بينما تُصدّر وزارة “دفاع” الاحتلال برامج تجسس مثل “بيغاسوس” لاستخدامها في عمليات ضد صحفيين ومعارضين وقادة دول، تأتي عملية سجن جلبوع لتكشف أن هذا الكيان بكل برامج تجسسه، وجداره العازل، وقبته الحديدية، وتحصينات معتقلاته، واجراءاته الأمنية المشددة: من أكوام الباطون المسلح والجدران الشاهقة، وأبراج وكاميرات المراقبة، كل هذا هش تماماً أمام مقاوم فلسطيني وضع الحرية نصب عينيه، فغششته الأرض -وهو ابنها- سبيل الحرية.
يأتينا على غير العادة خبراً مفرحاً من سجن جلبوع سيء السمعة، والذي لطالما تصدر الأخبار في الاضرابات المفتوحة، واقتحام وحدات القمع مثل “متسادا” و”درور” و”اليمام” لعنابر الأسرى فيه. هذا السجن الذي أُنشأ في بيسان المحتلة بإشراف خبراء ايرلنديين ضمن مخطط صهيوني لعزل الأسرى الأكثر “خطورة” من مختلف التنظيمات فأصابوا منه المقتل.
يقدم الفلسطيني لنا كعادته نماذجاً بطولية أسطورية تفوق الخيال وسط تخلي دولي، وعربي، بل وتواطؤ من ابناء جلدته لكسر عزيمته، واجباره على القبول بدولة استعمار تتلقى مساعدات من كافة الأطراف والأصناف، بينما يهزأ الفلسطيني بآخر دول الاستعمار المباشر هذه بملعقة يستخدمها للحفر، وصلية كارلو، ومواد بدائية يحولها لصواريخ ليختار فعل المقاومة مرة بعد الأخرى رغم كل الأثمان التي دفعها، ويدفعها ويبقى اختيار المقاومة عنده فعلاً واعياً غير عابئاً بالتكلفة. كل هذا وسط تآمر من الأنظمة العربية، والمجتمع الدولي، والسلطة الفلسطينية، فلكم أن تتخيلوا صنع الفلسطيني أن كفت الأيادي الخائنة عن العمل ضده!
هذه ليست محاولة التحرر الأولى من سجون الاحتلال لأسرى. عملية اليوم اسثنائية بالمعنى الحرفي للكلمة لأن الاحتلال نفسه ووفق تصريحاته ظن بأن هذا السجن منيعاً جداً ولا يمكن الهروب منه، ونسي بأن الأسير المجبول على حب هذه الأرض التي لا يعرف غيرها يمكنه صنع المستحيل من اللاشيء، إنما صاحب المعتقل القادم من بروكلين، أو اثيوبيا، أو بولندا كل ما يعرفه هو أنظمة الحراسة التي تبقى تخذله مؤكدة مرة بعد الأخرى بأن لا احتلال ولا ظلم أبدي، والتاريخ يشهد بأن الحرية حتمية وإن تأخرت.
وجود القائد السابق لكتائب الأقصى في الضفة الغربية الذراع العسكري لحركة فتح زكريا الزبيدي ضمن قائمة الأسرى الستة يضع السلطة الفلسطينية في موقف أكثر احراجاً مما هي أصلاً فيه. حيث أن مخاوف الشارع من وصول السلطة الفلسطينية للأسرى تفوق مخاوفه من الاحتلال. خاصة أن للسلطة مواقف لا تُعد ولا تُحصى في هذا المضمار. حيث يُذكر قيام السلطة بتسليم واحداً من الأسرى الستة وهو أيهم كمنجي عام 2006 لقوات الاحتلال عقب تنفيذه عمليته الفدائية، حيث ثم التحفظ عليه داخل مقر السلطة لحين وصول قوات الاحتلال لاعتقاله، والخوف اليوم من أن يتكرر ذات السيناريو المخجل ويبقى التنسيق الأمني سمة مميزة لواقع السلطة.
دارت معركة عين جالوت التي حطمت أسطورة المغول عام 1260 قرب بيسان المحتلة والمقام معتقل جلبوع على أراضيها اليوم. حين أرسل هولاكو رسالته الشهيرة معلناً الحرب على المماليك، مثيراً ذعر بعض قادتهم لهول ما سمعوا عن المغول، رد قطز على قادته المترددين بمقاومة المغول خوفاً من بطشهم قائلاً: “أنا ألقى المغول بنفسي، فمن أراد الجهاد فليرافقني ومن لم يختر ذلك فليعد إلى منزله” لتنتهي المعركة بنصر ساحق للمماليك، ووقف التمدد المغولي، وتغيير موازين القوى، وتوحيد بلاد الشام ومصر من جديد.
تجري بعد أكثر من 750 عاماً وعلى نفس هذه الأرض معركة لتغيير موازين القوى يقودها الأسير الفلسطيني وحيداً، فهل تتخذ السلطة الفلسطينية اليوم موقف الظاهر بيبرس –أو على الأقل توقف التنسيق- أم أن هناك إصرار على أن ترث سلوك أبو رغال؟