قام صلاح الدين الأيوبي بالقضاء على الجيش الصليبي في موقعة حطين عام 583 هـ 1187م، وأتبعها ببيت المقدس، والهجمات القوية التي قام بها جيشه مما أرغم الصليبيين على الاستسلام، فاستعاد صلاح الدين بيت المقدس للمسلمين، وعادت خلال ذلك إلى السلطة الإسلامية أكثر البلاد التي كانت قد استولى عليها الصليبيون. ودخل شهر رمضان، وأشار رجال صلاح الدين عليه أن يستريح خلال هذا الشهر مما لاقاه من جهد، وأن يتفرع للعبادة، ولكنه قال: إن العمر قصير، والأجل غير مأمون، والسماح للمغتصبين بالبقاء في الأرض الإسلامية يومًا واحدًا مع القدرة على استخلاص الأرض منهم، عمل منكر لا أستطيع حمل مسئوليته أمام الله وأمام الناس.
وواصل صلاح الدين نشاطه خلال شهر رمضان؛ ففتح الله عليه، وأسقط مجموعة من الحصون التي كان يعتصم بها المعتدون. يذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنه لما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انفصل عنها في الخامس والعشرين من شعبان قاصدًا مدينة صور بالساحل، وكان فتحها قد تأخر. وعندما دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة حاصر السلطان صلاح الدين حصن كوكب، ورجع من هذه الغزوة إلى دمشق، فخرج منها فسلك على بيوس وقصد البقاع، وسار إلى حمص وحماة، وجاءت الجيوش من الجزيرة وهو على نهر العاصي، فسار إلى السواحل الشمالية ففتح نطرطوس وغيرها من الحصون، وجبلة واللاذقية وكانت من أحصن المدن عمارة، وفتح صهيون وبكاس والثغر وهما قلعتان على العاصي حصينتان، فتحهما عنوة، وفتح حمص بدرية وهي قلعة عظيمة على جبل شاهق منيع تحتها أودية عميقة يضرب بها المثل في سائر بلاد الفرنج والمسلمين، فحاصرها أشد حصار وركب عليها المجانيق الكبار، وفرق الجيش ثلاث فرق، كل فريق يقاتل، فإذا تعبوا خلفهم الفريق الآخر، والقتال مستمر ليل نهار، فكان فتحها في نوبة السلطان، ثم عدل عنها ففتح حصن دربساك وحصن بغراس. لا يتوقف عن الجهاد ثم سمت به همته لفتح إنطاكية؛ وذلك لأنه أخذ جميع ما حولها من المدن والقرى، واستظهر عليها بكثرة الجنود، فراسله صاحب إنطاكية يطلب منه الهدنة على أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين، فأجابه إلى ذلك لعلمه بضجر من معه من الجيش، فوقعت الهدنة في سبعة أشهر، ومقصود السلطان أن يستريح من تعبها، وأرسل السلطان من تسلم من الأسارى، وقد ذلت دولة النصارى، ثم سار واجتاز حلب ونزل بقلعتها ثلاثة أيام، ثم نزل حماة وجبلة واللاذقية ثم قلعة بعلبك، ثم عاد إلى دمشق في أوائل رمضان، وكان يومًا مشهودًا وجاءته البشائر بفتح الكرك، وإنقاذه من أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تلك الناحية، ولم يقم السلطان بدمشق إلا أيامًا حتى خرج قاصدًا منازلها في الثلث الأوسط من رمضان، وحاصرها بالمجانيق، وكان البرد شديدًا يصبح الماء فيه جليدًا، فما زال حتى فتحها صلحًا في ثامن شوال، ثم سار إلى صور فألقت إليه بقيادها، وتبرأت من أنصارها وأخبارها، وتحققت لما فتحت صفر أنها مقرونة معها في أصفادها، ثم سار منها إلى حصن كوكب، وحاصر قلعتها حتى أخذها، وقتل من بها وأراح المارة من شر ساكنيها، هذا والسماء تصبر والرياح تهب والسيول تعب والأرجل في الأوحال تحب". هكذا كان البطل صلاح الدين لا يتوقف عن الجهاد في سبيل الله حتى في رمضان الذي صادف في هذا العام بردًا شديدًا وأمطارًا غزيرة في تلك البقعة الغالية من الأرض.
إنجازات صلاح الدين
أعماله في خدمة الإسلام
لا يخفى على كل عارف بصلاح الدين الأيوبي ما قام به من أعمال عظيمة تجاه أمته ودينه، فشيخه نور الدين محمود زنكي مع والده عماد الدين زنكي كانوا شوكة في حلق الصليبيين أفشلوا مخططاتهم تجاه الدولة الإسلامية ودارت معارك عظيمة معهم حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فوحد الشام ومصر والحجاز واليمن وقاتل الصليبيين وهزمهم وحرر بيت المقدس وأعاد للأمة قوتها ومجدها في وقت كادت بلاد الإسلام أن تكون في قبضة الصليبيين والباطنيين.
وكما قضى على الدولة الباطنية الفاطمية في مصر وأعادها لأهل السنة والجماعة وفتح المدارس لدراسة المذاهب السنية وعمل على القضاء على مذهب الشيعة في مصر يقول ابن خلكان: (وتسلم صلاح الدين قصر الخلافة واستولى على ما كان به من الأموال والذخائر وكانت عظيمة الوصف وقبض على أولاد العاضد وحبسهم في مكان واحد بالقصر وأجرى عليهم ما يمونهم وعفى آثارهم وقمع مواليهم وسائر نسائهم وفرق بين الرجال والنساء ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم، وكانت هذه الفعلة من أشرف أفعاله فلنعم ما فعل، فإن هؤلاء كانوا باطنيين زنادقة دعوا إلى مذهب التناسخ واعتقادهم حلول الجزء الإلهي في أشباحهم).
ويقول المقريزي: (واستمر الحال حتى قدمت عساكر شيركوه ووصول صلاح الدين إلى مصر عام 564هـ فصرف قضاة مصر الشيعة كلهم وفرض المذهب الشافعي وأخفى مذاهب الشيعة الإمامية حتى فقدت من أرض مصر كلها، كما حمل صلاح الدين الكافة على عقيدة الأشعري في مصر وبلاد الشام ومنها إلى أرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب حـتى أصبح الاعتقاد السائد بسائر هذه البلاد).
ويقول السيوطي في كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة": "وأخذ صلاح الدين في نصر السنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض وكانوا بمصر كثيرين".
ومن أعماله محاربته للزنادقة والفلاسفة والمتصوفة حيث أمر بقتل السهروردي، "والسهروردي الذي ولد في قرية سهرورد، في شمال غرب بلاد فارس، طلب العلم باكراً في أصفهان، ثم في ديار بكر، ثم بلاد الشام. واستقر في حلب، وهي في إمرة الملك الظاهر، ابن صلاح الدين. وفي حلب كتب أهم أعماله حكمة الإشراق، وكتاب اللمحات، وكتاب التلويحات، وكتاب المقاومات، وكتاب المطارحات، إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل". بعد ما حوت كتبه من أقوال فلسفية كفرية، فأشار عليه العلماء بقتل هذا الرجل فأرسل إلى ابنه الملك الظاهر فقتله في حلب.
وأيضاً قام بالخطبة والدعاء إلى الخليفة العباسي في بغداد بعد أن قطع الخطبة عن العاضد وهذا يدل على ولائه للخلافة الإسلامية
خصوم صلاح الدين الأيوبي
الناظر في تاريخ الناصر صلاح الدين يجد بما لا يدع مجالاً للشك أن خصوم صلاح الدين الأيوبي هم ثلاث فئات، خصوم من أجل الدنيا وهم الذين كانوا يحرصون على الملك والشيعة أتباع الدولة الفاطمية، والصليبين.
ولا نقصد بهذا الكلام أنه لا يوجد أحد رد على صلاح الدين أو أظهر بعض أخطائه أو انتقد بعض التصرفات والآراء، وإنما المقصود أنه جعل نفسه خصماً لصلاح الدين يعاديه ويحاول الانتقام والتخلص منه، فنجد الرافضة عندما قضى على دولتهم حاولوا مراراً اغتياله وقتله ولكن باءت هذه المحاولات بالفشل عندما كان يحاصر قلعة إعزاز المنيعة عام 571هـ.
والفئة الثالثة هم الصليبيون وهؤلاء الحديث عنهم يطول فحياة صلاح الدين كلها كانت في مجاهدة الصليبيين وقتالهم وقد خاض معهم معارك شرسة حقق من خلالها تحرير بيت المقدس