أخلاقيات أصحاب الحرف والصناع

أخلاقيات أصحاب الحرف والصناع

أخلاقيات أصحاب الحرف والصناع

     الاستاذ الدكتور خليل حسن الزركاني

ان كم ابرز مايجب ان يمتاز به الصناع في عامة تجنبهم الغش في صناعاتهم ولا يتم الا على النحو الأتي : ان لايتهاون الصانع في عمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه ،فعليه ان يحسن الصنعة ويحكمها ، ثم ينبه عليها ان كان بها وجه عيب ([1]).وفي الجانب الأخر للمعنى ، إن ذلك يقتضي من صاحب صنعة إتقان عمله ، مقتديا في ذلك بالباري (عزوجل ) بإخباره عن نفسه (صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه )([2]) وهذا يقتضي من صاحب الصنعة ان يتدرج في تدريبه وصقل مهاراته الحرفية حتى يبلغ درجة الإجادة في العمل عندها يحق له ان يتخذ ورشة مستقلة في عمله ،وعليه في كل حين إن لايالوا جهدا في تحسين عمله وتجويده ، وفضلا عما تقدم فان لكل حرفة وصنعة أخلاقيات لابد من مراعاتها ونذكر بعض نماذج من هذه الأخلاقيات .
1.     الصياغة
فمن مايجب على الصاغة مراعاته نجنب الوقوع في شيء من الربا ،غلا يبعوا شيئا من المصوغات ألا بغير جنسها فإذا كانت هذه المصوغات من الذهب لزم بيعها بالفضة ،وبالعكس ليحل بذلك التفاضل في القيمة ، فإذا باعها بمثل جنسها حرم فيها التفاضل والنسا والتفرق قبل القبض ([3]) من ناحية أخرى عدم جواز بيع المحرم بعينه كذلك لايجوز صنع المحرم بعينه ،فلا يصنع الصائغ خواتيم الذهب للرجال ،ولا يصنع الأواني من الذهب التي تستخدم في تناول الطعام والشراب ، للنهي المتقدم بهذا الشأن أيضا ([4]).
واذا اراد الصائغ صناعة شيء من الحلي لأحد الأشخاص فلا يسبكه في الكور الابحضور صاحب الحاجة بعد التحقق من وزنه فاذا فرغ من سبكه اعاد التحقق من وزنه مرة اخرى بحضور المعني ايضا ،فإذا احتاج الأمر إلى بعض اللحام ،فانه يزن الحاجة قبل ادخال اللحام فيها ،وكذلك لايركب شيئا من الفصوص والجواهر على الخواتيم والحلي الا بعد وزنها بحضرة صاحبها ، كما يقتضي بك المعدن في الكور ،ان تكون هذه الاكوار بارتفاع ووضع يمكن الاشخاص من مشاهدة ما يوضع فيها ، حتى لايخفى على صاحب الذهب ما يسبكه الصائغ في الكور ،وحتى لايتمكن الصائغ من سرقة مما هو في البوتقة او ان يدس فيها نحاسا او غيره مما يدخل في الغش ([5])
وثمة مسالة أخرى تحسن مراعاتها تتعلق بتراب الدكاكين الذي تتناثر عليه ذرات من الذهب تتراكم مع الوقت وأصحابها مجهولون فينبغي لصاحب المحل ابن يعمد الى بيع هذا الذهب والتصدق به عن أصحابه ،وهنا أيضا لابد من ملاحظة ان يباع هذا التراب بغير الذهب تجنبا من الوقوع في الربا ، حيث تباع كناسة الدكان بالفلوس او بعوض أخر ([6]).

2.    النحاسون والحدادون
فقد انهمك الحدادون في صناعة ما احتاج اليه المجتمع انذاك من شبابيك حديدية وسيوف ودرروع وخوذ وادوات هندسية معروفة انذاك . أما النحاسون فكانوا يصنعون قدور الطبخ باحجام مختلفة وأواني الطعام الاخرى والجرار ،وقد استخدم الحفر والتلبيس والتطعيم واستخدمت النقوش الصلبة أو الجوفاء ،فضلا عن الترقيع والتذهيب ([7]).
فقد جرت كتب الحسبة على التنبيه على ضرورة التخلي عن كل اساليب الغش ، فمن ذلك تنبيه المشتري اذا اشترى قطعة نحاس فيها لحامات باطلاعه على هذه اللحامات ، وان كانت مما تبيض وجب على الصائغ النقش عليها بقلم واضح : عتيق ملحوم حتى يعرف المشتري حقيقية الحاجة التي يزمع شراءها فاذا لم يفعل الصانع ذلك كان غشا ، فاذا اطلع المشتري على الامر بعد ذلك حق له المتاع ،وعلى المحتسب تعزير الصانع على غشه ([8]).
وعلى السباكين الا يخلطوا خبث الفضة والرصاص والنحاس لان ذلك يضعفه مما يتسبب في سرعة كسر الحاجات المصنوعة منه . وان لايمزجوا النحاس المظروب – المطروق – بالمصبوب ([9])
ومما يؤخذ على الحدادين الا يضربوا سكينا ولا مقراضا ولا مخصفا ،وما اشبه ذلك ،من مادة الارمهان – تسمى اهين – فانه لاينتفع به ، وذلك فيه تدليس ([10]) فاذا زعموا ان الحاجة مصنوعة من الفولاذ قعليهم ان يحلفوا بالله العظيم على ذلك ([11]).
وينغي عدم خلط المسامير الجيعة بالمسامير الجديدة المضروبة ،وعدم ايهام المشتري بانها جديدة ،وعلى المحتسب تاكيد ذلك عليهم في المسامير والمساحي والمحاريث وجميع اصناف الحديد ، فمن وجده قد وقع في ذلك عزره واشهره بين الناس بالعقوبة ، فاذا تكرر ذلك منعه من العمل في هذه المهنة بين المسلمين ([12]).
كما ان على النحاسين اضا ان لايخلطوا النحاس الاحمر مع السوسي ، ولا ضرب الحار مع البارد .([13])

3.    البناؤون
البناء من أول الصنائع وأقدم الحرف التي مارسها الإنسان ذلك إن الإنسان مجبول على التفكير في عواقب أمره وأحواله ،فلا بد من انه فكر فيما يدفع عنه الأذى من حر وبرد ، مثل اتخاذ البيوت والمساكن التي يأوي إليها ([14]). فبعد إن عاش حقبة من الزمن في الكهوف والمغاور ، تعلم الإنسان من بيئته صنع مأوى له على نحو ما شاهده في الطبيعة من حفر وكهوف الأمر الذي قاده تدريجيا إلى تطوير مسكنه هذا حتى أصبح مجالا للمنافسة والمفاخرة في الطرز وإشكالها بزينتها ، ولابد للعاملين في هذه الحرفة من ملاحظة الاعتبارات الآتية([15] ):
ما يتطلب الأمر ، ان يصف صاحب الحاجة حاجته بدقة وتفصيل للبناء من حيث حجم العمل وطبيعته بما يمكنه من تقدير الكلفة المطلوبة بشكل صحيح ، ففي ذلك مصلحة الطرفين ، لان بعضهم يقرب حجم العمل للبناء ويهونه عليه من دون حجمه الحقيقي ، فإذا باشر الصناع والفعلة في العمل تبين أن العمل على غير ما وصف به بل هو اكبر من ذلك ، الأمر الذي يتسبب بالضرر للصناع والضرر للصاحب الحاجة أيضا إذ قد يتسبب سوء تقديره بحجم العمل في أن تفوق كلفة العمل الحقيقية قدرته المالية ،مما يضطره للاستدانة ، لذا بات من الضروري أن يوصف العمل وصفا دقيقا لتقدير الكلفة اللازمة فعلا([16]).
ومن ناحية اخرى فان الاتفاق بين صاحب العمل والقائمين عليه يكون اما على اساس انجاز عمل معين او قدر معين منه أو على اساس مدة العمل وهو عادة ما يغرف بالمياومة لزم احترامهم لوقت العمل أبتدأء وانتهاء ، وينبغي ان يكون ذلك مفهوما ومعروفا ومتفقا عليه ([17])
وتعتبر صناعة البناء من فروض الكفاية .. متى ما لم يقم بها من يحسنها، صارت فرض عين، لذلك يلزم الأمة توفير من يكفي للقيام بها، ولهذا قال غير واحد من الفقهاء، كأبي حامد الغزالي، وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما : إن هذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها ( [18]).‏
ولعل هذا مادفع ابن عبدون وغيره من واضعي كتب الحسبة، إلى التشديد في شروط مواد البناء، فيقول ابن عبدون : "أما البنيان، فهي الأكنان، لمأوى الأنفس والمهج والأبدان، فيجب تحصينها وحفظها، لأنها مواضع حفظ الأموال والمهج .. فمن الواجب أن ينظر -يقصد المحتسب- في كل ما يحتاج إليه من العدد، ومن ذلك أن ينظر أولا في الحيطان، وتقريب الخشب الوافر الغليظ القوي للبنية، وهي التي تحمل الأثقال، وتمسك البنيان .. يجب أن تكون جهة ألواح البنيان في عرضها شبرين ونصف لا أقل من ذلك، ويحدد ذلك القاضي والمحتسب للصناع والبنائين، ولا يصنع حائط يحمل ثقلا أقل من ذلك([19]).‏
ويجب أن تكون الآجر وافرة، معدة لهذا المقدار من عرض الحائط .. يجب أن يكون عند المحتسب، أو معلق في الجامع، قالب في غلظ الآجر، وسعة القرمدة، وعرض الجائزة وغلظها، وغلظ الخشبة، وغلظ لوح الفرش، هذه القوالب مصنوعة من خشب صلب لا يستاس، معلقة في مسامير في أعلى حائط الجامع، يحافظ عليها كي يرجع إليها متى ما نقص منها أو زيد فيها ويكون عند الصناع آخر لعملهم، وهذا من أحسن شيء ينظر فيه وأوكده.‏([20])
وعن مكان صنع مواد البناء يقول : "ويجب أن تصنع القراميد والآجر خارج أبواب المدينة لأن تلك المواضع أوسع، فقد ضاق في المدينة المتسع، ويجب أن يجيد طبخ الآجر والقراميد .. ويجب أن يحدد لهم -أي المحتسب- أن يصنعوا أنواعا من شكل الآجر .. حتى إذا طلب شيء يحتاج إليه وجد ( [21]).‏
وحتى يضمن البناء سلامة عمله وجودته بما يرضي صاحب العمل توجب على البناء استعما مايجب من ادوات العمل من موازين وخيوط يصحح بها عمله من استقامة الجدران وصحة الزوايا وما الى ذلك ، فاذا كان في عمله زيغ أو ميل أو انحراف توجب عليه تصحيحه حتى يعود خاليا من كل عيب ([22]).
وفي هذا الاطار أيضا فان على البناء النصح لصاحب العمل ([23]) فيشير عليه بما يصلح العمل في امور تحفظ جودة العمل وسلامة تصميم البناء وشكله وجودة المواد المستعملة في البناء ، واية أمور اخرى تخدم العمل . ومن ناحية اخرى ، فان على البنائين عدم التواطؤ مع الجبيارين والجباسين على استخدام مواد غير ناضجة ولا مهيأةبشكل جيد في العمل مقابل هدية او رشوة من هؤلاء ، لان ذلك تدليس على صاحب العمل ، بل يجب ان يستخلفوا على ذلك ([24] ) كما يوخذ على البنائين ايضا عدم استخدام جبس رجيع قد سبق استخدامه  في عملهم ، بل عليهم استخدام المواد الجيدة والسليمة ([25]).
كما ولا يحق للبناء التصرف بما يستأجره من اخشاب لاستخدمها كدعائم فلا يقطع منها شيئا حتى يضعها في المكان المناسب ، فاذا فعل ذلك لزمه أداء غرامة وعلى المحتسب ان يؤدبه عليه ([26]).

4- الحاكة والخياطون
شهدت  الدولة الإسلامية نشاطا واسعا في إنتاج الأقمشة والمنسوجات ففي العراق مثلا كانت ابرز مراكز الانتاج قبل الإسلام تتمثل في الابلة وميسان والحيرة والمدائن والموصل ،وعقب انتشار الإسلام  وتمصير الأمصار أنظمت إلى هذه المراكز كل من البصرة والكوفة وبغداد وسامراء وواسط. فقد ظهرت معامل أهلية لصناعة النسيج عرفت بدور الطراز العامة  ثم أضيفت إليها معامل النسيج الحكومية وعرفت ب دور الطراز الخاصة ([27]).
وفي بغداد وحدها اشتهرت محال عديدة بالصناعات النسيجية منها دار القز ، وهي محلة كبيرة ببغداد عرفت بهذا الاسم لاشتهارها بصناعة ثياب القز ([28]) ومحلة التستريين المشتهرة بصناعة الثياب التسترية ([29])ومنها دار القطن ([30]).
وقد ترتب على هذا الاتساع في القاعدة الصناعية للنسيج قدر كبير من التنوع في طبيعة الانتاج ، فثمة منسوجات قطنية ذات بياض ناصع ،وأخرى كتانية امتازت برقتها ،وثالثة حريرية متعددة الألوان ،وهناك ما ينتج على وفق مواصفات خاصة للألبسة والستائر أو الفرش وغيرها ([31]) ولهذه الصناعة وتوابعها أخلاقيات يلزم مراعاتها عند العمل منها :
1. مراعاة عدد من الإحكام الشرعية ذات الصلة بهذه الحرفة وما قد يترتب عليها ، من ذلك ان لاينسج ما يحرم استعماله حتى لايكون معينا على معصية ، فلا ينسج حريرا يستعمله الرجال ، إما إذا كان استعماله من الرجال والنساء والصبيان ، فلا بأس في صناعته لأنه لايشترط استخدامه من رجل بالغ ، فقد يكون مطلوبا للنساء والصبيان فمثله غير محرم ([32])
2. ومن ناحية أخرى فانه لأبأس من وجود الحرير في الأقمشة الرجالية على أن لايتجاوز نسبة وزن الحرير في القماش على إل 50% من وزنه ، أما إذا ازدادت النسبة على ذلك فهو حرام
3.   كما يمكن جعل طراز المنسوج – حاشيته – حريرا بشرط أن لايتجاوز الأربعة أصابع ([33]).
4.   أما نسيج الأقمشة التي عليها صور ، ففيه قولان أصحهما التحريم ([34])
فعلى النساج توخي ملاحظة ذلك .
وإذا اخذ النساج غزلا من احد الأشخاص لينسجه له ، فليأخذه منه بالوزن ، فإذا نسجه أعاده إلى صاحبه بالوزن أيضا ، فذلك ما ينفي التهمة ([35]).
فإذا أدعى صاحب الغزل إن النساج قد أبدل غزله بغيره ،عرض المحتسب الأمر على العريف ، فان اخذ بقوله فهو حكمه ، وإلا حملها إلى القاضي ([36]) كما إن على النساج مراعاة الإبعاد التي طلبها الغزل ، فإذا لم يلتزم ذلك ، قال العلماء انه لايستحق الأجر ، لأنه الحق ضررا بالعمل ، وانه كان بوسعه إن لايخالف تلك القياسات ([37]).
من الأمور التي تحسن مراعاتها أن لايمد النساجون (مراديهم) في طرقات الناس فان ذلك يضر بالمارة ([38])
والضرر بالناس محرم شرعا . كما أن هؤلاء يتخذون أحواضا من الحجر – يعرف الواحد منها جرف – على أبواب حوانيتهم يضعون فيها الماء الذي يحتاجونه في عملهم ، فربما جاءت الكلاب بعد انصرافهم وولغت فيه ، لذا لزم تغطية هذه الأحواض بقطع من الخشب ، أو بغسلها كل يوم سبع مرات أحداهن بالتراب ([39]).
أما بالنسبة للخياطين ، فان من بين ما يتوجب عليهم مراعاته أخلاقيا ، أن لايخيطوا حريرا ولا يجعلونه بطانة لمن يحرم عليه استعماله ،لان في ذلك أعانه على معصية ،وهذا منهي عنه شرعا. اما بالنسبة للنساء والصبيان فلأمر مختلف لعدم حرمة استعمالهم للحرير ، لذا جاز للخياط أن يخيطه لهم ([40]).
في الحسبة على الخياطين يؤمرون بجودة التفصيل ، وحسن فتح الجيب ، وسعة التخاريص ، واعتدال الكمين والأطراف ، واستواء الذيل .([41])
والأجود أن تكون الخياطة درزا لا شلا ، والإبرة دقيقة ، والخيط في الخرم قصيرا ؛ لأنه إذا طال انسلخ وانتقض فتله فيضعف ، وأيضا كلما نتر الخياط  ضعف .([42])
وينبغي أن لا يفصل الخياط لأحد ثوبا له قيمة حتى يقدره ، ثم يقطعه بعد ذلك ، فإن كان ثوبا له قيمة كالحرير والديباج ، فلا يأخذه إلا بعد أن يزنه ، فإذا خاطه رده أليه  إلى صاحبه بذلك الوزن .([43])
ويعتبر المحتسب عليهم ما يسرقونه من أمتعة الناس ، فمنهم من إذا خاط ثوبا حريرا ونحوه حشاه وقت كفه رملا وأشراسا ، ويسرق بقدره من الثوب إذا كان موزونا عليه .
ويمنعهم أن يماطلوا الناس بخياطة أمتعتهم ، باستضرارهم بالتردد إليهم ، وحبس الأمتعة عنهم .([44])
ولا يتكلفون للناس عملا أكثر من الأسبوع ، إلا أن يتشرطوا لصاحبه أكثر من ذلك ، ولا يتعدون الشرط .([45]).
وعلى الخياطين عدم إلحاق الضرر بزبائنه ،من ذلك مثلا التأكد من كون القماش كافيا لقياسات الرجل قبل أن يقطعه ، فإذا تبين أن القماش لايكفي لما يريده له صاحبه ، فان الخياط يتحمل الغرامة اللازمة عن ذلك ([46]).
ويقتضي هذا عمليا ، أن لايحمل الخياط نفسه من الإعمال ما يكون فوق قدرته المحسوبة على أساس وقت الانجاز ،إلا باتفاق أيضا مع الزبون ،فإذا خالف ذلك أدبه المحتسب ([47]).
أما بالنسبة لجودة العمل ، فان الخياط ملزم بمراعاة جودة التفصيل وحسن الإبعاد الخاصة بالقياسات ولأجزاء واعتدال الكمين واستواء الذيل ([48]).
مراعيا زيادة عرض الثوب تحت الكمين ([49]) . وان يكون الخياط على الخرم قصيرا ، لأنه إذا طال انسلخ وضعفت قوته([50]).
وان كان القماش ذا قيمة عالية كالحرير والديباج ، فلا يأخذه الخياط ألا بالوزن ، فإذا خاطه رده إلى صاحبه بذلك الوزن أيضا ([51])فان بعضهم يغش بان ينقع الحرير بالماء والملح حتى يزيد في وزنه ، فيمكن ان يقطع شيئا من القماش لنفسه ([52])وهذه سرقة لا تجوز .

5.     الطحانون والخبازون والطباخون
لما كانت صناعة الخبز تتعلق بقوت الناس اليومي ، لذا لزم إخضاعها لقواعد أخلاقية ورقابة صارمة  لضمان انسياب هذه المادة بسلامة بين الناس . فما يتعلق بالطحانين يمكن ملاحظة الجوانب الآتية :
يحرم عليهم مبدئيا احتكار الغلة ([53]). فلا يجوز لهم شراء الحبوب واحتكارها وحرمان الناس منها من اجل إخضاعهم لسطوتهم واستغلالهم .فضلا عن الطحانين أذا كانوا يشترون الغلة لطحنها وبيعها . وجب عليهم أداء زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة ،فكل من اشترى شيئا بقصد بيعه بربح ،سواء أجرى فيه تغيرا أم لا ، وسواء كان التاجر مسافرا في عمله ام مقيما في مكانه ، وجبت عليه زكاة التجارة ([54]).
كما ينبغي عليهم  عدم خلط الأنواع الرديئة بالجيدة ، ولاخلط القديم بالجديد ، لان ذلك فيه تدليس على الناس ، وفي هذا الإطار أيضا فانه يلزمهم تنقية الحبوب من الأتربة والشوائب والعوالق المختلفة قبل طحنها والعمل على غربلتها جيدا ([55]). كما إن عليهم عدم خلط دقيق القمح بدقيق الحمص أو الفول بهدف زيادة نظارة الدقيق ، لان هذا غش للناس ([56])، وعليهم أن يحلفوا بعدم غش احد في قمحه أو دقيقه ([57]) وعلى المحتسب  إلزام هؤلاء بتخصيص نسبة معينة من الدقيق يبيعونه لأصحاب المخابز يوميا ([58]) لضمان استمرار وجود مادة الدقيق في المخابز لإنتاج الخبز للناس في كل حين .

ومن الناحية الفنية فان المحتسب أن يأمرهم بتغيير مناخلهم كل ثلاثة أشهر حفاظا على دقة عملها في إنتاج الدقيق الأفضل ([59]). كما إن عليهم إن لايطحنوا على اثر نقر الحجر ، لان هذه النقارة ستخلط بالدقيق وذلك يضر بالناس .
كما إن على الطحانين مراعاة جودة الدقيق من خلال درس الحبوب في المطحنة وقتا أطول ([60]).
وعلى المحتسب مراقبة مكاييل الطحانين وموازينهم مراقبة مستمرة ، كما يتفقد الفوارغ – الأكياس – المعدة لتعبئة الدقيق والاطمئنان على سلامتها ونظافتها وعدم وجود ثقوب فيها قد تسبب في ضياع جزء من الدقيق في الطرقات عند نقله على الدواب ([61]). وان تكون الحجارة التي يوزن بها القمح مجلدة ومعيرة جيدا ومختومة بالرصاص ، مكتوب عليها أوزانها بالحبر وخط المحتسب ([62]).
وعلى الطحانيين أن يتقوا الله في دوابهم التي يستخدمونها في أية مرحلة من مراحل عملهم ، فلا يحملوها فوق طاقاتهم ،وان يمنحونها قسطا من الراحة والسكون ،فلا تستعمل الدابة في طحن أكثر من قدر معين من الحبوب معروف عندهم ([63]) تأكيدا على منطلقات الرفق بالحيوان التي أكدها الإسلام في أكثر من مكان من تعليمه .
اما بالنسبة للخبازين فينبغي للمحتسب ان يجعل عليها عريفا ثقة من أهل الصنعة ، يشرف على عملهم ،وينظم قائمة بأسمائهم ومعدات عملهم اللازمة ([64]). وعلى هؤلاء أيضا مراعاة القواعد المقتضاة في عملهم لكي يخرج سليما في كل وجوهه ومنها ان الخبازين اذا كانوا يشترون الدقيق ثم يخبزونه ويبيعونه ،وجب عليهم من أداء الزكاة هذه التجارة ،فعملهم من هذه الناحية يقع في باب التجارة .
إما إذا كان عملهم يقتصر على استلام طحين الناس وخبزه لهم ، فذلك لا يوجب الزكاة عليهم ، إما إذا جمعوا الشكلين من العمل ، فان الزكاة تجب على مايشتريه من دقيق ليخبزوه ويبيعونه ([65]).
ولما كانت النظافة هي من ابرز ما تجب مراعاته في هذه المهنة لذلك توجب على أصحاب المخابز العناية بالجوانب الآتية : أن تكون للمخابز متنفسات كافية للخروج الدخان من سقائف أفرانهم ،وان تكون هذه المسقفات واسعة بالقدر اللازم . كما يجب كنس التنور باستمرار لتخليصه من الرماد المجتمع فيه وحتى تكون النار أفضل أتقادا . كما يلزم غسل الأواني المستعملة في مراحل العمل  كلها يوميا.
وان يتم عجن الدقيق بالكفين ولا يجوز استخدام القدمين لهذا الغرض ،ولا الركبتين أو المرفقين أيضا ، لان ذلك مهانة للطعام ،ومنعا لنزول شيء من العرق من الإبطين .كما أن على العاملين في هذه الصنعة مراعاة الجوانب الآتية في ملابسهم : أن يكون الكمان ضيقيين ،وان يكون العامل متلثما لأنه ربما عطس أو تكلم فيقع شيء من بصاقه أو عطاسه في العجين ويلزم أيضا أن يشد على جبينه عصابة بيضاء لئلا يتعرق فيسقط منه شيء في العجين ،وإذا عجن في النهار لزم أن يقف إلى جانبه شخص بيده مذبة ليمنع اجتماع الذباب أليه ([66]).
كما أن العجان التأكد من سلامة الماء الذي يستعمله في العجن فإذا تبين أن الماء الذي استخدمه لم يكن نظيفا وانه قد سقط فيه شيء مكروه أو وسخ ،فعليه عدم بيع الخبز لمسلم ولا لغيره ،وإذا باع شيئا منه تصدق بثمنه أذا لم يتمكن من استرداد الخبز الذي باعه وعليه أن يطعم هذا الخبز للدواب فقط ([67] ).
وعلى المحتسب إن يأخذ عليهم عدم الغش في صناعتهم بوضعهم الكركم أو الزعفران وما يجري مجراهما ، فنهما يوردان وجه الخبز ،وكذلك عدم خلط الدقيق بدقيق الحمص أو الفول لتحقيق الغاية نفسها ،فان ذلك يعد غشا ([68]).
كما إن بعضهم يخلط الدقيق بدقيق الرز من اجل زيادة وزنه ([69]) ويقع هذا الأمر أيضا في باب الغش . وعلى الخبازين أيضا مراعاة اختمار العجين ،لأنه إذا كان خميرا ثقل في الميزان ،وثقل على المعدة أيضا ([70]).
ومن واجب الخباز تزين وجه الخبز بالمطيبات من قبل الكمون الأبيض والكمون الأسود والسمسم وما إلى ذلك ([71]).
وما يجب على المحتسب مراعاته في هذه الصنعة ان لاينام الصناع في أكسية العجين ،ولا في مكان العجن أو نشر الخبز ، وعليهم نشر هذه الأكسية على الحبال بعد نفضها وغسلها في كل وقت ([72]).
وان عليهم أصلاح مداخن الفرن باستمرار وتنظيف أرضه بالكنس المستمر في كل ساعة وتخليصها من الطحين المحترق والرماد خشية التصاق شيء منها مع الخبز ([73]).وثمة أمور أخرى يلزم مراعاتها ،ومن ذلك مراعاة السعر بان يكون موافقا لمصلحة الخباز والمستهلك في الوقت نفسه ([74]) وعلى اساس مراعاة سعر المثل في كل الأحوال ([75]). كما يقوم المحتسب بالزام الخبازين بضرورة طرح كمية من الخبز يوميا لاتقل عن حد معين ، لضمان توفر هذه المادة الأساسية لعامة الناس ،وذلك يكون سوى مايخبزونه من طحين خاص بأصحابه ([76])
فإذا حصل زيادة في الطلب لسبب ما توجب زيادة كمية الخبز المنتج ([77]) ولابد من الحفاظ على وزن مناسب يعينه المحتسب لرغيف الخبز ،فإذا وجد إن الوزن قد نقص فله تأديب القائمين بذلك وان يتصدق بهذا الخبز ،وإذا لزم الأمر أخرجه من السوق فيكون عبرة لغيره ([78]) وأخيرا فانه يتوجب على الخباز تمييز الطحين الذي يخبزه للبيوت من الطحين العائد له ، وإذا استلمه عجبينا فعليه ان يميزه من العجين الذي عنده حتى لا يخلط حقوق الناس بعضها مع بعض فذلك حرام ([79])

[1] الغزالي ، ابو حامد محمد بن محمد (ت ، 505هـ) إحياء علوم الدين بيروت ، د/ ت)،2 /77

[2] سورة النمل :الاية 88

[3] الشيزري ، عبد الرحمن بن نصر (ت ، 589هـ) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ، نشره السيد الباز العريني ، القاهرة ،1946 ، ص77 ، ابن الإخوة ،معالم القربة في احكام الحسبة ،ص146

[4] ابن الاخوة محمد بن احمد ، معالم القربة في احكام الحسبة ، تحقيق روبن ليري ،كمبرج ،1937م ، ،ص147

[5] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،77 ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،146

[6] المصدر نفسه ، 77

[7] عبد العزيز الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري ، بيروت ،1999م ،ص129

[8] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،79 ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،143

[9] ابن بسام ، محمد بن أحمد (ت ، في القرن الثامن ) نهاية الرتبة في طلب الحسبة تحقيق، حسام السامرائي، بغداد ، 1968م ،143

[10] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،79، ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،148

[11] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،141

[12] ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،148

[13] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،141، ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،148

[14] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،141

[15] ابن الرامي ، محمد ابن إبراهيم ، الإعلان بحكام البنيان ، تحقيق محمد عبد الستار عثمان ، الإسكندرية ، 1988 ، ص36

[16] ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،234

[17] ابن الاخوة معالم القربة في احكام الحسبة،334

[18] خالد محمد مصطفى عزب، "تخطيط وعمارة المدن الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة، العدد 58 ،التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في قطر ، 1997، ص121

[19] المرجع نفسه ، ص121

[20] خالد محمد مصطفى عزب، تخطيط وعمارة المدن الإسلامية ، ص121
[20] المرجع نفسه ، ص122

[21] المرجع نفسه ،122

[22] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ، 144، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،235

[23] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،236

[24] المصدر نفسه ، 235-236

[25] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة ، 235-236

[26] المصدر نفسه ، 235-236

[27] الحسو ، احمد عبد الله الحسو ، الصناعة في العراق ص 192-193 ، الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي ،ص116

[28] ياقوت الحموي(ت ، 626ه) ، معجم الادباء ، تحقيق مرجليوت ،( القاهرة ،1920م) ، 2 /422

[29] المصدر نفسه ، 2 /31

[30] المصدر نفسه ،2 /422

[31] الحسو، احمد عبد الله ، الصناعة في العراق، ضمن كتاب : العراق في موكب الحضارة ج2 ، بغداد ، 1988م ، 193- 194

[32] السبكي ، تاج الدين عبد الوهاب (ت ، 771هـ)معيد النعم ومبيد النقم( ت، بيروت ، 1985م) ،134

[33] المصدر نفسه ،143

[34] المصدر نفسه ،143

[35] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،65، ابن الإخوة معالم القربة في أحكام الحسبة،136

[36] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،65

[37] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،137

[38] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،65

[39] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،65-66

[40] السبكي ، معيد النعم ومبيد النقم،135

[41] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة،65

[42] المصدر نفسه ،65

[43] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،66

[44] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،138

[45] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،138

[46] السبكي ، معيد النعم ومبيد النقم،135

[47] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،78

[48] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،137

[49] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 67 ، ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،78

[50] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،78، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،137

[51] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 67، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،137

[52] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،138

[53] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 21، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،89

[54] ابن تيمية ، تقي الدين بن عباس احمد بن عبد الحليم (ت ، 728ه) الحسبة في الإسلام ( القاهرة :د /ت)،30-31

[55] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 20

[56] المجيلدي ، احمد سعيد (ت،1094ه) التيسير في أحكام التسعير تحقيق ،موسى لقبال ، الجزائر ،د/ ت) ،82

[57] المصدر نفسه ،59

[58] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 21، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،89

[59] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 21، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،89

[60] المصدر نفسه ،ص21

[61] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،59

[62] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،59

[63] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،89

[64] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،21

[65] ابن تيمية ، الحسبة في الإسلام ،30

[66] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 22 ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،21، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة، 91

[67] أبو داود ،مسائل الإمام احمد ،192

[68] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 23 ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة، 91

[69] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 23

[70] المصدر نفسه ،ص23

[71] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 23، ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة، 91

[72] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة، 91

[73] المصدر نفسه ،92

[74] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ،22-23

[75] ابن تيمية ، الحسبة في الإسلام، 31

[76] الشيزري ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، 23،

[77] ابن بسام ، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ، 23

[78] المجيلدي ، التيسير في أحكام التسعير ،82

[79] ابن الإخوة معالم القربة في إحكام الحسبة،92

» من التراث الحرف اليدويه
» أخلاقيات التعامل مع المدينين
» أخلاقيات منسية يجب تعليمها لأبنائنا
» أخلاقيات البحث والنشر العلمي
» الصناع وأصحاب الحرف هم الذين نصروا الدين مع ان البعض يعيبهم للأسف الشديد