ونحن نريد الآن أن نتحول إلى جانب آخر يتضح فيه تجارب التشريع مع الموقف على نحو تام.
إن تاريخ الأديان يكشف لنا عن قاعدة مقررة، هذه القاعدة تفيد أن الدين في أول أمره وبداية عهده يتبعه عدد قليل من الناس يتحملون تبعة عظيمة في حمل لواء الصراع القائم بينما هو مقرر ثابت من العقائد والتقاليد الاجتماعية الفاسدة وما هو مأمول منشود من المثاليات التي ترقى بالإنسان نحو طريق الرقي والكمال.
والجيل الأول الذي سيتحمل هذه التبعة يملك من كمال الهمة ورصيد العاطفة وقوة التعقل مالا يملكه العديد من أبناء الجيل التالي ، فإذا انتشر الدين وكثر أتباعه ضعفت العاطفة شيئا من الضعف وحل كثرة العدد محل قوة الاندفاع الفردي، وتغير الحال واختلف الموقف.
وفي ضوء هذه القاعدة المقررة في تاريخ الأديان سوف نجد صدى قويا لها إذا تأملنا التكليف الإسلامي مقارنين بين المواقف المختلفة فيه، فحينما فرض الجهاد على المسلمين وأصبح أمرا تكليفيا واقعا كان المؤمن في أول صدر الإسلام مكلفا بقتال المشركين ما دامت النسبة العددية لم تتعد واحد إلى عشرة، أي أن المؤمن في صدر الإسلام الأول مكلف بالثبات في الميدان حتى ولو كان في مواجهة كل فرد من المسلمين عشرة أفراد من المشركين " ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون " الأنفال 65 ، وهذا التكليف على هذا النحو منسجم غاية الانسجام مع قوة الإرادة عند المؤمنين والصبر على تحمل الأداء مع قلة العدد في أول صدر الإسلام.
غير أن هذا الموقف يطرأ عليه بعض التغيير حين يكثر عدد المنتسبين إلى الإسلام وما زال الوحى ينزل، وهذا التغيير في الموقف منشأه هو أن الإرادة العامة المركزة في عدد من الأفراد القلائل قد توزعت على عدد أكبر من الأفراد فتغير التكليف طبقا لتغير الموقف ذلك أن كثرة العدد تحدث جوا من الاسترضاء النفسي الملحوظ بين المتحمسين للمبدأ غير أنه ينبغي أن نلاحظ هنا أن هذا الاسترخاء النفسي له حد أدنى ينبغي أن يقف عنده بشرط أن يكو الحد الأدنى نفسه يحتفظ للفرد المسلم بميزة التفوق على فردين على الأقل من غير المسلمين " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " الأنفال 66.
وهذا ا لتغيير في الوقف على نحو ما رأينا مربوط بسبب واضح هو شيوع الفتور النسب مع كثرة العدد، وشيوع الفتور على هذا النحو أمر طبيعي لا دخل لإرادة الإنسان فيه، وما دام كذلك فإن الثبات على الموقف التكليفي الأول يعد من قبيل تكليف الإنسان بما لا يستطيعه.
ولعله من الواضح عند تأمل الشريعة الإسلامية أن أي تغيير غير إرادي يطرأ على أي فرد من الأفراد يؤثر في مستواه الأدائي وقدرته على الممارسة فإنه يبيح له الاستمتاع بحق التخفيف المشار إليه ويجد له مجالا رحبا في الشريعة للاستمتاع بالرخصة " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " النور 61 والفتح 17.
وهناك بعض الأفراد في الإسلام لا يطيقون الصوم ولا يرجى منهم في المستقبل أن يطيقوه فهؤلاء يسقط التكليف بالفرض مع استبداله بما يتمكنون من آدائه وهو إطعام المساكين، أما إذا كان يمكن أن يصوم في المستقبل فإن الرخصة بالنسبة إليه " فعدة من أيام أخر" ، وقد يكون التيسير بإسقاط بعض التكاليف كما للمسافر في الصلاة من جواز القصر والجمع، وقد يكون التيسير بالإبدال بعملية رمزية فقط، فالذي يتعذر عليه استعمال الماء يمكن له أن يستبدله بالتيمم وهو عملية رمزية في الوجه واليدين.
وهذكا يتضح لنا أن أي عقبة طبيعية تقف أمام تنفيذ التشريع وتحول بين المكلف وأداء ما ألزم به فإنها تجد لها حالة استثنائية من القاعدة العامة للتعامل معها.
ولكن ماذا يكون الموقف التشريعي إذا كانت العقبة المعوقة هي من صنع الإنسان المكلف نفسه كأن يتدخل في حركة الجسم الميكانيكية من غير مبرر سوى الهوى فيحدث فيها تأثيرا يعوق تنفيذ بعض الشرائع أيتركه الشرع الحكيم باعتبار أنه هو المتسبب ليتحمل مسئوليته ونتيجة فعله ؟ .ربما يكون هذا معقولا غير أن المشرع الحكيم لم يتعامل معه بهذه الجفوة، ولم يقف منه موقفا سلبيا، ولكنه إذا وجد منه صدق النية فإنه سوف يجد من المشرع ما يساعده على تخطي العقبة التي صنعها هو بيده وبإرادته حتى صارت بالنسبة إليه كطبيعة ثانية .
والمثال الجزئي الواضح هو في طريقة تعامل الإسلام مع الخمرة ومدمنيها.
لقد دأب العرب في الجاهلية على شرب الخمر حتى كانت موادها جزء لا يتجزأ من مطالب الجسم الأساسية التي تعود عليها ولا يستطيع الحركة العادية بدونها، ولكثرة المتعاطين للخمر في المجتمع الجاهلي أصبحت صناعته والاتجار فيه يشكلان جزءا هاما وأساسا قويا من أسس الاقتصاد في مكة، فلما أراد المشرع أن يلغي الخمرة من المجتمع الإسلامي تدرج في هذا الإلغاء لكي يساعد الجسم الذي تعود عليها أن يتدرج في التخلص منها ويساعد الاقتصاد المكي على أن يتهيأ لاستبدال أساس هام من أسسه التي يعتمد عليها، ولذا جاء تحريم الخمر على مراحل أربع تترقى في الإبانة عن القصد الحكيم وراء التحريم، فكان أول هذه الآيات : " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " النحل 76 لفتا خفيفا إلى هذه الآفة ، وفي الآية الثانية مقارنة بين ما في الخمر من نفع اقتصادي وضرر يتصل بالأجسام والأرواح " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " البقرة 219 وعلى أساس من هذه المقارنة تهيأ المسلمون إلى نزول حكم يحرم الخمر تحريما قاطعا ولكن المشرع لم يعط في الخمر حكما على نحو ما كانوا يترقبون وإنما حرمها تحريما جزئيا " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " المائدة 43 وبتحليل هذا التصريح الذي يحرم الخمر تحريما جزئيا نجد أن هذا الحذر يستغرق النهار كله وجزءا كبيرا من الليل وهو قد أتى بعد تهيئ اقتصادي وتدريب عملي للجسم البشري على أن يتعود هذه المرحلة، ولم يعد إلا أن يبين الله في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية الأخيرة " إما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " المائدة 90.
وهذه الطريقة المنهجية التي اختطها القرآن ليعالج بها عقبة كان الإنسان سببا في إيجادها وخلقها هو منهج مفهوم عند علماء الاقتصاد والطب جميعا وغيرهم من علماء التربية والاجتماع، إن عالم الطب حين يتعامل مع الأطفال الرضع يحاول أن يتكيف مع جهازهم الهضمي بالتدريج فلا يلقي إليه من الأطعمة إلا بمقدار ما يطيق جهازهم الهضمي أن يتعامل معه، وهكذا تفعل الأمهات الماهرات مع أطفالهن.
وهذه الطريقة المنهجية لم تكن خاصية هذا المثل الجزئي فحسب، ولكنها كانت سمة التشريع الإسلامي كله فحين نزل القرآن على النبي لم ينزل عليه جملة وإنما نزل عليه منجما يعالج قضية في المجتمع فإذا ما استقرت نزلت الآيات لتعالج قضية أخرى، وهذه المعالجة الجزئية تهيئ النفس البشرية بعد كل مرحلة لتلقى المرحلة التالية وهي تكتسب في كل مرة من القوة ما يجعلها أكثر استعدادا وحماسة لتلقي أوامر الشرع الحكيم.
غير أن هذه الطريقة المنهجية قد عابت على فهم جهلاء المجتمع المكي فقالوا: "لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " فأجابهم القرآن ببعض الحكم من وراء التنجيم "كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " الفرقان 32 " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث" الإسراء 106.
ومما سبق يتضح لنا أن التكليف في الإسلام ليس تكليفا جامدا على موقف وإنما هو قد ربط الإلزام بكل موقف.
( ج ) التدرج في سلم الفضيلة :
من المناقشة السالفة الذكر اتضح أن الإلزام في الشرع الإسلامي يتسم بسمتين أساسيتين حيث أنه أولا لم يكلف الأفراد بأمر مستحيل الأداء وهو ثانيا لم يثبت على موقف جامد بحيث تكون لقضاياه ضحايا قد غفل عنهم وضحى بهم في سبيل القاعدة ذلك أن المشرع في الإسلام لا يقر بمبدأ ضحايا القانون وإنما هو يوجد لهم استثناء في القاعدة تلاءم مع مواقفهم وظروفهم الطارئة.
واستكمالا للتوافق مع الطبع الإنساني نجد أن المشرع في الإسلام لا يضع قواعد صارمة للواجب إلا إذا كان الواجب نفسه لا يحتمل غير هذه الصرامة، فهناك أمور إذا تأملناها لا نجد لها إلا وجها واحدا للفضيلة لا نقبل التدرج أو التساهل بحيث يكون التراجع عنه يعتبر من قبيل الإثم والرذيلة.
غير أن بعض الفضائل تحتمل التدرج بحيث يكون لها حد أدنى يعتبر هو الفضيلة التي يجب أن تتحقق وما عداها من الفضائل فهو فضل وترقي يحض عليه الرغبة في الثواب والتطلع إلى المكانة العالية.
ونريد أن نوضح الموقف هنا بمثال من الأمثلة العديدة التي يحتويها القرآن الكريم، إن الإنسان إذا ما اعتدى عليه وهو قادر على الانتقام فإن أقل درجات الفضيلة التي يمكن للمعتدي عليه أن يفعلها هو أن يرد الاعتداء عن نفسه، ولما كان رد الاعتداء هو أدنى درجات الفضائل كان مشروطا بشروط الحيطة والحذر، إذ أن ما تحته مباشرة يعد رذيلة يجب الاحتراز عنها " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" البقرة 194.
وهذا الحد الأدنى للفضائل يعلوه مراحل ثلاث يكون الصعود إليها بالاختيار "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " آل عمران 134.
وعلى نمط هذا المثال تجد أمثلة كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: " ولا تنسوا الفضل بينكم" ، " ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو "، "والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما" ، " وأن تصوموا خير لكم " .
وامهال المدين عندما يكون عاجزا عن الوفاء ـ واجب ، ولكن اعفاءه نهائيا من دينه بادرة جديدة بالثناء. " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم".
والدفاع عن النفس ضد الظلم حق، ولكن التحمل والمغفرة أجمل. " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " وأداء الفرائض خي، ولكن " ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم " .
وأنت حين تتأمل الفضيلة في جانبها الإيجابي لا تجد الواجب يتمثل لك في صورة صارمة لا مرونة فيها ولا تجاوب مع المواقف المختلفة، وإنما تجدها على نحو ما رأينا تضع حدا أدنى يشترك فيه جميع الناس وتطيقه جميع الطباع ولكنه يترك الباب مفتوحا أمام المتطلعين الذين يغريهم الثواب ويدفعهم التطلع نحو المثل الأعلى.
ولو أننا تأملنا الفضيلة في جانبها السلبي فإننا نجد هذا التدرج موجودا أيضا، إذ أن الحرام في الإسلام ليس على درجة واحدة في صالات الإثم وتحمل نتائج المخالفات، وإنما سوف نجد الكبائر تتربع القمة من الرذيلة، ونجد أقل منها الفواحش أو اللمم وهي صغار المخالفات أو الرذيلة، في أدنى درجاتها قربا من الفضيلة.
وبين هاتين القائمتين المتوازيتين للفضيلة (أعني الفضيلة في جانبها الإيجابي والفضيلة في جانبها السلبي) نجد قائمة ثالثة لنوع آخر هو نقطة الالتقاء بين هاتين القائمتين المتدرجتين، وهذه القائمة تشتمل على المباح أو المعفو عنه، والمباح والمعفو عنه هما في الحقيقة نقطتان تلتقي عندهما الفضيلة في جانبها الإيجابي والسلبي ولولاهما لظلت الفضيلة بهذين الاعتبارين تسير في خطين متوازيين لا يتم الالتقاء بينهما على نحو من الأنحاء.
وعند هذه النقطة من التحليل فإنه بالإمكان أن نقول شئ من الثقة أن أي عقل مهما أوتى من عمق التفكير لا يستطيع أن يضيف إلى هذه القوائم الثلاث ما يعطي التشريع مزيدا من القيمة أو ينتقص منه شيئا من غير أن يحدث خللا في ميزان الفضيلة والرذيلة.
وبعد أن تعرفنا على هذه الدرجات الثلاث التي تعبر عن قوائم مختلفة للأخلاق في جميع نواحيها، من حقنا أن نتوقف هنا لتأمل قائمة المباح والعفو عنه حتى نتأملها لنتفادى ما عسى أن يوقعانا فيه من ليس في الفهم أو زيف في الحكم.
فالمباح هنا والذي نقصد إليه هو أمر لا تتعلق به الأخلاق، وليس هو في مجال عملها لا بالسلب ولا بالإيجاب، فالإنسان حين يختار نوعا من الأطعمة التي لا تضر بجسمه ولا روحه ويختاره لتوافق هواه ومزاجه فإن هذا الاختيار منه لا يحكم عليه بأنه فاضل أو غير فاضل، وهو حين يختار مضجعه في هذا المكان أو ذاك داخل بيته لا يقال أن فعله هذا يعد فضيلة مرموقة أو رذيلة مستهجنة، وهو حين يختار لون ثيابه أو نوع النسيج الذي يلبس منه في دائرة ما شرع الله له لا يقال عنه أنه فاضل من أجل هذا الفعل أو أنه غير فاضل، والأمثلة متعددة ومتنوعة في هذا المجال وكلها تؤكد أن كل فعل لا يقع في مجال الفضيلة أو الرذيلة يعد من قبيل المباح.
ولكن النقطة المحيرة هنا إنما تعلق أساسا بالمعفو عنه وحول الضابط الذي سيحكم أفعال هذا النوع ويحددها بغير لبس ، إذ ربما يتخيل القارئ أن المعفو عنه كل فعل خيل إلينا الهوى بأننا لا نطيقه لأنه يحملنا نوعا من المشقة حين نكابد الرغبة والعاطفة، وهذا الأمر الذي يثير الخيال هنا لو صح لجرد الإنسان من كل قيمة وقعد به عن كل فضيلة كان يأمل أن يرقى إليها، وفهم هذه المسألة في غاية اليسر والسهولة ذلك أن الأخلاق في جانبها الإيجابي (الفضيلة) لا تتأتى إلا من مصارعة الهوى والرغبة وانتصار الإرادة والعقل على الهوى الجامح والنفس الإمارة بالسوء، والشعور بالذات الإنسانية التي ترقى بالإنسان فوق كل شعور هابط أو اندفاع مرذول، وهكذا يتبين لنا أن المعفو عنه ليس من قبيل تلك الفعال التي يعارضها الهوى وتقف العاطفة والغريزة في وجه تحقيقها والالتزام بها ، ولعل هذا هو ما يشير إليه القرآن الكريم حين يعبر في صرامة عن وجوب التزام طريق الجادة حين يكون المعوق هو الهوى أو يكون الضاغط هي الغرائز الدنيا والعواطف غير الراقية " أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" ، " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " " ومن أضل ممن اتبع هواه " .
ومن هذه النصوص وأمثالها تتضح صرامة التشريع الإسلامي في مواجهة الهوى والرغبة إذا كان كل من الهوى والرغبة سيقعدان بالإنسان عن مواصلة رقيه وكماله.
وهذه الصرامة التي تبدو ظاهرة في مثل هذا الموقف ربما تلوح لبعض الناس بأن المعفو عنه لا مجال له في التشريع الإسلامي، وحينئذ تختل القاعدة التي شرحناها سلفا والتي تتصل بالقوائم الثلاث للأخلاق.
والحق أن المعفو عنه يجد له مجالا كاملا وضروريا ضمن إطار التشريع الإسلامي العام، ولكنه حين يظهر إنما يظهر لحل مشكلة ما نعرض للتطبيق العملي وإزالة عقبة تظهر على طريق الأداء فتحدث شيئا من البلبلة في عقل الملتزم بتطبيق الشرع على نفسه أو صعوبة لا يمكنه تفاديها مع التزامه بتطبيق الشريعة.
ولو أننا تأملنا المعفو عنه في الشريعة لوجدناه كله تقريبا من هذا القبيل.
فأكل الميتة في الشريعة حرام لا يجيزه المشرع ولا يوافقنا عليه، ولكن ربما يطرأ على الإنسان في صحراء أنه لا يجد ما يقتات به سواها، فهو الآن يوازن بين أمرين، بين الاحتفاظ بالحياة مع ارتكاب المحرم وتعريض نفسه للتهلكة المؤكدة مع الاحتفاظ بالمبدأ ، وهنا يوجد له المشرع المخرج الكامل أنه يعفى من تطبيق القاعدة على نفسه في هذه الظروف ليحافظ على حياته " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ".
والخمر في الإسلام حرام لما له من ضرر يقع على الجسم والروح، ولكن الإنسان إذا غص بالطعام ولا يجد من الماء ما يذهب عنه غصته فله أن يزيلها بالخمر إذا وجد في حالة من العفو التي تحافظ له على حياته ووجوده قياسا على الحالة السابقة الذكر.
فالإنسان يجب عليه أن يتنزه عن النجاسات ولكنه قد يتعرض إلى أشياء لا يمكنه الاحتفاظ بنفسه عنها وهنا يجد في الشريعة متسعا للعفو في حالة ما إذا كان يعمل في بعض المهن التي تعرضه لبعض النجاسات الحسية غير المرئية أو المرئية التي لا يمكن الاحتراز عنها بسهولة.
وهكذا يتبين لنا توافق الشريعة الإسلامية مع الطبيعة الإنسانية فلم يرد تكليف الإنسان بالمستحيل، كما رفع عنه كل متعذر غير ميسور وتجاوبت القاعدة مع الموقف تجاوب التغيير والتبديل إذا لزم الأمر.
" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .