منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 المسلمون وحقوق الإنسان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70220
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

المسلمون وحقوق الإنسان Empty
مُساهمةموضوع: المسلمون وحقوق الإنسان   المسلمون وحقوق الإنسان Emptyالسبت 26 أبريل 2014 - 11:29

المسلمون وحقوق الإنسان
قراءة في المقتضيات السياقية، والمستلزمات المعرفية، وآليات التعاطي[sup][1][/sup]
ركّز التداول حول كونية حقوق الإنسان في عمومه، كثيرًا على إشكالية مدى مخالفة أو مواءمة القانون العالمي لحقوق الإنسان للممارسات التشريعية والثقافية المحلية، كما رام هذا التداول فكّ العُقَد بهذا الخصوص لصالح البراديغم الكوني... ويلاحظ بجلاء، أن عناية أقل بكثير، قد أوليت إلى البحث عما يمكن أن يفيده ويَثْرى به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بدراسة الأنساق التشريعية والثقافية الكونية المختلفة.
وقد طرحت كونية حقوق الإنسان، تحديات معتبرة على المختصين والباحثين، من أمثال [sup][2][/sup]Kimberly Younce Schooley، وعبد الله أحمد نعيم[sup][3][/sup]، [sup][4][/sup]Charles Taylor، و [sup][5][/sup]Fernando R. Teson، ورضى أفشاري[sup][6][/sup]، وغيرهم.
ولا يخفى أن هذه المسألة تكتسي أهمية استثنائية من الناحية البرجماتية العملية الصرف، بالإضافة إلى أهميتها العلمية والمعرفية، وذلك لأن التجانف، بل والتنكر للحقوق الإنسانية، أمر في غاية الورود إذا لم تراع أثناء عملية تنزيلها، مواءمتها الثقافية للسياقات الحضارية، والأنثربولوجية المستقبِلة. ولأن المصداقية الثقافية لهذه الحقوق لدى المتلقين محورية في عملية تملكهم لها، فإنه ينبغي تشجيع الجهود الرامية إلى تعويض الفرض والإقحام والإلزام بالتوطين والإفهام والإسهام. وذلك ليس فقط من أجل ضمان مشروعية حقوق الإنسان في مختلف المجتمعات، ولكن أيضًا لما يتيحه هذا الأمر من إمكانات في المجال الحقوقي؛ للإفادة والربح المتبادلين، بسبب تضافر وتواشج أضرب الخبرة والحكمة العالمية الغنية والمتنوعة، مما من شأنه أن يجعل حقوق الإنسان -كما هي متعارف عليها كونيًّا- أكثر جاذبية، وأوفر قابلية للتطبيق والتبني في كافة المجتمعات.
إلا أن جملة صعوبات تعترض سبيل هذا الطموح، ومن أبرز هذه الصعوبات؛ الاختلاف الجوهري بين الأسس البراديجماتية التي تنبني عليها التشريعات الكونية لحقوق الإنسان، وتلك التي تنبني عليها كثير من التشريعات العالمية الأخرى. وأبرز مثال على هذا الاختلاف الجوهري، كون الحقوق في القانون العالمي لحقوق الإنسان صريحة ومباشرة، في حين أن ما يقابلها من واجبات، متضمنة -وقد تكون أحيانًا متضاربة- وهو ما يشير إليه "دوكلاس هودكسون" (Douglas Hodgson) بقوله: "في قانون حقوق الإنسان، الحقوق صريحة ومباشرة، في حين أن ما يقابلها من واجبات تبقى متضمنة ومتضاربة وغير مغناة من الناحية التنظيرية، بيد أن العكس هو الصحيح في عدد من المنظومات التشريعية والقيمية والعقدية الأخرى، كالشريعة الإسلامية، والشريعة اليهودية، والنصرانية، والهندوسية، والكنفوشيوسية"[sup][7][/sup].
ولأن المقاربة المؤسسة على الحقوق، وكذا تلك المؤسسة على الواجبات، كلتاهما تصدران عن رؤية براديجماتية متجذرة لها تجلياتها في سائر مفردات الكسب التشريعي والتنزيلي للمنظومتين، فإنه لا يمكن الزعم بأن التوفيق بينها يمكن أن يتم بدون بذل ما يلزم من جهد واجتهاد في أفق الإسهام في حل عدد من الإشكالات المطروحة بهذا الصدد كونيًّا.
وتبتغي هذه الدراسة وضع جملة لبنات وظيفية، تسهم في التعزيز التعارفي لمقاربة "النسبية المعتدلة المعكوسة" (Reverse Moderate Relativism: R.M.R) والتي تختلف عن مقاربة "النسبية الثقافية المعتدلة" (Moderate Cultural Relativism: M.C.R)، حيث إن الأولى تعنى بالنظر التعارفي المنفتح، إلى ما يمكن أن تغني به المنظومات التشريعية المختلفة، منظومة حقوق الإنسان الكونية، بيد أن الثانية تقتصر على النظر في كيفية زرع وفسل منظومة حقوق الإنسان في المنظومات التشريعية الأخرى[sup][8][/sup].
غير أنه مع انبثاق الجيل الثالث من حقوق الإنسان، الحقوق التضامنية؛ كالحق في البيئة السليمة والحق في السلام والحق في التنمية، تبين أن مكوّن الحقوق يفتقر إلى التواشج مع مكوّن الواجب في طفرة متجاوزة لما كان عليه الأمر في الجيلين السابقين من حقوق الإنسان، جيل الحقوق المدنية والسياسية ثم جيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المرتكزين على البراديغم القائم على الحقوق فقط. وسبب ذلك، على حد تعبير الباحث Ben Saul: "إن النضالات التي قامت بها حركة حقوق الإنسان ضد الاستبدادات المختلفة في مرحلة أولى وفي مرحلة ثانية، ضد النفاقات الاجتماعية، والإقصاء، ونقائص النضالات السالفة، والتي ارتكزت جميعُها على مواجهة ما كان يفرضه المتنفدون من واجبات ظالمة على الأفراد، فقد بلورت حركة حقوق الإنسان حذرا وحساسية تلقائيين، تجاه كل لغة فيها حضور لمفاهيم الواجب والإلزام، وهما حذر وحساسية مبرران، بالنظر إلى تاريخ هذه الحركات النضالي"[sup][9][/sup].
ومن هنا تأتي المعاناة التي ترافق السعي إلى تنزيل الجيل الثالث من حقوق الإنسان، والتي تستدمج في عين بنيتها، ضرورة الارتكاز على الواجبات أيضًا، بإزاء الحقوق التي لا يمكن جلبها للأفراد إلا إذا كان لديهم الاستعداد للقيام بواجباتهم بهذا الخصوص. فمثلاً، لا يتصور النهوض بتنمية بدون انخراط الأفراد في هذا النهوض من خلال القيام بواجباتهم بهذا الصدد. مما يستدعي وجوب مواكبة هذه الحقوق أولاً: بنسيج تأهيلي، تصوريًّا، وتربويًّا، ونضاليًّا، وتقويميًّا بطريقة قصدية، وإلا فستبقى الحقوق التضامنية مجرد شعارات. ومواكبتها ثانيًا بنسيج تشريعي احترازي، لحمايتها من الارتداد إلى أتون الدولانية (Etatism) من جديد كما يقول "دون. إي. إيبرلي" (Don. E. Eberly) في كتابه Building a Community of Citizen.
وجليّ أن هذا التواشج بين الحقوق والواجبات، من خلال الاستمداد من مختلف المرجعيات تأسيسًا على مكتسب حقوق الإنسان في كونيتها وعدم تجزيئها، يمكن أن يسهم في اختراع مفهوم دينامي للمواطنة في عالم اليوم المعولم، في منأى عن الشعاراتية، وفي حرص على بحث عقد اجتماعي، فيه التجانف عن الاقتصار على الإستراتيجيات الفوقية، والتشريعات غير المرفقة بالتدابير الإجرائية التنزيلية على أرض الواقع، في مراعاة لكافة مقتضيات السياق.
أولاً: المرتكزات
يروم هذا المبحث الأول، إبراز المرتكزات التي يتأسس عليها مقصد ضمان حقوق الإنسان في الإسلام.
أ- التكريم
يشكّل مبدأ التكريم الإلهي للبشر، معلمًا بارزًا من المعالم التي تستنبط منها مقصدية ضمان حقوق الإنسان، وذلك تأسيسًا على قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70). فحين يتم تجذير الوعي بالتكريم في كيان الفرد، وتتم مواكبة ذلك بإتاحة المقومات الديداكتيكية للتنشئة، والمقومات التشريعية للنهوض والحماية[sup][10][/sup]، فإنه يسهل أن ينبثق في حالة تهديد هذا التكريم، مثل رد فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور حين قال لعمرو بن العاص وقد ظلم قبطيًّا: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"[sup][11][/sup].
ومن مقومات هذا التكريم في القرآن والسنة:
1- الإيجاد[sup][12][/sup]
2- تكريم إحسان التقويم: وهو المشار إليه في الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:4)، وكذا الآية: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)(التغابن:3).
3- تكريم إعظام الدور: وهو تكريم يظهر من خلال التكليف بإعمار الأرض كما في الآية: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61)، والآية: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اْلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)(الأعراف:10)، وكذا الآية: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً)(طه:53).
ويسجل بهذا الصدد أن ارتكاسًا كبيرًا حصل بعد فترة التأسيس هذه، لأسباب متداخلة لا يتسع المقام هنا لذكرها[sup][13][/sup].
4- الخلافة: تعكس خلافة الإنسان في الأرض أسمى مراتب التكريم الإلهي؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة:30).
5- التسخير: كما في الآيات: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(إبراهيم:32-34)[sup][14][/sup].
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)(الحج:65).
6- إيداع القدرة على وسم الأشياء من أجل تعقلها وتوظيفها: قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة:31)، مما يمكن الإنسان من تنمية قدراته الإدراكية التي تسعفه في تنمية استقلاليته من خلال تزايد قدرته على الفعل في الكون بالتسخير، ولذلك يسمي بعض الباحثين العلوم الكونية "علوم التسخير"[sup][15][/sup].
7- الوحي/الكلمات: وهو المستفاد من العديد من الآيات كما في قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)(البقرة:37)، والآية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)(البقرة:124).
والإفادة من قدرة الأسماء ومن إيتاء الكلمات، لا يمكن أن تتم في منظومة الوحي إلا بالنظر والتفكّر والتعقُّل؛ فالاستدلال بالأدلة من أوجَبِ الواجبات بعد الإيمان الفطري الجبلِّي. وإلى هذا ذهب البخاري -رحمه الله- حيث بوَّب في كتابه "باب العلم قبل القول والعمل لقول الله - عز وجل -": (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد:19).
8- إتاحة العلاقة المباشرة بين العبد وربه: فقد ألغى الشَّارع الحكيم أيَّ وساطة بينه وبين عبادِه تفسد الاعتقاد الجازِمَ به سبحانه[sup][16][/sup]، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(البقرة:186).
9- الحرية: قال الراغب الأصفهاني: "الحرية ضربان: الأول من لم يجر عليه حكم الشيء، نحو "الحر بالحر". والثاني: من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية، وإلى العبودية التي تضاد ذلك أشار النبي - صل الله عليه وسلم - بقوله: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار"، وقيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرقّ"[sup][17][/sup].
وقال الجرجاني صاحب التعريفات: "الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة: الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات. وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق. وحرية خاصة الخاصة عن رقّ الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلّي نور الأنوار"[sup][18][/sup].
وهو ما ينص عليه القرآن الكريم في الآية: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(البقرة:256)، وفي الآية: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)(هود:28)، وكذا الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(الكهف:29)، وفي الآية: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)(الإنسان:29)، وفي الآية: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس:99)، وفي الآية: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)(الغاشية:22).
وقد سيقت كلمة "إكراه" بالتنكير في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، والتنكير عند علماء الأصول، يفيد الاستغراق لكل مرتبة أو نوع من الإكراه. قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في تفسير آية نفي الإكراه؛ البقرة 256: "جيء بنفي الجنس لقصد العموم نصًّا، وهي دليل إبطال الإكراه بسائر أنواعه؛ لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال والتمكين من النظر"[sup][19][/sup].
وما أجمل ما قال عبد المتعال الصعيدي بهذا الصدد في كتابه "حرية الفكر في الإسلام": "مثل المرتد مثل الكافر الأصلي في  الدعوة إلى الإسلام، فكما يُدْعَى الكافر الأصلي في الإسلام بالحكمة والموعظة  الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، كذلك يدعى المرتد إلى العودة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، ولا يكره على العودة إليه بوسيلة من وسائل الإكراه، كما لا يكره الكافر الأصلي على الإسلام بهذه الوسائل أيضا"[sup][20][/sup].
وقد أحسن بعض الدارسين حين فكك الردة إلى قسمين: مركبة، فيها الارتداد عن الدين ومفارقة الجماعة والعمل على إلحاق الأذى بها، وردة بسيطة فيها الارتداد عن الدين فقط. وقد ذهب العلماء إلى أن الردة غير المركبة تجري عليها أحكام قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[sup][21][/sup].
فالحرية في المنظومة التشريعية الإسلامية هي الأصل، قال محمد الطاهر بن عاشور: "الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض، حتى حدثت بينهم المزاحمة، فحدث التحجير"[sup][22][/sup].
بـ- التكليف
يبرز الإنسان في منظومة الإسلام الاعتقادية والتصورية، باعتباره الجسر الكوني المؤهَّل الذي تعبر منه القيم والأخلاق، والتشريعات الحاملة لمراد الله التكليفي من الإنسان تجاه نفسه ومحيطه الكوني، إلى البعدين الزماني والمكاني، لتصبح جزءًا من التاريخ والحياة. ويبرز التكليف الملقى على عاتق هذا المخلوق (الأمانة): (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72)، باعتباره تكليفًا لا يعرف حصرًا ولا حدودًا، إذ الكون كله في هذه المنظومة مسرح لفعل الإنسان وعتاد له. فالنوع الإنساني كله موضوع فعله الأخلاقي، كما الكون كله.
وتبرز مقومات القيام بالواجب في هذه المنظومة الاعتقادية والتصورية من خلال:
1- تزويد الإنسان بالعقل وجعله مناط التكليف: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:78).
2- المواءمة بين الإنسان والكون من جهة "التسخير": (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)(الجاثية:13)، وبين الإنسان والوحي من جهة ثانية "التيسير": (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(القمر:40).
3- قصدية الخلق: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(الذاريات:56-58).
4- بنائية الشرع والعقيدة ووحدتهما ومفهوميتهما، فمقاصدُهما، وأوامرهما، ونواهيهما واضحة قابلة للتعقل، ومتكاملة تحرر تماسكًا يُمكِّن من تحديد الأولويات وتبَيُّن مراتب الأعمال.
ويعتبر تكليف الإنسان بتزكية نفسه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(الشمس:9-10)، إفادة بالتأسي ممن تم تكليفه بريادة هذا الفعل عمرانيًّا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(الجمعة:2).
يعتبر هذا التكليف، رافعة عملية تستند على الواجب إزاء الحق، لتمكين الإنسان فردًا واجتماعًا من ضمان الحقوق والاسترواح في ظلها؛ لأن التزكية بهذا المقترب القرآني ذات حمولة وظيفية وليست فقط استيطيقية.
جـ- الجزاء
وهنا يبرز دور المسؤولية والمحاسبة؛ إذ برز أن على الإنسان مسؤولية العمل في ذاته وفي محيطه، وفق قيم الوحي الحاكمة وشرائعه الموجِّهة. وقد زوِّد بالقدرات التي تُمكّنه من الاضطلاع بذلك، وكان الكون قابلاً لفعله مسخرًا له، وكان الوحي مُيَسَّرًا له متستجيبًا لتساؤلاته: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل:89). فإن ذلك يستتبع المحاسبة التي يُجزى بمقتضاها المحسنون عن إحسانهم، والمسيئون عن إساءتهم. وهذا البناء هو الذي يحرر الشعور المتسامي بالواجب، وهو شعور انزرع في نفوس المسلمين، فأثمر المسلكيات والممارسات التي رفعت، في جمالية صرح الحضارات والثقافات الإسلامية المتنوعة.
وهو ما انتبه إليه الباحث الأمريكي Jason Morgan Foster حين قال: "ولأن الواجبات لها مركزية في الاعتقاد والتطبيق الإسلاميين، فإن لغة وبنية الواجبات تطورت في الشريعة الإسلامية، وهما إلى حد بعيد أكثر تركيبًا من الإحالات البسيطة إلى الواجبات التي نراها في الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، فالشريعة الإسلامية عبارة عن مخطط عمل اجتماعي عقلاني المعنى لكل أفعال المسلمين، والتي قد أُطّر مجملُها من مدخل الواجب"[sup][23][/sup].
وفي التراث العلمي الإسلامي وفرة من الشواهد تؤكد ما انتبه إليه هذا الباحث. منها ما جاء عن إمامنا مالك - رضي الله عنه - أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ فقال: "أما على كل الناس فلا" يعني به الزائد على ما لا يسع المسلم جهله من أركان وغيرها... وقال أيضًا: "أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذُ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"[sup][24][/sup]، فانظر إلى هذه الدقة في التمييز بين الواجب ومناطه.
ثانيا: التشريعات
صناعة الإنسان في الإسلام تتغيّا إخراج إنسان متحرر، ليس في ضميره أو جسده فحسب، وإنما متحرر أيضًا في رأيه، وفي أسلوب تعبيره عنه. فالإنسان في الإسلام يُتغيّا أن يكون متحررًا من سلطان العباد[sup][25][/sup]. وإن جوهر الاستخلاف والأمانة هو القدرة على أداء الواجبات، وانتزاع التمتع بالحقوق: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(النساء:97).
وقال سبحانه: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)(النساء:75).
وقد استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن براءة الذمة بخصوص المستضعفين، معقودة بالنصر بالبدن إن كان العدد يحتمل، وإلا فلا سبيل إلا ببذل جميع الأموال[sup][26][/sup].
وقال تعالى لومًا للذين ينشِّئون بناتهم تنشئة تعجزهن عن المطالبة بحقوقهن، وبعد ذلك تظل وجوههم مسودة وهم كظيمون إذا بشروا بالأنثى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(الزخرف:17-18).
ويمكن رصد عدد من المركبات التشريعية المشَكِّلة لصرح مقصد ضمان حقوق الإنسان:
أ- الحفظ
ونقصد به حفظ الحقوق والمصالح الضرورية التي بها تتحصل السعادة في العاجل والآجل. وهذا الحفظ يكون بأحد أمرين: الأول من جانب الوجود؛ وذلك بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها. والآخر من جانب العدم؛ وذلك بما يدرأ الخلل الواقع أو المتوقع فيها.
1- حفظ الدين: وذلك من خلال:
• التشريع وتوفير أماكن العبادة المرعية، وتنظيم المساجد والقيمين عليها، وتنظيم الزكاة والصيام والحج، وتنظيم الوقف وحمايته.
• التربية السليمة والممنهجة.
• حماية وتيسير وتوطين القيم المعنوية والروحية للدين.
• حرية التدين وعدم الإكراه.
• تقنين وهيكلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتجلية شروطه وموانعه، ومناهجه وعقوباته، وزجر من يترامون بغير حق ولا مستحق للقيام به.
• التشجيع على الاجتهاد الكفء.
2- حفظ النفس: وذلك عبر:
• ضمان الحق في الحياة.
• احترام التشريعات المحرِّمة للقتل والأذى.
• الحماية من العدوان، وهو ما يظهر جليا في حد الحرابة.
• الحماية من التعذيب، والحماية من الإخافة والترويع[sup][27][/sup].
• حماية البيئة (مناخيا ونباتيا وحيوانيا)،
• ضمان حق العيش، والصحة، والحركة، والتنقل مع الحماية من الاتجار بالبشر.
• الاستثمار في الأمن العام والدفاع الوطني، وأمن الدولة[sup][28][/sup].
3- حفظ العرض: وذلك من خلال حفظ قسميه:
أ. الكرامة، عبر تحريم القذف والرمي.
• رعاية وحماية كرامة وسمعة الإنسان الفرد والمجتمع، بالتنشئة على الكرامة، وزرع قيم عدم الاعتداء عليها.
• حماية الحق في الخصوصية وعدم الاجتراء عليها وإن قامت حولها شكوك (مثال عمر حين اقتحم على من بلغه أنه يشرب الخمر فزُجِر وقبِل الزجر وانصرف)[sup][29][/sup].
• الحيلولة دون الاستعمال غير المشروع للسلطة، للمساس بكرامة الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو المنظمة.
بـ. النسل والأسرة، عبر ضمان أن يكون التناسل في إطار الزواج، حيث المسؤولية، وحفظ الأنساب، وإمكان تلقي الرعاية والدعم المنظمين والمنضبطين من الدولة، وكافة الجهات المختصة؛
• حماية الأسرة ورعايتها وتوفير حاجياتها الأساسية، غذائيًّا، وإيوائيًّا، وصحيًّا، وتربويًّا، وقيميًّا.
• رعاية الطفولة والنشء (أيتام، ذوي الاحتياجات الخاصة).
• رعاية الشيخوخة.
• الحرص على توطين المساواة بين الرجال والنساء، حتى يضطلع كلٌّ بمسؤوليته لحفظ الأسرة وتنميتها.
 
جـ. حفظ العقل:
• تحريم الشرك، والخرافة، والسحر، والطيرة، والمخدرات، والمسكرات، والمفترات التي تؤدي إلى مختلف أضرب الإدمان الضارة بالعقل وبالفرد وبالمجتمع.
• إشاعة الموضوعية في التمثل والتفكير، وإشاعة رؤية علمية موضوعية للذات والموضوع والعالم، وذلك من خلال السهر على أن تضطلع نظم التربية والتكوين الإلزامية في المدرسة والتطوعية في المسجد والإعلام ووسائل الاتصال بذلك دون السقوط في التقنين الدولاني الحاد من الحريات المشروعة.
• إشاعة العلوم والمنتوجات الثقافية المغذية للعقل.
• ضمان الحقوق الثقافية واللغوية والكَلغْرافية.
• تشجيع وحماية البحث العلمي والتكنولوجي.
• ضمان الولوج إلى المعلومة.
• السعي إلى بناء مجتمع المعرفة.
• ضمان وحماية حرية التعبير، في حماية للفرد والمجتمع من الظلم بهذا الصدد، من القذف والرمي غير المشروعين، مما تكون له آثار على ضياع مصالح الفرد والجماعة مادية كانت هذه المظالم أم معنوية[sup][30][/sup].
د. حفظ المال:
• تحريم السرقة.
• حماية الملكية العامة والملكية الخاصة (مادية كانت أم فكرية أم اختراعية أم تجارية أم صناعية أم مهنية).
• سلامة واستقرار التبادل التجاري.
• حماية المستهلك من أن ينفق ماله فيما يضره أو يضر غيره.
• حماية حقوق العمال (أجورًا وحسن معاملة) سواء كانوا أبناء البلد أو من الوافدين.
• منع الربح غير المشروع، ومنع الاستغلال بسائر أنواعه وأشكاله (ربا، ميسر، رشوة...).
• إشراف الدولة على التنمية المستدامة اقتصاديًّا وبشريًّا.
• حماية السوق من المضاربات التي تؤدي إلى غلاء الأثمان غير المشروع.
هذه هي المصالح الكلية التي جاءت الشريعة الإسلامية لتأمينها بأن نصّت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم كلّفت بالأحكام الوظيفية لضمان تحقيقها.
ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل على أن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح. ومعلوم أن ضمان الحقوق للإنسان، من أعظم الأمور التي تحصل بها سعادته[sup][31][/sup].
بـ- العدالة
1- العدالة في التوزيع: (مفهوم القَسْم) بين المسلمين، ومثال أراضي سواد العراق الرائع، حيث لم يوزعها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بين الفاتحين، وإنما وزعها على أهل العراق.
2- العدالة الكونية: حلف الفضول "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"[sup][32][/sup]. ويدخل في هذا: الوفاء بالعهود (الآليات والالتزامات والعقود بعد المصادقة عليها) ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
3- العدالة التصحيحية: والأصل فيها قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)(الأنبياء:78-79)، حيث تروي كتب التفسير مراجعة سليمان - عليه السلام - لأبيه نبي الله داوود - عليه السلام - في الحكم، مما يعد نواة مقدرة للعدالة التصحيحية.
قال - صل الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، إنما أنا أقضي بينكم بما أسمع منكم، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار"[sup][33][/sup].
ويدلُّ على رجوع القاضي عن حُكمه في هذه الحالات، ما ورد في كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - حيث قال فيه: "ولا يمنعك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعتَ فيه رأيك، فهُديت فيه لرشدك، أن تُراجع فيه الحق، فإنَّ الحق قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل"[sup][34][/sup].
4- العدالة السياسية: ومن ركائزها مبدأ الشورى لقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(آل عمران:159)، وقوله سبحانه: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(الشورى:38)، ومبدأ شفافية الحكامة Tranparency of governance، ومبدأ فصل السلط، وكل ذلك مؤطر بضرورة رعاية مصالح الناس، وهو ما أشار إليه علماء الأصول بقولهم: "تصرف الإمام على الرأي منوط بالمصلحة"[sup][35][/sup].
جـ- المساواة تحت القانون
ومما يشهد لهذا المحدد آية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(التوبة:71).
وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:97)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(النساء:1)[sup][36][/sup].
د- الحسبة العامة والخاصة[sup][37][/sup]
ونجد للحسبة أصلاً في الآية: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ)(النساء:114)، وفي الآية: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)(الحجرات:9).
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد:22).
ولا تقتصر هذه الفعالية على الفرد، وإنما تتعدى إلى الجماعة والدولة. فإذا كان الأمر بالمعروف واجب على الفرد المسلم، فإنه واجب على الجماعة، حيث يتعاون عليه الأفراد في الجماعات ويتشاورون فيه لقولـه تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104)، وقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2).
وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. وفي تسمية علماء الأصول -خصوصًا الأوائل- لها بالفروض الكفائية، إيحاء، بأن القيام بها من لدن القادرين، ينبغي أن يكون كافيًا للأمة، وإلا فإنها لا تسقط، ويبقى الإثم عالقًا بعموم الأمة.
إلا أن غير القادرين، لا يبقون -بخصوص الفروض الكفائية- بدون مسؤولية، فالشرع يُرتِّب عليهم مسؤولية السعي، لإقامة القادرين[sup][38][/sup].
هـ- لا ضرر ولا ضرار[sup][39][/sup]
ونفيُ الضرر ورفعه، مقصد عليّ من مقاصد الشريعة الإسلامية. فلا يقبل كل فعل فيه ضرر على الفرد أو المجتمع في الحال والمآل. وهو ما يتساوق تمامًا مع مبدأ التيسير ورفع المشقة الذي يعد بدوره مقصدا أساسًا من مقاصد التشريع في الإسلام: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185).
و- تحريم الظلم
إن النصوص التي تحث المسلمين على تحريم الظلم، والسعي إلى ضمان حقوقهم وترغِّب في ذلك، أكثر من أن تُحصى[sup][40][/sup] في هذا المقام... والمتعامل معها، يلاحظ، أن في الإسلام نظامًا كاملاً، لإقامة العلاقات الاجتماعية بين الناس، على وجه يُبعِدُ كلَّ الأدواء التي تَنْخر كِيَان المجتمعات عن المجتمع الإسلامي... وهو نظام حري بأن يُبحث فيه وتُوَضَّح معالمُه، في دراسة جادة موضوعية مستقلة.
وبذلك فإن هذا المقصد، تحريم الظلم، يمكن أن يعتبر من المقاصد ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70220
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

المسلمون وحقوق الإنسان Empty
مُساهمةموضوع: رد: المسلمون وحقوق الإنسان   المسلمون وحقوق الإنسان Emptyالسبت 26 أبريل 2014 - 11:29

ثالثا: الآليات
حيث إن جلَّ المصالح التي تقوم عليها حياة الأمم وارتفاقاتها -وفي لبّ ذلك ضمان حقوق الخلق- تحتاج إلى اجتهاداتٍ مستأنفةً في كل حين قصد تَبيُّنِها، ومَقْدَرَتها، وتقعيدها، وتقنينها، من أجل تنزيلٍ مُتَّزِنٍ لها على أرض الواقع، كان لابد من آليات تمكّن من جلب هذه المصالح، ودرء ما يهددها من مفاسد في سياقاتها المختلفة، نظرًا في المعتبر من هذه المصالح، واعتبارًا للمآلات، وتحقيقًا للمناطات، وتنقيحًا لها، وأخذًا بمبدأ سد الذرائع وفتحها على السواء، واعتبارًا لأصل الاستحسان، والموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، جلبًا للأُولى إن رجحت، ودفعًا للثانية إن غلبت، تسديدًا وتقريبًا وتغليبًا. ومن آكد هذه الآليات:
1- إعمال أصل المصلحة المعتبرة
مقاصد الشريعة[sup][43][/sup] على اختلاف أقسامها ووسائل إثباتها ومستوياتها، تتركز في مقصد كلّي جامع جرى التعبير عنه تارة بـ"جلب المصالح ودرء المفاسد"، وتارة بـ"تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"[sup][44][/sup].
من أبرز ميزات الفكر المقاصدي، كونه فكرًا كليًّا يأبى الانحسار في ظواهر الأدلة الجزئية، دون وصلها مع الأدلة الكلية. من هنا كانت حقوق الإنسان مقصدًا أساسيًّا من مقاصد التشريع الإسلامي، لارتكازها على مبادئ كلية من قبيل التكريم، والاستخلاف، والمساواة، والعدل، والحرية، والكرامة لهذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، مع الالتزام بالسبل والوسائل التي تحقق هذه المقاصد، وتحافظ عليها وتمنع من إهدارها أو ضياعها. وإذ إن مصلحة ضمان حقوق الإنسان، من أعظم المصالح، فلا خلاف يمكن أن يثور حول محورية هذا المقصد في توجيه الأحكام والاجتهاد.
2- إعمال أصل سد الذرائع
"أصل سد الذرائع"[sup][45][/sup] وجه آخر من وجوه رعاية مقصود الشارع في حفظ حقوق الإنسان ورعايتها، هذا بالإضافة إلى أصول أخرى وقواعد تميز بها المذهب المالكي، وكانت السبب المباشر في ولوع علمائه بالمقاصد[sup][46][/sup].
3- إعمال أصل"فتح الذرائع"
بما أن المراد بالذريعة؛ ما يتوصل به إلى مفسدة فتكون ممنوعة، أو إلى مصلحة فتكون مطلوبة. فإن الذريعة لا يكون المطلوب سدها دائمًا، بل يكون سدها أو فتحها خاضعًا لحكم ما أفضت إليه، وبمعنى آخر، فسدها أو فتحها، منوط بما تفضي إليه من المقاصد والحكم. قال الإمام القرافي: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدّها، يجب فتحها، ويكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرَّم محرَّمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج"[sup][47][/sup].
وأشار صاحب المراقي[sup][48][/sup] إلى فتح الذرائع بقوله:
سدّ الذرائع إلى المحرّم                       حتمٌ كفتحِها إلى المُنحتم
وبخصوص ما قررناه في هذه الفقرات من ضرورة فتح الذرائع الجالبة للمصالح، فإننا نجد علماء الأمة قد قرروه في قواعد محكمة، من قبيل قاعدة "ما لا يتم المأمور إلا به"، أو "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"[sup][49][/sup]. فتسد الذرائع دون ما يمنع تحقق مقصد ضمان حقوق الإنسان، وتفتح أمام ما ييسر ذلك ويسهم فيه.
وأصل سد الذرائع أو فتحها، يحيلنا على أصل ثانٍ مكمّل هو أصل اعتبار المآل[sup][50][/sup].
4- إعمال أصل اعتبار المآل
اعتبار مآل الأفعال من المقاصد المهمة من الشريعة، قال الشاطبي: "النظر في مآلات الأفعال، معتبر مقصود شرعًا -كانت الأفعال موافقة أو مخالفة- وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا إلى مصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية.
وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد؛ فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب جارٍ على مقصد الشريعة"[sup][51][/sup].
والنظر إلى مآل المجتمع الضامن لحقوق إنسانه، كما النظر إلى مآل المجتمع المهدر لها، يفرض تقديم القياسات الضامنة لحقوق الإنسان، وإن خفيت، على القياسات كلها وإن كانت جلية، وهذا يقودنا إلى آلية الاستحسان.
5- إعمال أصل الاستحسان
بيَّن الإمام الشاطبي بعض معاني الاستحسان الذي هو أخذٌ بالمصلحة عند المالكية قائلاً: "الاستحسان في مذهب مالك: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلِّي؛ لأنه يقوم على التيسير ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس.
ومقتضاه: الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسَل على القياس؛ فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهّيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة، في أمثال تلك الأشياء المفروضة[sup][52][/sup]، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك"[sup][53][/sup].
فآلية إعمال أصل الاستحسان، اعتبارًا لمآل إهدار حقوق الإنسان وضمانها، يمكّن من القيام بترجيحات معتبرة بهذا الخصوص، مما يفتح ذريعة العدالة، ويسدّ ذريعة الظلم.
6- إعمال فقه الموازنات
قال الشاطبي: "وإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز"[sup][54][/sup].
ومفاد ذلك، وجوب الموازنة بين الاحتمالات الممكنة في غير المحكم من الأحكام، ترجيحًا وموازنة بين ما تحققه تنزيلاتها في إطار الشرع الحنيف، وبمقاييسه وموازينه، من المصلحة في الظرف الواقعي المعين، ثم اعتماد الاحتمال الذي يرجُح أنه أكثر تحقيقًا للمصلحة بضوابطها الشرعية المبينة في أماكنها، واعتبار ذلك هو الحكم الشرعي في تلك الحالة، وهذا مناط الاجتهاد، فيما مردّ الأحكام فيه إلى النظر.
ومن تداعيات الوعي العميق عند علمائنا بهذه الآليات في النظر، كونهم درجوا على ألا يسقطوا من اعتبارهم الآراء المرجوحة في تراثنا الفقهي، إذ هي ذخيرة اجتماعية قد تمس إليها الحاجة في أوضاع لاحقة مختلفة، فما لم يرجح في واقع عيني مشخص نظرًا لملابِسات وسياقات معينة، قد يضحى راجحًا ضمن ملابسات وسياقات أخرى، وفقه إمام دار الهجرة إمامنا مالك -رضي الله عنه- يحضر فيه هذا الوعي العميق بشدة، لانبنائه على قواعد واقعية كعمل أهل المدينة، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع.
وفقه الموازنات فقه دقيق يقتضي أن يكون المُعمِل له -فردًا كان أم جماعة- ريّانًا من علوم النص وعلوم السياق، وعلى دراية بالعواقب والمآلات، مما ينتج عنه ملكة في الترجيح والتغليب بعد القيام بالتسديد والتقريب، وجليّ أن ذلك من معضدات ضمان حقوق الإنسان في المجتمعات.
الخاتمة
1- رامت هذه الدراسة، الانخراط في العكوف الكوني على معالجة جملة من القضايا والإشكالات ذات العلاقة بتنزيل مختلف أجيال حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها كونيًّا على أرض عالمنا المعولم، في مراعاة لمقتضياته السياقية المختلفة والمتداخلة، وكذا في مراعاة للمستلزمات المعرفية والثقافية والتشريعية.
2- كما رامت هذه الدراسة، الإسهام في بلورة نظرية "R.M.R" (Reverse Moderate Relativism) في مجال حقوق الإنسان، والتي تعنى بالنظر التعارفي المنفتح، إلى ما يمكن أن تغني به المنظومات التشريعية المختلفة، منظومة حقوق الإنسان الكونية. وقد انكببنا في مقامنا هذا على النظر فيما يمكن أن تغني به المنظومة التشريعية الإسلامية منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيًّا.
ووعيًا بأن حال الفرد المستهدف بضمان حقوقه والاستنهاض للقيام بواجباته -وعلى حد تعبير مارسيل غوشيه- لا يتغير من الخارج فحسب، وإنما من الداخل أيضًا، حيث إن هذا الفرد -في الوقت نفسه- الذي يجد فيه أن تحديده يعاد، سواء تعلق الأمر بحقوقه أم بمصالحه، فإن عناصر علاقته بنفسه تتغير بشكل أساسي، وينقلب إدراكه الداخلي لمكونات شخصيته رأسًا على عقب، وإنها ظاهرة ذات تأثير بالغ يعيد فكرة الذاتية المتعلقة بصورة المواطن المطروحة منذ القرن الثامن عشر إلى بساط البحث[sup][55][/sup]، مما يستلزم نظرًا مستأنفًا، واجتهادًا متجددًا، بخصوص موقع الفرد، والتشاكس السياسي، والتسويقي الشرس للاستئثار باهتمامه وطاقاته ومقدّراته، ولا شك أن من آكد حقوق الإنسان، الحق في قدر نسبي من التوقير حتى لا تضيع منه أزِّمة ذاته فَيَتِيه عنها وعن محيطه.
3- وقد استحضرت هذه الدراسة ضمنيًّا، كون مكتسب الديمقراطية في عالمنا المعاصر، قد نما في تمظهرات كثيرة له على التصادم مع "المقدس"، مما أصاب الديمقراطية عن طريق العدوى بشيء من "القداسة"! جعلتها تسمو فوق الذاتيات والمكتسبات الشخصية، فاستحثت الإنسان للخروج من حالة "القصور" مما سربل الديمقراطية بـ"وقار" جعل منها "دعوة" وخدمة على حد تعبير غوشيه "شبه كهنوتية"[sup][56][/sup] ومادة للتفاني غير المشروط، في مفارقة لأن تصبح "المشروع الشامل" الذي يحيط بالوضع البشري بأكمله، مما كان من نتائجه استدعاء الأديان إلى المجال العام، فأعطى الديمقراطية هيئتها الجديدة في منطقتنا وما حولها، مما يُلزم باجتهاد متجدد، يتغيّا تعميق محيط الفعل الحقوقي والسياسي، وحتى الاقتصادي.
وإذ إن تملّك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات المنبثقة منه، أمر ضروري في الالتزام بمقتضياته، فإنه من اللازم تفعيل مقاربة R.M.R، ببرهانية ترفع وهم التناقض مع ثقافتنا المحلية بكل مرتكزاتها، ومن أهمها الدين الإسلامي، وذلك بفتح نوافذ الاجتهاد والتجديد غير المتعارضين روحًا مع الإعلان العالمي، ولا مع فحوى النظم الاعتقادية والتشريعية في العالم والتي جميعها تجعل الإنسان في مركزيتها ولبابها، وما الإسلام ببدع من هذه النظم.
4- وقد تبين من البحث أن الشريعة الإسلامية ليست فقط غير متعارضة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإنما تكتنز قوة اقتراحية من شأنها، إغناؤه وتزويده بجملة من آليات التفعيل والإجراء، ولا سيما في مجال القرن الوظيفي الممقدر "Dosé" للحق بالواجب، كما تبين أثناء الحديث عن الجيل الثالث من حقوق الإنسان. ولا شك أن هذه المقاربة من شأنها تجاوز الكليشيه المعتاد الذي مفاده، وكما يقول الباحث "Jason Morgan Foster": "إن بعض الثقافات تتلكؤ في قبول الحقوق التي تبنّاها معظم عالمنا باعتبارها أساسية، فإنه يتبين في هذه الحالة -للعبرة- أنه على العكس من ذلك تمامًا، فإن الثقافة الإسلامية ليست وراءً، بل هي رائدة، حيث إن خطابها التشريعي مقدّرٌ، ومُقتدى بهذا الصدد، مما من شأنه أن يمنح منظورًا منعشًا للتداول حول كونية حقوق الإنسان"[sup][57][/sup].





[sup][1][/sup]     مجلة حراء، العدد: 36-37-38 (مايو-يونيو 2013/يوليو-أغسطس 2013/سبتمبر-أكتوبر 2013)
 [sup][2][/sup]     Kimberly younce schooley, Comment, cultural Sovreignty, Islam and Human Rights, Toward a communitarian Revision.
 [sup][3][/sup]     Abdullah Ahmed An-Naim: Human Right in The Muslim World.
 [sup][4][/sup]     في كتابه "Multicultiralism and the politic of recognition".
 [sup][5][/sup]     Fernando Teson; International Human Right, and cultural relativism.
[sup][6][/sup]     Reza Afshari an Essay on islamic cultural relativism in the discourse of Human Rights.
[sup][7][/sup]     Douglas Hodgson, Individual duty Within a Human Right Discourse pp: 41- 60, 2003.
[sup][8][/sup]     انظر Jason Morgan Foster كتاب جامعة ييل عن حقوق الإنسان والتنمية 8/69.
 [sup][9][/sup]     Ben Saul, Supra-note 62, at 616.
[sup][10][/sup]    ومن ذلك الوفرة في الآيات والأحاديث التي واكبت التنشئة والتشريع، من مثل قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(البقرة:34)، وقوله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ # فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(ص:72-73)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - عند طوافه بالكعبة: "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك" (رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الترغيب 2/630). وقوله - صل الله عليه وسلم -: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله" (أخرجه مسلم رقم الحديث 2564)، وغير ذلك من الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة.
 [sup][11][/sup]    جلال الدين السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 2/10.
 [sup][12][/sup]    من أدلة ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ)(المومنون:12)، وقوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)(السجدة:7)، وقوله سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(الحجر:26)، وقوله - عز وجل -: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)(الروم:20).
 [sup][13][/sup]    انظر بهذا الخصوص، كتاب الإسلام وهموم الناس، أحمد عبادي، كتاب الأمة العدد:49، الدوحة 1996م. وانظر أيضًا نماذج عائشة - رضي الله عنها -، وأبي ذر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير من الصحابة - رضي الله عنه -، وفي جيل التابعين نماذج سعيد بن جبير، وأبي مسلم الخولاني، وفي جيل أتباع التابعين نماذج أبي حنيفة، ومالك، وسفيان الثوري، وغيرهم.
 [sup][14][/sup]    وفي القرآن الكريم نسيج متكامل في الآيات بهذا الصدد، منها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ)(لقمان:20).
 [sup][15][/sup]    أحمد عبادي، مفهوم الترتيل في القرآن المجيد: النظرية والمنهج.
 [sup][16][/sup]    كاتخاذ كفار مكة الأصنام واسطةً، وقولِهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى)(الزمر:3).
 [sup][17][/sup]    مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الطبعة:3، 1423هـ/2002م، ص:224.
 [sup][18][/sup]    التعريفات، تحقيق الأبياري، بيروت، لبنان، دار الكتاب العربي، ط:1985م، ط:116.
 [sup][19][/sup]    التحرير والتنوير، الشركة التونسية للتوزيع، 3/26.
 [sup][20][/sup]    حرية الفكر في الإسلام، ص:73.
 [sup][21][/sup]    أحمد الريسوني في العيد من حواراته.
 [sup][22][/sup]    الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، دار الكتاب، تونس ط 1977م، ص:162.
 [sup][23][/sup]    Yale, human rights and development, Vol.8 pp.106.
[sup][24][/sup]    الموافقات 1/282
 [sup][25][/sup]    قال ربعي بن عامر تعبيرًا عن المقصد الكلي للإسلام في جوابه لرستم بعد أن سأله: "لم جئتم؟" قال - رضي الله عنه -: "ابتُعِثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده"، ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر، ط1979م، 3/23 فما بعدها، أحداث سنة 14 هجرية.
 [sup][26][/sup]    أحكام القرآن، ابن العربي، 1/409-460.
 [sup][27][/sup]    قال - صل الله عليه وسلم -: "ليس منا من روّع مسلمًا". (أخرجه البيهقي)
 [sup][28][/sup]    وهنا يشار إلى مفهوم الإعداد المستفاد من قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)(الأنفال:60). فالسلم في الإسلام ليس مقصده الأصل هو القتال، وإنما الإرهاب للعدو قصد ثنيه عن الانخراط فيما يوجب مواجهته، مما قد يؤدي إلى إهراق الدماء وإزهاق الأرواح. والاستطاعة، المراد بها تلك المنضبطة بالموازنة بين الحاجات وعدم تجاوزها بالإنفاق على السلاح وتجويع الناس مثلاً.
 [sup][29][/sup]    عن عبد الرحمن بن عوف، أنه حرَسَ مع عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - ليلةً بالمدينة، فبينما هُمْ يمشون شَبَّ لهم سِراجٌ في بيتٍ، فانطلقوا يَؤمُّونه حتى إذا دَنَوْا منه إذا بابٌ مُجافٌ على قومٍ لهم فيه أصواتٌ مُرتفِعةٌ ولَغَطٌ، فقال عمرُ - رضي الله عنه - وأخذ بِيَد عبد الرحمن، فقال: أَتَدْري بيتَ مَن هذا؟ قلت: لا، قال: هذا بيت ربيعةَ بنِ أُمَيةَ بنِ خَلَفٍ، وهُمُ الآن شُرَّبٌ، فما تَرى؟ قال عبدُ الرحمن: أَرَى قد أتينا ما نهى الله عنه: (وَلاَ تَجَسَّسُوا)(الحجرات:12)، فقدْ تجسّسنا، فانصرَفَ عنهم عمرُ - رضي الله عنه - وتركهم"، السنن الكبرى، للبيهقي (8/579) (17625).
 [sup][30][/sup]    علمًا بأن كل ما سلف أعلاه من مفردات، عليها شواهد تفصيلية في القرآن والسنة وكسب الصحابة والتابعين وأعلام الأمة في مختلف أجيالها، لا يتسع المقام لاستقرائها.
 [sup][31][/sup]    ومنهج التشريع الإسلامي لرعاية هذه المصالح يسلك طريقين أساسين: الأول: تشريع الأحكام التي تؤمّن تكوين هذه المصالح وتوفر وجودها. الثاني: تشريع الأحكام التي تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها، وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، وتؤمّن الضمان والتعويض عنها عند إتلافها أو الاعتداء عليها، وبذلك تصان حقوق الإنسان وتحفظ، عن طريق إقرارها بما يلزم. الموافقات 2/5.
 [sup][32][/sup]    أخرجه البيهقى في سننه 6/267، وابن سعد في الطبقات الكبرى 1/128-129.
 [sup][33][/sup]    أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه فإن قضاء الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً، رقم 6759.
 [sup][34][/sup]    ومما يشهد له ما رواه الإمام البيهقي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إن عرض لكَ قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإنْ لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسُنَّة رسول الله، قال: "فإنْ لم تجدْ في سُنَّة رسول الله ولا في كتاب الله؟" قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صل الله عليه وسلم - صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرْضي رسولَ الله"، أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"، (ج10، ص:150)، والدارقطني في سننه، (ج4، ص:206)، و"إعلام الموقعين"، (ج1، ص:92)، و"أخبار القضاة"، (ج1، ص:72).
      وما رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صل الله عليه وسلم - يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر". أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الاعتصام)، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب وأخطأ (ج8، ص:157)، ومسلم في صحيحه (كتاب الأقضية)، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (ج2، ص:56).
      وكتب الفقه طافحة بذِكْر الأمثلة على ذلك من فعْل الصحابة - رضي الله عنه - ومنهم حُكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المشرَّكة، حيث حكم بإسقاط الإخوة الأشقاء ثمَّ شرَّك بينهم وبين الإخوة لأمٍّ في قضية أخرى رُفعتْ إليه، ولم ينقض حكمه الأول، وإنما قال: "تلك على ما قضيْنا، وهذه على ما نقضي"، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (كتاب الفرائض)، باب المشرّكة (ج6، ص:255)، وعبد الرزاق في مصنفه (كتاب الفرائض) (ج10، ص:249-250)، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فأخذ أميرُ المؤمنين في كلاَ الاجتهادَين بما ظهر له أنَّه الحق، ولم يمنعه القضاء الأوَّل من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، فجَرَى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين"، إعلام الموقعين 1/111.
[sup][35][/sup]    القاعدة نص عليها الشافعي أيضًا، وقد أخرج سعيد بن منصور أصل هذه القاعدة في سننه.
 [sup][36][/sup]    ومن صور هذا المبدأ: المساواة في الفُرص، والمساواة في الحقوق والواجبات.
 [sup][37][/sup]    ولاية الحسبة من الولايات الشرعية العامة الخاضعة لسلطة الدولة، حيث تجب على الإمام بحكم وظيفته في حفظ الدين على أصوله المستقرة وتنفيذ أحكامه، ورعاية حقوق الناس ومصالحهم. ولذلك كان الخلفاء في العصور الأولى للإسلام، يباشرونها بأنفسهم، ثم أسندوا أمرها إلى والٍ خاص يُعْرَف بالمحتسب، وأُعطي من الصلاحيات و الأعوان بحيث يقوم بها خير قيام، فيمشي في الأسواق والشوارع ويقتحم أبواب المؤسسات العامة والدوائر الحكومية، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء تعلق ذلك بقيمة من قيم الإسلام معطلة أو بحق من حقوق الناس مهدر.
 [sup][38][/sup]    قال الشاطبي: "القيام بهذا الفرض -يقصد الفرض الكفائي- قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلاً لها، والباقون، وإن لم يقدروا عليها، قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرًا على الولاية، فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها، مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر، وإجباره على القيام بها.. فالقادر إذن، مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر، مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر، إلا بالإقامة، من باب، ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب"، الموافقات 8/353.
 [sup][39][/sup]    والأصل في هذه القاعدة وغيرها من قواعد رفع الضرر قوله - صل الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (رواه ابن ماجه والدارقطني).
 [sup][40][/sup]    منها قوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(الشورى:40)، (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ)(هود:113)، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(الشعراء:227)، وغيرها من الآيات المحذرة من الظلم، والمذكرة بجزاء الظالمين.
      وفي الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمُه، ولا يُسْلِمه"، رواه البخاري في كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم 2442.
      وعن البَراء بن عَازِب - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسول الله - صل الله عليه وسلم - بسَبْعٍ، ونَهَانا عن سَبْعٍ، فذكر عيادةَ المريض، واتِّبَاعَ الجنائز، وتَشْمِيت العاطس، وردَّ السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الدَّاعي، وإبرار القَسَم"، رواه البخاري في كتاب المظالم، باب نصر المظلوم، حديث رقم 2445.
      وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(هود:102).
      وفي الحديث: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (رواه مسلم). وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت لأبي سلمة بن عبد الرحمن، وكان بينه وبين الناس خصومة: يا أبا سلمة اجتنب الأرض، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين" (رواه البخاري ومسلم). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: "لا تكونوا إمّعة، تقولون: إنْ أَحْسَنَ الناس أَحْسَنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم، إنْ أَحْسَنَ الناس أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تَظلموا" (رواه الترمذي). وأثر عن عبد الرحمن الأوزاعي قولته لأبي جعفر المنصور: أنت راعي الله، والله تعالى فوقك، ومستوف منك، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الأنبياء:47).
[size][color][font]
[sup][41][/sup]    أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، (2577).
 [sup][42][/sup]    قال ابن حجر العسقلاني في شرحه لحديث "المومن للمومن كالبنيان يشد بعضه بعضًا": "نصر المظلوم فرض على الكفاية، وهو عام في المظلومين، وكذا في الناصرين، بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح" فتح الباري 5/99.
 [sup][43][/sup]    مقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان. انظر مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص:13.
 [sup][44][/sup]    حدّد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، أو في العاجل والآجل، يقول العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده"، ثـم قال: "وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة، أن يكلف عباده المشاق بغيـر فائدة عاجلة ولا آجـلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه... ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً". انظر شجرة المعارف والأحوار، ص:401.
      وقال الإمام الشاطبي: إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل إما بجلب النفع لهم، أو لدفع الضرر والفساد عنهم. الموافقات 2/9.
[sup][45][/sup]    يعتبر المذهب المالكي من أهمّ المذاهب القائلة به. واعتبار أصل الذرائع بالسد أو الفتح يُعدُّ من وجهٍ توثيقًا لمبدأ المصلحة الذي استمسك مالك بعروته؛ فهو اعتبر المصلحة الثمرة التي أقرَّها الشارع واعتبرها ودعا إليها وحث عليها؛ فَجلْبُها مطلوب، وضدها -وهو الفساد- ممنوع؛ فكل ما يؤدي إلى المصلحة بطريق القطع أو بغلبة الظن يكون مطلوبًا بقدره من العلم أو الظن، وكل ما يؤدي إلى الفساد على وجه اليقين أو غلبة الظن يكون ممنوعًا على حسب قدره من العلم؛ فالمصلحة بعد النص القطعي هي: قطب الرحى في المذهب المالكي، وبها كان خصبًا كثير الإثمار. أبو زهرة، مالك عصره وآراؤه الفقهية، ص:352.
 
[sup][46][/sup]    ومن أدلة هذا الأصل قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام:108)، فحرم الله سب آلهة المشركين، مع كون السب غليظًا، وإهانة لآلهتم، وما ذلك إلا لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى، فكان مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم.
      قال الشاطبي رحمه الله: "وسد الذرائع مطلوب مشروع وهو أصل من الأصول القطعية"، انظر: الموافقات 3/61.
[sup][47][/sup]    شرح تنقيح الفصول، ص:449، والفروق 2/63.
 [sup][48][/sup]    نظم مراقي السعود، نظم  في موضوع أصول الفقه، للشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي (ت 1233هـ).
 [sup][49][/sup]    مختصر ابن الحاجب 1/244، شرح الكوكب المنير 1/357.
 [sup][50][/sup]    وسدُّ الذرائع فيه اعتبار للمآلات وجلبِ المصالح ودرءِ المفاسد ما أمكن الدفع والجلب؛ فإنه لما كان مقصود الشريعة إقامة مصالح الدنيا على طريقةٍ تُحكَم فيها بحكم الدين المسيطر على الوجدان والضمير، ودفع الفساد ومنع الأذى حيثما كان؛ فكل ما يؤدي إلى ذلك من الذرائع والأسباب يكون له حكم ذلك المقصد الأصلي، وهو الطلب للمصلحة، والمنع للفساد والأذى.
 [sup][51][/sup]    الموفقات 3/194.
 [sup][52][/sup]    يقصد الإمام الشاطبي "العلم بقصد الشارع بالاستقراء الكلي للأدلة في إجمالها وتفصيلها"، كما هو مبين في كتابه "الموافقات".
 [sup][53][/sup]    الموافقات 4/207.
 [sup][54][/sup]    الموافقات 2/225، وقال في الموازنة بين المصالح الكلية: "وكل واحدة من هذه المراتب لمّا كانت مختلفة في تأكد الاعتبار -فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات ثم التحسينيات- وكان مرتبطًا بعضها ببعض كان في إبطال الأخفِّ، جرأةٌ على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخفُّ كأنه حمى للآكد، والراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فالمخلّ بما هو مكمّل، كالمخل بالمكَمَّل من هذا الوجه" الموافقات 1/30.
 [sup][55][/sup]    الدين في الديمقراطية، لـ"مارسل غوشيه"، ص:114، يعني غوشيه هذه  المسألة قائلاً: "إن إطار هذه التحولات التي تجري في المجتمع المدني، ونمط تركيبه وديناميكيته، هو الذي يجب أن يتم خلاله فهم التحولات، حتى تلك المتعلقة بالمعتقد، وهي تحولات متعلقة بطبيعته وموقعه، وفي الوقت نفسه، بأوضاعه الخاصة وحالته العامة. فالمعتقدات تحولت إلى هويات، مما يعني في الوقت ذاته، طريقة أخرى للاندماج فيها من الداخل، وطريقة أخرى للانتماء إليها من الخارج"، الدين في الديمقراطية، لـ"مارسيل غوشيه"، ص:113.
 [sup][56][/sup]    الدين في الديمقراطية، لـ"مارسل غوشيه"، ص:129.
 [sup][57][/sup]    Jason Morgan Foster, Yale University, Human Rights And Development L.G, Vol 8, pp 116.


[/font][/color][/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70220
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

المسلمون وحقوق الإنسان Empty
مُساهمةموضوع: رد: المسلمون وحقوق الإنسان   المسلمون وحقوق الإنسان Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019 - 18:22






الحرية وحقوق الإنسان

 محمد عمارة
 



إن علامة الإسلام وجوهره؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وبالتوحيد يتم تحرير الإنسان من استعباد كل الطواغيت والقوى المادية والموهومة، والظواهر الطبيعية التي طالما استعبدته على مر تاريخ الوثنيات. ولذلك كانت شهادة التوحيد أفعل شهادات التحرير للإنسان؛ ذلك أن إفراد الله بالعبودية والإخلاص له، لا يحرران الإنسان فقط من استعباد الطواغيت، وإنما يمثلان تديّنًا بدينٍ جعل التحرر والحرية مَعْلَمًا من المعالم الرئيسة التي جاء بها كتاب هذا الدين، وركنًا من أركان الرسالة الخاتمة التي بلغها الرسول صل الله عليه وسلم.

الحرية والتحرير في القرآن الكريم


فالقرآن الكريم يذكر الحرية والتحرير ضمن معالم هذه الرسالة المحمدية، وذلك عندما يتحدث عن المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الأعراف:157).
فمن مهام هذا الدين ومعالمه؛ وضع الآصار عن الإنسان وتحريره من الأغلال، بل لقد بلغ سمو الإسلام وحرصه على إنسانية البشر إلى أن جعل الحرية فطرةً فطرَ اللهُ الناس عليها، مطلق الناس وليس فقط الذين حررتهم شهادة التوحيد. فهي من معالم تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان مطلق الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70). وعندما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمته الجامعة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! كان “الناس” هنا نصارى غير متدينين بالإسلام، لكنهم من خلق الله الذين استحقوا التكريم بخلق الله سبحانه وتعالى.


إن حرية الإنسان محكومة بحقوق الله التي هي حدود الشريعة ومعالمها وفلسفتها في التشريع. وهنا تكون العبودية لله حرية وتحريرًا، وتكون الحرية والإنسانية ملتزمة بآفاق الشريعة وحدود الله ونطاق العبودية لله الواحد.

الإسلام وتقويض نظم الاسترقاق


ولم يقف الإسلام عند تحرير الروح وحدها من عبودية الآصار والأغلال التي شدتها إلى الطواغيت -رغم أنها الجوهر ونقطة البداية في التحرير- وإنما شرع في تقويض نُظم الاسترقاق التي جاء فوجدها سائدة في النظم الاجتماعية والاقتصادية بكل الحضارات. فأمام الروافد العديدة والمنابع الكثيرة التي تمد نهر الرقيق -صباح مساء- بالجديد والمزيد من الأرقاء، من مثل الحروب العدوانية، والغارات الدائمة، والفقر المدقع، والعجز عن سداد الدَّيْن، وقطع الطريق …إلخ. فقد شرع الإسلام في إغلاق كل هذه الروافد والمنابع، ولم يبقَ سوى الأَسْر في الحروب المشروعة، وحتى أسرى هذه الحرب المشروعة خيّرهم بين “المن” وبين “الفداء” .
ثم استدار -بعد تجفيف منابع الاسترقاق- إلى تركة ذلك النظام، فوسّع مصابّ نهر الرقيق، فجعل كفارات العديد من الذنوب تحريرَ الأرقاء، ورغّب في هذا التحرير طلبًا للحسنات والعتق من النار.
ولقد جعل الإسلام هذا العتق أو تحرير الرقاب أحد مهام الدولة الإسلامية، ومصرفًا من مصارف الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة، بل وتقدم على درب التحرير خطوات أبعد عندما أعطى الرقيق من الحقوق؛ من مثل المساواة بمالكيهم، والمشاركة لهم في الطعام واللباس، وعدم تكليفهم من العمل ما لا يطيقون، بل وإلغاء كلمتي “العبد” والـ”الأَمَة” في لغة الخطاب واختيار كلمتي “الفتى” و”الفتاة” بدلاً منهما،(1) الأمر الذي جعل الاسترقاق “عبئًا اقتصاديًّا” على مُلاك الرقيق بعد أن كان من أهم مصادر “الاستغلال” والإثراء.
بهذا الإصلاح “الجذري والشامل والمتدرج” في ذات الوقت، أنجز الإسلام بالسلم ما لم تنجزه الحروب والثورات في ميدان تحرير الأرقاء؛ فأقام مجتمعًا بلغ فيه بلال الحبشي رضه الله عنه -الذي كان رقيقًا، اشتراه أبو بكر الصديق ثم أعتقه- المكانة التي يقول عنه مثل عمر بن الخطاب: سيدُنا (أي أبو بكر) أعتق سيدَنا (أي بلالاً). (رواه البخاري)
وإذا كانت حضارات حديثة ومعاصرة قد جعلت الحرية “حقًّا” من حقوق الإنسان، فإن الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا، قد جعلها “فريضة إلهية وواجبًا شرعيًّا وضرورة من الضرورات” لا يحل للإنسان أن يتنازل عنها حتى بالطواعية والاختيار، بل وجعلها بمثابة “الحياة”.
لقد علّل علماؤنا جعْل الإسلام كفارة “القتل الخطأ” تحرير رقبة، بأن “الرقَّ موتٌ” و”الحريةَ حياةٌ”. فلما كان القاتل قد أخرج نفسًا من عداد الأحياء إلى عداد الأموات، فعليه أن يُخرِج نفسًا من عداد الأموات (الأرقاء) إلى عداد الأحياء (الأحرار). نعم، قال علماؤنا بذلك في تفسيرهم لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(النساء:92).


ضوابط الحرية المشروعة


وإذا كانت كل الحضارات والعقائد والمجتمعات قد اشتركت في وضع ضوابط وآفاق للحرية المشروعة لا تتعداها، فإن هذه الضوابط والآفاق التنظيمية قد تمايزت في هذه الحضارات والمجتمعات بتمايز فلسفاتها الخاصة بمكانة الإنسان في الكون، وطبيعة العلاقة بينه وبين خالق هذا الكون؛ فما يُعَدّ في مجتمعٍ ما وعقيدةٍ بعينها مقوّمًا من مقوماتهما الاجتماعية، وأساسًا من أسس عمرانهما، وركنًا من أركان اجتماعهما البشري، يجعلونه سقفًا للحرية لا تتعداه.
فليس هناك مجتمع يفتح آفاق الحرية وأبوابها “للخيانة الوطنية” أو لتقويض “أسس النظام الاجتماعي” أو “للجريمة” أو “للعدوان”، بل ولا “للعيب” في ذات الحاكم أو “إهانة” قطعة قماش إذا كانت علَم الوطن ورمزه. فالجميع متفقون على أن هناك سقفًا للحرية وآفاقًا يجب أن لا تتعداها؛ حفاظًا على المقومات التي يحفظ قيامها ما هو متاح للجميع من حريات وحرمات.


الإسلام وآفاق الحرية الإنسانية


والإسلام مع هذا المبدأ، لكنه يتميز في الفلسفة التي تحدد آفاق الحرية في المجتمع الذي تسود شريعته فيه. والمدخل إلى هذه الفلسفة الإسلامية المتميزة في آفاق الحرية الإنسانية، هو نظرة الإسلام إلى مكانة الإنسان في هذا الكون.
ففي حين ترى الفلسفات المادية والوضعية في الإنسان “سيد الكون”، فتحرّر حريته من ضوابط الشريعة الإلهية وأُطر الحلال والحرام الديني، حتى يستطيع -كما في الديمقراطيات الغربية- أن يحرم الحلال ويحلل الحرام إذا هو أراد! فإن الإسلام يرى الإنسان خليفةً لله سبحانه وتعالى في عمارة هذه الأرض، له حرية وإرادة وقدرة واستطاعة، لكنها حرية الخليفة والنائب والوكيل، المحكومة ببنود عقد وعهد الاستخلاف.
إن حرية الإنسان -وإن بلغت في الإسلام مرتبة الضرورة والفريضة- محكومة بحقوق الله سبحانه وتعالى التي هي حدود الشريعة ومعالمها وفلسفتها في التشريع. وهنا -وبهذا الاتساق- تكون العبودية لله حرية وتحريرًا، وتكون الحرية والإنسانية ملتزمة بآفاق الشريعة وحدود الله ونطاق العبودية لله الواحد.
ليست الحرية في الإسلام هي تلك التي تحرّم “العيب في الذات الملكية”، بينما تبيح “العيب في الذات الإلهية”! ولا هي تلك التي تجرّم إهانة “علَم الدولة” في ذات الوقت الذي تسمح فيه بإهانة المقدسات الدينية، ولا هي الحرية التي تقدّس “الوضع البشري” على حين تتحلل من “الوضع والتشريع الإلهي”، ولا التي تعلي من شأن “المصلحة” دون ضبطها بالمعايير “الشرعية” لتكون “مصلحة شرعية معتبرة”.
إن سيد الكون والوجود هو خالقه، وهو الذي استخلف الإنسان وفطره على الحرية؛ حرية الخليفة المحكومة بحدود شريعة الاستخلاف.


الإكراه يثمر نفاقًا لا إيمانًا


وإذا كان “الإيمان الديني” -والذي هو تصديق بالقلب يبلغ مرتبة اليقين- لا يمكن أن يأتي ثمرة للإكراه: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة:256)، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾(هود:28)، لأن الإكراه يثمر “نفاقًا” لا “إيمانًا”. فإن الإيمان الديني -في نظر الإسلام- واحد من أهم مقومات الاجتماع البشري، فالحفاظ عليه والحيلولة دون “حرية هدمه” و”إباحة تقويضه”، إلى جانب أنه وفاء بحق الله على الإنسان الذي خلقه ليعبده: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56)، فإنه أيضًا حق من حقوق انتظام الاجتماع البشرية وارتقاء العمران الإنساني.
ولعل في تحلل وانهيار الحضارات والمجتمعات التي جعلت من “المصلحة الدنيوية وحدها”، بل ومن اللذات والشهوات “سقوفًا” وحيدة للحرية، على حين أهملت ضوابط الشرائع الإلهية وحدود الحلال والحرام الديني، ما يزيد الإنسان المسلم استمساكًا بفلسفة الإسلام في الحرية كفريضة إلهية، وواجب شرعي، وضرورة إنسانية يمارسها إنسانٌ مستخلَف لله سبحانه وتعالى في إطار بنودِ عقد وعهد الاستخلاف.


حقوق الإنسان من منظور إسلامي


وقياسًا على ذلك، تكون الرؤية الإسلامية لكل ما تعارف الناس في الحضارات الأخرى على وضعه في قائمة “حقوق الإنسان”:
• الحفاظ على “الحياة” ليس مجرد “حقٍّ”، وإنما هو فريضة إلهية وتكليف شرعي واجب، ولذلك يأثم المفرّط في الحياة حتى ولو تم التفريط بالاختيار؛ انتحارًا كان هذا التفريط أو قعودًا عن الجهاد في سبيل مقومات الحياة.
• و”العلم” ليس مجرد “حقٍّ”، وإنما هو فريضة على كل مسلم ومسلمة، يأثم الذي يختار الجهل عليه، وفي بعض التخصصات تصل فرضيته إلى مرتبة الفريضة الكفائية -الاجتماعية- فتأثم الأمة جمعاء إن هي فرّطت فيها حتى ولو كان التفريط طواعية واختيارًا.
• والمشاركة في “العمل العام” ليست مجرد “حقٍّ”، وإنما هي فريضة تطبيقية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي فيها جماع تكاليف المشاركة في العمل العام.
ولقد أفردت الحضارة الإسلامية المباحث المستقلة والمطولة في هذه الضرورات؛ من مثل الضرورات الخمس وهي: الحفاظ على الدين، والنفس، والعقل، والنسب والعرض، والمال، وذلك قبل قرون عديدة من المواثيق والإعلانات التي صاغها الآخرون حولها أو حول بعضها كمجرد “حقوق”.
لكن الكشف عن هذه الحقيقة يبقى منقوصًا إذا لم ينهض العقل المسلم بصياغة هذه المبادئ والمعالم، في مواثيق مفصلة تقدم الضمانات التي قنّنها الإسلام للإنسان المسلم، ولمطلق الإنسان في سائر ميادين الحياة المعاصرة التي بلغت في التركب والتشعب والتعقيد ما لم تبلغه الحياة الاجتماعية في سالف العصور.
إن العقل المسلم والحركة الإسلامية مُواجهَان بالعديد من التحديات في هذا الميدان.
ما هي “الأشباه والنظائر”؟ وما هي “الفروق” بين فلسفة الإسلام وفلسفات الحضارات الأخرى في “حقوق الإنسان”؟ وأين “الوثائق والإعلانات” التي تصوغ موقف الإسلام في هذه القضية بالتفصيل المعاصر والتقنين الحديث، حتى يرى الإنسان المعاصر في هذا الجانب من جوانب الإسلام، السياج الأوفى بحفظ ما له من ضرورات وحاجيات؟
وأخيراً -وهذا هو الأهم- كيف ومتى سنطبق أحكام الإسلام وفرائضه هذه في الواقع الإسلامي الذي نعيش فيه، وذلك حتى تزول المفارقة الصارخة بين ما ضمنه الإسلام للإنسان من كرامة وتكريم، وبين الواقع الظالم والبائس الذي يعيش فيه هذا الإنسان؟!
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) وردت في ذلك أحاديث عدة أخرجها البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، منها: “لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، وليقل فتاي وفتاتي، وسيدي وسيدتي، كلكم مملوكون، والرب الله عز وجل”
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70220
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

المسلمون وحقوق الإنسان Empty
مُساهمةموضوع: رد: المسلمون وحقوق الإنسان   المسلمون وحقوق الإنسان Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019 - 18:24

العالمية هي خصوصية حقوق الإنسان في الإسلام
 إبراهيم البيومي غانم 
يقول الله سبحان ه وتعالى في محكم آياته مخاطباً النبي الأكرم سيدنا محمداً صل الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107). و”العالمين” ليسوا فقط كل بني آدم، في كل زمان ومكان، وإنما هم عالم الإنس وعالم الجن وعوالم الحيوانات والجمادات، كل منها له حظ من الرحمة المهداة للعالمين، سيد الأولين والآخرين. وعليه فإن كل خير جاء به ودعا إليه وحض على التنافس فيه، لا يقتصر على جنس دون آخر، بل يشكل كل العالمين، ليذوقوا من نعمة الإسلام ، وليتعرفوا عليه عملياً قبل أن يطالبوا بالإيمان به وبعد أن يطالبوا به، سواء أجابوا داعي الله أم أعرضوا عنه ولم يجيبوه.
ولكن الجدل حول حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي يتجه اتجاهات شتى، منها ما يؤكد الخصوصية والفرادة التي تميز الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان بمعنى يحصرها في صنف معين من البشر، وربما في مناطق جغرافية دون غيرها من العالم؛ ومنها ما يؤكد تطابقها تمام الانطباق مع النظرية الأوربية السائدة باعتبارها نظرية عالمية، ومن ثم يرفض أنصار هذا الاتجاه وجود خصوصية لنظرية حقوق الإنسان الإسلامية.
أصحاب الاتجاه الأول يظلمون الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان، إذ يحبسونها في إطار ضيق ويعطلون رسالتها العالمية؛ وأصحاب الاتجاه الثاني يتجاهلون جوهر هذه الرؤية وعمقها الإنساني ويحاولون تقريبها من الرؤية الغربية المفتقدة لهذا العمق الإنساني في كثير من جوانبها.

عالمية الرؤية الإسلامية
وفي رأينا أن الخصوصية الكبرى لمفهوم حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية تتمثل في “الشمول والعالمية”؛ فقد جاءت الشريعة بتقرير كل أنواع الحقوق المدنية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، الجماعية منها والفردية من جهة، وجاء الخطاب من جهة أخرى باحترام هذه الحقوق وحمايتها وضمانها شاملاً لكل بني آدم، أو لكل إنسان بوصفه إنساناً، وبوصفه إنساناً فقط لا أكثر من ذلك ولا أقل؛ بل تمتد هذه الحقوق -في جوانب كثيرة منها- لتشمل الحيوان والجماد والبيئة في منظومة متجانسة ومتناغمة.
إن خصوصية حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية هي في “عالميتها” إذ إن خطاب التكليف بها وبحمايتها موجه للآدمي بموجب كونه إنساناً، وليس ثمة حق واحد دينياً كان أو مدنياً، سياسياً أو اجتماعياً مقرر للمسلم وحده ومحظور على غيره. وهذه الخصوصية أيضاً هي في شمولها لكل أنواع الحقوق التي عرفتها المواثيق والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان في صيغها الحديثة والمعاصرة.
إن مصطلح حقوق الإنسان -المستعمل في الخطاب المعاصر- يشير إلى مجموعة الحقوق والمطالب الواجب الوفاء بها لكل البشر على قدم المساواة دونما تمييز فيما بينهم لأي سبب كان. ولكن هذا التعريف العام ليس مسلماً به لدى المجتمعات المختلفة؛ ذلك لأن نوع هذه الحقوق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتصور الأساسي عن الإنسان ذاته، فإذا كان الإنسان فرداً حراً ذا كرامة وقيمة ويمتلك العقل والضمير، ويمتلك القدرة على الاختيار الأخلاقي والتصرف السليم، ويملك أيضاً الحكم الصائب على ما هو في مصلحته، فإن حقوق هذا الإنسان سوف تنبني على أساس هذا التصور. والواقع يشهد بوجود كثير من صور التمييز الفعلي بين بني البشر، إضافة إلى انتهاك أبسط حقوقهم، وليس ذلك إلا نتيجة من نتائج الثقافات الاستبدادية والعنصرية كتلك التي ظهر فيها من يقول إنه “شعب الله المختار”، أو إن شعباً من الشعوب فوق الجميع، أو إنه يحمل عبئاً تجاه الأجناس الأخرى البدائية المتخلفة باعتباره جنساً أرقى، وكلها نزعات ظهرت وترعرت في الثقافات الوضعية، وتركت آثارها على علاقاتها مع أصحاب الثقافات الأخرى.
وإذا نظرنا إلى جملة حقوق الإنسان التي قررتها الشريعة على أي مستوى من مستويات التأصيل النظري سنجد أنها تؤكد على صفتي العالمية والشمول كما ذكرنا.

نظرة الإسلام إلى الإنسان
فالتأسيس المعرفي الفلسفي يبدأ بإسناد جميع الحقوق المقررة للإنسان إلى الله خالق الإنسان، ويجعلها واجباً مقدساً مفارقاً لأي سلطة وضعية، كما يضفي عليها قوة إلزامية يتحمل مسؤولية حمايتها كل فرد، فهي تسمو إلى مرتبة الواجب الديني. وبما أن هذه الحقوق مقررة من خالق الإنسان إذاً فهي لا تعترف بالفروق الجنسية أو الجغرافية أو العقائدية.
أما التأسيس الشرعي الأصولي فيؤكد على أن كل شيء في الأصل مباح وهو الأوسع دائرة، وأن الاستثناء هو التحريم وهو الأضيق دائرة، وأساس الإباحة والتحريم هو مصلحة الإنسان نفسه. ولا تقف حدود حرية الفرد وحقوقه إلا عند حدود حرية وحقوق الآخرين، فلا يجوز أن يخل أحد بحريةِ أو بحق غيره فـ”لا ضرر ولا ضرار”. ولابد في جميع الحالات من الالتزام بفضائل الأخلاق في ممارسة الحقوق أو في الدفاع عنها، فإن جادل فعليه أن يجادل بالحسنى، وعليه أن لا يقول ما لا يفعل، وإذا حكم أن لا يكون فظاً غليظ القلب، إلى غير ذلك من الأخلاقيات التي حضت عليها آيات الكتاب الكريم والسنة النبوية.
إن البحث في مضمون خصوصية حقوق الإنسان من المنظور الإسلامي يقتضي بادئ ذي بدء الرجوع إلى نظرة الإسلام إلى الإنسان وتحديد موقعه في هذا الكون. وهنا نجد أن الإسلام قد اعترف بكيان الإنسان كما هو في حقيقته، فكل إنسان أياً كان عرقه أو لونه أو دينه أو حضارته محترم وأخ لأخيه الإنسان، “كلكم لآدم وآدم من تراب”. وأياً كان المكان أو الزمان الذي يولد ويعيش فيه، هذا الإنسان في نظر الإسلام يولد على الفطرة، وهذه الفطرة هي واحدة في كل بني آدم، وهي موجودة كاملة غير منقوصة فيه منذ لحظة ميلاده، وتشمل هذه الفطرة نفخة من روح الله تعالى. ولا يولد الإنسان على الفطرة فقط، وإنما يولد مزوداً بأدوات المعرفة الأساسية: السمع والبصر والفؤاد، وهي الأدوات التي يستطيع بها أن يخدم ما في روحه من شوق إلى معرفة الله، وإلى الحرية بأوسع معانيها، وإلى التمتع بالحياة وتحقيق الازدهار الروحي إلى جانب الازدهار المادي وترقية نوعية حياته.

الاعتراف بحقوق الإنسان أصل كل الحقوق
ومن هنا كان أهم وأول حق من حقوق الإنسان تؤكده الخصوصية الإسلامية هو حق الاعتراف به كإنسان. إن هذا الحق هو أصل كل الحقوق الأخرى، وبدون تقريره على هذا المستوى الأصولي الروحي يكون عرضة لانتقاص كثير من حقوقه الأخرى تحت دعاوى كثيرة يختلقها الطغاة والمستبدون، وتبررها السلطات التي تتحكم فيه سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية. والتاريخ -القديم والوسيط والحديث والمعاصر- يقدم لنا كثيراً من الأدلة والشواهد التي تؤكد على أن عدم الاعتراف بآدمية الإنسان، أو بإنسانية الآدمي الذي كان هو البداية الأولى لإهدار كثير من حقوقه وحرياته الأساسية، كما يمدنا التاريخ بشواهد كثيرة توضح فداحة التضحيات التي قدمتها المجتمعات حتى وصلت إلى انتزاع الاعتراف بإنسانية الآدمي وكونه أهلاً للتمتع بالحقوق وممارستها وحمايتها.
إذا انتقلنا إلى التأسيس الفقهي/القانوني لحقوق الإنسان التي جاءت بها شريعة الإسلام، سنجد أنه حاول دوماً الاقتراب من النموذج الأساسي لتلك الحقوق في “عالميتها وشمولها”، ولكننا سنلاحظ أيضاً أن الاجتهادات التي أدلى بها الفقهاء قد تباينت عبر العصور لأسباب شتى -ليس هنا مجال التفصيل فيها- فاقتربت حيناً من النموذج الأساسي الذي أرسته المصادر المعرفية/الفلسفية، والأصولية، وابتعدت عنها حيناً آخر وعجزت عن استيعاب مضامينها الواسعة وقصرت عن الإحاطة بنزعتها الإنسانية الشاملة.
أما إذا انتقلنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه “التأسيس العملي/التطبيقي” لتلك الحقوق، فسوف نجد أن الفجوة أضحت أوسع بين ما يجب أن يكون وما كان بالفعل عبر مراحل تاريخية مختلفة، أو ما هو كائن في واقعنا الراهن. ولهذه الفجوة أسباب كثيرة أيضا تفسرها وتشرح آليات اتساعها حيناً أو ضيقها حيناً آخر، وهذا موضوع لحديث آخر.

الصياغات المقننة لحقوق الإنسان
والأمر الجدير بالإشارة هنا هو أن الفقه الحقوقي الإسلامي المتعلق بمنظومة “حقوق الإنسان” قد تأخر كثيراً في تقديم صياغات قانونية تحدد هذه الحقوق بلغة معاصرة، وذلك بعكس ما فعل الفكر الأوربي الحديث والمعاصر الذي عني بتقنين هذه الحقوق وتحديدها بقدر كبير من الدقة، وقام بالتعبير عنها في صور متعددة مثل الإعلانات والمواثيق، والمعاهدات الدولية التي تباينت من حيث قوتها الإلزامية، من الإلزام المعنوي أو الأخلاقي، إلى الإلزام القانوني.
وأياً كانت الأسباب التي أدت إلى تأخر الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر عن تقديم صياغات مقننة لحقوق الإنسان في صورة مواثيق أو إعلانات أو معاهدات، فقد ظهرت خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي عدة صياغات في محاولة لتدارك هذا التقصير، وتمثلت تلك الصياغات في الآتي:
• “إعلان حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام”. وقد صدر عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في سنة 1979.
• “البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان”. وقد صدر عن المجلس الإسلامي الأوربي في لندن سنة 1980.
• “مشروع وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام”، الذي صدر عن مؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في الطائف سنة 1989.
• “مشروع حقوق الإنسان في الإسلام”، الذي قدم إلى المؤتمر الخامس لحقوق الإنسان في طهران، في كانون الأول ديسمبر1989.
• “إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام” سنة 1990.
• “إعلان بشأن حقوق الطفل ورعايته في الإسلام”. وقد صدر في المغرب سنة 1994.
هذا إلى جانب مبادرات وصياغات أخرى متفرقة، بعضها بجهد فردي، وبعضها بجهد جماعي مؤسسي، وجميعها لا يزال في مرحلة الإعلان والبيان والتعريف دون أن تحمل أية قوة إلزامية وبخاصة في مواجهة أنظمة الحكم التي تمارس عمليات انتهاك حقوق الإنسان في كثير من بقاع العالمَين العربي والإسلامي، حسبما توضح التقارير الدورية التي تصدر عن منظمات حقوق الإنسان في العالم.

حرية الفرد دعامة أساسية في الإسلام
إن نقطة البدء في تأسيس خصوصية النظرية الإسلامية في حقوق الإنسان هي “عصمة الآدمي” في ذاته وكما خلقه الله، وهذا هو الأصل الكبير الذي يخوله الحقوقَ الأخرى جميعها.
ولمزيد من التأكيد على الأطروحة التي نتبناها وهي أن خصوصية نظرية حقوق الإنسان في الإسلام هي في عالمية هذه الرؤية، نقول إن الدعامة الأساسية التي اتخذها الإسلام لكل ما شرعه من عقائد ونظم وقوانين هي “حرية الفرد”، والإقرار بقدرته على الاختيار بملء إرادته دون حاجة إلى وسيط أو وصي، اللهم إلا في حالات نادرة واستثناءات محددة تتعلق بفقدان الأهلية، أو تعرضها للنقص بسبب عيب من العيوب، بل إن بعض الفقهاء العظام من أمثال أبي حنيفة النعمان ذهبوا إلى أنه لا يجوز الحجر على السفيه، والسفه عيب من عيوب الأهلية كما هو معروف، وعلل أبو حنيفة ذلك بالقول بأن الحجر على السفيه إهدار لآدميته، وإلحاق له بالبهائم، وأن الضرر الإنساني الذي يلحقه من جراء هذا الإهدار يزيد كثيراً على الضرر المادي الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، وأنه لا يجوز أن يدفع ضرر بضرر أعظم منه.
وبتقرير الحرية الفردية على هذا النحو الذي ألمحنا إليه، تقررت جملة الحقوق الأساسية المرتبطة بكيان الإنسان وآدميته، وفي مقدمتها الحقوق المتعلقة بحرية التفكير والتعبير، وحرية البحث والتأمل. ولا يوجد في أصول الإسلام وتعاليمه، ولا في اجتهادات الأئمة المعتبرين أي توجيه يهدف إلى فرض الأخذ بنظرية علمية بشأن أي ظاهرة من الظواهر، عكس ما عرفته بعض الممارسات في تاريخ الأديان والثقافات الأخرى، وعرفت في سياقها محاكم التفتيش.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
المسلمون وحقوق الإنسان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الحرية وحقوق الإنسان
» شبكة الانترنت… بين ترف التكنولوجيا وحقوق الإنسان الأساسية
» ملف كامل تشريح جسم الإنسان ,كل ما يتعلق بجسم الإنسان,معلومات طبيه هامه عن جسم الإنسان
» المسلمون في الفلبين
» لإخوان المسلمون

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: