في 4 شعبان.. خطبة فتح بيت المقدس من على منبر صلاح الدين
[rtl]"أيها الناس أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا، لما يسّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه، واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بُني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من بين يديه ومن خلفه، فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم عليه الصلاة والسلام وقبلتكم التي كنتم تصلّون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل ومهبط الوحي، ومنزل ينزل به الأمر والنهي، وهو أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله صل الله عليه وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي أكرمه برسالته وشرّفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته.."
"[/rtl]
لم تكن شعارات رنانة ألقى بها أناس يقولون ما لا يفعلون، وليست هذيانا .. بل هي كلمات صدح بها لسان عارف للحق، ناصر للإسلام، بعد 100 عام من دوس المدينة المقدسة بنعال الصليبيين وتحويل مسجدها الأقصى إلى اسطبل لخيولهم، وشرب الخمر في باحاته، وتعطيل الأذان والصلوات وقتل النساء والرجال والأطفال.
إنها أول خطبة جمعة بعد أسبوع من تحرير بيت المقدس على يد القائد الإسلامي الكبير صلاح الدين الأيوبي، قاهر الصليبين والجاحدين، ومن بديع التاريخ أن يحاكي يوم أمس الجمعة (4 شعبان 1436هـ)، ذكرى (4 شعبان 583هـ) تاريخ هذه الخطبة الرائعة التي وضعت النقاط على الحروف، وبدأت التأريخ لحقبة عاش فيها الإسلام عزيزا، وتأتي فيه التصريحات بعد الانتصارات، لا كما يمتلئ عالم اليوم بإفك الشعارات، بينما تتيه البوصلة في كل اتجاه.
الشيخ محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي رحمه الله، صاحب هذه الخطبة، الذي اعتلى منبر الفاتح السّلطان أبي المظفر يوسف بن أيوب (صلاح الدّين الأيّوبي)، بعد تحرير بيت المقدس في ليلة المعراج يوم 27 رجب سنة 583 هـ.
"
ويمدح الشيخ محي الدين الجيش الإسلامي الفاتح، ويثني عليهم بعد الثناء على الله، ليشد عزائمهم التي تناطح قمم الجبال، فيقول: طوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية والعزمات الصدّيقية، والفتوحات العُمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية. فجزاكم الله عن نبيه محمد صل الله عليه وسلم أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل الله منكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها وقوموا لله قانتين بواجب شكرها فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنوار وجوده الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عينا الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة أن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله وأن يكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء، أليس هذا البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في محكم خطابه فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الإسراء:1].
"
ظل هذا المنبر شاهدا على الفتح العظيم لبيت المقدس وتطهيره من دنس الصليب، يعتليه العلماء، ويخرج من حواليه الأتقياء، ويغيظ عتاة الأعداء، وظل كذلك إلى أن بدأت أمة الإسلام تنزل من العز إلى الهوان، ويموت في قلبها التقوى والإيمان، فتجرأ عليه حلفاء عبدة الأوثان، وأشعلوا فيه النيران..
نيران لا زال لهيبها يملأ جنبات المسجد الحزين الذي عاد إلى الوراء عشرات السنين، يستغيث فلا يجد إلا أمة من النائمين!!
قبل أسبوع فقط من هذه الخطبة التي يحفظها التاريخ، كان الصليبيون يتوسلون إلى صلاح الدين الأيوبي بأن يقبل بمصالحتهم، لما رأوه من شدة القتال ولما شعروا أنهم أشرفوا على الهلاك؛ حيث عقدوا اجتماعًا للتشاور، فاتفقوا على طلب الأمان؛ فأرسلوا وفدًا إلى صلاح الدين من أجل هذه الغاية, واشترطوا احترام مَن في المدينة من الصليبيين, والسماح لمن يشاء بمغادرتها.
كانت هذه الشروط هي نفسها التي سبق لصلاح الدين أن عرضها عليهم من قَبْلُ, لكنه رفض قبولها الآن؛ لأنه أوشك أن يفتح المدينة عَنْوَةً, وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.
وازداد موقف الصليبيين في الداخل سوءًا, وراحوا ينظرون بقلق إلى المصير الذي ينتظرهم, ولم يسعهم إلا أن يحاولوا مرة أخرى إقناع صلاح الدين بالعفو عنهم, ولكن صلاح الدين سبق له أن أقسم بأنه سوف يفتح بيت المقدس بحد السيف, ولن يحله من قسمه سوى إذعان المدينة بدون قيد أو شرط.
وتجاه هذا الإصرار, وبعد أن استشار مجلس حربه في الموقف, تقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل عشرة دنانير عن الرجل يستوي فيها الغني والفقير, وخمسة دنانير عن المرأة, ودينارين عن الطفل, ومن يبقَ فيها يقعْ في الأسر, واشترط أن يُدْفَعَ الفداءُ المفروضُ في مدى أربعين يومًا, ومن لم يُؤَدِّ فداءَه خلال تلك المدة يصبحْ مملوكًا, لكن تبين أن في المدينة نحو عشرين ألف فقير ليس بحوزتهم المبلغ المقرر للفداء؛ فوافق صلاحُ الدين أن يدفع باليان بن بارزان -فارس من فرسان الفرنجة الكبار كان يسكن مدينة القدس ويتولى شؤونها- مبلغًا إجماليًّا قدره ثلاثون ألف دينارٍ عن ثمانيةَ عشرَ ألفًا منهم.
استشار صلاح الدين الأيوبي مجلسه وقبل هذه الشروط، على أن يتم دفع فدية على كل من فيها مقدارها عشرة دنانير من كل رجل وخمسه دنانير من كل امرأة ودينارين عن كل صبي وكل صبية لم يبلغ سن الرشد، فمن أدى ما عليه في المهلة التي قدرها أربعين يومًا، صار حرًا. ثم سمح صلاح الدين بعد أن انقضت المهلة لمن لم يستطع الدفع منهم بالمغادرة دون فدية.
دخل صلاح الدين المدينة في ليلة الاسراء و المعراج يوم 27 رجب سنة 583 هـ، الموافق فيه 2 أكتوبر سنة 1187م، وأمر بترميم المحراب العمري القديم وامر بحمل منبر مليح من حلب كان الملك نور الدين محمود بن زنكي قد أمر بصنعه قبل عشرين عاما ليوضع في المسجد الأقصى متى فُتح بيت المقدس، ونُصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار مسيحية منها الصليب الذي رفعه الإفرنج على قبة المسجد، وغُسلت الصخرة المقدسة بعدة أحمال ماء ورد وبُخّرت وفُرشت ورُتّب في المسجد من يقوم بوظائفه وجُعلت به مدرسة للفقهاء الشافعية، ثم أعاد صلاح الدين فتح الكنيسة وقرر على من يرد إليها من الفرنج ضريبة يؤديها.
وقد ابتهج المسلمون ابتهاجًا عظيمًا بعودة القدس إلى ربوع الأراضي الإسلامية والخلافة العباسية، وحضر ناس كثيرون ليسلموا على السلطان ومن هؤلاء الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي، الشاعر المشهور، فأنشد صلاح الدين قصيدة طويلة من مائة بيت يمدحه ويُهنئه بالفتح، ومما جاء في القصيدة:
هذا الذي كانت الآمال تَنْتَظِرُ فَلْيوفِ لله أقوامٌ بما نَذَر
هذا الفتوحُ الذي جاء الزمانُ به إليك من هفوات الدهر يعتذرُ
تَجُلّ علياه عن دح يُحيط به وصفٌ وإن نظم المّدَاح أو نثروا
لقد فتحتَ عَصيّاً من ثُغورهمُ لولاك ما هُدَّ من أركانها حَجَرُ
والآن.. ينتظر المسلمون من يعيد لهم هذا المجد الضائع، ليفرحوا كما فرح السابقون.