أم كلثوم.. كيان مصري ثابت وأيقونة الحفلات الملكية وأعياد الثورة
رشا سلامة
عمّان- أنّى ولّيت وجهك في مصر، ستجد ذاتك تخاطب "الست" بمقطع شهير لها، تتساءل فيه "أنساك؟ ده كلام؟".
تطالعك فاطمة البلتاجي في جلّ الوجوه المصرية، وتسمع صوتها من خلال حناجر المعظم، المتعلّم والأمّي، الثري والبسيط، المصري ومصري الهوى، بل ستتحسّس بيدك منحوتات كثيرة في الأسواق الشعبية، فتعرف سريعا أنها على هيئة أم كلثوم، من دون حتى أن تمعن النظر.
وعندما تحلّ على تلك البلاد، فإن عليك التعايش حينها مع فكرة أن "الست" موجودة حيثما مضيت، وبأنها ركن ثابت في الكيان المصري، سياسيا ووجدانيا واجتماعيا وفنيا وتاريخيا، كله على السواء، من دون أن يتغول جانب على آخر.
لا يسعك حين تمضي في مصر سوى الشعور أن كل زقاق وحارة وشارع فسيح و"جنينة" و"كوبري" يعدّ متحفا خاصا بأم كلثوم؛ ذلك أن تجذّر "الست" أعمق بكثير من مجرد حصرها ضمن حدود مبنى يضم بعض مقتنياتها أو يرفع صورا تذكارية لها، كما متحفها في منطقة المنيل، على سبيل المثل، أو بيتها، الذي صار فندقا في منطقة الزمالك.
ويستذكر جيدا، فيما أنت تمضي بين مقتنياتها، لا سيما قسم النياشين وشهادات التقدير المهداة لها من زعماء مصر بدءا من الملك فاروق وليس انتهاء بالرئيس جمال عبد الناصر، ان تلك الأنظمة الملكية والعسكرية التي تعاقبت على حُكم مصر،
واعتماد "الست" أيقونة فنية لها في الحفلات الملكية ومن ثم أعياد الثورة وغيرها من مناسبات حربية، وليس بثيمات عسكرية بالضرورة، بل بأكثر كلمات الحب إنسيابية ونعومة..
الإعلامية المصرية غادة كمال واحدة ممّن فُتنّ بظاهرة "الست" منذ نعومة أظفارها؛ إذ ما تزال تستذكر طقوس الاستماع لحفلاتها المنقولة عبر أثير الإذاعة. تقول "كنا نتحلّق كعائلة حول المذياع بمجرد أن يُعلَن عن حفل مباشر لأم كلثوم. لم نكن قد مضينا في العُمر كثيرا، لكن كنا نعرف جيدا أن ثمة حدثا استثنائيا بمجرد أن نسمع صوتها".
لا تنكر كمال أن هذه الذكريات كانت من أكثر ما دفعها للتوجّه للإعلام لاحقا؛ إذ ما تزال تؤمن بسطوة المذياع وحضوره في حياة العائلة العربية، مكملة "لا يمكن لي فصل أم كلثوم عن ذكريات الإذاعة، ولا يمكن لي نسيان وصلاتها الغنائية التي كثيرا ما كان يقطعها بيان عاجل من السُلطات المصرية، إبان حرب الاستنزاف".
تقول "أم كلثوم ذاكرة مصرية قائمة بذاتها، بعيدا عن الكليشيهات أو الشعارات". تصمت قليلا، لتكمل "بالفعل كانت كذلك، وبالنسبة للصغير والكبير على السواء".
حين تقف قبالة "فاترينا" زجاجية تطلّ منها فساتين "الست"، التي تأتي بألوان وتصميمات شتى، في متحفها بالمنيل، ستشعر بالدهشة؛ ذلك أن قوام أم كلثوم ناعم رفيع وفقاً لما يظهر من مقاسات هذه الفساتين، فيما الكاميرا التلفزيونية تكسبها وزنا زائدا، يجعل من أمامها يشعر بمزيد من الرهبة. تصميمات هذه الفساتين أنيقة ورائقة وساترة ولم تخرجها يوما من حدود الجلابية الريفية التي غنّت فيها أوائل موشّحاتها في الموالد، وإن تغيّرت الخامة لاحقا لحرير ودانتيل وتل.
"لم تكن الست باهرة الجمال، لكن حضورها كان أقوى من أن يُحكى فيه، أو أن يترك حتى متسعاً للتفكير بالجمال"، يقول الإعلامي والمنتج الفني الفلسطيني خليل العلي.
ويكمل إن "صوت أم كلثوم مع أزقة مخيم عين الحلوة ولياليه" لا يفارق ذاكرته، بل هو لا ينفك يعود له كلما استمع لأغنية لها، بحسبه، مكملا "هي جزء رئيس من الوعي الفني الذي تشكّل لدينا منذ أيام الطفولة والصبا".
وينعت العلي أم كلثوم بـ "مطربة العرب"، مستدركا "قلّما نال فنان مرتبة كهذه، لكن الست استحقتها بامتياز؛ ذلك أني ما طفت قطرا عربيا إلا ووجدت من فيه يردّدون أغنياتها".
"في الساعة العاشرة من ليلة كل خميس أول كل شهر يحدث شيء ما غريب في الشرق الأوسط: يهدأ الضجيج في شوارع القاهرة فجأة، وكذلك في الدار البيضاء التي تبعد نحو 4000 كم إلى الغرب منها. يحدث الشيء نفسه في بغداد التي تبعد ما يزيد على 1200 كم إلى الشرق من القاهرة. وما بين هذين الحدّين الجغرافيين من بلاد عربية، يحدث الشيء ذاته، إذ يأوي الناس إلى بيوتهم في انتظار برنامج خاص يذيعه راديو القاهرة، ونجمته مغنية اسمها أم كلثوم".
بهذه الكلمات وصف صحفي في مجلة "لايف" الأميركية العام 1962 حالة العشق بين أم كلثوم وجماهيرها العربية العريضة.
فيما كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ديوانه الأخير"أثر الفراشة" تحت عنوان "إدمان الوحيد": "أستمع إلى أم كلثوم كل ليلة، منذ كان الخميس جوهرتها النادرة، وسائر الأيام كالعقد الفريد. هي إدمان الوحيد وايقاظ البعيد على صهيل فرس لا تروّض بسرج ولجام. نسمعها معا فنطرب واقفين، وعلى حدة فنظل واقفين. إلى أن تومئ لنا الملكة بالجلوس فنجلس على متر من ريح. ففي حنجرتها جوقة إنشاد وأوركسترا كاملة وسر من أسرار الله".
ويردف "لآهتها المتلألئة كماسة مكسورة أن تقود جيشا إلى معركة. ولصرختها أن تعيدنا من التهلكة سالمين. ولهمستها أن تمهل الليل فلا يتعجل قبل أن تفتح هي أولا باب الفجر".
ويختم بوصفها "منديلها ضابط إيقاعها، بيرق لفيلق من عشاق يتنافسون على حب من لا يعرفون. أما قلبها فلا شأن لنا به، من فرط ما هو قاس ومغلق كحبة جوز يابسة!".
تصدّرت صحة أم كلثوم وسائل الإعلام العربية لأشهر عدة، حتى وافتها المنية في القاهرة، بتاريخ الثالث من آذار (مارس) في العام 1975، لتخلّد ظاهرة فنية وسياسية فريدة، عن المبدع الذي يستحدث صيغة مقبولة، قلّما تتكرّر، في علاقته مع السُلطة من جهة، والجمهور من جهة أخرى، إلى حد مشَت فيه ملايين في جنازتها، التي تصدّرها رجُل الشارع والسياسي الرفيع، على السواء.
الرئيسية 
البوابة 
