إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب

محمد إسعاف النشاشيبي، أحد أعمدة مدينة القدس الفكرية، هو أديب العربية وفارسها الذي جمع بين الثقافة والعلم والأدب، واتخذ منزله بيتا للفكر والتراث، وما زال كذلك حتى وقتنا الحالي.
ولد في العام 1882 لعائلة مقدسية عريقة، فقد كان والده عثمان واسع العلم والثراء، وكان يقيم صالونا أدبيا في بيته، كما كان البيت يضم مكتبة ضخمة.
في هذا الفيلم الذي تعرضه الجزيرة الوثائقية، نتعرف على حياة فارس العربية، الذي صال وجال بقلمه ينظم حينا وينثر حينا آخر.

مكتبة العائلة.. حديقة الأدب التي أنبتت دوحة النشاشيبي

حرص النشاشيبي منذ صغره على حضور المنتديات التي كانت تقام في بيت والده، مما أكسبه فصاحة لسان وثقافة وسعة اطلاع، أما امتلاك والده للمكتبة -التي كانت شيئا نادرا في البيوت في ذلك الزمان- فقد مكنه من قراءة الكثير من الكتب، مما جعله مطلعا على اللغة العربية والأدب والشعر وجميع الفنون المتعلقة بها.
في البداية درس في كتاتيب مدينة القدس، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية فيها قبل أن ينتقل إلى بيروت، وهناك درس في مدرسة الحكمة، ثم عاد بعدها إلى فلسطين ليصبح مدرّسا في مدرسة الصلاحية ثم مديرا للمدرسة الرشيدية، وبعدها عُين مفتشا للغة العربية في مدارس فلسطين.
إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D9%81

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D9%81

حصل النشاشيبي على عضوية مجمع اللغة العربية السوري تقديرا له في خدمته العربية
لم يتزوج محمد إسعاف فقد كانت اللغة العربية والحفاظ عليها والدفاع عنها شغله الشاغل، وقد تفرغ لها تفرغا كاملا، وكان متميزا بأسلوبه العربي الإسلامي في الكتابة.
يقول عن معاناة العربية: ألا إنه لم يَشقَ أحد في هذا الوجود شقاء اللغة العربية، ولم يعانِ أخو بؤس من زعازع الدهر ولم يعاين ما عانته، ولم يسئ امرؤ إلى عدو أبلغ من إساءة أبناء هذا الزمان إلى العربية، فقد هجرها فريق منهم هجرا وجعل هجره ازدراءها واعتراضها، واستبدل فريق هذه اللغة الفصيحة البليغة الكريمة الراسية لغة القرآن الكريم المعجز والحديث.

“معجم لسان العرب”.. عشق عميق للغة الضاد

قام النشاشيبي بتأليف كتاب حمل عنوان مجموعة النشاشيبي، وكان بمثابة المدرسة الثقافية العربية والإسلامية للطلبة في ذلك الوقت.
وعن فصاحته وسلاسة أسلوبه يقول المختص بتاريخ القدس الدكتور عدنان الحسين: كان النشاشيبي عظيما في اللغة العربية، وكان كلامه العادي أشبه بالشعر، وكان مفرطا للغاية بإلمامه باللغة العربية وبالثقافة، حتى أن صديقه خليل السكاكيني أطلق عليه لقب معجم لسان العرب.
إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%86%D9%81%D8%A7%D8%A6%D8%B3

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%86%D9%81%D8%A7%D8%A6%D8%B3

أكثر مؤلفات النشاشيبي دارت حول اللغة العربية لغة القرآن التي اعتز بها واعتبرها عمود نصر الأمة وثباتها
يقول النشاشيبي: قد أطبق علماء المشارقة والمغاربة على أن اللغة العربية من أبلغ لغات الكرة الأرضية، ومن أفصح اللهجات التي حرك الإنسان بها لسانه، وإن اللغة العربية سيدة اللغات وأشرفهن مكانا وأحسنهن وضعا، فقال الرجل كيف لا تكون كذلك وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها، وأخذت الحسن؟

مواجهة التغريب والعامية.. معركة الاستهداف الحضاري

يقول الباحث محمد الوحش: ظهرت أيام الخلافة العثمانية بعض محاولات جعل اللغة التركية اللغة السائدة، ثم جاء الانتداب البريطاني الذي حاول أن يشيع لغته وثقافته في فلسطين، لكن النشاشيبي وقف مدافعا عن اللغة العربية بكل ما أوتي من قوة.
وفي زمن الانتداب كان على الموظفين إتقان اللغة الإنجليزية، فقد كتبوا لمحمد إسعاف بذلك وكان وقتها مفتشا للغة العربية، فرد عليهم ردا عنيفا وقدم استقالته.
تصدى النشاشيبي لمحاولة تغريب اللغة وحارب من أجلها، معتبرا أن اللغة هي الانتماء والوطن والثقافة، وأن كل هذه عبارة عن مسميات تعود لجسد واحد .
يقول النشاشيبي: وجاء صاحب شريعتنا العربية، فجاء أبلغ عربي وأفصح ناطق باللسان الضادي، وجاء القول المعجز الباهر وجاء مع هذا النبي العظيم كتاب عظيم، بلاغة العرب الخلّص العرباء، وفصاحة مصامع الخطباء، وإن ذلك الكتاب إذا أنشأ يذكر الجنة والجحيم كاد سامعه يشهدهما، وكاد يرى الجنان ذات الأكل الدائم والرياض النواضر تجري تحتها الأنهار المطردة، وآيات الكتاب كلها جمع في أمر إعجازها، كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفها، فيا أيها الكتاب لقد هلك من يدرك فصاحتك ويقدرك قدرك.
إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%81%D8%A7

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%81%D8%A7

لطالما نافح النشاشيبي عن العربية حتى أنه كان يرفض أن يتكلم مع الناس إلا بالعربية فضلا عن تدريسه بها
كان النشاشيبي يحارب العامية، وفي كل مخاطباته ومحادثاته يتكلم الفصحى، لقد دافع عن العربية دفاع المستميت وحاول إيقاف التوجه الخاطئ في التعامل مع اللغة العربية .
وقد أدرك أن الأمة مستهدفة بلغتها وثقافتها وتراثها، فكان ضد الانتداب البريطاني الذي سهل هجرة الحركات الصهيونية إلى فلسطين، وكان موقفه واضحا من ذلك إذ وقف مناضلا بكلماته وكتاباته وخطاباته ضد هذا كله دفاعا عن الوطن.

“قلب عربي وعقل أوروبي”.. تجاذبات التجديد والمحافظة

كانت شخصية محمد إسعاف النشاشيبي شخصية نارية، لكنه مع ذلك كان يحب المرح والمزاح ويعبر عن آرائه بطريقة حادة، وكان صاحب كاريزما قوية وظاهرة منحته سمعة طيبة وجمهورا عريضا في مصر التي لطالما ذهب إليها وألقى فيها المحاضرات.
وقد تعصب النشاشيبي للغة العربية، وكان يقول إن اللغة هي الأمة والأمة هي اللغة، وأن ضعف الأولى ضعف للثانية وقوة الأولى قوة للثانية، فاللغة دليل حضارة الأمة وقوتها.
قدم النشاشيبي العديد من المؤلفات والدراسات والخطابات، بالإضافة إلى المناظرات بينه وبين أصحاب الفكر التجديدي الذين اعتبروا أن التطور يقع فقط من خلال الانفتاح على الآخر.
يقول عدنان الحسيني: أقف في هذه القضية مع النشاشيبي وضده في آن واحد، فأنا معه في دفاعه عن اللغة العربية، ولكني ضده بالانغلاق عن الثقافات الأخرى.
وكثيرا ما جمعت النشاشيبي مناظرات مع صديقه السكاكيني، وكان السكاكيني يميل إلى البساطة في الأسلوب التي لا تحتاج إلى لغة عميقة ولا حاجة إلى الوقوف والتفكير عندها، وكان النشاشيبي يرد على السكاكيني أنه لا يتكلف، لكن هذا أسلوب اعتاد عليه.
إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86%D9%8A

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86%D9%8A

لقب السكاكيني بأبي الطيب لتأثره بالمتنبي، ولقب إسعاف النشاشيبي بأبي الفضل تيمّنا بديع الزمان
لقد اكتسب السكاكيني أسلوبه بسبب كثرة سفره للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أتقن الإنجليزية وأتيح له الاطلاع على الثقافة الغربية وما كتب فيها فتأثر بها، فكان يمثل تيار التجديد، بينما كان النشاشيبي يمثل التيار المحافظ.
وقد كتب بعضهم عن النشاشيبي أنه يعيش في عالم آخر ويرفض الحضارة الحديثة، في حين كان النشاشيبي عكس ذلك، ففي محاضرته التي ألقاها بعنوان “قلب عربي وعقل أوروبي”، دعا للاستفادة الكاملة من الحضارة الأوروبية، وتحدث عن الغرب والدول المتقدمة التي حافظت على لغاتها وكياناتها.

“الثالوث المثقف”.. مجلة الأصمعي والمتنبي وبديع الزمان

كتب النشاشيبي في جريدة الأصمعي، إلى جانب السكاكيني وحنا العيسى، وقد أطلق عليهم معا لقب “الثالوث المثقف” لما كان كل واحد منهم يمتاز بأسلوب أدبي خاص، ولأن كل واحد منهم انحاز إلى شاعر أو أديب عربي.
إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3

غادر النشاشيبي القدس بعد النكبة إلى مصر ليتلقى تعليمه الجامعي فيها
وقد لقب السكاكيني بأبي الطيب لتأثره بالمتنبي، ولقب حنا العيسى بأبي سعيد لإعجابه بالأصمعي، أما إسعاف فقد كان معجبا ببديع الزمان الهمذاني ويكتب على منوال مقاماته، لذا لقبوه بأبي الفضل.
وقد برز اسم النشاشيبي كمدافع عن اللغة، وكان صاحب تيار في الحفاظ عليها، لكنه لم يكن الوحيد في هذا التيار، بل كان معه في ذلك السكاكيني ومحمد عزت دروزة وآخرون، وقد بلغ به ضلوعه باللغة العربية والكتابة والإبداع فيه أن وقع اختياره عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق، وكان يجري التعيين فيه بحسب الكفاءة والمقدرة.

شعب بلا تراث أو حضارة.. مواجهة دعاية الصهيونية

يعتبر النشاشيبي مفخرة لدى الشعب الفلسطيني، لأنه كان يقارع الدعاية الصهيونية القائلة بأن شعب فلسطين شعب جاهل ومتخلف وليست له حضارة أو تراث.
وهنا يقول خالد الخطيب مدير “دار إسعاف النشاشيبي”: كان النشاشيبي عالميا في فكره، فقد كان يستقبل في بيته الأدباء والمثقفين من روسيا وأوروبا الغربية وتركيا والدول العربية، وقد شهد له العديد منهم بشخصيته الديناميكية والمميزة وإبداعاته الأدبية، وهي شهادة يعتز بها كل فلسطيني.
ولهذا فقد عدّ النشاشيبي شخصية اعتبارية في المجتمع المقدسي “لأن القدس ليست مجرد حجارة وجدران، ولكنها تحيا بأهلها الذين يتعرضون لهجمات تغريبية شرسة من قبل الاحتلال الصهيوني”.

فراق القدس.. احتراق في أفران الزرقاء

لم يستطع النشاشيبي المكوث في القدس نتيجة إدراكه لحجم التآمر الغربي والخذلان والتقاعس العربي، فتركها ورحل إلى القاهرة.
وقد خطب يوما خطبة أهداها إلى روح البطلين العظيمين الشهيدين عماد الدين زنكي وابنه نور الدين زنكي، قال فيها: إن الأبطال الأكرمين يشقون، وإن الأبطال الصابرين يعذبون، وإن الأبطال يصفدون بالحديد الشديد كما صفدت يدا إبراهيم ويسجنون، وإن الأبطال المستميتين يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إن الأبطال يغامرون ويقدمون ويرجون، فهم طامعون وطامحون وراجعون “إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.
إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%A4%D9%84%D9%81

إسعاف النشاشيبي.. الفارس المقدسي الذي نذر حياته للذبّ عن لسان العرب %D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%A4%D9%84%D9%81

احتل النشاشيبي مكانة بين أدباء وخطباء ولغويي عصره جعله من الأعلام المقدسيين البارزين
لم يستطع أحد مجاراة النشاشيبي في أسلوبه المتميز، فقد كان علامة فارقة من حيث الأسلوب الكتابي، وكان نهما في القراءة مبدعا في الكتابة، فقد ترك وراءه مجموعة كبيرة من المؤلفات ومكتبة ضخمة، لكن مما يؤسف له أن مكتبته تعرضت للنهب والسرقة في عام 1948.
وقد انتهت هذه المكتبة الضخمة الثرية بالمصادر وأمهات الكتب نهاية تراجيدية مأساوية، فالذي نهبها كان جاهلا بقيمتها حين نقلها إلى الأردن وباعها لبعض أفران مدينة الزرقاء لتستخدم فيها وقودا للخبز.