما لا يترتب على المقابل لها من التشدد في أمر الدين وإلزام المرء لنفسه ما لا يلزم منه، ومن هنا فإن من يشتد على نفسه في الدين لا يترتب على تشدده من ضرر إلا خشية الانقطاع والفتور، أما الكسالى فإنهم ليس لهم من أعمالهم شيئا إذ أنه من المقرر في الإسلام أن المكلف ليس له من تكليفه إلا ما عقل منه.
والنقطة الهامة التي تجمع بين الطرفين المتقابلين هي أن الإنسان يجب أن يؤدي التكليف وهو في حالة تجاوب تام وانسجام مطلق بين القلب والجوارح، وهذا ما يرمي إليه حديث رسول الله ( ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ) (مسند أحمد ـ مسند أنس).


عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في السبت 14 سبتمبر 2013, 11:55 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69938
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان Empty
مُساهمةموضوع: رد: التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان   التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان Emptyالسبت 14 سبتمبر 2013, 11:50 am

ونحن نريد الآن أن نتحول إلى جانب آخر يتضح فيه تجارب التشريع مع الموقف على نحو تام.
إن تاريخ الأديان يكشف لنا عن قاعدة مقررة، هذه القاعدة تفيد أن الدين في أول أمره وبداية عهده يتبعه عدد قليل من الناس يتحملون تبعة عظيمة في حمل لواء الصراع القائم بينما هو مقرر ثابت من العقائد والتقاليد الاجتماعية الفاسدة وما هو مأمول منشود من المثاليات التي ترقى بالإنسان نحو طريق الرقي والكمال.
والجيل الأول الذي سيتحمل هذه التبعة يملك من كمال الهمة ورصيد العاطفة وقوة التعقل مالا يملكه العديد من أبناء الجيل التالي ، فإذا انتشر الدين وكثر أتباعه ضعفت العاطفة شيئا من الضعف وحل كثرة العدد محل قوة الاندفاع الفردي، وتغير الحال واختلف الموقف.
وفي ضوء هذه القاعدة المقررة في تاريخ الأديان سوف نجد صدى قويا لها إذا تأملنا التكليف الإسلامي مقارنين بين المواقف المختلفة فيه، فحينما فرض الجهاد على المسلمين وأصبح أمرا تكليفيا واقعا كان المؤمن في أول صدر الإسلام مكلفا بقتال المشركين ما دامت النسبة العددية لم تتعد واحد إلى عشرة، أي أن المؤمن في صدر الإسلام الأول مكلف بالثبات في الميدان حتى ولو كان في مواجهة كل فرد من المسلمين عشرة أفراد من المشركين " ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون " الأنفال 65 ، وهذا التكليف على هذا النحو منسجم غاية الانسجام مع قوة الإرادة عند المؤمنين والصبر على تحمل الأداء مع قلة العدد في أول صدر الإسلام.
غير أن هذا الموقف يطرأ عليه بعض التغيير حين يكثر عدد المنتسبين إلى الإسلام وما زال الوحى ينزل، وهذا التغيير في الموقف منشأه هو أن الإرادة العامة المركزة في عدد من الأفراد القلائل قد توزعت على عدد أكبر من الأفراد فتغير التكليف طبقا لتغير الموقف ذلك أن كثرة العدد تحدث جوا من الاسترضاء النفسي الملحوظ بين المتحمسين للمبدأ غير أنه ينبغي أن نلاحظ هنا أن هذا الاسترخاء النفسي له حد أدنى ينبغي أن يقف عنده بشرط أن يكو الحد الأدنى نفسه يحتفظ للفرد المسلم بميزة التفوق على فردين على الأقل من غير المسلمين " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " الأنفال 66.
وهذا ا لتغيير في الوقف على نحو ما رأينا مربوط بسبب واضح هو شيوع الفتور النسب مع كثرة العدد، وشيوع الفتور على هذا النحو أمر طبيعي لا دخل لإرادة الإنسان فيه، وما دام كذلك فإن الثبات على الموقف التكليفي الأول يعد من قبيل تكليف الإنسان بما لا يستطيعه. 
ولعله من الواضح عند تأمل الشريعة الإسلامية أن أي تغيير غير إرادي يطرأ على أي فرد من الأفراد يؤثر في مستواه الأدائي وقدرته على الممارسة فإنه يبيح له الاستمتاع بحق التخفيف المشار إليه ويجد له مجالا رحبا في الشريعة للاستمتاع بالرخصة " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " النور 61 والفتح 17.
وهناك بعض الأفراد في الإسلام لا يطيقون الصوم ولا يرجى منهم في المستقبل أن يطيقوه فهؤلاء يسقط التكليف بالفرض مع استبداله بما يتمكنون من آدائه وهو إطعام المساكين، أما إذا كان يمكن أن يصوم في المستقبل فإن الرخصة بالنسبة إليه " فعدة من أيام أخر" ، وقد يكون التيسير بإسقاط بعض التكاليف كما للمسافر في الصلاة من جواز القصر والجمع، وقد يكون التيسير بالإبدال بعملية رمزية فقط، فالذي يتعذر عليه استعمال الماء يمكن له أن يستبدله بالتيمم وهو عملية رمزية في الوجه واليدين.
وهذكا يتضح لنا أن أي عقبة طبيعية تقف أمام تنفيذ التشريع وتحول بين المكلف وأداء ما ألزم به فإنها تجد لها حالة استثنائية من القاعدة العامة للتعامل معها.
ولكن ماذا يكون الموقف التشريعي إذا كانت العقبة المعوقة هي من صنع الإنسان المكلف نفسه كأن يتدخل في حركة الجسم الميكانيكية من غير مبرر سوى الهوى فيحدث فيها تأثيرا يعوق تنفيذ بعض الشرائع أيتركه الشرع الحكيم باعتبار أنه هو المتسبب ليتحمل مسئوليته ونتيجة فعله ؟ .ربما يكون هذا معقولا غير أن المشرع الحكيم لم يتعامل معه بهذه الجفوة، ولم يقف منه موقفا سلبيا، ولكنه إذا وجد منه صدق النية فإنه سوف يجد من المشرع ما يساعده على تخطي العقبة التي صنعها هو بيده وبإرادته حتى صارت بالنسبة إليه كطبيعة ثانية .
والمثال الجزئي الواضح هو في طريقة تعامل الإسلام مع الخمرة ومدمنيها.
لقد دأب العرب في الجاهلية على شرب الخمر حتى كانت موادها جزء لا يتجزأ من مطالب الجسم الأساسية التي تعود عليها ولا يستطيع الحركة العادية بدونها، ولكثرة المتعاطين للخمر في المجتمع الجاهلي أصبحت صناعته والاتجار فيه يشكلان جزءا هاما وأساسا قويا من أسس الاقتصاد في مكة، فلما أراد المشرع أن يلغي الخمرة من المجتمع الإسلامي تدرج في هذا الإلغاء لكي يساعد الجسم الذي تعود عليها أن يتدرج في التخلص منها ويساعد الاقتصاد المكي على أن يتهيأ لاستبدال أساس هام من أسسه التي يعتمد عليها، ولذا جاء تحريم الخمر على مراحل أربع تترقى في الإبانة عن القصد الحكيم وراء التحريم، فكان أول هذه الآيات : " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " النحل 76 لفتا خفيفا إلى هذه الآفة ، وفي الآية الثانية مقارنة بين ما في الخمر من نفع اقتصادي وضرر يتصل بالأجسام والأرواح " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " البقرة 219 وعلى أساس من هذه المقارنة تهيأ المسلمون إلى نزول حكم يحرم الخمر تحريما قاطعا ولكن المشرع لم يعط في الخمر حكما على نحو ما كانوا يترقبون وإنما حرمها تحريما جزئيا " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " المائدة 43 وبتحليل هذا التصريح الذي يحرم الخمر تحريما جزئيا نجد أن هذا الحذر يستغرق النهار كله وجزءا كبيرا من الليل وهو قد أتى بعد تهيئ اقتصادي وتدريب عملي للجسم البشري على أن يتعود هذه المرحلة، ولم يعد إلا أن يبين الله في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية الأخيرة " إما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " المائدة 90.
وهذه الطريقة المنهجية التي اختطها القرآن ليعالج بها عقبة كان الإنسان سببا في إيجادها وخلقها هو منهج مفهوم عند علماء الاقتصاد والطب جميعا وغيرهم من علماء التربية والاجتماع، إن عالم الطب حين يتعامل مع الأطفال الرضع يحاول أن يتكيف مع جهازهم الهضمي بالتدريج فلا يلقي إليه من الأطعمة إلا بمقدار ما يطيق جهازهم الهضمي أن يتعامل معه، وهكذا تفعل الأمهات الماهرات مع أطفالهن.
وهذه الطريقة المنهجية لم تكن خاصية هذا المثل الجزئي فحسب، ولكنها كانت سمة التشريع الإسلامي كله فحين نزل القرآن على النبي لم ينزل عليه جملة وإنما نزل عليه منجما يعالج قضية في المجتمع فإذا ما استقرت نزلت الآيات لتعالج قضية أخرى، وهذه المعالجة الجزئية تهيئ النفس البشرية بعد كل مرحلة لتلقى المرحلة التالية وهي تكتسب في كل مرة من القوة ما يجعلها أكثر استعدادا وحماسة لتلقي أوامر الشرع الحكيم.
غير أن هذه الطريقة المنهجية قد عابت على فهم جهلاء المجتمع المكي فقالوا: "لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " فأجابهم القرآن ببعض الحكم من وراء التنجيم "كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " الفرقان 32 " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث" الإسراء 106.
ومما سبق يتضح لنا أن التكليف في الإسلام ليس تكليفا جامدا على موقف وإنما هو قد ربط الإلزام بكل موقف.
( ج ) التدرج في سلم الفضيلة :
من المناقشة السالفة الذكر اتضح أن الإلزام في الشرع الإسلامي يتسم بسمتين أساسيتين حيث أنه أولا لم يكلف الأفراد بأمر مستحيل الأداء وهو ثانيا لم يثبت على موقف جامد بحيث تكون لقضاياه ضحايا قد غفل عنهم وضحى بهم في سبيل القاعدة ذلك أن المشرع في الإسلام لا يقر بمبدأ ضحايا القانون وإنما هو يوجد لهم استثناء في القاعدة تلاءم مع مواقفهم وظروفهم الطارئة.
واستكمالا للتوافق مع الطبع الإنساني نجد أن المشرع في الإسلام لا يضع قواعد صارمة للواجب إلا إذا كان الواجب نفسه لا يحتمل غير هذه الصرامة، فهناك أمور إذا تأملناها لا نجد لها إلا وجها واحدا للفضيلة لا نقبل التدرج أو التساهل بحيث يكون التراجع عنه يعتبر من قبيل الإثم والرذيلة.
غير أن بعض الفضائل تحتمل التدرج بحيث يكون لها حد أدنى يعتبر هو الفضيلة التي يجب أن تتحقق وما عداها من الفضائل فهو فضل وترقي يحض عليه الرغبة في الثواب والتطلع إلى المكانة العالية.
ونريد أن نوضح الموقف هنا بمثال من الأمثلة العديدة التي يحتويها القرآن الكريم، إن الإنسان إذا ما اعتدى عليه وهو قادر على الانتقام فإن أقل درجات الفضيلة التي يمكن للمعتدي عليه أن يفعلها هو أن يرد الاعتداء عن نفسه، ولما كان رد الاعتداء هو أدنى درجات الفضائل كان مشروطا بشروط الحيطة والحذر، إذ أن ما تحته مباشرة يعد رذيلة يجب الاحتراز عنها " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" البقرة 194.
وهذا الحد الأدنى للفضائل يعلوه مراحل ثلاث يكون الصعود إليها بالاختيار "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " آل عمران 134.
وعلى نمط هذا المثال تجد أمثلة كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: " ولا تنسوا الفضل بينكم" ، " ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو "، "والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما" ، " وأن تصوموا خير لكم " . 
وامهال المدين عندما يكون عاجزا عن الوفاء ـ واجب ، ولكن اعفاءه نهائيا من دينه بادرة جديدة بالثناء. " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم".
والدفاع عن النفس ضد الظلم حق، ولكن التحمل والمغفرة أجمل. " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " وأداء الفرائض خي، ولكن " ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم " .
وأنت حين تتأمل الفضيلة في جانبها الإيجابي لا تجد الواجب يتمثل لك في صورة صارمة لا مرونة فيها ولا تجاوب مع المواقف المختلفة، وإنما تجدها على نحو ما رأينا تضع حدا أدنى يشترك فيه جميع الناس وتطيقه جميع الطباع ولكنه يترك الباب مفتوحا أمام المتطلعين الذين يغريهم الثواب ويدفعهم التطلع نحو المثل الأعلى.
ولو أننا تأملنا الفضيلة في جانبها السلبي فإننا نجد هذا التدرج موجودا أيضا، إذ أن الحرام في الإسلام ليس على درجة واحدة في صالات الإثم وتحمل نتائج المخالفات، وإنما سوف نجد الكبائر تتربع القمة من الرذيلة، ونجد أقل منها الفواحش أو اللمم وهي صغار المخالفات أو الرذيلة، في أدنى درجاتها قربا من الفضيلة. 
وبين هاتين القائمتين المتوازيتين للفضيلة (أعني الفضيلة في جانبها الإيجابي والفضيلة في جانبها السلبي) نجد قائمة ثالثة لنوع آخر هو نقطة الالتقاء بين هاتين القائمتين المتدرجتين، وهذه القائمة تشتمل على المباح أو المعفو عنه، والمباح والمعفو عنه هما في الحقيقة نقطتان تلتقي عندهما الفضيلة في جانبها الإيجابي والسلبي ولولاهما لظلت الفضيلة بهذين الاعتبارين تسير في خطين متوازيين لا يتم الالتقاء بينهما على نحو من الأنحاء. 
وعند هذه النقطة من التحليل فإنه بالإمكان أن نقول شئ من الثقة أن أي عقل مهما أوتى من عمق التفكير لا يستطيع أن يضيف إلى هذه القوائم الثلاث ما يعطي التشريع مزيدا من القيمة أو ينتقص منه شيئا من غير أن يحدث خللا في ميزان الفضيلة والرذيلة.
وبعد أن تعرفنا على هذه الدرجات الثلاث التي تعبر عن قوائم مختلفة للأخلاق في جميع نواحيها، من حقنا أن نتوقف هنا لتأمل قائمة المباح والعفو عنه حتى نتأملها لنتفادى ما عسى أن يوقعانا فيه من ليس في الفهم أو زيف في الحكم.
فالمباح هنا والذي نقصد إليه هو أمر لا تتعلق به الأخلاق، وليس هو في مجال عملها لا بالسلب ولا بالإيجاب، فالإنسان حين يختار نوعا من الأطعمة التي لا تضر بجسمه ولا روحه ويختاره لتوافق هواه ومزاجه فإن هذا الاختيار منه لا يحكم عليه بأنه فاضل أو غير فاضل، وهو حين يختار مضجعه في هذا المكان أو ذاك داخل بيته لا يقال أن فعله هذا يعد فضيلة مرموقة أو رذيلة مستهجنة، وهو حين يختار لون ثيابه أو نوع النسيج الذي يلبس منه في دائرة ما شرع الله له لا يقال عنه أنه فاضل من أجل هذا الفعل أو أنه غير فاضل، والأمثلة متعددة ومتنوعة في هذا المجال وكلها تؤكد أن كل فعل لا يقع في مجال الفضيلة أو الرذيلة يعد من قبيل المباح.
ولكن النقطة المحيرة هنا إنما تعلق أساسا بالمعفو عنه وحول الضابط الذي سيحكم أفعال هذا النوع ويحددها بغير لبس ، إذ ربما يتخيل القارئ أن المعفو عنه كل فعل خيل إلينا الهوى بأننا لا نطيقه لأنه يحملنا نوعا من المشقة حين نكابد الرغبة والعاطفة، وهذا الأمر الذي يثير الخيال هنا لو صح لجرد الإنسان من كل قيمة وقعد به عن كل فضيلة كان يأمل أن يرقى إليها، وفهم هذه المسألة في غاية اليسر والسهولة ذلك أن الأخلاق في جانبها الإيجابي (الفضيلة) لا تتأتى إلا من مصارعة الهوى والرغبة وانتصار الإرادة والعقل على الهوى الجامح والنفس الإمارة بالسوء، والشعور بالذات الإنسانية التي ترقى بالإنسان فوق كل شعور هابط أو اندفاع مرذول، وهكذا يتبين لنا أن المعفو عنه ليس من قبيل تلك الفعال التي يعارضها الهوى وتقف العاطفة والغريزة في وجه تحقيقها والالتزام بها ، ولعل هذا هو ما يشير إليه القرآن الكريم حين يعبر في صرامة عن وجوب التزام طريق الجادة حين يكون المعوق هو الهوى أو يكون الضاغط هي الغرائز الدنيا والعواطف غير الراقية " أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" ، " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " " ومن أضل ممن اتبع هواه " .
ومن هذه النصوص وأمثالها تتضح صرامة التشريع الإسلامي في مواجهة الهوى والرغبة إذا كان كل من الهوى والرغبة سيقعدان بالإنسان عن مواصلة رقيه وكماله. 
وهذه الصرامة التي تبدو ظاهرة في مثل هذا الموقف ربما تلوح لبعض الناس بأن المعفو عنه لا مجال له في التشريع الإسلامي، وحينئذ تختل القاعدة التي شرحناها سلفا والتي تتصل بالقوائم الثلاث للأخلاق.
والحق أن المعفو عنه يجد له مجالا كاملا وضروريا ضمن إطار التشريع الإسلامي العام، ولكنه حين يظهر إنما يظهر لحل مشكلة ما نعرض للتطبيق العملي وإزالة عقبة تظهر على طريق الأداء فتحدث شيئا من البلبلة في عقل الملتزم بتطبيق الشرع على نفسه أو صعوبة لا يمكنه تفاديها مع التزامه بتطبيق الشريعة.
ولو أننا تأملنا المعفو عنه في الشريعة لوجدناه كله تقريبا من هذا القبيل.
فأكل الميتة في الشريعة حرام لا يجيزه المشرع ولا يوافقنا عليه، ولكن ربما يطرأ على الإنسان في صحراء أنه لا يجد ما يقتات به سواها، فهو الآن يوازن بين أمرين، بين الاحتفاظ بالحياة مع ارتكاب المحرم وتعريض نفسه للتهلكة المؤكدة مع الاحتفاظ بالمبدأ ، وهنا يوجد له المشرع المخرج الكامل أنه يعفى من تطبيق القاعدة على نفسه في هذه الظروف ليحافظ على حياته " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ".
والخمر في الإسلام حرام لما له من ضرر يقع على الجسم والروح، ولكن الإنسان إذا غص بالطعام ولا يجد من الماء ما يذهب عنه غصته فله أن يزيلها بالخمر إذا وجد في حالة من العفو التي تحافظ له على حياته ووجوده قياسا على الحالة السابقة الذكر.
فالإنسان يجب عليه أن يتنزه عن النجاسات ولكنه قد يتعرض إلى أشياء لا يمكنه الاحتفاظ بنفسه عنها وهنا يجد في الشريعة متسعا للعفو في حالة ما إذا كان يعمل في بعض المهن التي تعرضه لبعض النجاسات الحسية غير المرئية أو المرئية التي لا يمكن الاحتراز عنها بسهولة.
وهكذا يتبين لنا توافق الشريعة الإسلامية مع الطبيعة الإنسانية فلم يرد تكليف الإنسان بالمستحيل، كما رفع عنه كل متعذر غير ميسور وتجاوبت القاعدة مع الموقف تجاوب التغيير والتبديل إذا لزم الأمر.
" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
التكليف الإسلامي لطبيعة الإنسان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي
» ملف كامل تشريح جسم الإنسان ,كل ما يتعلق بجسم الإنسان,معلومات طبيه هامه عن جسم الإنسان
» الإفتاء:صيام الأطفال من باب الترغيب لا التكليف
» متابعة لحكومة النسور من التكليف الاول الى منح الثقه
» أطلس جسم الإنسان أول موسوعة طبية عربية لتفاصيل ووظائف أعضاء جسم الإنسان

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: