منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:22 pm

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق
د. رضوان السيد [sup][1][/sup]
أولاً: ثلاثة نماذج طغت على علاقة الدولة الإسلامية بالحركات الإسلامية
يدور منذ عقود صراع على الإسلام، كان الظاهر فيه قبل 11 سبتمبر 2001 أنه صراع داخلي بين رؤى ومشروعات، وتحول بفعل التطورات إلى صراع على السلطة بين الأنظمة القائمة، والحركات والتنظيمات الإسلامية. فهمت السلطات خطابات وتصرفات التنظيمات الإسلامية باعتبارها مشكلة أمنية. بينما أصرَّ الإسلاميون من جانبهم على أنهم أصحاب مشروع، وأن العنف عارض، ولا علاقة به إلا لشرذمة ضئيلة يشجُبُها التوجه الأكثري في تلك الحركات. وقالت السلطات إن هؤلاء يتهددون الاستقرار، ويريدون الاستيلاء على السلطة باسم الدين، ولا يؤمنون بالديمقراطية في الحقيقة.
وقد غصت السجون في بعض الفترات بالإسلاميين، كما تجرأ الطرفان على الوصول إلى حافة الحرب الأهلية. وأقدمت عدة دول عربية وإسلامية على الاعتراف بالمعتدلين وأشركتهم في المجالس النيابية، ومجالس الوزراء. وهكذا نشأت ثلاثة نماذج لعلاقة الدول الإسلامية بالحركات الإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة: التقاطع والصراع، أو انفراد الإسلاميين بالسلطة، أو المشاركة المتفاوتة الفعالية والأهمية. وهناك نموذجان لانفراد الإسلاميين بالسلطة هما السودان وإيران. وما أحاط أحد الانقلاب السوداني عام 1989 بأي آمال، بعكس الثورة الإسلامية في إيران، والتي حدثت قبل عشر سنوات 1979، وأحدثت هزة في العالم كله:
الكاتب الفرنسي أوليفييه روا قال عام 1996 إن الإسلام السياسي فشل؛ لأنه لم يمتد خارج إيران والسودان، ولأنه يعاني من مشكلات أساسية في البلدين. بيد أن للنجاح والفشل مقاييسهما التي تختلف من باحث لآخر. والسلطة في السودان اليوم تكاد تتخلى عن كل شيء بما في ذلك وحدة البلاد، للبقاء في السلطة. بينما المعروف أن الدعوى الأولى للإسلاميين أن أحقيتهم بالسلطة لا تنبع فقط من مركزية الشريعة في مشروعهم، بل تأتي أيضا من أنهم أحرص وأقدر على حماية المصالح الوطنية.
ونعرف منذ سنوات أن محافظي الشيوخ المتنفذين في السلطة، يتهمون الذين يعارضونهم مباشرة بالنقص في وطنيتهم. وإذا ما كان ممكنا موافقة أوليفييه روا وجيل كيبيل على آراء وانطباعات الفشل، بدون تحفظ من نوع ما، فلا شك أن الإسلاميين في السلطة ما أظهروا تفردًا لا في الفكر ولا في السلوك، بعد وصولهم للسلطة. وما نجحوا النجاح الذي كانوا يؤملونه أو تؤمله الجماهير التي رحبت بهم. ولا شكَّ أن الأوضاع بإيران كانت أسهل منها في السودان. فهي دولة قومية كبيرة ومستقلة وعندها موارد بترولية. لكنهم يستطيعون الاعتذار بحرب العراق عليهم، وبحصار أمريكا لهم. على أن أكبر أعذار الإسلاميين في السلطة، أن الدول العربية والإسلامية الأخرى ليست أنجح منهم بكثير في مسيرتها السلطوية، رغم أن ظروفها مع المجتمع الدولي أفضل بما لا يقاس.
ومرة أُخرى هناك النموذج الثاني، أو الشكل الثاني من أشكال العلاقة بين الإسلاميين والسلطات، وهو نموذج المشاركة. فقد شاركوا في لبنان والأردن واليمن. وبشكل موارب في مصر والمغرب. ويمكن الحديث عن تميز لهم في الاهتمام بالشأن الوطني والقومي والإسلامي. ويبدون أحيانًا في توترهم وخطابيتهم ونضاليتهم مثل قوميي ويساريي الستينيات. وحتى لا يصطدموا بالسلطات، فإنهم كثيرًا ما يلقون باللائمة على إسرائيل وأمريكا. وقد صار ذلك ممكنًا الآن وسهلاً بعد اندلاع حرب أمريكا على الإرهاب، وتصرفات إسرائيل إزاء الانتفاضة. لكن يبدو أنه لا مستقبل كبيرًا لهؤلاء المشاركين، لعدم تميزهم بالمبادرة، ولا بالأطروحات الجادة. ثم إنهم يأنفون من الأساليب البرلمانية والسياسية لاتسامها بالمراوغة، أو بعدم المبدئية.
والمشكلة الكبرى هنا في علاقة السياسة بالأخلاق، كما يقولون، وفي الحقيقة في علاقة العقائد وسياسات الهوية بتدبير الشأن العام. فالحركات الإحيائية الإسلامية كلها حركات هوية، والهوية مرتبطة بالعقائديات والشعائريات والرمزيات. والسياسة عمل أخلاقي رفيع لأنه متعلق بتدبير شؤون الناس، فلا يمكن الزعم أن أساليب العمل السياسي الرامية للوصول إلى تسويات عن طريق النقاش والتفاوض، هي أعمال غير أخلاقية. لكنهم إذا رفضوا التسوية، يحافظون على عقائدية الهوية ويخسرون الناس، وأن قبلوها تخلوا عن شعائر الهوية، وفقدوا مرجعيتهم في نظر أنفسهم! وقد انتقل حسن الترابي من النقيض (المتشدد) إلى النقيض (التحالف مع جون قرنق). وهكذا تقود العقائدية إلى الانكسار والتحطم باتجاه التشدد أو التحلل، وفي كلتا الحالتين لا يتحقق برنامج الإسلاميين المشاركين، إن كان لهم برنامج. ثم إنه يكون علينا ألا ننسى أنهم يعتبرون أنفسهم ممثلي الإسلام الحقيقيين، فيؤثر ذلك سلبًا على علاقاتهم بالسلطات، وبالأحزاب والحركات السياسية الأخرى.
وتبقى كلمة عن النموذج الثالث، نموذج القطيعة، وهو النموذج السائد في عدة بلدان عربية رئيسية حتى الآن. وقد أنتج عنفًا وعنفًا مضادًا، وما يعرف بالجماعات المتشددة منذ مطالع السبعينيات. ولا شك أن الأجزاء التي لجأت للعنف من الحركات الإسلامية صغيرة، لكنها مؤثرة جدًا. ويكفي القول إنها تسببت في الحرب الدائرة الآن على الإسلام والمسلمين. بيد أن أظهر وجوه خطورتها طبيعتها المغامرة والتي لا تشعر بالوجل أمام احتمال الحرب الأهلية، التي جرؤ عليها العسكريون بالجزائر وبادلهم الجرأة الإسلاميون. وقد تراجعت أطراف رئيسة من الإسلاميين عن العنف تحت وطأة فجائع المجازر، دون أن يتراجع الانطباع عنهم بشأن هذا "الإقدام" المعروف عن المتسلطين، وغير المقبول شعبيًا من خصومهم العاملين باسم الإسلام. وما كانت لتراجعهم آثاره الإيجابية، من جهة ثانية، لأن القاعدة، والسلفية الجهادية المنبثقة عنها أنست بعنفها الشامل والعدمي حتى عنف الاستئصاليين بالجزائر. ما علاقة هذا كله بالصراع على الإسلام، وبالإصلاح الإسلامي؟ العلاقة واضحة، فالإسلاميون على اختلاف فرقهم يعتبرون أنفسهم الخيار الإصلاحي أو أن الحل الإسلامي هو الضرورة والفريضة، كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي 1974. بيد أن حدث 11 سبتمبر الهائل، أدخل عنصرًا جديدًا وحاسمًا في مطالب الإصلاح، وفي الصراع على الإسلام، على حد سواء.
ثانيًا: عمليات "القاعدة" حولت صراعات الحركات الإسلامية إلى مواجهة عالمية
أدت عمليات "القاعدة" بين العامين 1998 و2001، إلى تغيير المشهد، حيث لم يعد الصراع بين الحركات الإسلامية المتشددة والسلطات في البلاد العربية والإسلامية هو المجال الرئيس، بل صار الصراع عالميًا، ويتركز فيما بين الولايات المتحدة والإسلاميين المتشددين على مدى العالم، فيما عرف ويعرف بالحرب على الإرهاب. والواقع أن الحرب على الإرهاب احتاجت في حصولها إلى تحقيق شرطين: المتغيرات الاستراتيجية لدى حركات التشدد الإسلامي، والمتغيرات الشعبية والسلطوية في الولايات المتحدة وأوروبا. أما الشرط الأول فظهر في الإعلان عن جبهة القتال ضد اليهود والصليبيين عام 1998، ومن جانب بن لادن (زعيم تنظيم القاعدة)، وأيمن الظواهري (زعيم تنظيم الجهاد المصري).
وكان هذا التطور جديدًا إلى حد كبير. فمنذ سيد قطب (1964)، وحتى عمر عبد الرحمن (1988)، كانت وجهة نظر الإسلاميين المتشددين أن الحكومات العربية والإسلامية متغربة أو تعتمد في بقائها على الغرب (بشقيه الشيوعي والرأسمالي)، وأن المسلمين غافلون. لكن الاستنتاج من هذا التحليل للموقف، ظل دائمًا لدى سائر أطراف الحركة الإحيائية الإسلامية: ضرورة التغيير، وإزالة تلك الحكومات، بالتدرج لدى المسالمين، وبالقوة لدى المتشددين وكان هذا هو التطور الرئيس في عملية تبلور الإسلام السياسي، أي اعتبار "الجهاد الداخلي" مشروعًا، بخلاف الرؤية التقليدية التي تعتبر كل نزاع داخلي أو استعمال للعنف في الداخل فتنة تحرم مباشرتها أيًا كانت الأسباب. وكان القول بإحلال التمرد الداخلي، واستخدام العنف، هو الذي فصل بين التيار الرئيس في الحركة الإحيائية الإسلامية (الإخوان المسلمون والتنظيمات القريبة منهم)، وبين أولئك الذين قادوا نزاعات مسلحة بمصر، وغيرها منذ السبعينيات (ومنهم الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد) وبعد منتصف التسعينيات حدث التطور الذي سبق الحديث عنه، حين اعتبر المتشددون المشاركون في حروب أفغانستان والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز، أن التغيير في عالم الإسلام -وإن استخدم العنف- عسير جدًا إن لم تجر مواجهة "الكفر العالمي" الذي يحمي تلك الأنظمة. وشجعهم على ذلك ما اعتقدوا أنهم نجحوا فيه بهزيمة الروس في أفغانستان والشيشان. كما اعتقدوا أن القول بمجاهدة "الكفار والمشركين" إنما هو عودة إلى الأصول، وإلى المفاصلة والمنازلة بين دار الشرك ودار الإسلام، ومن هنا مقولة الفسطاطين لدى بن لادن وأشياعه.
ونعلم الآن من مذكرات أولبرايت (وزيرة الخارجية أيام كلينتون)، ومذكرات هيلاري كلينتون، أن الأجهزة الأمريكية وبعض الأوروبية تنبهت إلى هذا التطور لدى المتشددين، حتى قبل نسف السفارتين الأمريكيتين في تنزانيا وكينيا وضرب المدمرة كول، على أن الشرط الثاني، الذي تحدثت عنه، لتحول تلك المواجهة إلى مشهدية عالمية، هو وصول الرئيس بوش الابن إلى السلطة بالولايات المتحدة عام 2000 استنادًا للدعم المنقطع النظير من الإنجيليين الجدد (40 إلى 50 مليونا في الولايات المتحدة)، والوجود القوي للمحافظين الجدد في إدارة بوش، وهم الذين يملكون أيديولوجيا حول الدور الأمريكي الفريد في العالم، والاتجاه لتحقيقه عن طريق الحروب الاستباقية، وفي المناطق الاستراتيجية والضعيفة التي يمكن اجتياحها وإسقاطها دونما خطر نشوب حرب عالمية.
هكذا صار المسرح معدا: أيديولوجيا الجهاد العالمي أو مجاهدة الكفر العالمي من جانب المتشددين الإسلاميين، وأيديولوجيا التغيير العالمي لدى المحافظين الجدد لضرب الشر وفرض الخير والديمقراطية، حيث لا افتراق بين قيم أمريكا ومصالحها. وما اقتصر التضاد بين الأصوليين على التناقض الأيديولوجي الكاسح، بل كان هناك بالإضافة لذلك موضوع اليهود وإسرائيل. فالإسلاميون المتشددون يعتبرون إسرائيل (ومن ورائها يهود العالم) العامل الرئيس فيما أصاب العرب والمسلمين من ضعف وهوان. والإنجيليون الجدد فأكثرهم يعتبر إسرائيل إنجازًا للوعد الإلهي، وتمهيدًا لعودة المسيح بعد معركة هرمجدون التوراتية والنشورية. في حين يعتبر المحافظون الجدد -وأكثرهم من اليهود الصهاينة- أمن إسرائيل وازدهارها هدفًا رئيسًا ضمن الحملة لنشر رسالة أمريكا في العالم.
بدأت إدارة بوش الابن تعد للحملة منذ اللحظة الأولى، وعلى مستوى العالم: تصفية الحساب مع الأمم المتحدة، واستهداف فرنسا وألمانيا والمزيد من الإرعاب لروسيا، والحرب على العراق، ولا علة للحرب على العراق غير تحريك المستنقع الشرق أوسطي تدليلاً على تفوق الولايات المتحدة، وتفردها، وأن ذلك يخدم إسرائيل، بدفع العرب المرعوبين للتخلي عن كل شيء في مقابل عدم تعرض أمريكا لأنظمتهم، ورجوا أن تحدث تلك التداعيات المرغوبة والمطلوبة، بمجرد ضرب العراق واحتلاله. ولهذا قال الرئيس بوش منذ البداية إنه لن يتدخل في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي (وكانت الانتفاضة على أشدها) لأربعة عشر شهرًا، بحجة أن إدارة كلينتون أهانت نفسها حين لم تستطع فرض الحل على عرفات، فيستطيع شارون سحق الفلسطينيين خلال تلك الأشهر الحاسمة، التي يكون فيها الأمريكيون يعصفون ويعسفون في العراق وجواره. وقد بلغ من ثبات هذه القناعة لدى صقور المحافظين الجدد هؤلاء، أن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 ما غيرت في البداية من أولوية ضرب العراق لديهم، بدلا من أفغانستان، حيث تتمركز القاعدة، ويتمركز جهاديوها، كما يشير لذلك بوب وودورد في كتابه: "بوش محاربًا". على أن بوش، ورجالات وزارة الخارجية وجنرالات الجيش الأمريكي الكبار، ما أخذوا برأي ولفويتز ورفاقه، إذ لا علاقة لصدام حسين بالقاعدة وبضربات 11 سبتمبر من جهة، ثم إنه من المنطقي القيام بضرب أولئك الذين هاجموا أمريكا في عقر دارها قبل الالتفات للساحات الأخرى. وكان ما كان، مما بات معروفًا الآن: ضربت أفغانستان، وسلمت السلطة للميليشيات الأخرى (تحالف الشمال) من خصوم طالبان، ولوحق الجهاديون السلفيون على مدى العالم، ثم جرى احتلال العراق.
كان الأثر الرئيس لضربة 11 سبتمبر الهائلة استحداث المدخل الملائم لتحقيق أيديولوجيا المحافظين الجدد، والعولمة الأمريكية الفريدة، تحت عنوان "الحرب على الإرهاب". بيد أن التداعيات الأخرى لم تحدث، فشارون ما استطاع سحق الفلسطينيين، رغم الفرص الإضافية التي أتاحتها له حروب الإرهاب. والعرب الضعفاء ما سارعوا لخطب ود إسرائيل. وصحيح أنهم استجابوا لأكثر مطالب الولايات المتحدة، لكنهم لم يسقطوا، ويحتاج إسقاطهم إلى حروب أخرى. والإدارة الأمريكية التي حرصت منذ البداية على استيعاب الآسيويين المسلمين لفصلهم عن العرب، فهم كثير منهم الحرب على الإرهاب، باعتبارها حربًا على الإسلام والمسلمين. والصراع على الإسلام، الذي كان صراعًا بين الأنظمة والحركات الإحيائية الإسلامية، صار صراعًا ذا أفق عالمي. فالولايات المتحدة تتحدث عن إسلامين: أحدهما متطرف وجهادي تريد مواجهته، والآخر معتدل لكنه ضعيف أو غير موجود، وهي تريد استحداثه، أو اتخاذ غيابه ذريعة لاستكمال الحرب على الأنظمة العربية وإيران.
ما علاقة هذا كله بالإصلاح الإسلامي؟ ضربات 11 سبتمبر حولت الإسلام (الذي يقارب عدد معتنقيه الآن المليار ونصف المليار) إلى مشكلة عالمية. ومصائر الإسلام التي كانت موضع نزال بين الإسلاميين والأنظمة العربية والإسلامية، يشارك في تحديدها أو يحاول ذلك، كل من يعتبرون أنفسهم متضررين من المتشددين المسلمين، في العالم. ولهذا فالرهان على التغيير مشترك لدى سائر الأطراف، وإن اختلفت المفاهيم بسبب اختلاف المصالح.
ثالثًا: معنى استنقاذ الإسلام من خاطفيه أن يسيطر المعتدلون على الساحة الإسلامية
فتحت أحداث 11 سبتمبر المجال واسعًا للحديث عن "الإصلاح الإسلامي". وقد طالبنا الأمريكيون ابتداء من 20 سبتمبر 2001، على لسان الرئيس بوش وآخرين بأن نستعيد أو نستنقذ الإسلام من خاطفيه من المتطرفين، لكن لم تكن هناك رؤى تفصيلية إلا فيما بعد، ففي نفس الفترة أو بعد قليل من ذلك تحدث رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن ضرورة العودة إلى إسلام التيار الرئيس أو الـ(Main Stream)، وقد فهم الكاتب المصري المعروف جميل مطر أن تلك مؤامرة على الإسلام، في حين يبدو أن ما قصده بلير -الذي كتب له أحد المستشرقين خطابه ولا شك- العودة إلى الإسلام التقليدي، إسلام المؤسسات والمذاهب الفقهية. بعد ذلك بدأ الحديث عن الإسلام المتطرف والآخر المعتدل، وصار معنى استنقاذ الإسلام من خاطفيه أن يسيطر "المعتدلون" و"المتنورون" على الساحة. والمعتدلون والمتنورون -كما ذكرت كارين أرمسترونغ وأسبوزيتو، وهما من أصدقاء المسلمين- هم الذين لا يقولون بالجهاد في مواجهة الغرب.
وازدادت المطالب على "المعتدلين" فيما بعد، ووضع لهم جدول مفصل من المساواة بين الرجل والمرأة، بإعادة تأويل النصوص الدينية، وإلى إقرار مبدأ المواطنة إسلاميًا والخروج نهائيًا من مسألة أهل الذمة ومن البُنى الفقهية الأخرى مثل الأحكام الشرعية والحدود والأمور المتعلقة بالشأن العام. ومضى المتطرفون من بينهم لتذكيرنا بالمقولات المتنورة لمحمد أركون ولآخرين، لكن تأكيدهم على أركون سببه تعرضه الدائم للنص القرآني، في البداية من أجل إعادة التأويل، وفي السنوات الأخيرة من أجل تفكيك بنية النص وكشف تاريخيته.
وفي منتصف عام 2002 خطت مطالب "الإصلاح الإسلامي" لدى الأمريكيين من المسؤولين الرسميين ولدى المستشرقين الجدد والاستراتيجيين في أوروبا وأمريكا خطوة أخرى. طالب هؤلاء جميعًا المسؤولين العرب والمسلمين (والعرب على الخصوص، وفي السعودية بالذات) بتغيير برامج المعاهد والجامعات الدينية، وتغيير برامج الدين في مدارس التعليم العام، وتغيير المدرسين المتشددين. وتحدثوا أخيرًا عن الجهاز الديني، لكن بدون تفصيل. وكانت حجة المسؤولين للمطالبة بهذا التغيير الديني الكبير، في الفكر وفي البرامج، أن أكثرية المتشددين من حركة طالبان ومن أتباع بن لادن، إنما تخرجوا في المدارس الدينية المتشددة، كما أن الفكر الذي يحملونه هو فكر سلفي جهادي يستند أيضًا إلى هذه الكتب والتفسيرات الحرفية للنصوص والبرامج المحافظة أو الأصولية.
والواقع أن صعود حركة طالبان وممارساتها فاجأتنا نحن المسلمين أكثر مما فاجأتهم هم، إذ رعوا بداياتها مع الباكستانيين، رجاء أن تساعدهم في إخماد الفوضى والاقتتال الذي استشرى بين المجاهدين بعد الاستيلاء على كابل. وصحيح أن بعض قادة طالبان، شاركوا من قبل في الثمانينيات في "الجهاد" الأفغاني، لكن "جسم" الحركة من طلبة العلوم الدينية، وعلى المذهب الحنفي التقليدي، بينما توزع المجاهدون على تيارات إحيائية متنوعة من الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية بباكستان، وإلى السلفيين وأهل الحديث، لكن كما فوجئنا نحن بصعود طالبان وقوتها وتقليديتها الفظيعة فوجئ الأمريكيون والباكستانيون على حد سواد بإيوائها لابن لادن، ثم بسيطرة بن لادن على قرار الحركة، في علاقاتها الخارجية على الأقل. واعتقدت وقتها أن هذا التحالف لا يمكن أن يكون إلا مؤقتًا بسبب الاختلاف العقدي الشاسع بين الأحناف والسفليين، لكن يبدو أن هذه الشكليات ما لعبت دورًا كبيرًا، بسبب احتياج كل طرف للآخر، لكنني ما زلت أرى أن بن لادن والسلفين والإحيائيين الآخرين معه (من جماعة الجهاد بزعامة الظواهري) ليسوا أحبابًا للتقليد الإسلامي، وأن أعداء طالبان من أمثال عبد رب الرسول سياف وحكمتيار وحتى رباني هم الأقرب إلى القاعدة من الناحية الفكرية.
وفوجئنا جميعًا، نحن والأمريكيون، بقدرة القاعدة على تنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001، ثم بذلك الخطاب المصمت البالغ التشدد والعنف لابن لادن وصحبه، وخاصة بن لادن وسليمان أبو الغيث والظواهري، فحتى الفكر الإحيائي الأصولي للإخوان والجماعة الإسلامية، تجاوز أطروحات الفسطاطين والدارين، وحتمية الصراع المسلح بين الإيمان والكفر، بينما كان هو المضمون الوحيد لفكر القاعدة.
ومع أن أكثرنا وقف ضد الأطروحات والمطالب الأمريكية (لا أذكر عالمًا مسلمًا أيَّد تغيير البرامج والكتب باستثناء عبد الحميد الأنصاري عميد كلية الشريعة بجامعة قطر)، لكن كان ينبغي الاعتراف بحق الولايات المتحدة في اعتبار هذا الفكر خطرًا على أمنها، ومع نشوب "الحرب على الإرهاب" صار واضحًا أن الإسلام صار مشكلة عالمية، وأن الصراع عليه صار مزدوجًا كما سبق القول: الصراع بين الأنظمة وجماعات الإسلام السياسي، والصراع بين الولايات المتحدة والقوى الأخرى المتضررة من جهة والمتشددين من جهة ثانية، لكن "الحرب على الإرهاب" كما هو معروف لا بداية لها ولا نهاية ولا حدود، ولذلك صارت عمليا حربًا ضد الإسلام، منذ دخل فيها الإنجيليون الجدد، ومنذ صار كل مسلم مشبوهًا ومطاردًا في الصراع ضد الإرهاب وفي النزاع بين الحضارات.
ويكون علينا أن نعترف أيضًا أن هناك مشكلة كبرى في الفكر الإسلامي وفي أفكار الجامعات الإسلامية وأن العنف في العمل الإسلامي وإن يكن من صنع قلة، لكنه ذو دلالة ويشكل خطرًا، ليس على علاقتنا بالعالم وحسب، بل على العلاقات الداخلية بين العرب والمسلمين، لكن كما كان الصراع الذي لا يهدأ بين السلطات والإسلاميين قيدًا على حركة المفكرين من أجل التغيير، حدث قيد آخر مع اشتداد "الحرب على الإرهاب"، إذ ما عادت الإشكاليات دينية أو ثقافية أو حتى سياسية، بل صارت وطنية وقومية وعقائدية: كيف نستطيع المشاركة في "الحرب العادلة" على الإرهاب، ما دام الأمريكيون (والآن الأوروبيون أيضًا) يعتبرون التنظيمات الإسلامية المقاتلة لإسرائيل تنظيمات إرهابية، مع أنها لا تفعل شيئا غير الدفاع عن النفس؟! وأين هو مزاج الناس للتغيير الديني وسط الاحتلالات والتهديدات العسكرية والأمنية والخوف على الاستقرار؟ لقد عاد بعض من أدانوا أحداث 11 سبتمبر، لاعتبار القائمين بها أبطالاً! وإذا قيل إن هذه الظروف عابرة، والمسألة الأساسية: هل نحن بحاجة إلى إصلاح ديني أم لا؟ ولا شك أن الإجابة ستكون: نعم، نحن بحاجة إلى إصلاح ديني، لكن أين قواه وإمكانياته؟ ثم ما هي مفاهيمه، وقبل ذلك وبعده: هل هناك محاولات إصلاحية سابقة، وما تفاصيلها ومصائرها؟ وماذا يمكن أن نتعلم منها؟ ثم أين نحن الآن في أوضاعنا السياسية، وأين نحن الآن في أوضاعنا الدينية؟
رابعًا: المخاوف التي بثها الإسلاميون بتصرفاتهم بطأت من التحرك تجاه الديمقراطية
صارت مفردة الإصلاح على كل شفة ولسان، منذ حوالي عقدين من الزمان. وقد شهد العقدان على المستوى السياسي حركية باتجاه ارتفاع شأن تيارات الإسلام السياسي، بحيث صارت الحياة السياسية العربية، إن وجدت، مراوحة بين محاولات الاستيعاب أو التصدي لتلك الحركات، وليس بالوسع الآن التصدي لتحليل هذه الظاهرة بالتفصيل، لكن في الوقت الذي قُفل فيه المجال السياسي العربي، تصدت الحركات السياسية الإسلامية لهذا الانقفال، بوجوه من المعارضة والتمرد.
وما كانت الوسائل دائمًا سياسية سلمية أو مقبولة، بل اتسمت بالكثير من العقائدية، وواجهتها السلطات بعقائدية مشابهة، وبالتصدي باعتبار الظاهرة خطرًا أمنيًا. والطريف أن السلطات كثيرًا ما اتهمت تلك الحركات بأنها غير ديمقراطية، أو أنها تتوسل الديمقراطية للاستيلاء على السلطة. والواقع أن السلطات ما كانت ديمقراطية، كما أن خصومها من الإسلاميين ما كانوا كذلك. وهناك من يريد الذهاب إلى أن المخاوف التي بثها الإسلاميون بتصرفاتهم بطأت من التحرك باتجاه الديمقراطية، في حين يرى الإسلاميون أنفسهم عكس ذلك تمامًا، فالتحدي الذي شكلته جماهيريتهم هو الذي فرض الاتجاه نحو تجديد التجربة الحزبية، وتجارب الانتخابات الحرة، والخروج على سيطرة الحزب الواحد والقائد الأوحد.
وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء أو ذاك، فإن أمامنا الجزائر والسودان ومصر وتونس.. إلخ. وهي تجارب تحفل بشتى الدلالات، وستظل شواهد للإسلام السياسي وعليه، حسبما يريد الخصوم أو الأصدقاء النظر إلى المسائل. ومع أن العودة للتاريخ قد تكون مفيدة هنا، فالذي نريده ليس التأريخ لظاهرة العمل من أجل الديمقراطية، بل التعرف على دلالات هذا الخمود والجمود الذي يطال الأزمة والمأزق. فقد كنا نأخذ على بعض الزملاء أنهم وضعوا على أحد مؤلفاتهم عنوان: "ديمقراطية من دون ديمقراطيين"، ثم تبين لنا أن الأمر قد يكون صحيحًا. فكما لم يشتهر الحزبيون من القوميين واليساريين بالنضال من أجل الديمقراطية، بل بإرادة الاستيلاء على السلطة، كذلك فعل الإسلاميون، وإن كانوا قد تعرضوا لضغوط لم يتعرض لها الحزبيون الآخرون.
ولهذا فإن أطروحة الثقافة السياسية، والثقافة الديمقراطية قد لا تكون بعيدة عن الواقع، لكن إدراكاتها تختلف من فئة لأخرى، وينبغي التدقيق فيها. فمسعى أي حزبي للوصول إلى السلطة بالانقلاب، وليس عن طريق الجمهور، أمر جرَّبه القوميون والاشتراكيون قبل الإسلاميين، وما قصر الإسلاميون في المحاولة أيضًا. وإن دل هذا على شيء، فعلى قلة ثقة بالناس وبالجمهور من جانب سائر الحزبيين، واستسهال الفوز بالسلطة بالقوة، من أجل قيادة الجمهور نحو الأهداف المحددة من دون تردد.
والحديث عن الثقافة السياسية والثقافة الديمقراطية هنا له أسباب محددة. فالفئات كلها تتحدث الآن عن ضرورات الديمقراطية، بل إن الأمريكيين يريدون فرضها علينا، ولا يخلو الأمر من نزوع نضالي من أجلها لدى بعض جمعيات المجتمع المدني. لكن لا حماس حقيقيًا لها لدى أي من الفئات التي تريد المشاركة في العمل السياسي، وتريد المشاركة في القرار، ولذلك، فإن السلطات القائمة لا تتحرك باتجاه الديمقراطية، ولا باتجاه التداول السلمي للسلطة، وهو الأساس الأول للحراك السياسي، وللانتخابات الحرة والمنتظمة. ويحار المراقبون السياسيون في تعليل إعراض الجمهور عن الحراك من أجل مباشرة الأمور بنفسه، على الرغم من الأزمة الخانقة اقتصاديًا وسياسيًا، ورغم الجراح التي نعانيها قوميًا وإسلاميًا. وقد حاول أحد الزملاء فهم ذلك بضرب المثل بصنع الله إبراهيم، وسعد الدين إبراهيم، كان سعد الدين إبراهيم. وهو عالم اجتماع معروف، وصاحب مركز ابن خلدون للأبحاث قد قدم كتابات، وقام بمشروعات نضالية من أجل الديمقراطية. فتصدت له السلطات، وحولته للمحاكمة، واتُّهم بالخيانة، وسجن ثم برأته المحكمة، وإن يكن قد عانى في السنوات الماضية كلها من إعراض المثقفين وتوقف كل الناس عن الدفاع عنه. أما صنع الله إبراهيم، فهو روائي مصري يساري معروف، وحصل على جائزة الرواية، فرفضها في خطاب مشهور، بحجة أن الدولة المصرية مقصرة قوميًا، وفاسدة داخليًا، ومع أنه لا شأن للدولة بحصوله على الجائزة، وإن تكن هي التي تدفعها، لكن صفَّق له الجميع أو الأكثرية، لاتصال ما قام به بالموضوع الوطني القومي.
وما يريده جهاد الزين، الذي كتب عن هذا الفارق بين الحالتين. إن الوعي الجماهيري، ووعي المثقفين يركز على الوطني والقومي دون الديمقراطية، ولذلك كان هناك اعتزاز بما قام به صنع الله إبراهيم، وإعراض عما حاول سعد الدين إبراهيم القيام به! ولست أدري إذا كان يمكن فهم المسألة على هذا النحو، لكن لا شك أننا لا نسير باتجاه نهوض ديمقراطي، بسبب إصرار الحاكمين، ولا مبالاة الجمهور، وضغوط الأمريكيين.
فكما يصر الحاكمون على السير بعكس ما يتوقعه الناس منهم، كذلك يتسبب الأمريكيون بضغوطهم العلنية من أجل الديمقراطية في تأخير أو تعطيل إمكانيات التقدم نحو الديمقراطية والحريات. فهم يحتلون ويهددون بالاحتلال، ثم يقولون إنهم يقومون بعمليات تحرير وحريات، ثم هم يفصلون بين الوطني والديمقراطي بطرائق تجعل كل عربي يأبى تلك الديمقراطية. ففي فلسطين يصر الأمريكيون على أن مشكلة الفلسطينيين الفساد والإرهاب. والفساد والإرهاب المفروض أنهما مرضان، يتسبب بهما الفلسطينيون ضد أنفسهم! وبعد هذا يقال لهم: تخلوا عن الإرهاب (أي المقاومة)، والفساد (رئاسة عرفات) تقم الدولة الفلسطينية، في حين يدعمون شارون بطرائق لا تدل على تقدم باتجاه الدولة. والشيء نفسه فعله الأمريكيون ويفعلونه في العراق. وليس هناك ما يدل على أنهم يستحثون الدول العربية الأخرى على الانتخابات الحرة، والتداول السلمي للسلطة.
ثم هناك الأمر الآخر الذي يعيدنا إلى سؤال الإصلاح الديني. فهناك حديث كثير منذ أحداث 11سبتمبر، على أن الإصلاح الديني، وتجديد الخطاب الديني، ينبغي أن يتقدمًا على الإصلاح السياسي، باعتبارهما يشكلان العقبة دونه حتى اليوم. ويتضمن ذلك اتهامًا للجمهور بأن الانفتاح السياسي غريب عنه لأنه متدين، ولا بد من حركة تنويرية في الدين، من أجل أن يكون ذلك مقدمة للتنوير السياسي، وأنا أرى أن ذلك غير صحيح على الإطلاق. فالإصلاح الديني عملية طويلة ولها جوانب أكاديمية وعلمية، وأخرى ثقافية، وآلياتها غير آليات الإصلاح السياسي. والإصلاح السياسي عملية معروفة البدايات والآليات والآفاق. وقد جربت ذلك أكثرية الشعوب العربية، ونجحت التجربة. ولهذا لا أرى علاقة تعاقبية بين الأمرين، وأعتقد أن الإصلاح السياسي أسهل وأنجع، بل إنه قد يفيد في التقدم نحو الإصلاح الديني وليس العكس. فلا حاجة للتهرب من العمل السياسي الإصلاحي، بحجة إصلاح الأمر الديني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:23 pm

خامسًا: الطهطاوي كان يملك رؤية للإصلاح تعتمد على دولة حديثة التنظيم
أحسبُ أنَّ أولَ من ذكر الإصلاح في المجال العربي كان رفاعة رافع الطهطاوي، في كتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، (1830-1831). وكان الإصلاح عنده يتناول شؤون الصناعة والزراعة والتجارة، كما يتناول مسائل التنظيمات الخاصة والمدنية. وقد عُنِيَ بالتنظيمات الخاصّة الشركات، وبالتنظيمات المدنية الجمعيات الخيرية الأهلية. وهو يعتبر أنّ حالتنا ليست على قدْرٍ كبيرٍ من السوء، فالمسافةُ بيننا وبين أوروبا ليست كبيرة، ويمكن تجاوُزُها برعاية تلك الأمور الخمسة السالفة الذكر، التي تقع ثلاثة ميادين منها تحت إشراف الدولة، ويقع مجالان في الحيّز الذي يمكن أن يُسهمَ فيه المجتمع.
ويتصور الطهطاوي طريقة الإصلاح بإنشاء دواوين (وزارات) للشؤون الصناعية والزراعية والتجارية؛ باعتبار أنّ الدولة تملكُ القسم الأكبر في تلك المجالات. أمّا الشركات فأهميتُها أنها تؤمّنُ الاستمرار، وتدعمُ الاستثمار، وقد كانت من أعمدة الازدهار الإسلامي القديم، وهي عمدة النشاط الحديث في سائر المجالات. وهو يرى أنَّ النشاط الخيري الإسلامي، سواءً في الزكاة والصدقات، أو الأوقاف، ضخمٌ وهائل. ولذلك يستغربُ ضآلةَ آثاره، وتماديه في الانحطاط بعد ازدهار جيلٍ أو جيلين؛ ولذلك يرى استعارة النموذج الفرنسي في الجمعيات الخيرية أو جمعيات الخير العامّ تُتَمِّمُ عملَ الدولة، وهي تُرضي دوافع المواطنين للتطوع والتصدق، وممارسة النشاط المُفيد.
والغريب أو الطريف أنّ الطهطاويَّ (1873) لم يكن يرى ضرورةً للقيام بإصلاح دينيٍ، بعكس شيخه حسن العطار، شيخ الأزهر (1835). فنموذج الطهطاوي العائد من فرنسا بعد أربع سنواتٍ فيها (1826-1830) للنهوض على مستوى الدولة والمجتمع هو نموذجٌ فرنسي؛ لكنه ما كان يرى في فرنسا بالذات أيَّ نموذجٍ للاقتداء في الشأن الديني. فأهلُ الكنيسة من وجهة نظره عديمو التأثير، وهم مع النظام الملكي، وضد الحريات والحِراك الاجتماعي. ثم إنّ الدين المسيحي نفسَه عنده ليس من أسباب النهوض الأوروبي؛ بل اضطُرّت أوروبا من أجل النهوض إلى أن تنفصلَ عنه وبعنفٍ في توجهاتٍ علمانيةٍ لا يحبذها الطهطاوي أيضًا. فالطهطاوي أزهريٌّ تقليديٌّ، ينفصلُ في وعيه التاريخي الدينُ عن الدولة دونما تنظيرٍ كثيرٍ للأمر. والدولة عنده إسلاميةٌ، لأنّ أَولياء الأُمور يعتـبرون الإسلام مرجعيتَهم العليا، والناس في الأعمّ الأغلب مسلمون متدينون، ويستندون في حياتهم إلى اعتقادٍ صلبٍ بعصمة الإسلام وتفوقه. والهزيمةُ أمام الفرنسيين (1799-1803) لا علاقةَ للدين بها؛ بل أسبابُها دنيوية: التراجع في الشؤون العسكرية، والتراجع في الصناعة والزراعة والتجارة؛ وكلُّ ذلك أمكن تجاوُزُهُ في جيلٍ واحدٍ أو أقلّ من جانب والي مصر محمد علي، دونما مشكلةٍ من جانب الإسلام الذي تنصُّ الآيةُ القرآنيةُ المشهورةُ فيه على إعداد القوة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)(الأنفال:60). وقضى الطهطاوي حياته عاملاً على الترقّي المدني في الشؤون الدنيوية بالذات (إنشاء ديوان المدارس، ومدرسة الترجمة). ولستُ على بينةٍ بشأن رأيه في الإصلاح أو النهوض السياسي. فقد ترجم الدستور الفرنسيَّ الجديد (1830) الذي يتأسسُ على دستور الثورة الفرنسية، لكنه لم يَعُدْ للحديث عنه في كتاباته اللاحقة طوالَ ثلاثين عامًا أو أكثر. وعمل في ستينيات القرن التاسع عشر على ترجمة القوانين الفرنسية، دون أن يُحسَّ أيضًا تناقُضًا بين تلك القوانين الوضعية، ومواضعات الفقه الإسلامي. وألّف في آخِر حياته (وكان قد قرأ وقتَها مقدِّمة أقوم المسالك لخير الدين التونسي) رسالةً في الاجتهاد، تركّز اهتمامُهُ فيها على أمورٍ تقنية، وعلى ضرورة الاجتهاد، وعدم انسِدادِ بابه، وليـست هناك في أعماله غير شكوى خفيفة من تقليدية الأزهريين، الذين دعاهم أحيانًا للتعرف على العلوم العصرية (مثلما أُتيح له هو أن يفعل).
ولا يبدو الطهطاوي مطّلعًا على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، الذي كانت دولة محمد علي وأحفاده تُعاديها، بعد أن خاضت حربًا (1814-1818) لحساب الدولة العثمانية من أجل القضاء على دولتها الفتية. لكنْ عندما كان الطهطاوي منفيًا في السودان (1850-1854) كانت الدولة العثمانية تشهدُ حركةً إصلاحيةً كبرى في الشأن السياسي والمدني، بلغت ذروتَها في صدور التنظيمات (1857). وإذا كانت القوانين الوضعية والمدنية (وعلى رأسها قانون التجارة، وقانون الطابو أو ملكية الأرض) قد بدأت بالصدور في مصر والدولة العثمانية في أربعينيات القرن التاسع عشر؛ فإنّ التنظيمات استحدثت أنظمة إدارية؛ والأهمّ من ذلك أنها قالت بالمواطنة العثمانية، التي عنت مساواةً بين المواطنين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. ولا نعْرف موقف الطهطاوي والأزهريين من تلك المستجدات؛ على الرغم من سطوة غير المسلمين في إدارة محمد علي وأحفاده.
وتزداد مشروعيةُ هذا التساؤل عندما نلاحظ أنّ أربعةً من شيوخ الإسلام، ومن الصدور العظام المتدينين، رافقوا وقادوا عمليات الإصلاح في الدولة العثمانية منذ العام 1837 وحتى صدور الدستور عام 1876. فكانت الفتاوى تُرافقُ القوانين أو تصدر القوانينُ واللوائحُ وفي مقدمتها رأي شيخ الإسلام بالموافقة عليها. ولا شكَّ في أنّ السلاطين الإصلاحيين كانوا يضغطون على شيوخ الإسلام. لكننا نعرفُ أنّ بعضهم اعترض، أو اعتزل أو حاول تنظيم انقلابٍ على السلطان. فالأمرُ لم يكن ذا اتجاهٍ واحدٍ؛ بمعنى أنّ المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام) في حقبة انحطاط السلطنة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما كانت مستتبعَةً بالكامل؛ وإنْ تكن لها مصـالحُ كبرى (عشرات ألوف الوظائف والمراتب والمرتبات) مع السلطنة تحولُ في كثيرٍ من الأحيان دون المُضيّ في التمرد أو الاعتراض.
وعندما أَلغى السلطان عبد الحميد الثاني الدستور عام 1878 ما وافقَه شيخُ الإسلام على ذلك واعتزل في بيته. في حين آثَرَ قدري باشا أن يبقى في الإدارة لإتمام مشروعه المُهمّ في مجلة الأحكام العدلية (إعادة تدوين الفقه الحنفي في صيغة قانون).
إنّ ما أُريدُ الوصولَ إليه أنّ الطهطاويَّ كان يملكُ رؤيةً للإصلاح تعتمد على دولةٍ حديثة التنظيم، وعلى مجتمعٍ مدنيٍ متناغمٍ مع السلطة صاحبة المشروع. ولم يكن الإصلاح الدينيُّ من همّه؛ كما لم يكن من همّ الدولة، التي أَهملت الأزهر، وأنشأت نظامًا موازيًا للتعليم الحديث. في حين شعر الإصلاحيون العثمانيون بضرورة الحصول على دعم المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام). ولهذا انقسم كبار رجال الدين العثمانيين في وقتٍ مبكّرٍ إلى داعمين للإصلاح أو معارضين له. لكنْ ليس من الواضح هل كان الشيوخ الإصلاحيون يملكون مشروعًا آخر لعلاقة الدين بالدولة، أو لإصلاح المؤسسة الدينية. إنما الواضحُ في الأمر كلّه أنه في عصر الإصلاحات والتنظيمات للدولة والشأن العامّ، صار لرجال الدين العثمانيين رأيٌ واضحٌ في تلك الأمور، أحيانًا بإذن السلطان، وأحايين بدون إذنه.
سادسًا: التجديد الديني في الدولة العثمانية يهدف إلى تسريع الإصلاح السياسي والمدني ويتحول إلى ضرورة حياتية لمسلمي الهند
تسيطر أجواء وبيئاتُ الإصلاح العثماني على رجل الدولة الكبير خير الدين التونسي (1889)، والذي عمل وزيرًا أولَ في تونس، ثم لفترةٍ قصيرةٍ صدرًا أعظم في إسطنبول. ونعرفُ عنه أنه كان إداريًا كبيرًا، ورجلَ ماليةٍ ناجحًا، وعسكريًا متوسط الموهبة. وقد ترك مذكراتٍ بالفرنسية؛ لكنّ أهمَّ أعماله المدوَّنة كتابه الضخم: أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك. والكتاب ذو الألفَيْ صفحة يتضمن تتبُّعًا تفصيليًا لبُنى الدول الأوروبية المعاصرة له، وتجاربها النهضوية. وهو مثل الطهطاوي (الذي اطّلع على أعماله) يملك أيديولوجيا للتقدم، عرضَها في مقدمة أقوم المسالك، فيما يشبه مقدمة ابن خلدون. ذاك أراد أن يعرِضَ فلسفةً للتاريخ، وهذا أراد أن يعرضَ فلسفةً للنهوض والتقدم على الطراز الأوروبي. وتقوم فلسفة التقدم عنده على تجديد المشروع السياسي أو مشروع الدولة في عالم الإسلام، وعلى دعامتين: الوعي بالمصالح (عند الطهطاوي: المنافع) العمومية، وإقامة التنظيمات أو المؤسَّسات. على أنَّ الجديدَ عنده -إضافةً للرؤية الشاملة للنهوض بالدولة- الدور الذي يتطلع إلى أن يؤديه الإسلام في هذا المشروع الجديد.
خير الدين ليس من العلمـاء أو خريجي الزيتونة، بل إنّ معرفته بالعربية الكلاسيكية ليست على ما يُرام. ولذا فكما اتخذ من ابن خلدون (في نشرة كاترمير([sup][2])[/sup] لمقدمته) نموذجًا له في فلْسفة التاريخ ورؤية التقدم، اتخذ من الشيخ محمد بيرم الخامس -وهو فقيهٌ حنفيٌّ معروف- (دولة البايات في تونس تركية تتبع المذهب الحنفي، مذهب الدولة العثمانية، بينما الجمهور التونسي مالكي) مُرشدًا له بشأن الاقتباس من المصادر الفقهية. وقد زوَّدهُ الشيخ باقتباساتٍ مالكيةٍ وحنفيةٍ في أمرين اثنين: ضرورة فتح باب الاجتهاد، وضرورة مُراعاة المصالح، في التفكير الفقهي، وفي الاجتهاد والاستنباط، وفي النظر لأمور الشأن العام. ومع أنّ المصالح المرسلة، مصدرٌ من مصادر التـشريع الفرعية عند المالكية؛ مثلما هو الاستحسان عند الحنفية (وقد أورد التونسيُّ اقتباساتٍ بشأنهما من مصادر المذهبين)؛ فإنّ التونسيَّ ما اكتفى بذلك؛ بل ذكر نصوصًا من عند الفقيه الحنبلي المعروف ابن قيم الجوزية (751 هـ)، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. وما كانت كتب ابن القيمّ مطبوعةً وقتَها؛ لكنّ التونسيَّ رجع (بالواسـطة في الغالب) إلى مخطوطتي الفقيه الحنبلي: إعلام الموقّعين، والطُرُق الحكمية في السياسة الشرعية. والسياسةُ الشرعيةُ عنده هي تدبير الأمر بما يُصلحُه، أو بما يجعلُهُ أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد. وحسبما ينقل ابن القيم عن ابن عقيل الحنبلي أيضا؛ فإنّ المصلحة (العامة طبعًا هي بمثابة الشرع؛ إذ حيثما تكونُ المصلحةُ يكونُ شرعُ الله).
إنّ الواضحَ أنّ خير الدين التونسي يرمي إلى شرعنة المؤسَّسات الحديثة باعتبارها مصالح للمسلمين أو باعتبارها تحقيقًا لمصالح عامة لهم؛ بغضّ النظر عن أصلها أو اقتباسها؛ فحسب ابن عقيل: كلُّ ما يحقّقُ مصلحةً للناس يمكنُ اعتبارُهُ شرعـيًا. لكن: مَن المُخاطَبُ بذلك؟ بالتأكيد ليس رجال الدولة التونسية أو العثمانية، الذي كانوا يقومون بمحاولاتهم الإصلاحية الكبرى، ولا يُعانون من مشكلاتٍ كبرى (أو هكذا نفترض) مع الناس أو مع رجال الدين! بيد أنّ دافيسون مؤرّخ الإصلاح العثماني يخبرنا أن الإصلاحات ما لقيت ترحيبًا كبيرًا من المسلمين أو المسيحيين. المسلمون لاعتقادهم أنّ تلك القوانين فرضها الغربيون، والمسيحيون لأنها رتّبت عليهم التزامات في الجندية وأمام المحاكم، كانوا في حِلًّ منها بعد أن تخلصوا عمليًا من وضع "الذميّة" بمعاونة القناصـل الأجانب.
لكن، يبدو في الغالب، أنّ الحُجَجَ السالفة الذكر، أوردها التونسي على سبيل التوعية، ثم لأنّ معارضةً متنـاميةً ظهرت من جانب رجال الدين المسلمين. وهكذا، بعكس الطهطاوي، الذي ما أزعجته التقليدية الدينية، ولم يعتبرها عقبةً في طريق مشروع النهوض؛ رأى التونسيُّ أنّ الإصلاح الدينيَّ ضروريٌّ من أجل نجاح الإصلاح السياسي. وبسبب عدم توافر معرفةٍ عميقةٍ لديه بالنصوص الدينية، وبمواقع الاجتهاد في النصوص؛ فقد اعتقد أنّ ذاك الإصلاح يمكن أن يتمَّ من طريق تجديد التقليد، أو ممارسة انتقائية في تأويل النصوص، وفي الاقتباس من القُدامى. على أنَّ التجديدَ الدينيَّ الذي كان يتحول في أقطار الدولة العثمانية من مطلبٍ لدى النُخَب بعد خمسينيات القرن التاسع عشر من أجل تسريع الإصلاح السياسي والمدني؛ كان بالنسبة للمسلمين بالهند ضرورةً حياتيةً، يتوقفُ عليها استمرارُهم أو استمرارُ جماعتهم. فمنذ القرن الثامن عشر، بدأَ فقهاؤهم يتساءلون عن مشروعية وجودهم البشري، وهل الهند ما تزالُ دار إسلام أم صارت دار شِرْكٍ بسبب ضعف السلطنة المغولية، واستيلاء البريطانيين على أكثر أُمورها. وقد رجع كثيرٌ من فقهائهم وهم أحنافٌ متشددون إلى النصوص الفقهية الحنفية يستشيرونها؛ في حين لجأت قلةٌ في مطلع القرن التاسع عشر إلى نصوص ابن تيمية التي اكتشفوها في مكتباتهم.
وترتّب على هذا النزوع السلطوي بروزُ أحد مخرجين: الجهاد أو الهجرة. وقد ثارت جماعاتٌ صغيرةٌ لعقود، وحاولت جماعاتٌ أُخرى الهجـرة إلى أفغانستان، التي لم يحتلّها المشركون! لكن المخرجين فشِلاً، إلى أن صار هناك إجماعٌ على التمرد عام 1857، وانتهى ذلك بمذابح ضدَهم سقط فيها عشراتُ الألوف، وفقدت جماعاتٌ كاملةٌ في المدن والأرياف أولادها وأملاكَها. وفي حين مالَ فقهاء التقليد للعزلة أو الهرب من البلاد للمجاورة بمكة أو الاستقرار في بلدٍ إسلامي آخر، ظلَّ السلفيون مُصِرِّين على متابعة الجهاد أو الهجرة أو يكون المتجاهلون لأحد المخرجين مرتدين. في هذه الظروف ظهر السيد أحمد خان الذي دعا المسلمين بالبلاد إلى إقامة المؤسسات الحديثة لكي يستطيعوا حفظ وجودهم وتطورهم، وأنشأ هو جامعة عليكره. لكنه ما اكتفى بذلك بل تصدّى بقوةٍ للسلفيين وفقهاء التقليد في الوقت نفسه.
كتب الرجل تفسيرًا جديدًا للقرآن، كما دعا للاجتهاد والتجديد في الفقه. وقال بضرورة التوقُّف عن كلٍ من الجهاد والهجرة. فالهجرةُ دمار، والجهاد انتحار، وسط ظروف الاستضعاف وشروطه. فتكليف المسلمين بالجهاد بعد هزيمة العام 1857 هو تكليفٌ بما لا يُطاق. ثم إنّ الدار دار إسلام ما دام الناس يستطيعون أداء عباداتهم بحرية. ولا بد من خوض التجربة الحديثة في بناء المؤسسات والتعليم العصري، لكي يستطيع المسلمون صَون هويتهم ومصالحهم، وإلاّ صاروا رهائن الكثرة الهندوسية، والاستعمار البريطاني. وكما يحدُثُ عندنا اليوم لدُعاة الإصلاح الراديكالي والليبرالي؛ فإنّ الرجل اتُهم بمحاباة البريطانيين؛ بل التآمُر معهم. وظلّت هذه التهمة (الردة بسبب إبطال الجهاد) تترددُ على مدى أكثر من خمسين سنة؛ إذ كررها أحمد أمين في أربعينيات القرن الماضي، في كتابه: "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، وصار الرجل علَمًا على التغريب الذي هاجمه من أجله شباب وكهول الجيل التالي من أمثال أبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي. والانقسام الذي حصل بالهند (هجرة أو جهاد من جهة، وحياة من الممانعة لصون الهوية والانتماء، باكتساب العلوم الحديثة، من جهةٍ ثانية) حصل مثله في الجزائر عندما احتلها الفرنسيون عام 1830. فالتأزم الذي أحدثه الاستعمار، أفضى في بعـض نواحي العالم الإسلامي، إلى نُصرة التيار الجهادي من أجل التحرير، وإلى بروز تيار إصلاحي تتفاوت قوته، رغم كثرة الناطقين باسمه.
سابعًا: جمال الدين الأفغاني جاء من إيران وأفغانستان والعراق بوعي مؤداه أن لمشكلة المسلمين قطبين دينيًا وسياسيًا
تتميز حركة جمال الدين الأفغاني (1879) ومحمد عبده (1905) وجيلهما للإصلاح والنهوض بعدة أُمور؛ أولها أن الرجلين كانا من علماء الدين. فإن قيل: والطهطاوي كان فقيها؛ فالإجابة أنه لم يعتبر نفسه كذلك، بل كتب وخاطب باعتباره مبشِّرًا بالثقافة الحديثة. وعندما حاول في آخِر حياته أن يكتب في الاجتهاد، جاء كتابُهُ شـديد التواضـع، ومنقـولاً في أكثره عن عصورٍ مضت بمشكلاتها وإشكالياتها. نقل الطهطاوي عن السيوطي (من القرن العاشر الهجري)، وزكريا الأنصاري (من القرن الحادي عشر)؛ وكانت مشكلتهما إثبات أنـهما مجتهدان مطلقان (إلى جانـب الشعراني الذي ادّعى الأمر ذاته)، وليس من ضمن المـذهب الشافعي. وما أقصدُهُ من وراء التأكيد على علمهما الدينـي: ثقتهما بنفسيهما من حيث المعـرفة العميقة بالموروث الإسلامي (الفلسفي والروحي لدى جمال الدين، والكلامي والفقهي لدى محمد عبده)؛ وثاني تلك الأمور أو الميزات استقلاليتهما النسْبية طبعًا؛ إذ لم يعمل أيٌّ منهما موظَّفًا إبّان تطويرهما للمشروع الإصلاحي؛ وبذلك فقد جاء المشروع شاملاً أكثر مما قدَّرا، واستقطب من أجل ذلك مئات من النُخَب على مدى العالم الإسلامي. وثالث تلك الأُمور أنهما ملكا على مدىً معتبر، وسيلةً إعلاميةً للمشروع؛ من العروة الوثقى بباريس، وإلى المنار بالقاهرة (فضلاً عن الوقائع المصرية إبان الثورة العرابية). فكانا بين أوائل من أفاد من تلك الأداة الثقافية الحديثة في الدعاية لأفكاره؛ وأعني بها المجلة.
وصحيحٌ أنّ "العروة الوثقى" و"المنار" تبدوان لنا الآن كأنما هما كتابان وعظيان؛ لكنهما (وبالذات المنار) كانا وسيلةً حديثةً لنشر الأفكار والتوجهات؛ وبخاصةٍ المنار التي استمرت ستةً وثلاثين عامًا، ورابع تلك الأمور معرفة الرجلين بأوروبا وسياساتها الاستعمارية عن كثب؛ لكنّ معرفتهما، (وبخاصةٍ محمد عبده)، شملت أيضًا أوروبا الحديثة، ووسائل وآليات تقدمها وقوتها. ما كانت القاهرة فارغةً عندما أتى إليها جمال الدين الأفغاني، ذلك الرجل الغامض في سبعينيات القرن التاسع عشر. صحيح أنّ مشروع محمد علي كان قد انكسر، لكنّ التغييرات التي أحدثها ما كانت قد نسيت، والعشرات الذين أرسلهم إلى أوروبا صاروا مئات، وحركة الإصلاح العثماني كانت ما تزال تمضي نحو الذروة، وتجربة إسماعيل التحديثية (بما في ذلك استحداث حكومة، ومجلس شوري) تترك آثارها الهائلة على فئاتٍ واسعة من المجتمع.
ويكفي لمعرفة أهمية ما كان يجري أنّ القاهرة كانت تصدر فيها عدة صحفٍ ومجلات، وكذا الإسكندرية، وأنّ المثقف والسياسيَّ على حدٍ سواء كانا يشهدان بداياتهما. ومجيء جمال الدين للقاهرة ما كان أمرًا فريدًا من نوعه. فقد سبق للقاهرة أن شهدت إقبالاً أجنبيًا، ثم من جبل لبنان وسائر أقطار الدولة العثمانية للإفادة من حركة محمد علي لبناء الدولة الحديثة، واستمر هذا الإقبال بعد توقفٍ طفيفٍ أيام عباس الأول وسعيد، للعمل من جهة، وهذه المرة أيضًا بحثًا عن أُفقٍ جديد، تجنبًا للسلطة العثمانية ومضايقاتها في الشام كما في البلقان. ولا نعرفُ عرضًا مشهديًا للقاهرة الاجتماعية والثقافية فيما بين الستينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، يشبه ذاك الذي نعرفُهُ لها إبّان الاحتلال الفرنسي (الجبرتي، وجومار)، ثم في الربع الأول من القرن العشرين، من خلال قصص نجيب محفوظ.
بيد أنه كان بين أبرز متغيرات النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور المقهى وازدهاره. وما كانت المقاهي مكشوفة، كما أنها لم تكن مجالس لعلية القوم -في نمطها الراقي- بعد. كان المقهى الناشئ هو البيئة الجديدة لصغار الموظفين، وللغرباء الذي يلتمسون الاتصال بالمجتمع المصري؛ وهذا الجديد في البيئة التي نشر فيها جمال الدين دعوته ما كان يمكن له أن يبدأ في أحد المساجد، لأنه لم يكن يتحدث في الدين بالتحديد، وما كان يمكن له ذلك أيضًا لأنّ الذين يحضرون في المقهى كانت بينهم في البداية كثرة غير مسلمة، وما كان يمكن الذهاب إلى المسجد أخيرًا لأنّ جزءًا كبيرًا من الحديث كان سياسيًا. ويتنبَّه أبو المعاطي أبو النجا في كتابه "العودة إلى المنفى" إلى عاملٍ آخَرَ لظهور بيئة المقهى التي تشي بالمتغيرات، فالمصريون الذي كانوا يأتون إليه أيضًا بينهم ريفيون أتوا للقاهرة للتعلم أو للوظيفـة، ثم زلّت أقدامهم فوجدوا أنفسهم يهيمون على غير هدى، ويتحولون إلى فئةٍ عاجزةٍ عن التلاؤم والتأقلم؛ تملكُ ذلك القلق الذي نعرفُهُ عن المثقفين في باريس في تلك الفترة.
كانت أولى موضوعات الجلسات في المقهى ذات طابعٍ فلسفيٍ عام. ويبدو أنّ ثلاثةً أو أربعةً من أبناء الطبقة العليا كانوا يحضرونها، إلى جانب عشرةٍ أو أكثر من الفئة المتنوعة التي وصفناها.
ومعنى الحديث الفلسفي وقتها الحديـث النهضوي أو العلمي، بالاستناد إلى الترجمات عن تـطور العلوم والصنـاعات، والتي كانت تنقلها عن الفرنسية غالبًا المجلات التي كـان اللبنانيون يُصدرونها بالقاهرة والإسكندرية. ويُضافُ لذلك الحديث عن حروب الدولة العثمانية، وعن وقائع حركة الإصلاح فيها. ثم كيف يمكن تخليصُ الدولة العلية والمسلمين (كانوا يقولون: الشرقيين مراعاةً لغير المسلمين بينهم) من إطباق الأوروبيين عليهم، بالاستعمار المباشر وغير المباشر. ولا ندري متى وجد الأزهريون (من أمثال محمد عبده) طريقهم إلى تلك المجالس. والذي يبدو على أي حال أنهم لم يكونوا كثيرين. إذ ما كان الأزهري وقتها يجلس في المقهى لأنّ ذلك يمسُّ هيبته ورؤية الناس له. ثم إنّ الجلوس إلى غُرَباء وغير مسلمين دونما مناسبةٍ غير التواصل ما كان أمرًا محمودًا. ويقال إنّ محمد عبده تنبه إلى أهمية جمال الدين عندما كان الأخير يتحدث إلى مجموعة صغيرة بالأزهر بعد صلاة العصر، لفت انتباهه بثقافته العقلية (العلوم العقلية: الفلسفة والكلام)، والتي كانت قد أُهملت بالأزهر لصالح الفقه وعلوم النقل. وعلى أيّ حالٍ؛ فقد وجد محمد عبده نفسه حوالي عام 1875م في حلقة جمال الدين بالمقهى، يجلسُ إلى أُناسٍ متنوعين، يجمعهم أمران: النَهَم المعرفي، واستكشاف سُبُل الخروج من التخلف والاستعمار.
كان جمال الدين قد جاء من إيران وأفغانستان والعراق بوعيٍ مؤداه أنّ لمشكلة الشرقيين (المسلمين) قطبين اثنين: ديني وسياسي. وقد استخدم ثقافته العقلية في البداية للسيطرة على حلقة المقهى، التي كانت المعارفُ الفلسفيةُ والحديثةُ تُهمُّها، باعتبارها أساسَ النهوض. على أنّ دخولَ محمد عبده على الحلقة أحدث روحًا جديدة لا من حيث ذكاؤه وحماسه وحسْب؛ بل من حيث وعيه بانحطاط التعليم في الأزهر من جهة، وسُخْط الأزهريين لإهمال دولة محمد علي وأحفاده له. وبتأثير من الأخبار التي كانت تأتي للقاهرة عن حروب الدولة العثمانية التي كانت تنهزم فيها دائمًا تجاه روسيا والنمسا أو في البلقان، وبتأثير أيضًا من أخبار الإصلاح السياسي العثماني الذي وصل عام 1876 إلى إعلان الدستور، اتسع حديثُ الحلقة الجمالية ليشمل الموضوعين الديني والسياسي، وبدون حرج -لأنّ المتحدثين في الدين كانا جمال الدين ومحمد عبده وهما مسلمان- ولأنّ المتحدثين في السياسة كانوا من المصريين الذين يستمع إليهم جمال الدين، ويُسارع إلى عقد مقارنـاتٍ مع الدول الإسلامية الأخرى. ويقال إنّ جمال الدين كانت له علاقةٌ بتوفيق، ولي عهد إسماعيل، وأنّ توفيق كان شديد السخط على الأوضاع، وكان يتوق لتولي السلطة من أجل الإصلاح. وقد ظلَّ الإصلاحيون المسلمون ثم القوميون ينتظـرون طويـلاً "المستبدَ العادل"؛ إذ كان محمد علي قد تحول إلى أمثولةٍ ونموذج.
ثامنًا: محمد عبده كان يؤيد إقامة حكومة دستورية تتولى الأمر فيها نخبة واعية
طردت الحكومة المصرية جمال الدين عام 1879، على الرغم من أنّ توفيق ابن إسماعيل (المفروض أنه صديق لجمال الدين) كان قد تولّى السلطة، بعد عزل والده ونفيه. وفي حين لا يمكن تمييز مرحلتين في فكر جمال الدين وممارسته السياسية، لا بد من القيام بهذا الأمر بالنسبة لمحمد عبده.
فبعد الثورة العربية والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، حوكم محمد عبده ونفي فذهب إلى تونس وبيروت، ثم التقى بجمال الدين بباريس، حيث أصدرا "العروة الوثقى" قُرابة السنة، ليعودا إلى الافتراق نهائيًا: محمد عبده إلى مصر بعد عودةٍ قصيرةٍ لبيروت، وجمال الدين إلى الطواف الذي انتهى به -بعد أن ضاقت به السُبُل- في أحضان السلطان عبد الحميد. ما كانت عند جمال الدين أفكارٌ واضحةٌ في الإصلاح؛ لكنْ كان همُّه توحيد المسلمين والشعوب الشرقية إن أمكن في مواجهة الاستعمار (البريطاني بالدرجة الأولى والروسي بالدرجة الثانية)، واستحداث وعي لدى المسلمين حكامًا ومحكومين بضرورات النهوض السياسي أولاً، والديني ثانيًا. وعلى الرغم من أنّ حلوله كانت ثورية (تحمَّسَ لثورة المهدي في السودان، وحرَّض على اغتيال شاه إيران)؛ فإنه ما كان يمانعُ في ظهور "مستبدٍ عادل" -وإن لم يثبت أنّ هذه العبارة جرت على لسانه- ويقصدُ به: حاكم يقيم نظامًا للعدالة في الداخل، ويعي ضرورة مصارعة الاستعمار.
ويبدو أنه حتى في مرحلة التوافُق مع جمال الدين، كان محمد عبده يؤيد -شأن المثقفين الذين كان يجتمع بهم في قهوة متاتيا بالقاهرة مع جمال الدين- إقامة حكومةٍ دستورية تتولى الأمر فيها نخبة واعية، تحدُّ من سلطات الحاكم وصلاحياته، باتجاه المساواة بين المواطنين (عرب وأتراك وشركس)، وتخصيص موارد الدولة لخير الناس، والتخلص من الهيمنة الأجنبية على مصر من طريق إدارة الدّين (مصر للمصريين). وقد تبينتْ ميوله هذه عندما تولّى رئاسة تحرير الوقائع المصرية، جريدة الدولة الرسمية، في فترة سيطرة العُرابيين على الأمور. ولا يمكن التمييز بين أفكار الرجلين في العروة الوثقى، التي يبدو أنهما كانا يشتركان في كتابتها وتحريرها. ويقال إنّ الصياغة كانت لمحمد عبده، لكنها لا تشبه أُسلوبَهُ الذي عرفناه في العقد ونصف العقد الأخير من حياته.
وتسودُ العُروةَ الوُثْقى لهجةٌ خطابيةٌ تتركز في أمرين: التوعية السياسية بالاستعمار ومخاطره وطرائق مكافحته، ودعوة المسلمين لنبذ الفُرقة الناجمة عن الصراعات الإقليمية والسياسية والمذهبية، أو الناجمة عن الممارسات الدينية التي سادت في عصر الانحطاط. وقد تكررت هذه الآراء من جانب جمال الدين في إسطنبول (في الخاطرات التي نشرها عن مجالسه محمد باشا المخزومي). ويعني ذلك أنّ هذه الآراء هي في الأساس له، أو أنّ محمد عبده كان ما يزال يشاركُهُ إيّاها. وليس في تلك الآراء شيءٌ خاصٌّ لافت للانتباه، باستثناء ذلك الوعي الإسلامي العامّ، وأنّ المسلمين أمةٌ واحدةٌ تتعرض لمشكلةٍ رئيسية هي الاستعمار، وأنّ المنقذ من ذلك مجيء حكام واعين يقدّمون مصلحة بلادهم على كلّ أمرٍ آخر، ويتوحدون مع شعوبهم من أجل النهوض، ومقارعة الغُزاة.
ولأنّ كتابات جمال الدين قليلة؛ فقد يكونُ مُفيدًا العودة (خارج مقالات العروة الوثقى والرد على الدهريين) إلى مناقشـاته في الصحافة الفرنسية مع إرنست رينان وهانوتو، والتي شارك فيها محمد عبده. أما رينان فهو من كبـار علماء الساميّات، وله دراسـةٌ مشـهورةٌ عن الرشـدية اللاتينيـة (ترجمها عادل زعيتر إلى العربية في الخمسينيات). وكـان له رأيٌ في قصور العقـلية الساميـّة (العبرية والعربية)، وفي انحطاط الشرقيين.
وقد ردَّ عليه جمال الدين أو ناقشه في ذلك؛ فأوضح أنّ الانحطاط ليس ناتجًا عن القصور العقلي أو الدين، وأن مشكلة المسلمين والشرقيين في سوء حكامهم، وفي الاستعمار القاعد على أنفاسهم. وذكر شاهدًا على إمكان نهوض المسلمين عبر دولة محمد علي، والتي ضربها البريطانيون والفرنسـيون على حـدٍ ســواء.
أما هانوتو فهو سياسي وكاتب فرنسي، رأى أن للاستعمار رسـالةً تمدينيةً، لأن المسلمين منحطّون، وحكّامهم غير صالحين. وقد ناقشه كل من جمال الدين ومحمد عبده في أن الإصلاح لا يأتي من الخارج، وأن التمدن الأوروبي الزاهر سيفشل لدى الشرقيين إن كان مفروضًا من الخارج. وهكذا فقد كان الأفغاني ثوريًا محترفًا، تتقدم لديه الاعتبارات السياسية على كلّ ما عداها. وقد كان أكثرما يقلقُهُ تكالُبُ الأوروبيين على استعمار الشرق وبلاد المسلمين، وعدم تنبه السياسيين المسلمين لذلك بحيث يتوحدون في مواجهته. وقد وضع أملَهُ في آخِر حياته في الجامعة الإسلامية، التي كان السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م) يتزعم الدعوةَ إليها، باعتباره رمزًا لوحدة الإسلام، والشرعية السياسية للأمة التي هو خليفتها.
ونعرفُ مما انكشف من وثائق ورسائل وتقارير استخبارية في الثلاثين سنةً الأخيرة، أن الرجلَ ما كان أفغانيًا بل إيرانيًا. وأنه قضى فترة الشباب بين إيران وأفغانستان والعراق. وأنه أخفى ذلك كلَّه حتى لا يتأثر تحركه في العالم السُنّي. وأنه ربما تكونُ له علاقات ببعض الأجهزة والسلطات في فرنسا وبريطانيا وروسيا. ويريد خصوم قدامى، وباحثون معاصرون، التشكيك في إيمانه، وفي أمانته للقضايا التي قضى حياته يعملُ من أجلها.
بيد أن الثابت والظاهر من انطباعات مُعاصريه عنه، أنه كان يعتبر نفسَهُ سيّدًا (من سُلالة النبي)، وأنه كان عميق الاقتناع بقدرة الدين على استنهاض المسلمين. ولذلك؛ فإن اهتمامه ما كان منصبًا على القيام بإصلاح ديني (حتى لا تتفرق الكلمة)؛ بل الاعتماد على عواطف الجمهور ونوازعه الإيمانية لمُجاهدة المستعمرين، ومكافحة الظَلَمة والمستبدين. ولو كان انتهازيًا وضعيف الدين -كما اتهمه مفكرو الصحوة الإسلامية، وسخر منه من أجل ذلك المستشرقون- لاستطاع الاطمئنان إلى جوار هذا الحاكم أو ذاك، أو هذا الوجيه أو ذاك، أو هذا الطرف الاستعماري أو ذاك. بينما الواقع أنه قضى حياته متنقلاً قلقًا معذَّبًا في كل مكانٍ قصده، دون أن يخطر بباله اعتبار نفسه ضحية. وقد كان مقتنعًا بإمكان تهييج العامة والخاصة على المستعمرين وعلى الحاكمين، وفي كلّ الحالات بواسطة الإسلام. وما كان الرجل من الحنكة والصبر بحيث يعملُ كالجيل الذي أتى بعده، على الفتنة بين المستعمرين أو الحكام، رغم أنه حاول ذلك.
وأرى أنَّ أهمَّ ما تركه من آثار في الحقيقة، تسييس الإسلام، وتحويله إلى عامل مؤثّرٍ في السياسات الدولية. وأعتقد أنّ هذه الحملات الاستشراقية والاستعمارية والتي توالت منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ضد فرضية الجهاد (سمَّوها الحرب المقدسة)، وقع في أصلها ما تنبهوا إليه من خلال كتابات جمال الدين، الذي كان مُصِرًّا على أنَّ المسلمين إنما يدافعون -شأن سائر البشر عندما يتعرضون للغزو والسحق- عن أنفُسهم بهذه الطريقة.
وتذكر تقاريرُ هندية وبريطانية أنّ جمال الدين، كان شديد السُخْط على السيد أحمد خان، الذي كان يُحاجّ في فرضية الجهاد، خوفًا منه على مسلمي الهند أن يتعرضوا للإبادة إن ثاروا. وكانت وجهة نظر جمال الدين أنه لا يمكن اعتبار الهنود مسلمين وغير مسلمين، مستضعفين. لكن حتى لو كانوا كذلك؛ فيمكن إقامة العذر لهم، دونما إلغاءٍ لفرضية الجهاد عندما تتوافر القدرة.
تاسعًا: محمد عبده لم ينج من التقليد أو إشكاليته فهو يلجأ للتأويلات
تغيرت أمور أساسيةٌ في شخصية محمد عبده ودعوته بعد مغادرته باريس وجمال الدين عام 1887م. وما كان ذلك مفاجئًا في الحقيقة لمن يتتبع اهتماماته بدقةٍ منذ العام 1884. ففي ذلك العام كتب في بيروت "رسالة التوحيد"، ثم صدرت له في آخِر حياته حاشيته على شرح الدواني للعقائد العضدية (1904). وهكذا فمحمد عبده يُعطي أولويةً للإصلاح الديني. ولا يرجع ذلك لاعتقاده ضرورةَ ذلك وحسْب؛ بل لاعتباره أنّ هذا مجالٌ يمكنُهُ السيطرة عليه، وقول جديدٍ في نطاقه. ولا شكَّ أنّ تفسيره للقرآن (الذي عُرف فيما بعد بتفسير المنار، لأنه نُشر أولاً على حلقات بمجلة المنار) هو أهمُّ النصوص التي يمكنُ تتبع آرائه في الإصلاح من خلاله؛ لكنّ نصَّيه الكلامين (الرسالة، والحاشية) تشير إلى الخطوات التي رأى إتّباعَها للانطلاق في الإصلاح والتغيير الإسلامي.
لقد رأى أنّ الإصلاح العَقَدي له أُولوية. فالعقائد العَضُدية هي النص السنّي الأشعري الرئيس في العقائد لدى المتأخرين، ولذلك كثُرت عليها -إلى جانب العقائد النَسَفية- الشروحُ والتعليقات. ركّز الشافعيةُ بالمشرق على العقائد العَضُدية (نسبة لعضُد الدين الإيجي الذي عاش في القرن الثامن الهجري)، بينما ركّز الأحناف على العقائد النَسَفية (نسبة للنَسَفي من القرن السادس الهجري).
بيد أنّ العقائد العضُدية ظلّت أهمّ لدى الأزهريين، رغم ميل العثمانيين الحاكمين للنَسَفي الماتريدي.
تمثَّل التجديد العَقَدي لدى محمد عبده بالتركيز على ثلاثة أفكار -والاستغناء في الاستدلال عليها عن الموروث المنطقي والفلسفي والجدالي، الذي جعل من المباحث العقدية أُحْجيةً تستعصي على التفكيك والفهم- الفكرةُ الأولى: وجودُ الله ووحدانيتُهُ استنادًا إلى العقل والفطرة معًا، وليس انطلاقًا من مقولات الوجوب والإمكان، والقِدَم والحدوث. والفكرة الثانية: النبوة باعتبارها رسالةَ هدايةٍ وإصلاح أخلاقي، تتدرج بها دعواتُ الأنبياء والرُسُل وصولاً لخاتم المرسَلين محمد - صل الله عليه وسلم -. والفكرة الثالثة: الشرائع باعتبارها مُرشدًا للسلوك البشري، وتواصُل الناس، وعيشهم معًا؛ بالهداية الإلهية، وبإصغاء البشر العقلاء لأخلاق النبوة، ولمقتضيات العقول والمصالح.
وقد حار الباحثون الذين حاولوا تحديد مقاصد الشيخ عبده من وراء بدئه بالعقائد، وبخاصةٍ أنّ رسالة التوحيد، تبدو أكثر تحررًا من حاشيته على العقائد العضدية وشروحها. فقال البعض إنه يبدو أميل للاعتزال في بعض المباحث (مثل الحُسْن والقبح وهل هما عقليان أم شرعيان)، وقال أستاذنا الشيخ سعاد جلال في الستينيات إن الأصالة ضئيلةٌ في رسالة التوحيد، وفي حاشية العقائد العضدية. وحاول أستاذنا الآخر الشيخ سليمان دنيا (في كتابه عن محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين) التدليل على أنّ الإمام أراد الخروج من إسار اللاهوت (علم الكلام) إلى الفلسفة بتأثيرٍ من شيخه جمال الدين. ويبدو لي أنّ إشكالية الشيخ عبده كانت جديدةً تمامًا، وأشبه بما دعا إليه شبلي النعماني المفكر الهندي فيما بعد.
أراد الشيخ عبده الخروج على التقليدية السنية ليس باتجاه الاعتزال أو الفلسفة؛ بل باتجاه ما عُرف فيما بعد بعلم الكلام الجديد. وطبيعي أن لا يمتلك الحرية نفسها في حاشيةٍ على نصٍ مدرسيٍ سابق (مثل العقائد العضدية). لكنه في الحالات كلّها (مثل تعليقاته على آيات الكون والطبيعة في تفسير المنار) ما كان يدعو لإنتاج منظومةٍ عقديةٍ بديلة؛ بل الخروج من المنظومة القديمة باتجاه نظامٍ أخلاقي أو نظام يستند إلى الأخلاق باعتبارها قيمًا مطلقةً أصلُها الإطلاقيةُ الإلهية؛ بحيث تكونُ الخطوةُ الثانية اعتبار القرآن والإسلام نهجًا للحياة، يبعثُ معناه الأخلاقي الكبير الروح في التشريع الإسلامي أو الفقه الإسلامي.
ولا مهرب من التعرف هنا على الخلفيات الدينية والثقافية التي كانت تحفلُ بها البيئات في مصر وأقطار الدولة العثمانية، حتى قبل ذهاب الشيخ إلى باريس ولندن. كان السلطان عبد الحميد مهتمًا بالتجديد الديني والسياسي على طريقته. وعندما كان عبده في بيروت، كانت أكثر الكتب العَقَدية انتشارًا الرسالة الحميدية، ثم الحصون الحميدية للشيخ حسين الجسر، وهي تمزج الأشعرية بالتصوف والروحانيات القديمة المستمدَّة من الغزالي. وهكذا جاءت رسالة التوحيد ردًا على "تجديد التقليد" الذي حاوله علماءُ الدولة. وعاد الشيخ عبده فدرّس رسالة التوحيد بمصر في التسعينيات؛ لكنه عندما رأى أنها لن تتحول إلى نصٍ مدرسيٍ بالأزهر، كتب حاشيته على الدواني والعقائد العضدية، وقال فيها الأشياء نفسَها؛ لكنْ بلغة المتكلمين ومصطلحاتهم.
ولا يعني ذلك أنّ عبده نجا من "التقليد" أو إشكاليته مطلقًا. فهو يلجأُ كثيرًا للتأويلات، ووجوه التشكلات الكلامية؛ لكنه يفعلُ ذلك ليس احتيالاً أو خوفًا من العامّة؛ بل لوضع المنظومة كلّها في سياقاتٍ جديدةٍ تخدمُ عمليات تجاوُزِها بالاتجاه الذي يريده (كما هو شأن كلّ المجتهدين المسلمين الكلاسيكيين في تغييراتهم)، دون أن يستعمل في ذلك النقد الجذري العنيف الذي استخدمه آخرون مثل رفيق العظم أو السلفيين (مثل جمال الدين القاسمي) فيما بعد، أو التحديثيين السذّج (مثل الشيخ طنطاوي جوهري). والملاحَظ أنه بخلاف شيخه جمال الدين شديد التأثر بالعلوم التي كانت متداوَلةً أيامه، وعلى رأسـها التطورية الداروينية، كما آلت إليه على يـد هكسلي وسـبنســر.
جمال الديـن بدأ نشاطه الكتابي المعروف بالرد على الدهرييـن (التيار الإلحادي في الداروينية الاجتماعية). بينما أخذ محمد عبده عن الداروينيين فكرة السُنَن، وطبّقها على السُنَن الإلهية الواردة في القرآن. ذكر محمد عبده ومُعاصروه وتلامذته نوعين من السنن: السنن الطبيعية (في النظام الكوني)، والسنن الاجتماعية (تطور الأُمم والمجتمعات والدول). وأنا أرى أنّ هذه هي الفكرة الرئيسة الأولى في تفسير المنار. أما الفكرةُ الثانية في التفسير عنده، فهي فكرةُ المصالح والمقاصد. وقد استخدمها في قراءة الأحكام الشرعية، كما استخدمها في تسويغ الاجتهاد. أمّا مسألة السُنَن فقد قرأ من خلالها عوامـل النهوض والانحطاط، باعتبار أنه لا عجائبَ ولا معجزات بعد خاتم الأنبياء. ثم إنّ النصَّ القرآنيَّ لا يترك مجالاً لغير القول بالارتباط بين الأسباب والمسبّبات في العوالم الحضارية والأُممية والاجتماعية. فللنهوض سُنَنُهُ التي اتبعها المسلمون الأوائل، والغربيون المعاصرون، فأفضت إلى هذا الظهور الحضاري الكبير في الحالتين. وللانحطاط عللُهُ وأسبابُهُ التي لا تتخلَّّفُ نتائجُها إذا استتبّتْ أسبابُها.
وفي حين كان محمد عبده (حتى إبّان صحبته لجمال الدين) مقتنعًا تمامًا بهذه الفكرة، كان جمال الدين (ربما لاختلاف الأَولويات لديه) يرى أنّ تحرر المسلمين من الاستعمار بالعمل السياسي الوحدوي يؤدي إلى التقدم، وفي حين كان عبده يرى (ما أوضحه مالك بن نبي بعد أكثر من نصف قرنٍ على ذلك) أنّ الاستعمار نتيجةٌ وليس سببًا، وأنه لو لم تكن هناك أسبابٌ ذاتيةٌ لدى المسلمين لما نجح الاستعمارُ في الاستيلاء على ديارهم. ولذلك يُروى أنّ جمال الدين، كان يقولُ له عندما يرى تشاؤمه ويأسه: إنما أنت مثبِّط! وبَيْن فكرة السُنَن الحاكمة، ومقاصد الشريعة، يقعُ مشروع محمد عبده للإصلاح الديني بالتمام والكمال.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:25 pm

عاشرًا: الشاطبي فقيه مالكي أبدع نظرية في المصالح
لا نعرفُ بالضبط متى عثر محمد عبده على مخطوطة كتاب الشاطبي (790هـ/1388م): الموافقات في أصول الشريعة. وربما نبَّهه إليها بعض التونسيين عندما زار تونس (1884-1885م) أو بعد ذلك. والشاطبي فقيهٌ مالكيٌّ كبيرٌ عاش في القاهرة في القرن الثامن، من أصولٍ أندلسية. وقد أبدع نظريةً في المصالح، باعتبارها أساسًا ممكنًا للأحكام الشرعية، ليس استنادًا إلى التعليل، على الطريقة القياسية للفقهاء؛ بل نتيجة استقراءٍ (كما قال) للقرآن والسنة وأعمال الفقهاء الأوائل. والمعروف أنّ المالكية تحدثوا في أصُولهم عن مصدرٍ أو دليلٍ فرعيٍ سمَّوه المصالح المرسلة، وهي التي تُدْرَكُ بالعقل وليس لها أصلٌ نصيٌّ في الكتاب أو السنة، كما أنها لا تُعارضُ نصًّا قطعيًا. وأقبل بعضُ فقهاء المالكية والحنابلة على التوسُّع في مسائل المصالح في القرنين الخامس والسادس للهجرة (بل هناك نصٌّ فريدٌ عند الجويني الشافعي نقله عنه تلميذه الغزالي يسير في هذه الوجهة أيضًا). وإلى هذه النصوص العامّة الحنبلية والمالكية (بل إلى كلام الحنفية في الاستحسان) استند خير الدين التونسي، السالف الذكر، في مقدمة كتابه: أقوم المسالك، ليذكر المصلحة باعتبارها الأساسَ الشرعي لاستحداث مؤسسات الدولة الحديثة، القادرة على دفع السيل الغربي عن المسلمين.
وما كان التونسي بحاجةٍ للمجيء بهذه النصوص غير المباشرة، لو أنه عرف -عندما كان يضعُ كتابـه- الفقيـه الشاطبيَّ الذي قال بوضـوحٍ وصراحةٍ إنّ الشـرائع كلَّها (وليس الشريعة الإسلامية وحسْب) إنما أُنزلت رعايةً لمصالح العباد التي تنحصر أصولُها في خمسة: حق الدين، وحق النفس، وحق العقل، وحق النسل، وحق المِلْك. وفي كلّ مبدأ من هذه المبادئ (إذا صحَّ التعبير) مستويات بين ضروري وحاجي وتحسيني.
بدأ محمد عبده يستعملُ هذا النصّ في تسعينيات القرن التاسع عشر، للاستدلال على ضرورة التغيير في المشروعين الديني والسياسي. فكُلُّ أمرٍ في عالَم أوروبا أو الإسلام تتبين فيه مصلحةٌ عامةٌ للمسلمين، أي أنه يُسهمُ في صَون الضروريات الخمس، يَحْسُنُ بل يجبُ اقتباسُه باعتبار المصلحة شرعًا من الشرع ولا حُجَّةَ لمن قال إن في ذلك تجاوزًا للنصوص أو مقتضياتها، أو للقياس وآلياته.
فالتعليم العامّ ما كان فرضًا في أول الإسلام، أو في عصوره الوسيطة، رغم استحثاث الإسلام على العلم، ورغم كثرة المدارس والمعاهد الموقوفة في تلك الأزمنة. لكنّ التعليم الآن صار ضرورةً من الضرورات لإنهاض المجتمع الإسلامي، والوصول إلى التقدم، ولأنَّ الأمر كذلك فلا داعيَ للاستدلال الكثير على جواز إنفاق المال العامّ، من أجل تحصيل "العلوم الدنيوية" المزدهرة بأوروبا. وكذا الأمر مع الجيوش ومؤسسات الدولة ونشاطاتها الأُخرى. لكنْ ليس هذا فقط؛ بل إنّ مسألةً حساسةً مثل تعليم المرأة، تدخُلُ ضمن "المصالح العمومية"، أو الضروريات، باعتبارها نصف المجتمع المعطَّل. وإذا قصَّرت مسائل المصالح في إقناع المتشككين من المتدينين والأزهريين؛ فهناك مسألة السُنَن الاجتماعية، ذات التنصيص القرآني، والتي تجعلُ لكل مسبَّبٍ سببًا أو علّة. والمعروف في أصول الفقه أنَّ المعلولَ يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. والتعليم العامّ وحرية المرأة وحكم القانون والعدالة؛ كل ذلك أسبابٌ وعلَلٌ للتقدم، أو أنّ النهوض لن يتحقّق بدونها.
عندما رجع محمد عبده لمصـر جرى تعيينُهُ في مجلس شورى القوانين، وفي المجلس الأعلى للأوقاف. ثم صار مفتيًا لمصر. بيد أنَّ الأهمَّ فيما نشط فيه، كان إطلاقه لحركةٍ شاملةٍ علمية ونقاشية ونشْرية. فقد أوى إليه المتعلمون الجُدُد من أبناء الطبقة الوسطى الجديدة، وبعض عِلْية القوم رجالاً ونساءً. فحرَّك من حوله مجموعةً من الشباب للتأليف في الموضوعات الجديدة. وآخرين لنشر النصوص القديمة المفيدة. وبعض نُبهاء الأزهريين لإطلاق دعوةٍ من أجل التجديد بالأزهر. وانصرف هو للمشاركة في هذه النشاطات كلّها، وفي الإشراف على ما لم يستطع القيامَ به بنفسه. وبسبب السُمعة التي انتشرت له، قَصَدَهُ رشيد رضا من طرابلس عبر بيروت، وأنشأ بمعاونته مجلة المنار، التي أقبلت منذ أعدادها الأولى على نشر مقالاته ودروسه في التفسير. وكما نشر قاسم أمين (مُريد محمد عبده) بإشرافـه ومعاونتـه كتابيه في تحرير المرأة، والمـرأة الجديدة، جاء عبد الرحمن الكواكبـي (1903م) إلى القاهرة، وكتب ونـشر المقـالات (بالمنار والمؤيَّد) والتي ظهرت في صورة كتابين فيما بعد: أُمّ القرى، وطبائع الاستبداد.
ومع أنّ العمل السياسيَّ المباشر ما كان من أهدافه، فقد التفّ من حولِه كلُّ الإصلاحيين، الذين اعتنقوا فكرته حول التخلُّف الذاتي، وضرورات العمل الدؤوب والمتأني والطويل المدى من أجل النهوض. وكما كان له أنصـارُهُ الكُثُر، ظهر له خصومٌ كثرٌ أيضًا، من أَوساط التقليديين بالأزهـر، وأوساط الخديوي توفـيق، ثم عبـاس الثاني (1894-1913). وجاءت عداوةُ عباس الثاني له من تدخُّله لمنع الخديوي من الاستيلاء على الأوقاف، ومن استخدام الأزهر لمعارضة دعوات التجديد والإصلاح، على أنّ الذي أضرَّ بدعوته الإصلاحية بشدَّة، كان خلافُهُ مع مصطفى كامل (1906م) زعيم الوطنيين المصريين، حول الأَولويات: مكافحة الاستعمار البريطاني لمصر أم التركيز على التجديد والبناء والإصلاح الداخلي، وإنْ بمساعدة الإنجليز، أو بتجنُّب الاصطدام بهم. ولا نعرفُ لمحمد عبده موقفًا واضحًا من السلطان عبد الحميد وخلافته وجامعته الإسلامية. لكنّ الخديوي ومصطفى كامل كانا يريان ضرورة الاستعانة بالنفوذ المعنوي لأمير المؤمنين ضد الاحتلال البريطاني. كما يريان أنّ محمد عبده يُحابي المندوب السامي البريطاني، ويستعين به أحيانًا ضد تصرفات الخديوي. وليس هذا فقط فالوطنيون المناضلون ضد الاستعمار، ما كانوا يرون مصلحةً في الخروج على التقليدية الإسلامية التي يجتمع وعي الناس من حولها، ويمكن استخدامُ هذا الوعي في عمليات مكافحة الاستعمار؛ بدلاً من الدخول في حركةٍ تجديديةٍ يمكن أن تشقّ الصفوف، وتُلهي عن العدو الأجنبي.
والمعروف أنه اجتمع حول محمد عبده مثقفون وأرستوقراطيون وشـوام، كانـوا جميعًا يُعـادون عبد الحميد الثاني، إمّا لأنه ألغى الدستور وأعاد حكم الاستبداد، أو لأنهم يرون ضرورة إزالة العثمانيين لصالح دولةٍ عربية. وكان من هؤلاء الإصلاحيين رشيد رضا والكواكبي ورفيق العظم وقاسم أمين وولي الدين يكن. لكنْ عندما توفي الشيخ عبده فجأةً عام 1905، كانت الحركة الإصلاحية قد انطلقت، كما كان تلامذته ومريدوه قد صاروا ظاهرين في الحياتين الثقافية والعامة. وقد ظلَّ النهضويون والإصلاحيون المصريون والشوام يستندون إليه حتى ثلاثينيات القرن العشرين.
حادي عشر: الشيخ محمد رشيد رضا نبّه الناس إلى وجود تيار سلفي يمكن أن يكون قويًا
ما ظهرت لوفاة محمد عبده (1905م) آثارٌ سلبية مباشرة على حركة الإصلاح. فقد تأسست الأحزاب المصرية عام 1906، وفي عام 1908 أُعلن عن إنشاء الجامعة الأهلية بمصر؛ وفي كلتا الحالتين أرجع أُناسٌ الفضل في ذلك لمحمد عبده. وبقيت هناك أمورٌ أُخرى بدا الإصلاح مستمرًا فيها: قضية المرأة كما ظهرت في كتابي قاسم أمين، وقضية الحرية في مواجهة الاستبداد، كما ظهرت في كتابي عبد الرحمن الكواكبي.
وحدث الانقلاب على عبد الحميد الثاني عام 1908، وتجددت آمالٌ كثيرةٌ بإمكان الإصلاح، في الدولة العثمانية كما في مصر. وذهب رشيد رضا إلى إسطنبول عام 1910، حيث قضى عدة أشهر، فعاد من هناك بمشاعر مختلطة، وبخوفٍ على العرب والمصالح العربية من موجة التتريك التي رآها تتصاعد في أوساط كهول الاتحاد والترقي، من ذوي المواقع المؤثرة في السلطة الجديدة.
وبدأت تتكون جمعياتٌ سريةٌ عربية بإسطنبول، وفي عواصم بعض الولايات العربية مثل بيروت وطرابلس وبغداد وحلب ودمشق. وكان أبرز تلك الحركات "حزب اللامركزية" الذي كان أعضاؤه يريدون البقاء ضمن الدولة العثمانية؛ لكن على أساس الحكم الذاتي أو الفيدرالية. وفي عام 1911 غزت إيطاليا ليبيا، وما استطاعت السلطنة الدفاعَ عنها، فعقدت صُلحًا مع الإيطاليين، وانسحب جنودُها عام 1912، تاركين بعض الضباط في صورة متطوعين، وقد كان من بين هؤلاء مصطفى كمال. وفي عام 1912 أيضًا نشبت أحداث تمرد بالبلقان، ففقد العثمانيون كل أراضيهم هناك، والتي بقوا فيها لما يزيـد على الأربعمائة عـام. وهذا الضعف المروِّع في السـلطنة، رغم الديمقراطية والدســتور، هو الذي دفع نخبًا عربيةً للّقاء بـبـاريــس في "المؤتمر العربي" عام 1913. وقـد كـان رشــيد رضـا من بين الحضـور، وطُرحت أفكار ومـشــروعـات تجاوزت اللامركزية باتجاهين: اتجاه الانفصال الكامل عن الدولة العثمانية لإنشاء كياناتٍ مستقلةٍ تمامًا، واتجاه البقاء مع الدولة حتى لو لم تعط العرب الحكم الذاتي أو اللامركزية. وجاءت الحرب العالمية الأولى فعصفت بالدولة العلية وبالعرب من رعاياها على حدٍ ســواء. وزاد الطين بلّةً خوض الدولة الحرب إلى جانب النمسا وألمانيا في مواجهة بريطانيا وفرنسـا الدولتين الاســتعماريتين الكبيرتين في الـشــرق آنـذاك.
وكانت عواطف العرب مع الدولة، لكنّ بعضَ النُخَب بالشام والحجاز سعت للتخلص من نير العثمانيين من طريق اللجوء إلى فرنسا أو بريطانيا. والمعروف أنّ الهاشميين الحاكمين وقتها بالحجاز تفاوضوا مع البريطانيين طويلاً على دولةٍ عربيـة في بلاد الشام، تكونُ عاصمتُـها دمشق. بيد أنّ مفاوضـات سايكس (البريطاني) وبيكو (الفرنسي) حول المستقبل بعد الحرب أظهرت الرغبة في أن تأخذ فرنسا لبنان وسورية، وبريطانيا فلسطين والعراق؛ حيث تعهدت للمنظمة الصهيونية العالمية بأن تُساعد في إقامة كيانٍ يهوديٍ على أرض فلسطين.
وعلى أي حال؛ فقد وقعت الهزيمة، وسيطر الجنرال مصطفى كمال فألغى الخلافة، وأقام دولةً قومية الميول، وما لبث أن تخلّت عن الأراضي العربية؛ باستثناء الإسكندرون التي ضمها إلي تركيا (1937) بموافقة بريطانيا وفرنسا. أما البريطانيون والفرنسيون فقد حصلوا من عصبة الأُمم عام 1920 على قرارٍ يسمح لهم بالانتداب على سائر البلدان العربية تقريبًا. وليس المهمّ هنا متابعة التطورات السياسية بعد الحرب. فقد فهم الناس أنّ هؤلاء مستعمـرون، وأنهـم قد يحكّمون الصهاينة في رقابنا (1931). وفي الوقت نفسه صارت هناك هجمةٌ على الجبهة الثقافية تجلّت بإعلان علي عبد الرازق، أنه لا يعرف للإسلام نظريةً سياسية. كما قال طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، كلامًا معناه أنه إن لم تكن الوقائع التاريخية والأثرية تؤيد النصَّ الدينيَّ، فهو ليس مستعدًا لقبول وجود إبراهيم التاريـخي. وانطلقت حركـةٌ نقديةٌ قويةٌ ضد علي عبد الرازق. لكن في الوقت نفسه كانت الخلافة كلها قد أُلغيت، وأُقيمت المؤتمرات من أجل إعادتها، في الهند والقاهرة ومكة، وانتهى الأمر بعد ردودٍ كثيرةٍ من وجهة نظر أدبية، بتغلُّب اتجاهات المحـافظة والتشدد تجاه الغرب. رأى الناس الخلافة تسقط. كما رأوا أنّ ديار أمتهم يحتلها الأجنبي. والإسلام يتعرض لهجماتٍ في عُقر داره. ولذلك فقد انتشر وعيٌ بالخطر، وخوفٌ على الوجود والمستقبل. ووسط هذه الأجواء بدأت معالم الفكر الإسلامي المعاصر بالظهور.
يعتبر الإحيائيون المسلمون أنّ الإسلام في خطر، ولذلك لا بد من الحفاظ عليه بكل الوسائل. أما الأخطار فتتمثل في الاستعمار القائم، وفي تحوله إلى غزوٍ ثقافي (التغريب). فالمطلوب الآن أتباع سياسات هوية لحفظ النفس والأرض والدين؛ من المدارس وإلى الكشافة وسائر النشاطات، لأنّ الإصلاحيين أسرفوا في التغريب. ثم إننا نقتبس من الغرب منـذ حوالي الـ100 عام؛ وما حدث تحسنٌ ملحوظ. بل الذي حدث زيادة التغريب، ومدارس الإرساليات، والاستخفاف بديننا وكرامتنا. وسرعان ما تحول نزوع الهوية هذا إلى سياساتٍ واستراتيجيات، وتكونت أحزاب إسلاميةٌ للعمل على المشروع؛ وبخاصة في مصر وسوريا والعراق. وحلَّ تدريجيًا همُّ صَون الهوية والخصوصية محلَّ الهمّ الذي كان سائدًا لدى النهضويين، والذي يقولُ بالتقدم. وقد كان موقف رشيد رضا حاسمًا لهذه الناحية. فقد ظلَّ رضا على احترامه الشديد الظاهر لعبده وذكراه، لكنه تراجع تدريجيًا عن أكثر ما كان يكتبه عندما كان عبده حيًا. دافع عن الخلافة وطالب بعودتها، على الرغم من أنه كان من أنصار الانفصال عنها بكيانٍ في بلاد الشام، أو بخلافةٍ عربية. وهاجم قضية المـرأة بعد أن كان قد رحّب بكتـابي قاسـم أمين في مجلته (1901).
وانحاز للملك عبد العزيز آل سعود في صراعه مع الهاشميين، لأنّ الهاشميين تآمروا مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية قبل سقوطها. بيد أنَّ أبرز تأثيرات تغير موقف رضا وبعض أبناء جيله أمران اثنان: تنبيه الناس إلى وجود تيار سلفي يمكن أن يكون قويًا، وأنّ النظام السياسي في الإسلام نظامٌ مدنيٌ، لكنْ يكونُ عليه أن يطبِّق الشريعة بخلاف مقولات عبد الرازق، الذي يرى أنّ الإسلام لا يملك نظامًا سياسيًا. وقد كانت لدى رضا وأبناء جيله مجلةٌ مهمةٌ هي المنار التي استخدمها من قبل للتصدي لتيارات الغزو الثقافي، والتجديد في الدين، والنهوض، وهي اليوم (في مطلع ثلاثينيات القرن) بيئة نقاشٍ وفتاوى وتفسيرٍ للقرآن.
وهكذا انتهى محمد عبده وتأثيره فعليًا في الثلاثينيات. فقد تصاعدت أمواج السخط على الغرب وعلى الاستعمار، وصار الإصلاحيون التحديثيون، أو المعتدلون تُجاه المستعمرين، مضغةً في الأفواه. وبدأت الإحيائية التأصيلية تكسب الأرض، وظهر للسلفية الجديدة أنصارٌ ليس في مصر وحسْب.
ثاني عشر: الإحيائية الإسلامية الجديدة في حقبة ما بين الحربين العالميتين اتخذت استراتيجيات جديدة في قيام التنظيمات والجمعيات الحزبية
اتخذت الإحيائية (الأُصولية) الإسلامية الجديدة في حقبة ما بين الحربين العالميتين إستراتيجياتٍ جديدة، تمثلت في قيام التنظيمات والجمعيات الحزبية وشبه الحزبية، كما تمثلت في الإنتاج الثقافي والديني الغزير: في مكافحة التغريب (من خلال نقد الاستشراق والاستعمار والتبشير)، وفي بناء النموذج البديل. تمثلت مكافحة التغريب، سعيًا وراء الهوية النقية في إصدار مئات الدراسات في إدانة الحضارة الغربية، وبخاصةٍ في جنايتها على المسلمين والبشرية في الحربين العالميتين اللتين أهلكتا ما يزيد على المائة مليون من البشر في سائر أنحاء العالم. وصار الهجوم على التبشير والاستشراق موضوعين محبَّبين، وما يزالُ الأمران سائدين حتى اليوم. ففي تسعينيات القرن العشرين، وعندما ظهرت مقالة هنتنغتون عن صِدام الحضارات، تجددت حملاتُ الإسلاميين العرب على الحضارة الغربية، وعلى سياسـات الهيمنة الأمريكية، على أثر حرب الخليج الثانية. وما كان ذلك جديدًا؛ إذ بدأ الأمر في أربعينيات القرن، وتقدم فيه المودودي والندوي الهنديان، ثم تبعهم العربُ وعلى موجات طوالَ الخمسين سنة الماضية. أمّا الاستشراق فقراءته النقدية أقدم، وبدأ نقده جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وصولاً لمحمود شاكر ومحمد البهي ومصطفى السباعي. وقد كان هؤلاء يعرفون المستشرقين ومؤلَّفاتهم عن كثب، ويميّزون بين العدوّ والموضوعي والصديق. فلما ازداد الإسلاميون راديكاليةً لاصطدامهم بالأنظمة العربية والإسلامية، وارتفعت أمواج الحرب الباردة، صار الاستشراق كلُّه ملعونًا، وما عاد مهمًا متابعته بالنقد الموضوعي، بل بالنقض الكاسح. وهذا ما يبدو في مؤلفات أنور الجندي منذ الستينيات، وحتى لدى مفكرٍ بارز مثل مالك بن نبي.
بيد أنَّ الأهمَّ من النقد والهدم، ما صار إليه الإسلاميون من محاولاتٍ لبناء النظام الإسلامي الشامل والبديل، أو الطريق الثالث المفارق للرأسمالية والشيوعية. بدأ ذلك عبد القادر عودة عضو مكتب الإرشاد في الإخوان المسلمين عندما قارن بين التشريع الجنائي في الفقه الإسلامي، والتشريع الجنائي في القوانين الوضعية. وقد تبين له بعد مقارنةٍ طويلةٍ أنّ فقه الجنايات لدى المسلمين أفضل وأكثر إنسانيةً بما لا يقاس. وكذا فعل في الأوضاع الاقتصادية والسياسية. وشكّل المودودي وسيد قطب معًا ريادةً لهذه الجهة طوالَ الخمسينيات، عندما كتبا في مكافحة الرأسمالية، ومحاسن النظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي، كما كتب محمد الغزالي والسباعي في مكافحة الشيوعية، وفي القراءة النقدية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبعد هؤلاء الرواد أنجز عشراتُ المفكرين (وهم في أكثريتهم -باستثناء محمد البهي- من الإخوان المسلمين المصرييـن أو السوريين) مئات الأعمال في صورة كتبٍ ومقالاتٍ، في رؤية ومشروع النظام الإسلامي الشامل والكامل. على أنّ ذلك كلَّه ما كان ليستقيم لولا الظروف السياسية والثقافية التي أحاطت بالموقف في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. فبعد التحالُف في الحرب العالمية الثانية بين الدول الرأسمالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي ومعسكره المتكوّن في مواجهة النازية والفاشية واليابان، نشبت الحربُ الباردة بين الحليفين في حدود العام 1949 وكانت أولى تجلياتها الحرب الكورية. وفي مطلع الخمسينيات صار الاستقطاب عالميًا، وصار العالمان العربي والإسلامي من ساحاتهما.
وحصل الاشتباك بين الإسلاميين والأنظمة الوطنية والقومية والتقدمية البازغة في قلب الوطن العربي وعلى أطرافه. بدأ ذلك في مصر بين الإخوان المسلمين ونظام الرئيس جمال عبد الناصر، ثم امتد إلى بلدان المشرق، وبعد عقدين إلى بلدان المغرب أيضًا. ولأنَّ الأجواء كانت أجواء قطيعةٍ أيديولوجية وثقافية وسياسية؛ فقد تعملقت منظومات القطيعة التي لا ترى أي مشتركاتٍ فيما بينها. وفي هذه الظروف تبـلورت لدى الإسلاميين، وعلى يـد كلٍ من أبي الأعلى المـودودي (بباكستان) وسيد قطب (بمصر) نظـرية الحاكمية. وهي تقوم على ثلاث مقولات: مقولة سيادة الله عزَّ وجلَّ المطلقة على الكون، ومقولة الاستخلاف، استخلاف الله للإنسان في العالم، ومقولة التكليف، تكليف الله للمسلمين بإنفاذ شرعه وشريعته في هذا العالم. وفي أوساط الستينات من القرن العشرين تقريبًا، صارت رؤية الحاكمية العمود الفقري للفكر الإحيائي الإسلامي كلّه، وأرى أنها ما تزالُ كذلك، وإن اختلفت أنظار الإسلاميين في كيفية تطبيقها أو إنفاذها. فالأصوليون يرون أنَّ الأمر أمر التكليف، ولذلك لا بد من المصير إليها بشتى الوسائل بما في ذلك العنف. أمّا المعتدلون فما قبلوا مستلزمات تلك الرؤية (تكفير الأنظمة أو الأنظمة والمجتمعات)، وظلُّوا (وقد صاروا التيار الرئيسي منذ الثمانينيات) يقولون بالإنفاذ من طريق التحول بالتوعية والتربية والترشيد. ومن حول الحاكمية جرى نَسْجُ المنظومة أو النظام الإسلامي الشامل في الدولة والمجتمع، وفي العبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع.
وقد أسهم في تطوير وتوسيع وتفصيل هذه الرؤية في المجال العربي كثيرون أهمهُّم في الستينيات والسبعينـيات، كلٌّ من محمد المبارك (من سورية)، ومحمد الغزالي (من مصر)، ويوسف القرضاوي (من مصر). وامتدّ تأثيرها إلى الفكر الشيعي، فقاد السيد محمد باقر الصدر منذ أواخر الخمسينيات حزب الدعوة، الذي أشبه سيد قطب وأفكاره في كثيرٍ من الأمور.
ليست الإحيائيةُ الإسلاميةُ حركةً تقليدية، كما أنها ليست حركةً إصلاحية. إنها حركةُ هوية وخصوصية وطهورية. ولذلك فهي لا تريد تجديد المذاهب الفقهية الإسلامية السائدة في المؤسسات. كما أنها لا تقبلُ أطروحة الإصلاحيين المسلمين القائلين بالاقتباس من الغرب، واعتبار التقدم بالمعنى الغربي هدفًا. وقد تجنبوا طويلاً الاصطدام بالإصلاحيين، فلما اشتدَّ عودُهُم اكتسحوا الإصلاحية باعتبارها تغريبًا، وحملوا على جمال الدين ومحمد عبده والآخرين (باستثناء رشيد رضا) باعتبـارهم ماسونًا وعملاء سريين للغرب والتغريب (انظر كتب محمد محمد حسين). ومع أنّ الإصلاحيين والإحيائيين يدعون للاجتهاد، ويعتبرون ذلك أهمّ خلافٍ بينهم وبين التقليديين من أتباع المذاهـب السنية الأربعة، لكنّ الإحيائيين يتبعون نهج التأصيل، أي العودة المباشرة للكتاب والسنة، في حين يتردد الإصلاحيون بين مقاصد الشريعة، واعتبار المصالح، والطريقة القياسية، جميعًا. ثم إنّ أُصول ومنازع هذه الأطراف الثلاثة مختلفة. فالتقليديون، كلهم من خريجي المدارس والمعاهد الإسلامية القديمة مثل الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند. والإصلاحيون منهم من هو فقيه، ومنهم من هو مقبلٌ على الإسلام من خارج الإطار التقليدي. أمّا الإحيائيون الأوائل فالأزهريون والقرويون والديوبنديون بينهم قليلون جدًا. وقد كانت هناك مشكلات دائمًا بين الأزهر والإحيائيين، ليس بحكم وقوف الأزهر مع السلطات فقط؛ بل لاختلاف المناهج والأهداف. فالإحيائي الإسلامي يملك مشروعًا متكاملاً للاستيلاء على الدولة والمجتمع، ولا كذلك الإصلاحي والتقليدي. وحتى الأزهري من الإخوان المسلمين (من مثل سيد سابق والقرضاوي والغزالي) ليس من خريجي كلية الشريعة (الحافلة بتدقيقات الفقهاء وشكوكهم)، بل من خريجي كلية أصول الدين، وذات المنحى العقائدي والخطابي. والحديث هنا عن هذه الفروقات، ليس عن الظرف الراهن، بل عن الأوضاع بين الأربعينيات والسبعينيات، أما اليوم، بل منذ الثمانينيات فقد تكاثرت الظباءُ على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ.
ثالث عشر: عقد الستينيات كان أقسى سني الانقسام والصراع داخل الوطن العربي
كان عقد الستينيات أقسى سنيّ الانقسام والصراع داخل الوطن العربي، بين الحكومات العربية، وبين الجبّارين على ولاء الدول العربية، ثم بين التيارات الفكرية العربية والإسلامية. وقد سمَّى مالكولم كير ذلك العقد (1958-1968) بالحرب الباردة العربية. ومن مظاهر هذا الصراع، وتأثيراته على الحركات الإسلامية، أنها بدأت وقتها تصطنع آلياتٍ للمواجهة مع الشيوعية من الناحية الفكرية. وقد كانت حتى مطلع الستينيات بشوشةً مع الاشتراكية، وشديدة العداء للرأسمالية. ولنتذكر كتاب سيد قطب (1951) معركة الإسلام والرأسمالية، وكتاب مصطفى السباعي (1959) اشتراكية الإسلام.
وأحسبُ أنّ هذا التحول يتصل بالاستقطاب الذي حصل بين معسكرين عربيين على خلفية الحرب الباردة: مصر والدول التقدمية، والمملكة العربية السعودية الدول المحافظة العربية والإسلامية. وكانت حملة النظام المصري الأولى (1954-1955)، والثانية (1965-1966) قد شردت ألوفًا من الإخوان المسلمين، ذهب كثيرٌ منهم إلى السعودية وبلدان الخليج الأخرى، والجزائر، حيث مارسوا التدريس والعمل، وصار منهم مستشارون وخبراء في الهيئات والمجالس والمصالح العاملة في الشؤون الإسلامية.
وهناك نضجت أُطروحة "الحلّ الإسلامي" التي خصَّص لها الشيخ يوسف القرضاوي عدة كتب بهذا العنوان، بعد كتابيه الهامَّين عن الزكاة، ومشكلة الفقر وكيف حلَّها الإسلام. بيد أنَّ أهمَّ ما حصل في "هجرة الإخوان إلى دار الإسلام" ذلك اللقاء بين السلفية والإخوان في إطار الصحوة الإسلامية. وكما سبق القول فإنَّ الإخوان ما كانوا سلفيين في إثارتهم للمشكلات، لأنهم أرادوا أن يجمعوا الناسَ من حولهم، والتركيز على مصارعة التغريب والأنظمة المغرّبة. ولا شكّ أنّ موضوعاتٍ مثل التوحيد والشِرْك، والولاء والبراء، والتدقيقات العقدية والفقهية؛ كلُّ ذلك أحرى أن يفرّق الناس لا أن يجمعهم. ويقال إنّ بعض قيادات الإخوان أيام حسن البنا، سُئلت من جانب أحد السلفيين المصريين عن هذا "الاستسهال" بالعقيدة، فأجاب هؤلاء: لو قلنا للناس إنّ زيارة الإمام الحسين أو السيدة زينب أو الإمام الشافعي شِرْكٌ وكفرٌ لرجمونا بالحجارة! ويبدو شيءٌ من ذلك في أصول الشيخ حسن البنا، في رسائله. وعندما ظهرت طهوريةٌ متشددة غير سلفية تمامًا في رؤية الحاكمية لدى سيد قطب، ردَّ عليه شيوخ الإخوان من السجون بالكتاب الذي صار معـروفًا الآن: دُعاة لا قُضاة. بينما نرى أنَّ كلَّ المنشقّين عن الإخوان أو المنشئين لجماعاتٍ جديدةٍ بمصر في السبعينيات، كلّهم من السلفيين. والرسائل التي ألَّفوها، والتي يشرحون فيها آراءهم، سواء لجهـة خلافهم مع الغرب والحكومة المصرية، أو للخلافات فيما بينهم، تلجأُ كلُّها للحجاج العقدي في قضايا التوحيد والشرك، والولاء والبراء، والشفاعة والتوسُّل، والقوانين الوضعية في مواجهة الشـريعة، والموقف مـن الانتـخـابـات والديمقراطيـة... إلخ.
ولا يعني هذا أنّ المصريين ما عرفوا السلفية قبل ذهابهم إلى السعودية، أو قبل بدء ورود السعوديين عليهم، في الثلاثينيات وما بعدها. لقد عرفوا ابن تيمية من طريق الهنود السلفيين الذين كانوا يمرون بمصر ويقيمون فيها بعض الوقت في سفرهم للحج والزيارة، كما كانوا يطبعون بعضَ كتبهم وكتب ابن تيمية وابن القيّم بالقاهرة. ويريد كومنز في دراسةٍ له عن الحركات الإصلاحية في مطلع القرن العشرين، ملاحظة لقاءٍ بين الإصلاحيين والسلفيين الشباب الشاميين، والذي انبثقت منه فكرة القومية العربية (!). لكنْ بمصر كما بالشام بقي السلفيون قلةً أقرب للطُرفة في عدائها المُبالَغ فيه لشيوخ الصوفية، ولزوار القبور، وللذين لا يشمّرون ثيابهم، ويربّون لِحاهم ويُعْفون شواربهم بالطرائق الصحيحة. ويقال إنّ شيوخَ السلفية التقليديين ما كانوا شديدي الحماس لتوجهات الإخوان العَقَديـة (أو عدم وجود توجهات لهم في الحقيقة) في الوقت الذي كان فيه الإخوان يرون أولويةً للموضوعات الصراعية السياسية مع الأنظمة التقدمية وحلفائها، وهو أمرٌ وافق السلطات آنذاك، فما اهتمت لتوجُّس شيوخ السلفية المتشككين في هذا التسييس الشديد للدين، وإهمال التربية السلفية.
على أنّ تسيُّس الإخوان، والسلفية العقدية، التقيا في الستينيات، فخرج ذلك المزيج الذي ينعكسُ فيه التشدُّدُ العقديُّ تشددًا سياسيًا. وقد بدا هذا التسيُّس لدى الشباب الخليجي السلفي بأجلى مظاهره في حرب أفغانستان، عندما كان المصريون والسعوديون هما الطرفان الرئيسان، سواءً لجهة العدد، أو للقيادة التنظيمية. لكنْ ليس من السهل تعليل تحول الإخوان إلى السلفية بذهابهم إلى المملكة أو دول الخليج. فقد تنبهْتُ منذ زُرتُ اليمن للمرة الاُولى عام 1980، إلى أن درّستُ بجامعة صنعاء (1988-1991) أنّ السلفية المتشددة منتشرةٌ ليس في صفوف الإخوان فقط، بل في صفوف جماعاتٍ أُخرى متشددة تشكُّ في طهورية الإخوان! وعندما طردت إسرائيل مئاتٍ من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" إلى "مرج الزهور" بجنوب لبنان عام 1994، زرتُهم مرارًا، ولاحظتُ أنَّ أكثرهم سلفيون في العقيدة. وكذا أوساط واسعة من الإسلاميين (إخوانًا وغير إخوان) في الأردن وسورية ولبنان. فيبدو لي أنّ جاذبية السلفية لا تعودُ لارتباطها بصعود المملكة في السياسات العربية، وفي القدرات المادية، وحسب؛ بل لاتّباعيتها الشديدة، وقطعياتها المُريحة، وتضاؤل القلق الذي يُحدثُهُ التشدُّد المُرادُ به إرضاء الله.
ولنتذكر أنّ أكثر جمهور الحركات وبعض قادتها، ليسوا من ذوي الثقافة الفقهية؛ ولذلك تؤثّر فيهم ظواهر الآيات القرآنية التي لا تؤهّلهم ثقافتهم لتأويلها أو البحث عن ذلك. فضلاً عن أنّ التشدد والظواهرية مزاجٌ أكثر مما هو علم؛ ولذلك تجتذب الشباب ذوي العقلية التقنية، وليس أولئك الذين يميلون للجدال والسؤال، وأولئك الوادعين والمحبين للسلامة والحياة. والمتديـنون فيهم هذه الفئات كلّها. وقد كنتُ أسالُ شيخنا محمد خليل هراس، أستاذ علم الكلام (كان هو يسميه علم أصول الدين أو التوحيد) بالأزهر -وهو أولُ سلفيٍ عرفتُه، فعرّفني بابن تيمية- لماذا هذا الانشغال الشديد بمسائل مشكلة أو بسيطة في العقيدة، والتي تفرّقُ الكلمة، في حين عندنا قضايـا كثيرة مهمة؟ وكان يردد مرارًا بهدوء: تريدني أن أُقاتل بفلسطين، ولا فوزَ ولا شهادةَ إلاّ بالعقيدة الصحيحة، والذين يقاتلون الآن إنما يقاتلون في فتنة، وقتيل الفتنة ضائع! وهو الجواب نفسه تقريبًا الذي أعطاني إياه الشيخ عبد الله عزام، رائد الجهاد الأفغاني، بعد عشرين عامًا من جواب الهراس، عندما سألتُهُ في خريف عام 1988 بمسجد الجامعة بصنعاء: كيف تقول إنّ أفغانسْتان هي أرض الجهاد الوحيد اليوم! فأجاب مستنكرًا: وهل تـريدني أن أُقاتل مع الشيوعيين والعلمانيين والملحدين في فلسطين؟! ولذا فبالإضافة إلى المزاج المتشدد، يكون علينا أن نقدّر تمامًا عمق تأثير التجربة الأفغانية على الذين خاضوها. فقد شعروا بالاستقلالية، وبأنهم قادرون على اتخاذ قرارٍ وتنفيذه، وبأن القضية التي يقاتلون من أجلها صحيحة تمامًا. فإذا أضفنا انسداد الأفُق في وعـي هؤلاء (وهو واقعٌ لدى الكثيرين الذين عانوا من حصارات متعددة)؛ لا يكونُ صعبًا فهم ما حدث لهم، وأين كانوا، ثم أين صاروا.
رابع عشر: أين صار المشروع الإصلاحي الإسلامي في عصر الأصولية وبن لادن؟
أين صار المشروع الإصلاحي الإسلامي في عصر الإحيائية الإسلامية المتشددة، وفي عصر الأصولية، وبن لادن؟
كلُّ الإحيائيين يقولون بالاجتهاد، وعلى هذا الأساس يرسمون مشاريعهم أو مشروعهم الجديد. بيد أنّ منهجهم لا يترك غير مساحةٍ محدودةٍ للاجتهاد والتجديد. فالمنهج هو منهجُ التأصيل. ويعني ذلك العودة المباشرة للقرآن والسنة. وتتجاوزُ تلك العودة المذاهب الفقهية التقليدية طبعًا، كما تتجاوز القراءات القديمة والتقليدية للنصّ القرآني، ولنصوص السنة. وإذا عرفنا أنّ أكثر الإسلاميين ليسوا من ذوي الثقافة الدينية العميقة أو أنهم لم يتأسَّسوا فيها، يظهرُ لنا أنَّ الخروجَ على التقاليد الفقهية أو التفسيرية ما كان حريًا به أن يُنتج الكثير البناء، بل ربما أدى إلى عكس المُراد من الرجوع إلى تلك التقاليد. ثم إنّ الإحيائيين والأصوليين عقائديون. والعقائدية -كما هو فكر الهوية- تعني إصغاءً لحروف النص، وليس لمقاصده. فحتى أولئك الذين عرفوا منهم (أي من الثوار السلفيين في السبعينيات من القرن الماضي وما بعد) آليات عمل الفقهاء، وتدرج الأحكام على خمس مراتب بين الحلّ والحُرْمة، ما كانت عقائديتهم تمكّنُهُم من الأخذ بالكراهة أو بالاستحسان أو بالإباحة إذ كانت العقائدية تقولُ لهم إنّ ذلك كلَّه يُعتبر مساوماتٍ وتسْوياتٍ على حساب دين الله وشرعه.
ويمكن مراقبةُ ذلك في مبحثين أساسيين لديهم، أو في المبحثين الأساسيين في الحقيقة: مبحث الإيمان والكفر، ومبحث الجهاد. في المبحث الأول، ما احتاج الأمر إلى التطعيم السَلَفي، للوصول إلى التكفير. فنظرية أو رؤية الحاكمية بحدّ ذاتها والمستندة إلى آيات الحكم، المنزوعة من سياقها (وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة:44)، والتي اشترك في إنتاجها المودودي وسيد قطب، كفت لدى الكثيرين في الستينيات والسبعينيات للقول بجاهلية القرن العشرين، وضلال أكثر المسلمين وسط حنادس تلك الجاهلية الجهلاء. فالعقائدية الإحيائية لا تعرفُ غير الأبيض والأسود، والطهورية الشديدة، والتي لا يمكن الوصولُ إليها تقريبا؛ كلُّ ذلك لا يسمحُ حتى لدى الذين يعرفون فقه القرآن والسنة، باللجوء إلى التأويل، أو الاستعانة بآليات التعارُض والترجيح.
وإذا وجدْنا عذرًا لسيد قطب في عذاباته في السجن، وفي توجهه الأدبي البياني؛ فلا عذرَ لمحمد قطب، ولا لثوار السبعينيات، ولا حتى ليوسف القرضاوي في الستينيات وليس الآن، للقول بالحاكمية أو بالحلّ الإسلامي. إذ إنّ كلتا الرؤيتين تغيّب جماعة المسلمين أو تلغيها، حي لدى أولئك الذين لا يقولون بكفر المجتمعات الإسلامية، بل غفلتها. ويتبدى ذلك في مسألتين مهمتين، إحداهما فقهية، والأخرى عَقدية. المسألة العقدية تتمثّل في ذهاب سائر الإحيائيين (حتى المعتدل منهم) إلى أنّ أصل المشروعية في الإسلام يقوم على الشريعة، وليس على الجماعة.
وقد رأى الفقهاءُ المسلمون قديمًا أنّ الجماعة المعصومة التي تحتضن الشريعة هي الأصلُ في المشروعية. فقد آمنت بدين الله، وهي تعيشُه، ويعصمُها إجماعُها من الضلال، بل من الخطأ والخلط الكبيرين، من دون أن يشمل ذلك أفرادها طبعًا. أما القول بأنَّ الشريعة هي أصل المشروعية، فهذا يعني وضعَها خارج الجماعة، وارتهان جماعة المسلمين لحاكمٍ أو قلةٍ تزعم أنَّ الشريعة بيدها. وأحسبُ أنّ هذا كان السبب في الخلاف الكبير بين الخليفة المأمون، والإمام أحمد ورفاقه. فقد اعتقد الخليفةُ انَّ القرآن بيده باعتباره "خليفة الله"، وأنه يستطيع فرض تأويلٍ معيَّنٍ للقرآن وطبيعته (مخلوق أو غير مخلوق). وليس هذا المجال باللائق للتفصيل في آثار ذلك كلِّه، وفي تعليل لجوء الفقهاء والأصوليين إلى الإجماع باعتباره السلطة الحامية (رمزيًا ونظريًا للدين ولبقاء الجماعة التي تحتضنُ شرعَ الله). أما المسألة الفقهية فتتمثل في الاختلاف حول مفهوم الشريعة أو الأحكام الشرعية، وهل هي بمقاصدها أم بعللها؟ فقد اعتقد أكثر الفقهاء المبكّرين أنّ الإشكال ينحلُّ بالقول إنّ الأمر مشتركٌ بين العلل والمقاصد. وكان أن وصل فقه العِلَل إلى أُفُقٍ مسدود. ليس لأنّ الأحكام غير معروفة العلل أحيانًا؛ بل لتحرج كثيرين من العلماء في اللجوء إلى الاجتهاد المطلق عند عدم الوصول إلى العلل، وبالتالي صعوبة استخدام القياس أو استحالته، أو تحرجهم في توسيع منطقة الفراغ التشريعي التي تُعطي الاجتهاد أفقًا كبيرًا في ظلّ أوليات الشريعة وليس خارجها أو بسبب محدوديتها! والواقع أنّ فقه المصالح أو فقه المقاصد، جرى استكشافُهُ وتطويره من جانب المالكية والحنابلة بالذات، والذين كانوا الأكثر اعتبارًا لظواهر النصوص. قال المالكية بالمصالح المرسلة باعتبارها أصلاً فرعيًا أولاً. وقال الحنابلة بفقه المصالح من ضمن تحقيق المناط في مباحث العلة. وقد تبعهم في ذلك الشافعية (ابتداءً بالقرن الخامس) لأنّ الإمام الشافعيَّ ضيَّقَ المسألة من قبل عندما ردَّ على الأحناف بسبب أخذهم بالاستحسان. وبعد القرن السادس الهجري صـار فقه المقاصد شاملاً لدى كل الذين ظلوا يقولون بالاجتهاد، ويحملون على التقليد الذي استعلت دعوته بعد استتباب المذاهب الفقهية، واعتقاد كفايتها واستغنائها عن التجديـد والتغيير. وإلى فقه المصالح والمقاصد لجأ الإصلاحيون المسلمون منذ أواخر القرن التاسع عشر استنادًا إلى نصوص ابن قيم الجوزية (الحنبلي) ثم الشاطبي (المالكي، صاحب الموافقات).
هذه هي المسألة الأولى، مسألة مرجعية الشريعة مفصولةً عن الجماعة. والتي أدت إلى التكفير لدى الإسلاميين المتشددين، والتي بدت في رؤية الحاكمية في الستينيات والسبعينيات. أما المسألة الثانية، مسألة الجهاد فهي مترتبةٌ على المسألة الأولى إلى حدٍ ما. فالجهاد حسبما فهمه فقهاء المذاهب من القرآن، ومن مسالك تجربة جماعة المسلمين ودولتهم في عالم القرنين السابع والثامن للميلاد، علتُهُ العدوان (من جانب الأُمم الأخرى) أو خوفُه. فهو يُستخدمُ إذا احتل الآخرون أرضًا من أراضي المسلمين أو كان هناك تهديدٌ بذلك. وحتى الجهاد الابتدائي (الذي ما كان عليه اتفاق) إنما هو ضد الخارج أو لكسر شوكته. أمّا الإسلاميون المعاصرون، والذين ألغَوا عصمة الجماعة، أو مرجعيتها، فقد عمموا الجهاد ليصبح ضد الجمـيع، باعتبار أنّ الجماعة ما عادت قائمة. وتتضح خطورةُ ذلك من جهتين: الحرب الدائمة من جهة، واستئثار قلة بالسلطة أو بالحقّ في الإمـساك بزمام الشريعة، والجهاد، حتى في مواجهة أولئك الذين كانوا يُعتبرون مسلمين، أو معصومي الدم بالنطق بالشهادتين.
إنّ انتهاء مرجعية الجماعة يعني أنها صارت مقصودةً بالدعوة مثلها في ذلك مثل الخارج غير المسلم. إذ إنه حتى عندما يقال إنّ الحكومة هي الضالة، وليس الناس، لا تعود هناك تفرقةً أصلية، تحولُ دون مقاتلة الناس باسم الشريعة، لأنه لا مرجعيةَ لهم، ولا ضمان لعدم شمول الضلال والإضلال لهم أيضًا. إنّ الإسلام الإحيائي والأصوليَ، إسلام جديدٌ تمامًا. هو إسلام موضوعٌ بيد القلة من الفتيان "الذين زدناهم هدى" كما فهم سيد قطب، من النص الوارد في سورة الكهف. وهو أمرٌ مُرعبٌ ليس للذين يشنون الحرب على الإرهاب اليوم وحسْب؛ بل بالدرجة الأولى مرعبٌ لكل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مسلمين، يريدون العيش العاديَّ ضمن جماعتهم، وضمن هذا العالم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:26 pm

خامس عشر: من كان يظن أن شعبة من شُعب الأصولية ستكون السبب في صيرورة الإسلام مشكلة عالمية؟
قد لا يجـوز الحكم على الإحيائيـة الإسلامية بما أدت إليه، أو بما حدث في 11/9/2001. وأقصد بذلك أنّ الناظر لما كان يحدث في الثمانينيات، ما كان يظن أنّ شعبةً من شُعب الأصولية الإسلامية ستكون السبب في صيرورة الإسلام مشكلةً عالمية. ولا شكَّ أنَّ التطورات العَقَدية والقتالية (الساحة الأفغانية) ليست كافيةً لتعليل ما حدث، أو لفهمه بشكلٍ كامل. ففي الثمانينيات من القرن الماضي حدث تمايُزٌ واضحٌ بين التيار الرئيس في الحركات الإسلامية، وبين الأصوليين المتشدديـن. فقد نبذ التيار الرئيس العنف بشكلٍ كامل، وانصرف في مصر وغيرها لمحاولة الدخول في الحياة السياسية، والمشاركة في سائر العمليات الانتخابية وغيرها. وليس بالوسع الحديث عن خروجٍ من الفكر الإحيائي أو فكر الهوية.
لكنّ الحسم في مسألة العنف أمرٌ شديد الأهمية، حتى لو لم تُظهر الأنظمة العربية والإسلامية تقديرًا له، أو أنها في الأعمّ الأغلب لم تغيّر من سلوكها تجاه تلك الحركات، لجهة السماح لها بتكوين أحزاب سياسية مشروعة، أو الكف عن ملاحقة أعضاء تلك الحركات، باعتبار أنهم يقومون بنشاطات لا يوافق عليها القانون. فمَثَلاً أعلنت السلطات المصرية أنها لن تسمح للإخوان المسلمين بتشكيل حزب سياسي، لأنّ الدستور لا يُقِرُّ إنشاء أحزاب على أساس ديني. وكما سبق القول فإنّ نبذ العنف من جانب التيار الرئيس، يعني أنّ هؤلاء لا يقولون بجواز القتال داخل المجتمعات "الإسلامية" من أجل الوصول للسلطة، أو بالأحرى أنهم لا يكفّرون المجتمعات ولا الأنظمة، التي يرغبون في التفاوُض معها، وفي المشاركة في الحياة السياسية المحدودة إن أمكن. على أنّ هذا "الترشيد" أو "ترشيد الصحوة" ما ترك تأثيرًا كافيًا على المتشددين، بحيث يعيدون النظر في أطروحاتهم وسلوكياتهم. إذ إنهم في ذلك الوقت (1985-1995) كانوا منهمكين في النضال على عدة ساحات: في أفغانستان والجزائر والشيشان والبوسنة وألبانيا، مع نشاطٍ متزايدٍ في الجمهوريات الإسلامية، بآسيا الوسطى والقوقاز، والتي كانت حركتها الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي المتهاوي تتسارعُ دونما تغييرٍ كبيرٍ في البنية الداخلية؛ بل في العلاقات الدولية.
ولهذا يمكن القول بأنَّ الأوضاع المضطربة الناجمة عن ضعف الاتحاد السوفياتي ثم انهياره، أحدثت حالةً ثوريةً في جميع أنحاء العالم؛ لكنْ في البلدان الإسلامية بآسيا على الخصوص، حيث برزت الأطراف الإسلامية المتشددة باعتبارها العنصر الرئيس المستفيد من حالة الفوضى والقلق وعدم الوضوح والتأكد والتي سادت حوالي السبع السنوات بين 1988 (بدءًا بخروج السوفيات من أفغانستان)، و1995 (عندما بدأت محاكمة الشيخ عمر عبد الرحمن في المحاولة الأولى لتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك). لقد شجعت الحالة الأفغانية والتطورات العقدية، واستمرار المواجهات، على ظهور ما عُرف فيما بعد بالجهاديين والقاعدة وأخيرًا السَلَفية الجهادية. فالأجواء النضالية، واحتمالات الانتصار، جعلت هذا الفكر يعتبر أنه ينجح ، وأنّ هذا النجاح دليلٌ على الصحة.
والحركيةُ النضالية المتشددة لدى التنظيمات الصغيرة، توازتْ معها حركيةٌ أخرى، كما سبق القول، لدى التيار الرئيس، باتجاه البعد عن العنف، وإرادة المشاركة، والنظر الفكري المستجدّ في المنطلقات والآثار. لكنّ حركة المراجعة هذه ما بلغت شأوًا بعيدًا. بسبب فكر الهوية القوي من جهة، وبسبب عدم التجدد أشخاصًا وتوجهاتٍ لدى التيار الرئيس، وقبل ذلك وبعده بسبب الأجواء المقبضة داخليًا وخارجيًا. فالإقبالُ على الاعتدال ما لاقى استجابةً كبيرةً من جانب السلطات، والتيارات الثقافية السائدة.
ثم إنّ الولايات المتحدة الأمريكية ازدادات صَلَفًا وعتوًا للانتصارية الظاهرة بالفوز على السوفيات. وكان من سوء الطالع قيام صدام حسين وقتَها بغزو الكويت، بعد الاستنزاف الهائل الذي أحدثه غزوه لإيران من قبل. وكان الحضور الأمريكي الذي بقي قويًا بعد تحرير الكويت، إشارةً إلى الموقع المهيمن للأمريكيين في "النظام العالمي الجديد" من جهة، وإلى أنّ الصدام بين الإسلاميين والأمريكيين حاصلٌ وحتميٌّ من جهةٍ ثانية. وهكذا انهمك الطرفان، المعتدلون والمتشددون، في مصارعة الولايات المتحدة. المعتدلون بالدخول في جداليات النظام العالمي، والعولمة، وصدام الحضارات، والرد على الخصومة المستشرية للإسلام، والمتطرفون بالكفاح المسلّح في ساحات القتال، وبالسيارات المفخخة ضد السفارات والمصالح وبالانتحاريين في كل مكان.
والواقعُ أنّ انسداد الأنظمة أمام الإسلاميين، وهجمة الغرب والولايات المتحدة عليهم باعتبارهم إرهابيين أو في الحدّ الأدنى أُصوليين، أسقط حتى لدى التيار الرئيس كلَّ رغبةٍ في الإصلاح والتجديد. فقد أعلن الإخوان المسلمون عام 1994 وثيقةً إصلاحيةً متميزةً، ثم ما لبثوا أن تخلَّوا عنها، بحجة أنَّ أحدًا لم يستجب لها. بالإضافة إلى أنّ الجمهور العامَّ الذي كان يصوِّتُ للإسلاميين، كلما أُتيحت له الفرصة، ما أبدى حرصًا قويًا على التحول والتغيير، أو أنَّ الأنظمة ما شعرت بضغوطٍ كافيةٍ من جانب الجمهور، من أجل التغيير.
والطريف أنّ الأمريكيين كانوا يطالبون الأنظمة العربية بالتوجه نحو التغيير الديمقراطي منذ أواسط الثمانينيات. ثم تراجعوا عن ذلك بين عامي 1994 و1995. ودأَبت الأنظمة منذ ذلك الحين على الشماتة بهم بالقول: لقد قلنا لكم إنّ هؤلاء غير مأموني الجانب! وقد كانت هناك فورةٌ جديدة ومطالبةٌ بالتغيير من جانب الأمريكيين قبل 11/9 وغزو العراق. وازدادت تلك المطالبة، وصارت من مبررات الغزو والهيمنة. لكنّ الأمريكيين يعودون من جديدٍ بالتدريج لدعم الأنظمة القائمة، باعتبار أنَّ الإسلاميين، معتدلين أو متطرفين، سيكونون هم البديل في حالة حصول تغييرٍ سياسي، وهذا أمرٌ ما عاد الأمريكيون يقبلونه بعد 11/9. هناك إذن مأزقٌ فكريٌّ وثقافيٌّ يتمثل في تعملق فكر الهوية، وتراجع الأطروحات الإصلاحية والمنفتحة.
وهناك الانسداد السياسي القاتل. وهناك الهجمة الأمريكية الشرسة. وهناك التطرف الذي يتنامى ويتلذذ بالبلاد معتنقوه، كالقط الذي يلحس المبـرد. وبين هذا وذاك وذلك، تنتشر حيرةٌ هائلةٌ بين الجمهور، تدفع على الانكماش، وتستجرُّ المعاناة؛ فيتقوقع الناس قابضين على الجمر بين الأسى واليأس والتحدي.
سادس عشر: المفكرون المسلمون اعتقدوا أن علة انحطاطهم وضعفهم تكمن في انهيار مشروع الدولة الإسلامية
المفكرون المسلمون اعتقدوا أن علة العلل في انحطاطهم وضعفهم إنما هي في انهيار مشروع الدولة في عالم الإسلام، وضرورة إحيائه وتجديده. ثم كان هناك من حَسِبَ أنّ التجديد الدينيَّ (فتح باب الاجتهاد، وإطلاق فقه المصالح) يعين على انتصار المشروع الجديد للدولة. ثم قيل إنّ التجديد الديني ضروريٌّ لأنّ التخلُّف له أسبابٌ ذاتيةٌ متعلقة بالأفكار والممارسات الدينية. ثم قيل إنّ كلَّ هذه الأفكار والمحاولات ما أدت إلى تقوية مشروع الدولة؛ فضلاً على أنها تهددت الدين، وتهددت الهوية، وهَدَمَتْ وعي المسلمين بالوحدة. ولذلك فالمطلوب ليس التجديد الدينيّ، بل الحفاظ بالوسائل والطرق الملائمة على الهوية الدينية والثقافية للناس.
ثم قيل إنّ أقوى الأسباب لحفظ الدين، تكون باستيلائه على الدولة، لكي تفرضه سلطةٌ شرعيةٌ على الناس من أجل خيرهم وسعادتهم. والآن ينقسمُ المثقفون والمناضلون إلى فُرقاء. يقول فريقٌ كبيرٌ إنه لا أمل في شيءٍ قريب، والأفضل الانصراف عن محاولة أي تغيير حتى لا يستفيد الخصوم من انكشافنا واعترافنا بالضعف. ويقول فريقٌ آخر إنّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هاجمٌ على الإسلام، ولا بد من الدفاع عن النفس، بالوسائل المتاحة: بيانية وثقافية وبالقوة المسلَّحة، حسب الإمكان في كل حالة. ويقول فريقٌ ثالث إنّ الإصلاح الدينيَّ ضروريٌّ للخروج من المأزق، الذي لا يقتصر على الهجمة الأمريكية؛ بل يتناول أيضًا الاتجاهات الأصولية والمحافظة في الفكر الديني، وفي الممارسة الدينية. ويُسَلِّمُ فريقٌ رابعٌ بأطروحات المصالح وضروراتها؛ لكنه يرى أنّ الإصلاح الدينيَّ عمليةٌ طويلةٌ ومعقَّدةٌ وتتطلب عملاً بعيد المدى وعلى مستويات عدة. بيد أنَّ المطلوب في المدى القصير والمتوسط، ولكي يكون الإصلاح الديني ممكنًا وناجحًا، الانصراف بكل الطُرُق والوسائل للإصلاح السياسي الذي يساعد ولا شكَّ في تسهيل الإصلاح والتجديد في الدين.
والواقع أنّ هذه الأُطروحات جميعًا مُشعرةٌ باليأس الذي يثور المثقفين والعرب والمسلمين، بشكلٍ عام. ولا علّة لذلك إلاّ هذان الأمرين الحاضرَان، واللذين يذكرهما الجميع وفي كل مناسبة: الحملة الأمريكية الشرسة على العرب وبالذات بعد 11/9/2001، وعجز الأنظمة عن التغير والتغيير للخروج من الضعف والاستضعاف. وأضيف هنا سببًا ثالثًا وهو ضعف إرادة التغيير لدى المثقفين والجمهور، بحيث صار الأمريكيون، وصارت الأنظمة، العذر في كل شيء.
إنّ سوء الأوضاع الحالية، لا يعني أنّ شيئًا لم يحدث على الجبهات الدينية والثقافية والسياسية في عقود القرن العشرين. وكان الصحافي والكاتب المعروف غسان تويني قد ذهب في حوارٍ صدر في كتابٍ بالفرنسية قبل ثلاثة أشهر إلى أنّ القرن العشرين قرنٌ ضائعٌ ومأساويٌّ بالنسبة للعرب بالذات، أو كما قال في العنوان: قرنٌ للا شيء! وكيف يمكن الذهابُ لذلك، ونحن نملكُ ثقافةً عربيةً حديثةً واحدة. ونملك لغةً تعصرنت، وصارت بفضل جهود المثقفين قابلةً لمعارف العصر وجهوده وإنجازاته. ونملكُ في الفكر الإسلامي والممارسة الإسلامية إقبالاً على الروح الإسلامية (الصحوة الإسلامية) ما عرفناه منذ حوالي مائتي عامٍ وأكثر. وما يجري في المجال الإسلامي بالذات، مخاضٌ كبير. فقد حدث التحول من الإصلاحية إلى الإحيائية، على خلفية تحطُّم التقليد الإسلامي.
وأنا أرى أنه أُنجزت إنجازاتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، حتى من جانب الإحيائيين. ولسنا الآن بين أحد خيارين، النجاح أو الفشل في المجال الإسلامي؛ بل الأَحرى القول إننا نواجه مشكلاتٍ كبرى، قابلة للحلّ، وإنه لولا الجهود السابقة لما أمكن أن تكونَ لهذه المشكلات حلول. فعلى سوء ما حصل ويحصُل، أرى أنّ هناك أوضاعًا جديدةً الآن، وما عـاد الرجوع للوراء ممكنًا. ولولا الهجمة الأمريكية لأمكن القول إنّ "العنف الإسلاميَّ" سيكونُ وارءنا قريبًا. وهناك في الحقيقة توجهان أساسيان: التوجه الذي يحاولُ تجديد التقليد -والمزاج الإسلامي العام قريبٌ من هذا التوجه- والتوجه الذي لا يرى أملاً في العودة للتقليد ولو بقصد تجديده، أو العودة للإصلاح، بالمعنى الذي عمل له محمد عبده ومدرسته. لقد قلّلتُ في كتاباتي، كلَّ الوقت، من شأن سقوط الخلافة الإسلامية. وما كانت الخلافة عندما ألغاها مصطفى كمال تملك أية قوة. لكنّ الجمهور المسلم كان متمسكًا بمرجعيتها. والواقع أنّ الإسلام السني يُعاني منذ عقودٍ من مسألة غياب المرجعية، ومن تراجع التقليد الإسلامي، الذي ترعاه المؤسسات العريقة مثل الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند. والمرجعيةُ في الإسلام السني بالذات لا تقع على عاتق مؤسسة محدَّدة؛ بل هي روحٌ، كانت تسمَّى الجماعة. وهذا معنى القول إنّ الإحيائيـة جددت هذا الروح وأطلقته من عقاله.
لكنها وهي تفعل ذلك، ضربت التقليد والإصلاح على حدٍ سواء، والمطلوب الآن أن تزولَ الأصولية أو تتراجع لكي لا يفقد هذا العالَم الضخم المنفتح في الأصل حيويته الجامعة، والإمكانيات الكبرى التي يمتلكها للسلام مع النفس والعالم.
وفي هذا السياق بالذات تأتي مسألةُ الدولة. فالدولةُ الحقيقية مطلوبةٌ الآن، ليس من أجل تطبيق الشريعة -كما يزعُمُ الأصوليون- بل من أجل إدارة الشأن العامّ وتدبيره. أمّا الشريعة فإنها ما كانت في يومٍ مطبَّقة كما هي مطبقةٌ الآن، من خلال هذه الروح الشعائريه والاجتماعية والثقافية. الدولة مطلوبةٌ لتدبير الشأن العام بما يصون الوجودَ والمصالح. وباستقامة مشروع الدولة في عالم الإسلام، أو اتجاهه للانتظام، تتغير بالتأكيد وظائف المشروع الإسلامي وتوظيفاته. ذلك أنّ الخوفَ على الهوية ناجمٌ عن ضعف مشروع الدولة أو قلة نجاحه، واعتقاد الإسلاميين أنهم يستطيعون بالاستيلاء على الدولة إنجاح المشروع، لاستناده آنذاك إلى الشريعة المعصومة.
بيد أنّ الباقي من الإصلاحية الإسلامية (وهو ما لم يستطع المودودي تبديده) أنّ السلطة مدنيةٌ في الإسلام، وأنَّ الجماعة هي التي تتولى الأمر من خلال الممثلين الذين تختارهم. وأنا على بينةٍ من تهافُت مشروع مهاتير محمد للإصلاح الإسلامي. لكنّ مهاتير أقام دولةً ناجحةً في الاقتصاد والسياسة، فتراجعت الأصولية بماليزيا إلى حدود الـ 7% من أصوات الناخبين. ولو فشلت التجربة، لكان الأصوليون عند حدود الـ 30% من الناخبين. ومع الهجمة الأمريكية، ربما يزداد عددهم إلى ما فوق الـ 40% من المقترعين. ومن أجل ذلك بدأ الأمريكيون يفكرون بالتخلي عن الانتخابات والاقتراعات! وليس المقصود من هذا الحديث عن الدولة، تبرير فشل المثقفين المسلمين؛ بل المقصود به وضع الأُمور في نصابها. والنصاب يقتضي العمل على أربع جبهات: جبهة التجديد الديني والفقهي، وجبهة تجديد وإعادة تحديد مرجعية الجماعة وآليات عملها، وجبهة الإصلاح السياسي، وجبهة العلاقة بمعارف العصر والعالم.
هكذا تنتهي سلسلةٌ من الأحاديث المتصلة عن الإصلاح الإسلامي، برسم مخططٍ له وحسْب، بعد أكثر من قرنٍ ورُبع القرن على البدء بالتفكير فيه: فهل هذا فشلٌ أم أمل؟
فيا دارها بالخيف إنّ مزارها       قريبٌ ولكنْ دون ذلك أهوالُ.
 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:26 pm

الإصلاح والتجديد: الأصول والفروع
أ.د. محمد سليم العوَّا ([sup][3])[/sup]
موضوع هذه الورقة هو "الإصلاح والتجديد: الأصول والفروع"، وينبغي أن نقف على معنى كل كلمة من هذه الكلمات الأربع:
فأما الإصلاح: فهو إقامة الشيء أو الأمر على ما يجب أن يكون عليه من حالٍ تغيرت أو فسدت، وأصل الإصلاح في اللغة الإتيان بالخير كله، وعكسه الإفساد؛ لأن الإفساد هو الإتيان بالشر كله؛ فلا يكون إصلاح إلا بعد فساد أو إفساد، ولا يمكن أن يبدأ الأمر بإصلاح لم يسبقه فساد؛ لأن الفطرة التي فطر الله الناس والأكوان والأشياء عليها، وبعث بها الرسل وأنزل بها الكتب، فطرة صالحة، ونحن لا نصلح الصالح؛ إنما تأتي الحاجة إلى الإصلاح إذا فسد بعض هذا الصالح. ويقول المعجميون: (صَلَحَ) و(صَلُحَ) بخلاف (فَسَدَ) ولا يزيدون؛ فتَعلمُ بمجرد التعبير بأنه خلاف فسد أنه شيء جيد حسن، لأن الفاسد شيء قبيح مستهجن، ولذلك جاء في التنزيل المحكم (إنَّ اللهَ لاَ يُصلِحُ عَمَلَ الْمُفسِدِينَ)(يونس:81)، وفي حكاية القرآن الكريم كلامَ موسى لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(الأعراف:142). فالصلاح يأتي في مقابلة الفساد، والإصلاح يأتي في مقابلة الإفساد؛ لأنهما ضدان ونقيضان لا يجتمعان.
 فإذا انتقلنا من الإصلاح إلى التجديد، وجدنا التجديد: هو إعادة الشيء أو الأمر إلى ما كان عليه فعلاً في أصل وجوده قبل أن يصيبه البلى والقِدَم. شيء موجود تغيرت أحواله، شيء قائم لم ينته ولم ينفد ولم يمت، ولم يخرج من حياة الناس، لكن تغيرت به الغِيرُ، وحولت معالِمَهُ الأيام والأفعال، أو شيء يصبح مجهولاً للناس بعد أن كان شائعًا فيهم معروفًا بينهم. فنجد في الحديث الصحيح: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"([sup][4])[/sup]ومعنى التجديد في اللغة هو المعنى الذي استعمله القرآن الكريم في قوله تعالى (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(سبأ:7) وفي قول الكفار مستنكرين إعادة خلقهم كما كانوا (... أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...)(الرعد:5).
فيأتي المجدد أو المصلح فيعيد هذ الشيء إلى ما كان موجودًا عليه في أصل نشأته أو أصل إيجاده أو يعيد العلم به ويجدد العهد بمعالمه العلمية والفكرية والثقافية؛ إما بإحياء العلم به وإما بإعادة الدعوة إلى العمل على أساسه مثل: سلوك ينسى ويهمل، طريقة في الحياة، من الطرائق التي تؤدي إلى صلاح الأمة، تُجتنب، فيأتي المجدد ويحاول أن يحيي هذه الطريقة أو هذا السلوك أو ذلك العلم الذي أصبح قديمًا.
والقديم نوعان: نوع أصابه القدم فقط لكنه لا يزال قائمًا بين أعيننا، ظاهرًا لنا نلمسه ونحسه، ونوع دَرَسَ، كما يقول العرب، يعني خفيت معالمه يحتاج إلى أن نزيل عنه الغبار وتراكم السنين، وأن نعيد إحياءه من أول الأمر، كأنما ننشئه إنشاءً ونبتدعه ابتداعًا. والدخول في هذا الباب هو الذي أدى إلى أن يُرمى كثيرون من المجددين في العالم الإسلامي، على مر التاريخ، بما رموا به من اتهامات، بعضها بالغ الشناعة، كما سنذكر قريبًا.
هذه المنهجية، منهجية الإصلاح ومنهجية التجديد، مضت مع هذه الأمة منذ وفاة نبينا - صل الله عليه وسلم - وهي مستمرة فيها إلى يوم الناس هذا.
والأمة الإسلامية في خلال قرونها، التي نحن في خامس عشرها مضت منه الآن ثلاثون عاما، مرت بأطوار من القوة والرفعة، ومن الضعف والهوان، لأسباب لا مجال لتفصيلها ولا لذكرها، لكن المهم في مسألة الضعف والقوة أن الأمة الإسلامية بعد كل ضعف صارت إلى قوة، لم تمر بمرحلة ضعف تميتها وتفنيها وتقضي عليها وتقطع دابر الدعاة إلى نهضتها.
فكانت حضارة الإسلام ولا تزال حضارة متجددة دائمًا، عائدة أبدا، وكأنها على مر الدهور باقية جذورها في الأرض لا تموت، حافظة عوامل قوتها ونهضتها فهي لا تباد.
ولذلك وصف أحمد أمين -يغفر الله لنا وله- المصلحين والمجددين بعد الاستعمار الغربي بأنهم زعماء الإصلاح الذين "يشعرون بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بهم أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء"([sup][5])[/sup] إلى آخر ما قاله في شأنهم من مديح ثم قال: "وكلٌ قد أبلى بلاءً حسنًا (في خدمة الأمة وخدمة التجديد) ولاقى من العناء ما لا يتحمله إلا أولو العزم، فمنهم من شُرِّد، ومنهم من قتل، ومنهم من رُمي بالخيانة العظمى؛ فمن نادى بالمساواة في العدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتهم بمحاربة الإسلام. ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة (هذا طبعًا في القرن التاسع العشر وأوائل القرن العشرين) أتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد. ومن نادى بتأسيس مجلس شورى أتهم بمحاربة السلطان والحض على الثورة والعبث بالنظام (جمال الدين الأفغانى) ومن نادى بإصلاح العقيدة (محمد عبده) والرجوع بها إلى أصل الدين أتهم بالإلحاد، وهكذا؛ وهم على هذا صابرون مجاهدون؛ أحبوا مبدأهم في الإصلاح أكثر مما أحبوا الحياة".([sup][6])[/sup]
هذا كله حسن، لكن الأحسن منه أنه ينتهي بعد دراسة العشرة المجددين الذين كتب عنهم في كتابه، زعماء الإصلاح إلى قوله: "....ظلت آراؤهم تعمل عملها في حياتهم وبعد موتهم، حتى تحقق إصلاحهم ونفذت أفكارهم وتقدم الشرق على أيديهم خطوات تستحق الإعجاب"،([sup][7])[/sup] وهي باقية إلى زمن لا يعلم إلا الله مداه يستفيد منها المستفيدون، ويبني عليها البناؤون حتى الآن.
هذه المعاناة لأهل الإصلاح وأهل التجديد ليست حادثة، ولا تقتصر على القرن التاسع عشر أو القرن العشرين.
ففي القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، نرى الإمام الغزَّالي يقول: إن العلماء في عصره زعموا أن "العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر"،([sup][8])[/sup] كان هذا الكلام يُقال للإمام الغزالي وأضرابه؛ وفي مقابله كان الإمام الغزالي يقول لمن يلومه على مخالفة العامة ويدعوه لمهادنتهم: "واحتقرْ من لم يُحسَدْ ولا يُقْذَفْ، واستصْغِرْ من بالكفرِ أو الضلالِ لا يُعرَف. فأي داعٍ (يقصد داعية إلى الحق) أكملُ وأعقلُ من سيد المرسلين - صل الله عليه وسلم -؟ وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين!! وأيُّ كلامٍ أجلُّ وأصدقُ من كلام رب العالمين؟ وقد قالوا إنه أساطير الأولين!!....".([sup][9])[/sup]
هذه هي حال الإصلاح والمصلحين والتجديد والمجددين على مر العصور والقرون، لا تجد مصلحًا أو مجددًا أفلت من الاتهامات والانتقادات التي يوجهها إليه الناس بالباطل، في أكثر الأحيان، وبالصواب أو الحق في أقلها. وهذا الصواب والحق، الذي يرمى به المجتهد والمجدد، لا يقلل من شأنه؛ فإن أحسنَ الناس حظًا في هذه الدنيا هو الذي تُعَدُّ معايبه؛ لأن الذي له حسنات كثيرة تُغمرُ في بحرها سيئاته وسقطاتُ فكرِه وقلمِه ولسانِه، وهو كله مما يحسب له، لا مما يحسب عليه، فالعيب فيمن يرمونهم وليس فيهم.
هذا الإصلاح وذلك التجديد، هل يجوز في الفروع والأصول على السواء أم هو مقتصر على الفروع دون الأصول؟
نلاحظ أولاً أن العلماء الذين يمارسون الإصلاح والتجديد، على إخلاصهم الشديد وصدق توجههم وحسن نيتهم، يحرصون على أن يقولوا -لئلا يستثيروا مشاعر الجمهور- إنهم يجددون في الفروع لا في الأصول، وإنهم يمارسون التجديد في المتغيرات لا في الثوابت، وإنهم لا يقتربون من الأشياء التي ثبت أصلها بنص في القرآن الكريم أو السنة النبوية، إنما هم يؤدون دورهم في مواطن الاجتهاد التي يجوز لهم فيها أن يُعملوا رأيهم طلبًا للمصالح ودرءًا للمفاسد.
وهذا الحرص، على إعلان أنهم يعملون في المتغيرات دون الثوابت، ليس إلا نتيجة الخوف من أن يرموا بالخروج على أصول الإسلام إذا تكلموا عن تجديد فيما يعتبره الناس أصولاً، أو أن يرموا بالتحجر والجمود إذا لم يقولوا بالإصلاح والتجديد وهم مؤمنون به، فوازنوا بين الحالين وقدروا الضررين فاختاروا أقلهما، وهو أن يخفوا حقيقة الإصلاح الذي يقومون به، وحقيقة التجديد الذي يدعون إليه، وجوهر الفكر الذي يحملون الناس عليه بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والقلم والكلمة الطيبة.
فالمجددون ليس أمامهم إلا الاستتار بستار هذا التفريق بين الأصول والفروع، وبين الثوابت والمتغيرات. وهوستار شديد الرقة، وشعرة المجددين والمجتهدين، في تعاملهم مع الأمة وأهل الفكر فيها ومع خصومهم من أصحاب المدارس والاتجاهات الأخرى، شعرة أدق من شعرة معاوية، وغلالتهم التي تسمى التفريق بين الثوابت والمتغيرات والأصول والفروع غلالة بالغة الرقة. وقد زاد من حمل المجددين والمجتهدين على هذا الصنيع ظهور أولئك الذين ينادون بما يسمى العلمانية واليسارية والإلحاد، وحرصهم على هدم الدين، أصوله وفروعه، ومظاهره وجوهره كله، لا يتركون فيه قائمًا على ساق إلا ويبترونه.([sup][10])[/sup] فكان رد فعل المجددين والمصلحين، أو الإصلاحيين الإسلاميين، أن يقولوا نحن لا نقترب من الأصول إنما نريد إبقاءها كما هي، على النحو الذي ورثناها عليه، وإنما نتعامل مع الفروع لنصلح شأن الناس فيها ونقربهم للأصل التي كانوا عليه في الحال الأولى للإسلام. وأدَّى هذا المنهج دوره في انصراف الناس عن دعاوى خصوم الإسلام التي رأوها تنال من أصوله وثوابته لتصرف الناس عنها، في الوقت الذي يسعى دعاة الإصلاح الديني الصادقون إلى عودة الناس إلى أصول دينهم وإلى العمل بما تُرِك من أحكامه وتعاليمه في الأصول والفروع على سواء.
والمفرقون بين الأصول والفروع والثوابت والمتغيرات، فيما يتعلق بالتجديد والاجتهاد، جعلوا الثوابت هي: العقائد وما جرى مجراها من الأحكام المترتبة عليها، وأصول الفقه التي قالوا تبعًا للشاطبي، رحمه الله، إنها قطعية، وأصول الدين -أصول الإسلام الخمسة وأصول الإيمان الستة- التي لا يتم الإيمان عند المسلمين إلا بها.
ولكن للأمة ثوابت ثقافية تقوم عليها هويتها ويستمر بها وجودها، وفي الثقافة فروع تختلف فيها الأنظار وتتباين الآراء. وموقفنا في التجديد الثقافي كموقفنا في التجديد الديني. الثوابت المكونة للهوية والكيان، للمواطنة والعروبة والإسلام، للشخصية الوطنية في كل إقليم من الأقاليم التي تسكنها شعوب الأمة، هذه الثوابت لا مساس بها، ولكنها ليست وحدها التي تمثل المشكلة الثقافية بل المشكلة الحقيقية هي فيما استجد على حياتنا -ويستجد دائمًا- من قيم ثقافية نستمسك ببعضها ونقف ضد بعضها الآخر.
من ثوابتنا الثقافية اليوم أننا لانُطَبِّعُ مع العدو الصهيوني ولا نقبل أن يُطبَّعَ معه، ولا نرضى لأحد من المطبعين أن يصبح في زمرة القادة الوطنيين أو المفكرين المؤثرين، نهاجمه ونقاومه وننفر الناس منه وعنه؛ لأن التطبيع يذهب بنا كلنا. ولا يجوز أن نقبل من أحد أن يكون مطبعًا. هذا ثابت ثقافي جدَّ علينا لم يكن ذلك عندنا قبل اتفاقية السلام(!) مع العدو الصهيوني، وقبل ذلك لم نكن نعرف التطبيع أصلاً.
جد علينا هذا الثابت الثقافي، فأصبحت مقاومة التطبيع صورة من صور المقاومة الواجبة ضد العدو الصهيوني، لا تجوز فيه المهادنة ولا تصح عنه الغفلة ولو في لحظات عابرة، ولنا في أخينا الحبيب العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين -رحمة الله عليه- قدوة فقد حكى لي أنه تصادف وجود حاخام إسرائيلي في إحدى قاعات مطار، كان مسافرًا عن طريقه، فترك القاعة كلها إلى قاعة أخرى، فقلت له: لماذا؟ ماذا سيفعل لك؟ قال: يُسلِّم عليِّ فإذا سلمت عليه بلحيتي وأنا مرتدٍ عمامة، فإن مجرد سلامي عليه يعطيه مشروعية الوجود في بلادنا.
وأنا على هذا المنهج.
للأمة أيضًا ثوابت تشريعية كلية تتصل بمبادئ التشريع نفسه كالعدل، والمساواة، وورود الدليل على الدعوى وغيرها. وثوابت تشريعية جزئية تتصل ببعض الأحكام التفصيلية كعقوبة السارق والزاني والقاذف وكأحكام الميراث والزواج ونحوها.
فهل يمتنع في كل الأصول كل تجديد وإصلاح؟ وهل يجوز في كل الفروع كل تجديد وإصلاح؟
أم أن بعض الفروع لا تحتمل هذا، وبعض الأصول تحتمله، أو يجب علينا نحن أن نقوم به في شأنها؟
الحديث عن الثوابت، وهي التي يقال لها الأصول، هو حديث عن مواضع الاتفاق والإجماع وعن نصوص قطعية الورود لا تحتمل صحة وصولها إلينا -وليس صحة معانيها- خلافًا. فصحة المعاني لا يتوقف، ولن يتوقف الخلاف فيها إلى يوم القيامة مادام للناس عقول. أما صحة النقل فالخلاف فيها بالنسبة للقرآن معدوم، وبالنسبة إلى السنة محدود.
والحديث عن المتغيرات أو الفروع هو حديث عن مواضع الاجتهاد وموارده التي لا يجوز التضييق فيها على المجتهد. هل يستطيع أحد أن يقول إن تلك المواضع محلها هو الفروع دون الأصول؟
ألـم يجتهد النـاس في العقائد؟! ألـم يجتهدوا في الذات والصفات؟! ألـم يجتهدوا في الأسماء (أســماء الله)؟! ألم يجتهدو في الفعل والتأثير فيه، أهو كسبي أم جبري؟! كل ذلك كان، وهو كائن، فالعلماء لا يزالون مجتهدين ومختلفين في هذه المسـائل ونظائرها حتى اليوم. وفي مقدمة كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" للإمام الغزالي يجد القارئ قدرًا هائلاً من ذكر مواقف هي خلافات أصلية بين كبار علماء المسلمين في مسائل لا يُخرج بها أحد من الملة أحدًا، على الرغم من أنها ثوابت مما يقال لنــا إنــه لا يجـوز الاختـلاف فيها. وأضرب على ذلك مثلاً واحدًا: تكلم الغزَّالي في الإجماع وتعريفه الأصولي الذي نعرِفُه ثم قال: ..ثــم خالف النَظَّام فلم يعد الإجماع من محالِّ الإجماع..([sup][11])[/sup] والنَظَّام شخص واحد أنكر الإجماع والعلماء كلهم، أو جُلُّهم، يلومونه، وينتقدونه نقدًا قاسيًا، وبعضهم يكفره، لأنه منكر للإجماع. والغزَّالي نفسه في كـتـاب المسـتصفى يرد عليه ردًا طويلاً مفصلاً في هذه المسألة، لكنه في بـاب حرية الفكر يعتبر رأيـه كافيًا ليصبح الإجماع من مواضع الخلاف.([sup][12])[/sup]
إذن هذه العقول الكبيرة التي نهضت بالأمة، وأحيت الهمة، وأعملت العقل في النقل حتى توصلت بالإسلام إلى ما وجدناه عليه وورثناه منها، لم تَخَفْ من الاجتهاد في الأصول كما تجتهد في الفروع، اجتهدت في فهم الأصول، وفي مدى تطبيقها، وكيفية إعمالها، وما الذي تغطيه هذه الأصول وما الذي لا تغطيه، فأنتجت، مع الآراء في المسائل، منهجًا متحررًا من قيود التقليد والإذعان للسابقين، حريٌ بكل مَعْنِيّ بالتجديد والإصلاح أن يتأمله ويفيد منه ويبني عليه.
إن المجال الأرحب لهذا الاجتهاد -الذي لا يضيق به- هو المجال الذي نسميه مجال المعاملات؛ ويدخل فيه جميع ما تعرفه البشرية من نظم للحكم وللقضاء والاجتماع والسياسة والإدارة والتجمع الأممي، ومدى ملائمة هذه النظم لظروف العصر أو عدم ملائمتها لها. فالتنظيم الدولي أو المحلي ينبغي أن يتلاءم مع الوضع الاجتماعي والسياسي والبيئي.
إلا أن هناك بعض الأحكام المتعلقة بالحياة الإنسانية تدخل في نطاق الثوابت التي لا تحتمل التبديل، فلا يجوز أن يقول أحد سألغي مؤسسة الزواج، لا يجوز لأحد أن يقول سألغي الشورى -هي ملغاة في معظم البلاد الإسلامية، لكن إلغاءها معصية، وهذه المعصية لا تُحمل على الإسلام ولكن تُحمل على مرتكبيها- لا يجوز لأحد أن يقول سأتولى القضاء مع ولايتي الحكم السياسي؛ لأن ولايته القضاء مع الحكم السياسي مفسدة. كانت هذه الولاية للأمرين معًا جائزة في الزمن القديم، عندما كانت التقوى غالبة، وخوف الجور في الحكم يُقوِّمُ أهواء الرجال، والحرص على الآخرة يكفهم عن اتباع الشهوات؛ أما الآن، وقد ذهبت هذه المعاني عن النفوس أو كادت، فإن الجمع بين الولايتين القضائية والسياسية لا يجوز قطعًا لأنه مفسدة، بل هو مجلبة مفاسد عديدة، لا ريب فيها.
هذه الأحكام، ونظائرها، هي التي لا تحتمل تغييرًا ولا تبديلاً لأن تقريرها تترتب عليه مصالح الناس الدائمة، وهي الأصول التي لا يجوز أن يمسها الإصلاح؛ لكن يجوز أن يمسها التجديد، كلما دَرَسَت نجددها، كلما نُسيت نذكر الناس بها، كلما تركها الناس نحييها في أنفسنا وأنفسهم وممارستنا وممارستهم؛ حتى يرى الناس قدوة ومثالاً لإحيائها. وهي مع ذلك -مع ثباتها وعدم قابليتها للتغيير- تحتمل التأويل والاختلاف وتغيير الحكم الاجتهادي المتعلق بها بتغير الأحوال والظروف والأعراف والأزمان.
وقد غير الصحابة، رضوان الله عليهم، بعض الأحكام عند تطبيقها في عهدهم، وهم أقرب الناس عهدًا بالنبي - صل الله عليه وسلم -؛ فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنكم". وأبطل بذلك سهم المؤلفة قلوبهم،([sup][13])[/sup] وهو نص جلي صريح في سورة التوبة ومصرف من مصارف الزكاة، وأوقف عمر نفسه قطع يد السارق في عام المجاعة، وقال "لولا أني أعلم أنكم تجيعونهم فيسرقون لقطعت أيديهم"،([sup][14])[/sup] وأمر بمنع توقيع العقوبات في الحرب لئلا يلحق من وقعت عليه العقوبة بالكفار، مرتدًا، فيكون عونًا على المسلمين أو عينًا عليهم([sup][15])[/sup]فعل عمر هذا مع أن الحديث الوارد في المسألة خاص بعقوبة السرقة وحدها، فعممه عمر - رضي الله عنه - -غير وجلٍ ولا هياب- على العقوبات كافة.([sup][16])[/sup]
هذا كله، وعشرات بل مئات، من الاجتهادات التي جرت في الأصول الثابتة بالنص القرآني الصريح الواضح، جرت، لأن أولئك المجتهدين لم يخشوا من يقول: إنكم تهدمون الإسلام بصنيعكم هذا. كما نخاف نحن، ولم يكن هناك ملحدون وعلمانيون وأعداء متغربون حريصون على هدم الدين. إنما كان الصحابة يعملون من أجل ما يحقق المصلحة. فالنصوص الأصلية، القرآن والسنة، تحتمل التأويل والاختلاف وتغيير الحكم، أو تغيره، كما يقول الشيخ علي الخفيف، حسب اختلاف الزمان والمكان والظرف والعرف.([sup][17])[/sup] كما يقول إخواننا الشيعة الإمامية: حسب تغير الموضوعات.([sup][18])[/sup]
ولنختر من هذه القيم بعض ما يظن ثباته المطلق لنتبين هل الأمر على هذا النحو أم لا؟ فأهم قيم الإسلام وأعلاها شأنًا هي التوحيد، الذي هو المقصود الأول من خلق الخلق، وبعثة الرسل، وإنزال الكتب، ليقرأ من شاء قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)(الأنعام:161-164). هذه القيمة الثابتة قد تحتاج إلى تجديد وإلى اجتهاد.
فعندما تفشو في الناس البدع والخرافات، وعندما تعبد القبور أو الأشخاص عبادة ظاهرة أو باطنة، وعندما يقول ذوو الجاه والنفوذ والسلطان، ولو بلسان الحال وليس بلسان المقال، عندما يقول بعضهم أو كلهم أنا ربكم الأعلى، عندئذ يقتضي ذلك كله عملاً على إصلاح أصل التوحيد وتجديده وإعادة الناس إليه، لأن الإخلال به جاء من ذوي سلطان أو جاه أو نفوذ لا يمكن للناس أن يواجهوهم بأنفسهم، عندئذ يقتضي ذلك كله العمل على تجديد أصل التوحيد وإصلاح فهم الناس له ونفي الفساد الفكري والانحراف السلوكي عنه.
القيمة الثـانيـة، التي جعلها القرآن الكريم أهـم من الحيـاة، هي قيمة الحريـة قـال ربنا (وَالْفِتْنَةُ أَشَـدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(البقرة:191) (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(البقرة:217)؛ والفتنة هنا هي حمل الإنسان على تغيير معتقده. وصفه الله بأنها أكبر من القتل؛ فكانت الحرية أهم من الحياة. فعندما يقع القهر والاستبداد وحكم الفرد، وعندما تُهان كرامة الناس وتُسلب أموالهم تحت مسـميات لا تُحصى، عندئذ تحتاج قيمة الحرية إلى تجديد ويحتاج التفكير في الحرية، من منظور إسلامي، إلى إحياء؛ هذا الإحياء هو بعث معنى الحرية، وبسط الشعور به بين الناس، وحثهم على نيل حقهم منه بعدم الاستكانة للظلم وعدم الخضوع للطغيان ففي الحديث أن: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".([sup][19])[/sup]
ومن قيم الإسلام المهمة الاعتراف بالآخر وقد صرح القرآن الكريم في غير موضع بأن أهل الأديان الأخرى لهم دينهم وشعائرهم وعقائدهم، وأن الصالحين منهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:62) و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(المائدة:69)، وفي سورة الحج أضاف الله - جل وعلا - المجوس والذين أشركوا، لم يقتصر على اليهود والنصارى والصابئين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(الحج:17) وسورة الحج من أواخر القرآن نزولاً كما نعلم.
هذه القيمة الثابتة تجد حدَّها في أن يلتزم غير المسلم بمثل ما يلتزم به المسلم من احترام دينه وشعائره ومقدساته، وينهدم بناء هذا الحد عندما تُهدر قيمة الاعتراف بالآخر فيُعتدى على المسلم من غير المسلم، بأن يهان دينه وقرآنه وعقيدته ويُسب رموزه وعلماؤه ومفكروه وأعلامه، عندئذ، تحتاج قيمة الاعتراف بالآخر إلى إصلاح وتجديد في صورة عدم السماح للمعتدي بمجاوزة الحد، وفي صورة: إيقافه عند حدود ما ينبغي عليه من احترام الإسلام والمسلمين في دار الإسلام، من أراد أن يهين الإسلام والمسلمين فعليه أن يغادر ديارهم.
ومن عجيب الأمور -في بلادنا في هذا الزمان- جرأةُ من يعترضُ على شخص سيرشحه حزبه لرئاسة الدولة لأنه -كما يقول هذا المعترض- لديه توجه إسلامي، فهو لا يزور الكنيسة يوم عيد القيامة(!) يريده أن يزور الكنيسة يوم عيد القيامة الذي من آمن به، من المسلمين كفر. ثم إن القول بأن لديه توجهًا إسلاميًا فلا يصلح للرئاسة، يُعدُّ عدوانًا على الإسلام وعقائده وأهله لا يجوز السكوت عنه، ويجب التنبيه عليه ويجب على المسلمين عدم القبول به.
فأعياد إخواننا الأقباط ليست مثل بعضها البعض؛ هناك عيد ميلاد المسيح وكلنا نؤمن به، لكن عيد القيامة يفترض صحة واقعة قتل عيسى - عليه السلام - وصلبه، وهما باطلتان بنص القرآن الكريم (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)(النساء:157) فهو عيد لهم لا يجوز أن يؤمن به مسلم.
العدل، والشورى، والمساواة قيم عظيمة لم يحدد الله تبارك وتعالى لممارستها طريقًا معينة، بل ترك الله - جل وعلا -، لنا أن نمارسها كما نشاء، كما ترك لنا تحديد كيفية مساءلة حكامنا إذا أخطأوا أو قصروا أو أساؤوا.
بالمرونة، التي ذكرت قليلاً جدًا من معالمها، تستوعبُ نظمُ الإسلام كل جديد في حياة الناس وتعطيهم حُكمًا تدل عليه ثوابت الشريعة بحسب اجتهاد المجتهدين في أزمانهم وأماكنهم، وبالثبات يستعصي المجتمعُ المسلمُ على عوامل التفكك والانهيار والفناء أو الذوبان في المجتمعات الأخرى.
هذه المرونة الهائلة في الاجتهاد، في القيم الأساسية التي لا تقبل تبديلاً ولا تغييرًا، تدل على أن الإصلاح والتجديد جائزان، وأحيانًا يكون أحدهما أو كلاهما واجبًا، في الأصول، وليس في الفروع وحدها. والعبء هنا يقع على أهل الاجتهاد في كل جيل ليوائموا بين أحكام الإسلام وبين مقتضيات العصر وحاجات أهله، فيحفظوا خلود الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ويحولونهما من شعارين جميلين إلى حقيقتين قائمتين في دنيا الناس.
والحمد لله رب العالمين.
*****
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:27 pm

التعقيب
د. محمد كمال الدين إمام([sup][20])[/sup]
ما أقوله عن بحث وكلمة الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا سيكون دائمًا شرحًا على متن، وليس أكثر من ذلك، خاصة أنه بعد رحيل شيخنا العلامة محمد مصطفى شلبي صار هو شيخي.
إن ربط أ.د. محمد سليم العوا قضية التجديد، قضية الأصول والفروع، قضية الثوابت والمتغيرات، بفكرة القطع والظن هو الذي يفضي إلى إيجاد نتيجة طبيعية ترتقي إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، ويمكنها أن تحل كثيرًا من مشكلات ربط الثوابت بالمتغيرات، هكذا على إطلاقها، فإن الثابت يظل مفهومه مرنا والمتغير يظل مفهومه فضفاضًا.
عملية الربط عملية أصولية دقيقة لأن القطعيات سواء كانت على مستوى العقل أو مستوى النقل لا تتعارض ولا تتناقض. فإذا ما تأكدنا من القطعية فقد وصلنا إلى الثابت، وإذا ما تأكدنا من الظنية فقد وصلنا إلى المتغير، وبالتالي لا تصبح المسألة مسألة أصول وفروع فكذلك -كما أشار الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا- كما أن هناك قطعيات في الأصول، هناك قطعيات في الفروع. فما كان من الأصول قطعيًا فهو ثابت، وما كان من الفروع قطعيًا فهو ثابت.
وبالتالي نوجد معيارًا دقيقًا لضبط النسق الأصولي الإسلامي وهو منضبط بقواعده من خلال ضبط فكرة الظن والقطع. ولعل الذي أثار كثيرًا من الجدل في العقل الإسلامي الحديث هو ما انتهى إليه الشاطبي حينما أراد أن يجعل أصول الفقه كلها قطعية. فعملية النظر إلى الأصول والفروع من منظور الشاطبي ربما أوحت إلى أن الثوابت والمتغيرات شيء، والأصول والفروع شيء آخر.
 قضية أخرى، وهي الأحكام الشرعية، أي الأوامر التي تنزل من الله - جل وعلا -، فهي قد ترتبط بأعيان وقد ترتبط بأوصاف، وهو ما درسناه في الدراسات العليا في مادة تسمى "التطابق" في النموذج الإجرامي. كل أمر ونهي سواء كان هذا الأمر وضعيًا أو دينيًا، عند نزوله من إطار التجريد إلى التحديد لا بد أن يتعين، ولا يمكن أن ينطبق النص التجريدي إلا إذا كانت الحياة الواقعية المتعينة هي الموصفة في النص التجريدي؛ ولذلك حينما ننظر إلى المؤلفة قلوبهم وعدم القطع في عام الرمادة وأمثال كثيرة مثلها، فإن الأمور هنا تتعلق بأوصاف وليس بأعيان. الأوصاف الموجودة في النص التجريدي لم يتيسر تحقيقها في أرض الواقع، فلا يمكن في الاجتهاد التنزيلي أو في فقه التنزيل أن يصبح هذا هو الحكم الذي ينطبق على هذه الواقعة.
وهنـاك أحكام كثيـرة ترتبـط بأوصـاف. حـيـنـما يـقول الله - جل وعلا - فـي آيـة مصـارف الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا...)(التوبة:60).
الفقير صفة؛ قد يكون فقيرًا اليوم وفي يوم غد يصبح من أغنى الأغنياء، وكذلك المسكين صفة، وكذلك التأليف صفة. وفي إطار هذا النسق الذي يربط الحكم في بعض الأحيان بأعيان، وفي بعض الأحيان بأوصاف، يصبح حل هذه المسألة ميسرًا للنسق القانوني وللنسق الشرعي على حد سواء.
أما بحث د. رضوان السيد فأهم القضايا الرئيسة الموجودة في ورقته أنها يمكن أن تنتمي إلى عالم الإدانات، يعني تفسير بالإدانة لكل الحركات الإصلاحية التي ظهرت في العالمين العربي والإسلامي في القرنين الأخيرين بداية من تجربة محمد علي، فقرأها على أنها تجربة ليس فيها أي بعد إسلامي، ليس فيها أي رؤية لتكوين دولة ترتبط فعلاً بأصول إسلامية وقرأها على هذا النحو قراءه وضعية، وألقى بها في مزبلة التاريخ -إن جاز هذا التعبير- وهذا ليس حقيقيًا.
فالمراسلات التي بعثها القناصل الأوروبيون إلى دولهم، تبين وجود البعد الإسلامي خلف هذه التجربة، فقد أُرسِل عشرون طالبًا من الأزهر ليتعلموا في أوروبا، وكتب أحد القناصل تقريرًا يقول إن هؤلاء الطلاب "يتوجهون إلى صياغة دولة عربية ذات جذور إسلامية، وهو ما يعد بداية التنبيه إلى هذه الحركة، والعلامة الكبير محمد شفيق غربال في دراسته عن محمد علي أشار كثيرًا إلى هذه الأصول والجذور. وأعطى هذه البداية أستاذنا الكبير المستشار طارق البشري، وهو أعظم دارس لهذه المرحلة من مراحل تاريخنا القومي في مصر، دفقة كبيرة بفكره النير. تحتاج إذن هذه النقطة إلى مراجعة وهي نقطة محورية.
فيما يتعلق بتجربة الطهطاوي قرأ الطهطاوي قراءة جديدة وغربية؛ لأن الطهطاوي بجذوره الأزهرية كان لديه مشروع استطاع به أن يؤثر على الآخرين. ولكن د. رضوان شطب مشروع الطهطاوي وتأثيراته، وجعله مجرد مدرس في المرحلة الابتدائية، كل ما أضافه مسائل تتعلق بالعملية التعليمية، وليست هذه قراءة منصفة للطهطاوي.
قرأ د. رضوان السيد "خير الدين التونسي" وقال إنه لا يعرف شيئًا في فقه الإسلام مع أن الرجل تربيته تربية دينية، وأنه اتكأ على فكرة المصالح والمقاصد ليمرر كل الأنظمة الأوروبية إلى داخل دائرة العالم الإسلامي.
ثم بعد ذلك قرأ السيد أحمد خان، وقال إنه حاول أن يكون في شبه القارة الهندية مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي، مع أن المقارنة والمساواة بين الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد خان، فيها فوارق كبيرة في النسق الفكري والآثار والدور والعلاقات وما تقوله الوثائق، ولكن د. رضوان قفز على كل هذه المسائل.
وأنا لا أدرى لماذا اختار هذه النماذج التي اتكأ عليهم العلمانيون جميعًا وقالوا إنها نماذج متغربة؟ ألم تكن هناك نماذج أخرى معاصرة لهذه النماذج على امتداد العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه تضيف إلى هذا البحث وتنير إعادة كتابة تاريخ هذه المرحلة التاريخية، تتكئ على الواقع الحقيقي ولا تستند إلى خواطر؟ هذا مجرد سؤال.
حينما بدأ يتكلم عن التيارات والسلطة شغلته قضية محورية، وهي أن الصراع على السلطة هو الصراع على الإسلام، كأن الجميع يتصارعون على السلطة: الدولة تتناحر على السلطة بكل فيالقها وجيوشها وحكامها، والإسلاميون يتناحرون على السلطة بكل تياراتهم وكل صورهم، وهذه هي القضية. ولو كانت القضية على هذا النحو لكانت كتابة تاريخنا العقلي الحديث مسألة سهلة وميسرة. لكن المسألة لم تكن على مثل هذه الثنائيات.
ومن خلال هذا المنظور قال إن الإسلاميين جميعًا أضروا إضرارًا بالغًا بالحركة الإسلامية والحركة القومية، فأصبح محمد عبده غير مؤثر، والأفغاني مجرد ثائر، حتى وصلنا إلى أن التجربة السودانية أدت إلى أن السودان قد تحول إلى شظايا، ومستقبله في يد المجهول، والتجربة الإيرانية أصبحت كذا... إلخ. وهي مواقف وليس استيعابًا. دائمًا العلم يبدأ من بالاستيعاب وليس المواقف. يبدأ د. رضوان من موقف وليس من الاستيعاب للقضية التي يطرحها لذلك رأيت عجبًا في هذه الصفحات المائة التي كتبها د. رضوان السيد.
ليس الأمر فقط على هذا النحو، فحتى التجارب الإسلامية التي نجحت ويمثل لها بتجربة ماليزيا في جنوب شرق آسيا عند مهاتير محمد، يرى أن النجاح فيها مصدره أن الرجل ركز على النهضة الاقتصادية والتحول التكنولوجي، وقال إن الرجل ليس عنده أي فكر، ولا يمكن أن يُنسب للتصور الإسلامي وليس لديه فكر يعمل به، وأن أفكاره بسيطة ومسطحة ومن الأفضل إهمالها. كأن المجتمع رجل أعمال يمكن أن يصبح غنيًا في لحظة، ويمكن أن يفلس في لحظة أخرى. المجتمع لا يمكن أن يتطور إلا من خلال تغيير فاعل وحقيقي لكافة أنساقه: الأنساق التعليمية التربوية والاقتصادية والسياسية، وهذا ربما مصدر غنى وثراء التجربة الماليزية، فقد حدثت فيها تحولات على مستوى شامل وليس على مستوى بسيط.
هذه الإدانات شملت حتى التيارات الإسلامية فهو لم ينفتح على أبوابها الدقيقة، حتى حركة الإخوان المسلمين -وقد حاول أن يفهمها ثم يدينها- فتصورها أنها تنفي الآخر في الداخل والخارج. مع أنه في عصر حسن البنا قرأت لصليب سامي في مذكراته وهو أحد أعمدة الأقباط وكان محاميًا شهيرًا وفقيهًا كبيرًا من فقهاء القانون، كتب كتابًا اسمه: "ذكريات"، ويقول فيه: "إني عندما نشرت مقالاً في الأهرام عن الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الخاص زارني في مكتبي الشيخ حسن البنا ومعه هيئة الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين وشكروني على هذا الفهم الدقيق للشريعة الإسلامية، وطلبوا مني أن أحضر إليهم لإقامة حفل تكريم عام لي". كتب هذا في مذكراته في الصفحات الأخيرة. ويكتب ثلاثة سطور بعد ذلك ويقول: "وأن هذا الحادث أثر في نفسي تأثيرًا كبيرًا، خاصة وأنني قد استمعت إلى الرجل واتساع أفقه، وقدرته على الاستبصار بما يتم في دنيا الناس وأهمية الوطن عنده وأهمية المواطنة". والمذكرات منشورة وأنا أشير إليها فقط.
 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 69962
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]   الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق  د. رضوان السيد [1] Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:28 pm

المناقشات
 د. عبد الحميد مدكور (رئيس الجلسة):([sup][21])[/sup]
سؤال: هل يتم الإصلاح ويتحقق في ظل حكم فلسفة تقصير هنا وإسراف هناك، مع أنه من مبادئ الإصلاح حدوث توازن لتحقيقه؟ نريد التوازن ولا نريد عدم التوازن الذي يقع في مثل هذا الأمر..
سؤال: كثيرًا ما يُدعى بأن الإصلاح السياسي هو الإصلاح الحقيقي بينما مختلف أنواع الإصلاح الأخرى ما هي إلا أمور شكلية لا تمس الجوهر وهو السياسة، فهل هذا صحيح؟
إصلاح المجتمع ليس جزئيات؛ لأن كل جزئية تؤثر في الجزئيات الأخرى؛ لا يمكن أن تصلح الرأس وتهمل الجسد، أو أن تصلح الجسد وتهمل الرأس. لا بد أن يكون هناك تكامل في النظرة إلى الإصلاح. الإصلاح الشامل ينبغي أن يتناول كل الأمور، لكن تختلف نقطة البدء التي يبدأ منها هذا الإصلاح.
أ. مدحت ماهر ([sup][22])[/sup]
اتفق مع د. إمام في جزئية أن ورقة د. رضوان بها قراءات مختزلة لكثير من مفكري وأعيان وأشخاص الفكر الإسلامي، لكن القول بالتفسير بالإدانة لكل الحركات والنماذج الإسلامية أرى أنه لم يكن بهذا الشكل. قرأت للدكتور رضوان قبل ذلك واختلفت معه كثيرًا في المنطلقات وثمار الأفكار، لكني هنا على سبيل المثال لم أقرأ للدكتور رضوان عن محمد علي في هذا البحث. وأتفق أيضًا على أن الكلام عن الطهطاوي كان فيه اختزال.
مشكلة الدكتور رضوان من وجهة نظري هي عدم وضوح معايير الوصف. فعند وصف الأفغاني أنه الإصلاحي الثائر فيجب توضيح معنى الإصلاح ومعنى الثورة؛ لأن د. رضوان يصف بن لادن أيضًا بالثائرية. والإصلاحية التي وصف بها محمد عبده قالها عن أيضًا عن سيد قطب، مما تسبب في بعض المشكلات.
نعم، قال د. رضوان إن التونسي لم يكن فقيها، وهذه حقيقة، وإنه لما أراد أن يلمس الفقه بشيء ما، عاد للشيخ محمد بيرم. وعاد عودة المثقف إلى بعض الكتابات للجويني والماوردي التي كانت قد اشتهرت كتبهما في عصره وعمل فاصلاً كبيرًا للشاطبي وعلاقة محمد عبده به.
فيما يتعلق بمسألة الإخوان المسلمين، هو فعلاً أخذها باختزال شديد، و لم يشر أبدًا إلى الشيخ حسن البنا وإلى جهوده رغم أنه تكلم عن الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات كثيرًا. وأوافق على القول بخلطه بين الصراع على السلطة والصراع على الإسلام.
بقية البحث المسائل فيه واضحة، وهي رغم الاختزال ورغم الاختصار أقرب إلى الوصف القريب من الواقع.
بقي لي سؤال للدكتور العوا عن مسألة ما قبل الاجتهاد والتجديد، أعتقد أن هناك شيئًا مسكوتًا عنه باعتباره حاضرًا في شخص د. العوا، وهي مسألة المنهج، فليس هناك خلاف في أن يكون ثمة اجتهاد وتجديد، ولكن بمَ سيكون الاجتهاد والتجديد؟
د. محمد سليم العوا
هناك عدد من الأسئلة عن اتحاد علماء المسلمين وما مشروعه الإصلاحي، وهذا له مظنتان أو موضعان يمكن أن يوجد فيهما إجابة عن هذه الأسئلة: الموضع الأول هو موقع الاتحاد على شبكة الإنترنت وفيه معظم أنشطة ومشروعات اتحاد علماء المسلمين. الموضع الثاني هو مقر الأمانة العامة في القاهرة، وقد أقامت هذه الأمانة برنامجًا هائلاً بعنوان: مشروع علماء المستقبل، دورته القادمة ستبدأ بعد أسابيع قليلة وكان فتحًا مهما لشباب العلماء. أرجو أن يستفيد منه دفعات أخرى من الشباب إن شاء الله. دورنا في الإصلاح أننا نحاول أن نكون الضمير الحي للأمة المسلمة والمرجعية الشعبية بعيدًا عن كل أصحاب النفوذ. سؤال عن مدى جواز الاجتهاد في تحديد الأصل والفرع، هي نفسها مسألة ما الأصل وما الفرع، ما الثابت وما المتغير، هذه مسألة اجتهادية لأنه لم يقل نص إن ذلك أصل لا يمكن أن يتغير وأن هذا فرع يمكن أن يتغير. وكما قلت -وتنبه له أخي د. إمام- هناك فروع هي من الثوابت التي لا يمكن تغييرها. هذا أمر بالغ الأهمية والمسألة كلها اجتهادية.
والمثال الذي ذكره صاحب السؤال عن التطبيع مع الصهاينة، هناك من يقول إنه أصل وآخرون يقولون عنه إنه فرع. طبعًا وإلا ما احتجنا إلى التأكيد عليه وتكراره.
الأمر المتعلق بما قاله أخي د. عبد الحميد مدكور -وورد فيه بعض الأسئلة- عن الاجتهادات في قطع يد السارق في عام المجاعة وأثناء الحرب وسهم المؤلفة قلوبهم. نحن نسمي هذا في أصول الفقه تحقق المناط؛ يعني التعرف على مدى توافر الشروط الواجبة لتطبيق الحكم، وهذا اجتهاد في نص جزئي مفصل عندما اجتهد عمر - رضي الله عنه - في تحقيق مناطه فوجده غير متوافر، وهو ما سماه أخي د. عبد الحميد بعدم توافر الشروط وهو كلام في غاية الصحة، ولا خلاف بيننا في ذلك. وهذا كلام نقوله منذ أكثر من ثلاثين عامًا ولازالت عنده حتى الآن. لم أقل إنه عطل الحدود، بل قلت أوقف الحدود لأن المناط لم يكن متحققًا.
سؤال: لمصلحة من يُضطهد حزب الوسط والحركات الإصلاحية والإخوان المسلمون؟
طبعًا هذا السؤال جوابه عند من يضطهدونهم. سؤال عن ولاية الأمة على نفسها كتصوير إسلامي شيعي لمسألة الديمقراطية.
ما قاله الشيخ مهدى شمس الدين عن ولاية الأمة على نفسها هي الترجمة الإسلامية الشيعية لفكرة الديمقراطية، وهي ترجمة صحيحة مقبولة في نظري إسلاميًا وسياسيًا، أيضًا سؤال العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، والرسول يقول: أنتم أعلم بشئون دنياكم، لماذا يُحصر الإسلام فيما يُسمون بالإسلاميين، وكل الناس مسلمون؟ هناك كمية من المفاهيم التي تحتاج لإعادة مراجعة. إذا لم نراجع هذه المفاهيم لا يصير لهذا الكلام معنى، نراجع مفهوم العلمانية، ومفهوم الإسلامية، ومفهوم "أنتم أعلم بشئون دنياكم" في أي مسألة، وهو موضوع طويل ليس سهلا. هل يجوز أن يكون في الدولة حزب على أساس ديني؟
في الدولة، نعم يصح، وفي الدولة الإسلامية يجب أن تكون كل الأحزاب لها أساس ديني، ولا يصح في الدولة الإسلامية وجود حزب كافر. لكن في الدولة المصرية، الدستور يمنع وجود أحزاب سياسية على أساس ديني، وهذه مسألة وضعية قد تتغير في المستقبل. لم تكن موجودة قبل ذلك ولن تدوم إلى الأبد.
هناك من يشير إلى أنني قلت إن الإصلاح الإسلامي تغير بعد 11 سبتمبر. لم أقل أبدًا ذلك، فقد تعلمت من أستاذي الجليل المستشار البشري أن التاريخ الذي يهمنا هو 7 أكتوبر 2001 تاريخ غزو أفغانستان. 11 سبتمبر يوم أمريكي ليس لنا علاقة به.
سؤال: يجب على الحركات الإصلاحية لكي تتواجد محليًا ودوليًا أن تتنازل عن بعض الأمور، فما الحدود والخطوط الحمر لهذه التنازلات؟ لا يجب أن تتنازل، ومن يتنازل لا يصير حركة إصلاحية أو حركة إسلامية أو حركة تجديدية. لا تنازلات عندنا، نحن على ما نحن عليه كما يقول العقاد:
وكـنـت جنين الســجن تسـعة أشـهر     وها أنذا في ساحة الخلد أولد
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم      سـيـعهدني كـل كما كـان يـعـهـد
ومن يتنازل ليس من تيار الإصلاح والتجديد والوسطية التي ندعو إليها.
د. عبد الحميد مدكور
هناك سـؤال عجيب يقول: هـل نحن دخلنا في إطـار الدعوة إلى أفكار شـخص بعينه من أجل أن نردد هذه الأفكار في المسالمة والتعايش ونحو ذلك؟ نحن نتحدث ونقدم فكرًا لأساتذة لهم مواقف وآراء معروفة، وهم يُدْلون بأفكارهم من وجهات نظرهم الخاصة وليسوا مكلفين بالدعاية لأحد أو لبيان أفكار أحد بذاته، ولكنه البحث العلمي ممن يتناولون هذه المسائل. فمن تقدموا بأفكارهم يقدمون علمًا واجتهادًا مبرهنًا ومؤصلاً، ورؤية ووجهة نظر، هم مسئولون عنها وقادرون على الدفاع عنها، وليسوا دعاة لأحد ولا ضد أحد، ولكنهم يبحثون عن الحقيقة التي يجب أن تكون دأب الباحثين المسلمين، خصوصًا في هذا الموضوع المهم والخطير الذي يهم كل مسلم.
مداخلة من د. محمد عمارة
القول بأن الطهطاوي لم يكن مصلحًا إسلاميًا مردود عليه، فله رسالة شعرًا عنوانها: "القول السديد في الاجتهاد والتقليد". وهو ناقد للفلسفة الوضعية عندما قال عن الفلسفة الوضعية في أوروبا: "ولهم في الفلسفة حشوات ضلالية مخالفة لكل الكتب السماوية". كما أنه ناقد للقانون الوضعي، وله موقف ضد دخول القانون الوضعي ولو بشكل جزئي في المحاكم القنصلية في الموانئ. ودافع عن الشريعة الإسلامية، وقال: "إن بحر الشريعة الغراء لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها"، وتحدث في هذا كلامًا كثيرًا. وكان الطهطاوي يعلق آماله على الأزهر ويستخدم كلمة العصابة أي العصبة في وصف رجال الأزهر وطلاب الأزهر وأنهم يدرسون العلوم المدنية مع العلوم الشرعية ليقوموا بالإصلاح.
فيما يتعلق بمحمد علي، عندما جاءت بعثة مونتريخ ودرست تجربة محمد علي كتبت تقريرًا قالت فيه إنه يعيد دولة الخلفاء الراشدين. القول بأن محمد عبده مات عام 1905 قبل ظهور الحركات التي يسميها د. رضوان الإحيائية قول يجانبه الصواب. ففي كل أسر الأخوان المسلمين كان هناك ثلاثة كتب لا تتغير في الدراسة والتثقيف إلى أن مات حسن البنا: كتابا محمد عبده "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" و"رسالة التوحيد"، وكتاب"طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي. إذن محمد عبده لم يمت بظهور الحركات التي يسميها الإحيائية. وفي احتفالنا بمحمد عبده عام 2005، تحدث طالب من إندونيسيا يدرس في الأزهر وقال إن الجمعية المحمدية في إندونيسيا تسير على منهاج محمد عبده إلى الآن، أعضاؤها عددهم 32 مليون عضو. وتعلمت الحركة الإصلاحية في شمال أفريقيا -البشير الإبراهيمي وابن باديس- من محمد عبده منهج الإصلاح الذي أعاد شمال أفريقيا إلى العروبة والإسلام. وكان البشير الإبراهيمي يقول إن خصومهم يقولون عنهم إنهم "تيمي عبداوي"؛ أي مع ابن تيمية ومحمد عبده. كما أن حزب الاستقلال وعلال الفاسي امتداد لمدرسة محمد عبده. فمحمد عبده لم يمت سنة 1905.
وفيما يتعلق بقول د. رضوان إن الأصولية فجرت العالم، لا بد أن نسأل: من الذي فجر من؟ من الذي غزا من؟ من الذي احتل من؟ من الذي يهيمن على من؟ من ينهب ثروات من؟ إذن لسنا نحن الذين فجرنا العالم.
وأقول مع د. العوا في الأخير إن تجديد الدين ليس تجاوز الدين ولكن الكشف عن جوهر الدين وعن حقيقة الدين بما في ذلك الأصول والفروع. قرأت ونشرت لابن تيمية قوله إن كل المسائل الأصولية التي اختلف فيها المسلمون لا يتوقف عليها شيء منها الإيمان بالإسلام، وإلا لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمها للمسلمين. والرسول - صل الله عليه وسلم - هو القائل: "جددوا إيمانكم". جوهر الأصول هو الإيمان، لكن التجديد بمعنى الكشف عن الجوهر والحقيقة وليس بمعنى التجاوز.
مداخلة من البروفسور عبيدى (من أوغندا) ([sup][23])[/sup]
في هذا المؤتمر وكثير من المؤتمرات الأخرى نرى مصطلحات تستخدم، مثل الإسلام المعتدل، الإسلام المحافظ، الإسلام المتطرف، لكن لا يوجد أكثر من إسلام، وإنما هناك إسلام واحد؛ الإسلام هو الإسلام، الذي أكرمنا به الله - جل وعلا - وأرسل به رسوله الخاتم صل الله عليه وعلى آله وسلم. المشكلة هي بخصوص فهمنا وتفسيرنا، المشكلة هي إصلاح المجتمع المسلم.
وكمثال ذُكر اسم السيد أحمد خان، وكان من أكبر المصلحين المسلمين في شبه القارة الهندية، عندما أراد أن يقيم جامعة من أكبر الجامعات في الهند، اجتمع قادة دينيين من مختلف الطوائف المسلمة وأصدروا فتوى بأنه كافر لأنه طلب منهم أن يتعلموا الإنجليزية! وأنه أراد أن ينشر التعليم العلماني. علينا أن ننظر كيف تغيروا بعد مائة سنة.
حولت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات العالم إلى قرية صغيرة، ونحن المسلمين لا يمكن أن نهرب من تأثير العولمة. لن يستطيع أحد في عصرنا الحديث أن يعيش في عزلة عن بقية العالم، ولا يمكن أن نكون جزيرة معزولة. من المهم جدًا أن نعي ما سيترتب على العولمة، وتوجد نقطتان مهمتان بالنسبة للمجتمعات الإسلامية داخليًا وخارجيًا.
داخليًا علينا أن نقيم الوحدة بين المسلمين الذين يتبعون طوائف مختلفة، ولا يعنيني أي طائفة تنتمي إليها هذه المجموعة أو تلك؛ فهم جميعًا ينتمون إلى الإسلام، والأصول التي تجمعهم واحدة، ولا توجد خلافات بينهم في هذه الأصول.
خارجيًا، علينا كمجتمعات إسلامية أن نتعلم أن نعيش مع أتباع الديانات الأخرى. هذه هي الطريق الوحيدة للبقاء. وأعطى مثالاً من أوغندا -وفضيلة مفتي أوغندا معنا- فقد أقمنا مجلسًا ما بين الأديان يضم ممثلين للأديان الرئيسة في أوغندا، وهم يحلون المشاكل والخلافات، ولا توجد الآن خلافات بينهم. هناك تناغم بين أتباع الديانات المختلفة في أوغندا علينا أن نتعلم ذلك، وهذا هو الإصلاح.
د. محمد كمال إمام
أخي مدحت، الحديث في ورقة د. رضوان السيد عن محمد علي موجود في الصفحات 30، 32، 33 من البحث.
هناك سـؤال عن قضية فصل الدين والدولة في أوروبا وما يتعلق بذلك في الفكر الإسلامي؟
أشار د. رضوان السيد إلى قضية علي عبد الرازق إشارة سريعة في بحثه، وأعتقد أن التركيز على علي عبد الرازق في الحديث عن كتابة تاريخ الفكر غير مبرر، لأنه علينا أن نركز عليه وعلى الردود التي كتبت عليه، وعلى الكتاب المؤصل الذي أصدره الشيخ عبد الوهاب خلاف في النظم في توقيته وتجاهل كل ما كتبه علي عبد الرازق، بل في سنة عام 1917 أخرج مفتي القدس كتابًا في الموضوع عنوانه: "الأزاهير المضمومة فيما يتعلق بالحكومة". ثم يأتي البعض بكتاب مفرد تبرأ منه صاحبه ويُصنع حوله كثيرٌ من الغبار.
 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق د. رضوان السيد [1]
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الأمة، العالم الإسلامي، الدولة الإسلامية، إشكالية العلاقة بين المفاهيم
» الاقتصاد الفلسطيني .. الواقع والآفاق
»  التقارب السعودي التركي: الخلفية والدوافع والآفاق
» ابن رضوان المصري.. إمام الطب
» رضوان بن محمد الساعاتي..من مشاهير علماء الفيزياء

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: