شهدت السنونُ الأخيرةُ موجةً من الردَّةِ ساعد على وجودها نظامُ التربية العقيم في عالمنا الإسلامي، وتخلي المؤسساتِ التعليمية عن عملها في غرس العقيدة الصحيحة في قلوب المتعلمين؛ مما كان سببًا في تنشئة الأجيال المسلمة الجديدة بعيدًا عن الإسلام، وفِقدانها من يقوم برعايتها من الدعاة، بعد أن صارت الدعوةُ إلى الله مهنةً يُتكسب بها، ووظيفة تُرحِّلُ إليها الحكوماتُ جزءًا من طلاب الوظائف دون النظر في قدراتهم أو استعداداتهم، في مقابل ذلك ازديادٌ لنشاط الدعوات التخريبية؛ من تنصيرٍ وإلحادٍ وغيره، وفي الوقت نفسه تشجيعٌ وتحريض من جهات خارجية لأصحاب تلك الدعوات، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، بل والتدخل لحمايتهم من تطبيق القوانين عليهم، حتى صار بعضُهم يجاهر بعد ردته بتسفيه الإسلام وأهله -دون بينة- والتطاول على أئمته بمن فيهم رسول الله -صل الله عليه وسلم-، بل وعلى ذات الله سبحانه وتعالى!..
فإذا ما سعى أحدٌ لمقاضاتهم أمام القانون هبَّ حماتُهم في الغرب والشرق للدفاع عنهم، وحضوا المسئولين على التدخل للضغط على المحاكم لإلغاء الأحكام التي تصدر عليهم، ثم قيام إعلامهم بعد إلغاء تلك الأحكام بالرفع من شأنهم، وتصويرهم على أنهم كانوا ضحايا لعدم تقدير الإنسانية وحريتها، وذلك لاستعطاف عوام الناس عليهم..
ومما زاد من الخطب سعيُ من تولى كِبرَ ذلك من هؤلاء لِجَرِّ مَنْ نصبتهم السلطاتُ علماءَ، وجعلت منهم المفتين والمتكلمين الرسميين باسم الإسلام دون سواهم - لأن يُلقوا جزافًا بالأحكام التي تؤيد مسعى هؤلاء، وتمنحهم الحق في ردتهم باسم حرية الاعتقاد وأنه لا إكراه في الدين..
ولخطورة ذلك الأمر رأيتُ أن أعرض في هذه الصفحات التالية موقفَ أبي بكر الصديق من الطائفة المرتدة وكيفية تعامله معهم، على اعتبار أن عصره شهد أكبر فتنة تتعلق بهذا الأمر؛ لنكون على بينة من موقف الإسلام من تلك القضايا، والخطوات العملية التي اتخذها السلف في مجابهتها..
وقبل الخوض في الحديث لابد من الإشارة لعدة نقاط:
النقطة الأولى: أن أبا بكر الصديق بعد محاورته لكبار الصحابة لم يخالفه أحدٌ منهم في الإجراءات التي اتخذها بشأن المرتدة.
النقطة الثانية: أنه لم يصدر عن أي من علماء السلف المشهود لهم بالفضل على مر التاريخ رأيٌ أو اجتهادٌ يخالف ما ذهب إليه أبو بكر الصديق في هذه القضية.
النقطة الثالثة: أن تطبيق الأحكام الإسلامية يكون بحسب التمكين للمسلمين، بمعنى أن تطبيق بعض الأحكام الإسلامية قد يتوقف في البيئة التي تكون الهيمنةُ فيها لغيرهم، ولكن ذلك لا يغير من الحكم الثابت أو يبدله شيئًا..
وعليه فإن من فعل شيئا يخرج من الإسلام، ولم يرجع عنه فهو مرتد، ليس له مسمى غير ذلك، بغض النظر عن تطبيق الأحكام الشرعية عليه أو عدم تطبيقها، لتتصرف معه الجهات القضائية كيفما شاءت، تعاقبه أو تعفو عنه، أو تجعل فعله من مباحات القانون، فهي المسئولة عن ذلك أمام الله، ولكن يبقى حكمُه في الشرع ثابتًا، وهو المقاتلة حتى يرجع لدين الله، ولا يوصف بغير كونه مرتدًا عن الإسلام..
النقطة الرابعة: أن أبا بكر قاتل المرتدين باعتبارهم خارجين على الإسلام، وليس على الدولة أو القانون كما زعم بعض المعاصرين، بدليل قوله -رضي الله عنه- معلقا على من جادله بشأنهم: "أينقص الدين وأنا حي..؟!" ولما قال له عمر رضي الله عنهما: "كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا لقاتلتهم على منعهم".
وهذا الخبر أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال: "لما توفي رسولُ الله وكان أبو بكر -رضي الله عنه-، كفَر مَنْ كفَر من العرب، فقال عمر -رضي الله عنه-: كيف تقاتل الناس... (البخاري: 3/308) وذلك يعني أن الصحابة كانوا متفقين على ردتهم وكفرهم، وإنما كان الخلاف أولا حول إمكانية مقالتهم.
النقطة الخامسة: أن المرتدين الذين تظاهروا بالإسلام ومنعوا الزكاة كان في نيتهم أن يحاربوا أبا بكر قبل أن يحاربهم، بل قد حدث ذلك بالفعل، فقد استغلوا غياب جيش المسلمين مع أسامة وأغاروا على المدينة، هذا فضلا عن قتل بعضهم لمن ثبت على دينه من أهلهم، فقد وثبت بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم -كما قال الطبري- كل قتلة، وكذلك فعل مَن وراءهم فِعلَهم..
وكل من ادعى النبوة شرع في تجييش الجيوش لمحاربة أبي بكر الصديق قبل أن يجيشها لهم، مثال ذلك ما حدث مع طليحة الأسدي، فقد حدث الطبري "عن القاسم بن محمد قال: مات رسول الله -صل الله عليه وسلم- واجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة وطيء على حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب إليهم ناس من بني كنانة فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين، فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بـ"حبال" فكان "حبال" على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج...".
وحتى من ذهبوا ليجادلوه في إقامة الصلاة والإمساك عن الزكاة كانوا قد اصطحبوا معهم الجيوش سرًّا، وجعلوها على مقربة منهم خارج المدينة يتحينون الفرصة لمباغتته..
النقطة السادسة: أن أبا بكر الصديق لم يفرق في قتاله للمرتدين بين من أعلنوا الحرب عليه أو من اكتفوا بردتهم؛ وذلك لأن قتاله لهم لم يكن لخروجهم على الدولة كما ذكرنا من قبل، وإنما لخروجهم على الإسلام، ولم نسمع أنه -رضي الله عنه- قبِل من أحد منهم غيرَ الإسلام، وكانت رسالتُه في ذلك لأمرائه صريحة "ولا يُقبلُ من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجِز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذَّن المسلمون فأذِّنوا وكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قُبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم...".
بل إن أبا بكر رفض أن يقبل ممن عرض عليه أن يؤلف إليه قومه مقابل جُعْل من المال، فقد جاءه الزِّبْرِقانُ بنُ بدر والأقرعُ بنُ حابس وقالا: اجعل لنا خَرَاجَ البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا، فأبى..
ونقول ذلك؛ لأن البعض الآن لا يرى عقوبةً على المرتدين إذا اكتفوا بردتهم ولم يخرجوا على الدولة، مع أن مرتدة العصر -وإن لم يحملوا السلاح- ما كفُّوا يومًا عن محاربة الإسلام والتطاول على شرعه وتعاليمه ورموزه، وما تركوا فرصة إلا وجَدُّوا في استفزاز المسلمين بالطعن في دينهم، هذا فضلا عن سعي الكثير منهم لوصل حبالهم بجهات خارجية تحميهم كما قلنا حتى من تطبيق القوانين المدنية عليهم..
النقطة السابعة: أن المرتدين شوكتُهم أشد على المسلمين عشرات المرات من شوكة الكافر والمشرك الذي لم يحتك بالإسلام من قبل، ومن شاء فليراجع تاريخ القرامطة وغيرهم من الفرق الخارجة على الإسلام، وكذلك تاريخ الأسر المرتدة التي أتيحت لها الفرصةُ لتهيمن على بعض ديار الإسلام كالهند وغيرها؛ لذا لا ينفع معهم غير سياسة الحزم المبكر كما فعل الصديق -رضي الله عنه-.
وقد تعايش المسلمون على مر التاريخ بسلام مع أصحاب الديانات الأخرى بينهم -قلة أو كثرة- ولم يستطيعوا أن يتعايشوا مع المرتدة؛ لامتلاء قلوبهم بالغيظ عليهم..
النقطة الثامنة: أن حركة الردة على عهد أبي بكر بدأت برموز من أصحاب الأهواء والطامعين، ثم تبعها جموعٌ غفيرة لا رأي لها من أبناء قبائلهم، ومن ثم كان التخلص من تلك الرموز يعني عودة تلك الجموع إلى دين الله أفواجًا، ولو بقيت تلك الرموزُ أو الرءوس لتأصَّل الكفرُ في قلوب تلك الجموع، والآن أيضا المرتدة ما هم إلا شراذم قليلة تنعق فيتبعها الأراذل من الناس، لكن إن تُرِكت عمَّت نارُها، واستفحل شرُّها وعظم..
النقطة التاسعة: أن كل مسلم على عهد أبي بكر أحس بأنه مسئول أمام الله بما يلزم أبا بكر، وأن مدافعة المرتدين من باب الفروض عليه، لذا كان الواحدُ منهم يتحرك بدافع من نفسه، ولا ينتظر حتى يأتيه الأمر من الخليفة، فهذا (الجارود بن عمرو بن حنش)، وقد وفد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيبل وفاته، وكان من قبلُ على النصرانية فأسلم، وبقي بالمدينة حتى فقه في الدين، ثم رجع إلى قومه فلم يلبث إلا يسيراً حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فارتد قومه (بنو عبد القيس)، وقالوا: لو كان محمد نبياً لما مات، وبلغ ذلك الجارود فجمعهم وقال لهم: يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموا، قالوا: سل عمّا بدا لك، قال: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أو ترونه؟ قالوا: لا بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً -صل الله عليه وسلم- مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك سيدنا وأفضلنا، وثبتوا على إسلامهم.
ثم صار يقاتل بقومه من ارتد من أهل البحرين حتى جاءه جيش أبي بكر الصديق..
وهذا (الطاهر بن أبي هالة) أيضا لما أحس بخطورة الأمر لم ينتظر الأمر من أبي بكر الصديق، وإنما تحرك بمن معه نحو تهامة اليمن، فقاتل من بها من المرتدين من أهل (عك) و(الأشعريين)، وانتصر عليهم قبل أن يصل إليه كتابُ أبي بكر الصديق.
لذا لم يمض سوى عام على تولي أبي بكر الصديق الخلافة حتى عمت السكينة سائر الجزيرة العربية، وصارت أهدأ من حالها قبل وفاة رسول الله، والآن كل فرد مسلم مطالب بأن يقوم بعمله لحماية الإسلام من خطر الردة، وأن يعلم أن ذلك من باب الفروض عليه، ولا يعني ذلك أن نحمل السلاح في وجوه الناس، وإنما يشارك الواعظ بموعظته، والعالم بحجته، والمدرس بتربيته، وولي الأمر بتحصين من يعوله ضد فكر هؤلاء المنحرف، والمحامي بدفاعه، والقاضي بحكمه..
النقطة العاشرة: أن كثيرًا من القبائل العربية لما رأت الهزائم تتوالى على المرتدين أسرعت إلى العودة إلى الإسلام، كما حدث من بني عامر وبني سليم وهوازن، إذ أسرعوا إلى الإنابة إلى الله لما وجدوا الهزيمة قد حلت بطليحة الأسدي وعيينة بن حصن، وكانوا من قبل يخافون من شوكتهما، ويقولون: ننظر من تكون له الكرة فنتبعه، فهل يا ترى ما مصير هؤلاء لو تساهل أبو بكر الصديق مع المرتدين، ألم يكن ذلك سيجرئهم على الخروج على الإسلام هم أيضًا؟؟..
والآن ننظر كيف واجه أبو بكر -رضي الله عنه- هؤلاء:
قال عروة بن الزبير: لما بويع أبو بكر -رضي الله عنه- ارتدت العرب إما عامة (أي بإعلان الخروج من الإسلام) وإما خاصة (أي بالامتناع عن الزكاة) في كل قبيلة، ونَجَمَ النفاقُ، واشرأبت اليهودُ والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم -صل الله عليه وسلم- وقلتهم وكثرة عدوهم..
بهذا الموقف استقبل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خلافته، ومع فداحته إلا أنه انتظر ما هو أشد فداحة منه، فقال لمن حوله لما جاءتهم هذه الأخبار: "لن تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمرُّ، فلم يلبثوا أن قدمت كتبُ أمراء النبي -صل الله عليه وسلم- الذين أرسلهم قبيل وفاته من كل مكان بانتفاضة عامة أو خاصة، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين..
إذن فالأمرُ كان أصعبَ مما نعانيه الآن من هجوم شرس على الإسلام، والحال كان أظلمَ وأشدَّ قتامة، لكنّ أبا بكر لم يهن، ولم تَلِن له قناةٌ، وإنما أصر على تأمين حدود الدولة الإسلامية ضد أي خطر مرتقب من الخارج عن طريق بعث جيش أسامة، والضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسُه وشيطانه الخروجَ على الإسلام في الداخل..
ولما قال له الناس: إن هؤلاء (أي جيش أسامة) جُل المسلمين، والعربُ على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعةَ المسلمين، رد عليهم: "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننتُ أن السباع تخطفني لأنفذتُ بعث أسامة كما أمر به رسول الله -صل الله عليه وسلم-، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته"...
وما هي إلا ساعات حتى انتهت مناقشة هذا الأمر مع مجموع أهل الشورى الموجودين بالمدينة، فودع أسامة وجيشه إلى حيث أوصاهم رسول الله -صل الله عليه وسلم- بالمسير، وجمع مَن عنده قدرة على حمل السلاح من الأعراب الذين كانوا يسكنون حول المدينة ليكوّن منهم جيشَ دفاع داخلي..
ثم جعل كبارَ الصحابة في نقاطِ مراقبة على منافذ المدينة إلى البادية، ومنهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود..
جدد طلبه من أهل المدينة أن يكونوا في المسجد استعدادًا لكل طارئ، وقال لهم: "إن الأرض حولنا كافرة، وقد رأى وفدهم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأمُلون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدّوا".
ولم تمض سوى أيام ثلاثة على تشييع جيش أسامة حتى داهمت المدينةَ غاراتُ المرتدين ليلاً، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى أن جيش أسامة قد ابتعد عن المدينة وأوغل في البعد، فأوصل المراقبون خبرَ زحفهم إلى أبي بكر الذي كان مرابطًا بمن معه في المسجد إلى الحراس على مداخل المدينة أن اثبُتوا لهم حتى يلحق بهم، ثم أسرع إليهم بمن معه، فانهزم المغيرون وولوا الأدبار، ولحقهم المسلمون على إبلهم حتى قابلوهم في مكان يسمى بـ(ذي حسى)..
لكن المسلمين فوجئوا بأن هؤلاء المغيرين ما هم إلا طليعة لجيش يختبئ خلف الجبال، فلما اشتبكوا معهم أخرجوا قِرَبًا لهم قد نفخوها كحيلة لتخويف الإبل، ودحرجوها بأرجلهم في وجه إبل المسلمين، فنفرت الإبل خوفًا منها حتى انقلبت بمن يركبها من المسلمين إلى المدينة واضطرب صفهم، فشق الأمر عليهم، وسعد المرتدون بذلك الحدث الذي كان من الممكن أن يكون بداية لتضييق الخناق على المدينة ومن فيها..
لكن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يمهلهم، وإنما سابق بهم الزمن، وأعاد ترتيب جيشه صباح اليوم التالي بحيث يستغني عن الإبل تمامًا، ثم خرج إليهم ماشيًا في آخر الليل بجيشه مخليا الإبل بالمدينة، وعلى الميمنة النعمان بن مُقَرّن، وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما أصبح الصباح إلا والمسلمون يعجلونهم بالسيف، فولوا الأدبار، وتبعهم المسلمون إلى (ذي القصة)، وهناك ترك أبو بكر النعمان بن مقرن في عدد من المسلمين، ورجع هو بالناس إلى المدينة، بعد أن أمنها من الخطر مسافة أميال عدة.
فارتفعت معنويات المسلمين بهذا النصر، وثبت مسلمو القبائل المحيطة بالمدينة على دينهم، ووافق ذلك وصول أموال الصدقات من عدة جهات، فقد جاء صفوان بن أمية بصدقات بني عمرو، وذلك في أول الليل، وجاء الزبرقان بن بدر في وسط الليل بصدقات بني عوف، وجاء عدي بن حاتم الطائي في آخر الليل بصدقات قومه، اجتمع كل ذلك ليكون منة من الله على المسلمين الذين ثبتوا مع أبي بكر في مواجهة هؤلاء المرتدين..
واكتملت الفرحة بعودة أسامة بجيشه منتصرًا غانمًا ظافرًا بعد شهرين كاملين من رحيله..
ومع أن نصره قد فتّ في عضد المرتدين والمنافقين، وجعلهم لا يفكرون بعدها في مهاجمة المدينة إلا أن الصديق -رضي الله عنه- لم يرض بنصر ناقص، لم يرض بأقل من أن تعود الجزيرة العربية إلى سالف عهدها قبيل وفاة النبي -صل الله عليه وسلم-، تكونُ فيها العزةُ لله ورسوله وللمسلمين دون سواهم، لم يرض أن يكون بجزيرة العرب مكانٌ يعبد فيه الشيطان، فاستخلف من توّه أسامة بن زيد على المدينة، وقال له ولمن معه: "أريحوا وأريحوا ظهركم"، ثم خرج بحامية المدينة التي خرج بها من قبل إلى (ذي القصة)، فقال له من حوله من المسلمين: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام أبداً..
ولم يكن كلام الصديق -رضي الله عنه- عن الخروج بنفسه إلى من تبقى من المرتدين كلامًا يردد للدعاية كما يحدث من بعض الساسة الذين دأبوا على استغفال شعوبهم، ولذا قال: "لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي"، ثم خرج إلى (ذي الحسى) و (ذي القصة) حيث يعسكر النعمان بن مقرن وأخواه، فضمهم إلى جيشه ثم توجه إلى الرَبَذة، وهناك التقى من تجمع فيها من المرتدين فقاتلهم حتى ولّوا الأدبار، وتفرق شملهم، وأقسم ليقتلن كل من تجرأ على قتل مسلم منهم إن وصلت إليه جيوشه قبل أن يعود إلى الإسلام؛ ليكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسُه الاعتداءَ على المسلمين..
ثم جاءته بعد ذلك رسلُ القبائل المحيطة بالربذة مُقرةً له بما أوجبه الإسلام من صلاة وزكاة و... إلى آخر أركان الإسلام وواجباته..
عاد أبو بكر بعدها إلى المدينة، وكان جندُ أسامة قد أخذوا حظهم من الراحة، وأضيف إليهم المزيدُ من الراغبين في الجهاد، فعقد -رضي الله عنه- أحد عشر لواءً للقضاء على من تبقى من المرتدين في كل أنحاء الجزيرة العربية، بقيادة خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حَسَنة، والمهاجر بن أبي أمية، وعمرو بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، وحذيفة بن محصن، وعرفجة بن هرثمة، وطريفة بن حاجز، وسويد بن مُقَرن، والعلاء بن الحضرمي.
ولم يكتف بذلك بل بعث إلى أمرائه الذين ثبتت رعيتهم على الإيمان أن يجيشوا ما يستطيعون منهم، فأعد (عَتَّابُ بن أسيد) والي مكة أخاه خالد بن أسيد، وسيره إلى المرتدين في تِهامة فغلبهم، وبعث (عثمان بن أبي العاص) والي الطائف ابنه ربيعة إلى شنوءة فقهرهم أيضًا، وأرسل إلى (جرير بن عبد الله البجلي) أن يسير بمن معه من المؤمنين إلى (بجيلة) و (خثعم) فانتصر عليهم.
وتلك خطوة غير مسبوقة في التاريخ -حسب علمي- أن يقاتل رجل في أكثر من عشر جهات متفرقات، وما ذاك إلا لثقته -رضي الله عنه- في نصر الله، ولأنه كما قلنا كان يسابق الزمن، وكان حريصًا على أن ينقل نور الإسلام إلى خارج الجزيرة العربية قبل وفاته، كما كان يعلم أن تلك القبائل التي وجه لقتالها كان بينهم الكثير من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم بين المرتدين، ويتحينون الفرصة للمجاهرة بإسلامهم...
ومع حزمه الشديد وحرصه على ألا يتسامح مع المرتدة قِيدَ أنملة، إلا أنه كان ينصح قادته أن يسيروا على مبدأ "وآخر الدواء الكي"؛ بمعنى أنه أمرهم أن يجعلوا القتال آخر وسيلة يلجئون إليها في مواجهة هؤلاء المرتدة، خاصة وأنهم قد اختلط بهم من أخفى إسلامه، أو أجبر على مسايرة زعمائهم..
وأرسل مع كل قائد رسالة، وأمره أن يقرأه على كل قوم يمر عليهم، وقد جاء في تلك الرسالة "بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله -صل الله عليه وسلم- إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه، أو رجع عنه..
سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفّر من أبى ونجاهده..
أما بعد.. فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيا؛ ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفي الله رسوله -صل الله عليه وسلم- وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه..
وكان الله قد بين له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]..
فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه ويجزيه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم -صل الله عليه وسلم-، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالا، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] ولم يُقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يُقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارا بالله وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]..
وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا، ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه، وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا سألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قُبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم".
وأما وصيته للأمراء فجاء فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله -صل الله عليه وسلم- لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم، فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذي لهم، لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوةَ لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعدُ فيما استسَرَّ به، ومن لم يُجب داعيةَ الله قتل وقوتل، حيث كان وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس، فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم، ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونًا، ولئلا يُؤتى المسلمون من قِبَلهم، وأن يقتصد بالمسلمين، ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول".....
وسار الجيش الأول بقيادة خالد بن الوليد، وقصد طليحة الأسدي، وفي طريقه مر بقبيلة طيء، وكان أفرادها قد انحازوا إلى طليحة عصبية له، ولكن خالدًا لم يبدأ بمهاجمتهم، وإنما أخذ بنصيحة الصديق، وأبطأ في مهاجمتهم، وقد طلب منه عدي بن حاتم أن يمهله ثلاثة أيام يراجعهم فيها ففعل، وماطلوه أولا وقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبدًا (يقصدون أبا بكر)، فقال عدي مهددًا إياهم: لقد أتاكم قوم ليبيحُن حريمكم، ولتكنُنه بالفحل الأكبر، فشأنكم به! فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة (المكان الذي عسكر فيه طليحة) منا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم، أو ارتهنهم، فأجابهم إلى ذلك، ونجح في فصلهم عن طليحة، وعادوا مقرين بالإسلام، وبما أوجبه الله عليهم..
وأراد خالد أن يقصد قبيلة (جديلة) بعد ذلك، فقال له عدي: إن طيئا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيء فأجلني أيامًا لعل الله أن ينقذ جديلة كما أنقذ طيئًا، ففعل فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه، فجاءه بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب..
ثم صار خالد إلى (بُزاخة) فالتقى طليحة الأسدي ومن انحاز إليه من المرتدين، وكان معه عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة فقاتل قتالا شديدًا حتى إذا أحس بوطئة الحرب ذهب إلى طليحة، فقال: هل جاءك جبريل؟ فقال: نعم، قال عيينة فماذا قال لك؟ فقال طليحة: قال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثا لا تنساه، فقال عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة انصرفوا فهذا والله كذاب، فانصرفوا، وانهزم باقي الناس فأتوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا، وقد كان أعد فرسه عنده وهيأ بعيرًا لامرأته، فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثم نجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم تركهم للقتل وفر إلى الشام[1]، وهذا جزاء من يتبع كل ضال..
فاجتمعت بعدَ فرارِه أسد وعامر وغطفان إلى خالد -رضي الله عنه-، وأعلنوا توبتهم، وليس هذا فقط، بل إن بني عامر وسائر القبائل من سليم وهوازن بعد أن رأوا هزيمتهم أقبلوا يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا...
فبايعهم خالد على الإسلام وكانت بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم..
ولكنه لم يقبل من أحد منهم إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعَدَوْا على أهل الإسلام في حال ردتهم، فأتوه بهم فأوثقهم وأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار؛ جزاء وفاقًا لما فعلوه بالمسلمين من قبل ليكونوا عبرة لغيرهم..
وكان ذلك عن أمر أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقد كتب إليه يقول: "ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرًا، واتقِ الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمر الله،.. ولا تظفرن بأحد قتلَ المسلمين إلا قتلته ونكَّلت به غيره..
وبعد انتهاء خالد من بني أسد وأحلافهم اتجه بأمر من الخليفة إلى بني يربوع في تميم وعليهم مالك بن نويرة، وكان قد تحالف من قبل مع سجاح التغلبية على المسلمين، ولكنها تخلت عنه لما شعرت بقوة المسلمين، وعادت إلى موطنها "الجزيرة" فتحير بنو تميم الذين حالفوها من قبل، وندموا على ما كان منهم، ولم يلبثوا طويلاً حتى وصلت إليهم جيوش خالد بن الوليد، فعندما جيء برؤسائهم إلى خالد جادلهم، وشهد جماعة على بني يربوع أنهم لم يؤذنوا فقتلهم، وقتل ضرار بن الأزور الذي كان على طليعة خالد مالك بن نويرة...
وحدثت خلافات في قتله، وذكر عوام القصاص في ذلك الأعاجيب، من ذلك أنه قتله وخلفه على امرأته دون أن تعتد، وأنه قطع رأسه وأوقد فيها النار حتى استوت عليها اللحم التي أعدها لطعامه..
ومن العجب أن من يُسمُّون أنفسهم بالتنويريين في عصرنا صاروا يجمعون مثل تلك الروايات ليطعنوا بها في صحابة رسول الله، ولم يكلف الواحدُ منهم نفسَه ليُعمِل عقلَه في مثل تلك القصص، فأيُّ شعرِ رأسٍ هذا الذي تُوضع عليه اللحومُ فينضجها مهما كان كثيفًا؟! إننا لو أحضرنا قنطارًا من الشعر وأشعلنا فيه النار لاحترق قبل أن تنضج اللحوم التي توضع عليه، فما بالنا بفروة رأس؟!..
وعلى كل فإن أبا بكر الصديق قد عاتب خالدًا بعد عوده إلى المدينة؛ لأنه لم يتريث في قتلهم، فاعتذر لأبي بكر بأنه لم يصدر عنهم ما يدل على أنهم قد هموا بالإقدام على الإسلام فرضي عنه، ولم يكن أمام أبي بكر غير ذلك في مثل تلك الظروف، فالأمور مضطربة، والأحوال مختلة، والبعض يدعي ما ليس في قلبه، وقد شهد الأكثرية أن مالك بن نويرة ومن معه لم يسلموا، ومن سمعه يقول: صبأنا فسرها بأنه قالها والسيف على رأسه نجاة من الموت، ودرأً للشبهة دفع أبو بكر الصديق ديةَ مالك بن نويرة ومن قُتل معه، ورد على أهلهم سبيهم ومالَهم الذي أُخذ منهم كما ذكر الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام"..
وإذا كنا نرى أمريكا بجبروتها تبرّئ جنودها الآن من كل عملية تنسب إليهم ويروح فيها عشرات بل مئات الأبرياء من الأطفال والعجائز وهم آمنون في بيوتهم، فعلامَ يسعى أذيالها لكيل التهم لجيش خالد لأنه قتل قائد الجيش المحارب له؟!..
ونعود إلى خالد بن الوليد فنقول: إن أبا بكر قد أمره بالمسير إلى مسيلمة الكذاب بعد الفراغ من مالك بن نويرة، فسار إلى البطاح والتقى جنده هناك، وانتظر حتى جاءه المدد، فقام إلى مسيلمة وأتباعه من بني حنيفة، وكان (عكرمة بن أبي جهل) قد قصده من قبل فُهزم على أيديه، فأمده أبو بكر الصديق بشرحبيل بن حسنة، ولكنه لما علم بهزيمة عكرمة طلب من شرحبيل ألا يتسرع في مصادمته قبل أن يزوده بمدد آخر عوضًا عمن فقد من جيش عكرمة، لكنه تعجل المواجهة، واستعان على قتالهم بمن ثبت على إسلامه من بني حنيفة بإمرة ثمامة بن أثال، فهُزم أيضا أمام مسيلمة لقلة عدد من معه، فلامه خالد عند وصوله على تسرعه؛ حتى حلت به الهزيمة..
أما مسيلمة فإنه استقوى بعد انتصاره على عكرمة وشرحبيل، وعسكر ببني حنيفة في منطقة تسمى "عقرباء" في أعلى وادي حنيفة، فسلك إليه خالد من ثنية في جبل اليمامة (طويق) وعلى مُجَنِّبَتيه زيد بن الخطاب أخو عمر، وأبو حذيفة بن عتبة، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس، ثم أمر ضرار بن الأزور أن يسير في قسم من الجند من ثنية أخرى من الشمال، وينزلوا من جهة منطقة تسمى (ملهم) إلى عقرباء..
وعند "عقرباء" جرت معركة حامية الوطيس بين الفئتين، تراجع المسلمون في أولها حتى دخل بنو حنيفة على خالد في فسطاطه، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد أزالت المرتدين عن مواقعهم، وأجبرت مسيلمة على الالتجاء إلى حديقة عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت، وفيها صُرع مسيلمة الكذاب وعدد كبير من جنده، واستشهد من المسلمين عدد من القراء ووجهاء الناس، منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، وانتهت المعركة بنصرة المسلمين، ثم دعا خالد الناجين من أهل اليمامة إلى الإسلام والبراءة مما كانوا عليه فأسلم سائرهم..
أما عكرمة فقد أمره أبو بكر -رضي الله عنه- أن يلحق بحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة لقتال المرتدين في عمان حتى يلتقوا مع المهاجر بن أبي أمية الذي يكون قد فرغ من اليمن وسار إلى حضرموت، وقصد أبو بكر من ذلك ألا يُبقي جيشًا في مكان شعر فيه بالهزيمة فيضعف معنويًا، وألا تكون فكرةُ الهزيمة موجودة في معجم أي مسلم مجاهد.
اتجه عكرمة إذن في أثر حذيفة وعرفجة، فأدركهما قبل الوصول إلى عمان، وهناك راسلوا جيفرًا وعبادًا القائدين الذين سيرهما أبو بكر قبلهم لينضموا إليهم، ويقاتلوا المرتدين متحدين تحت لواء واحد، وكان مكان التجمع في منطقة "صحار" حيث جرت معركة بين الطرفين ("لقيط دبا" المرتدين، والمسلمين) كاد ينجح فيها "لقيط دبا" لولا النجدات التي وصلت للمسلمين من البحرين وغيرها، فانتصر المؤمنون..
وبعد الفراغ من المعركة أُرسل عرفجة إلى أبي بكر الصديق مهنئًا ومعه خُمس ما غنموه، وبقي حذيفة يدير شئون عمان، وأما عكرمة فسار بعد النصر إلى منطقة تسمى "مهرة " وكان القوم فيها قد ارتدوا، إلا أنهم اختلفوا فقسم منهم في السواحل مع رجل يسمى (شخريت) وهم أقل عدداً، فبدأ بهم عكرمة فدعاهم للإسلام فوافقوا، وأنابوا إليه مما أضعف القسم الثاني الذين كانوا في المناطق المرتفعة مع رجل يسمى (المصبح)، فهزموا أمام المسلمين، وأرسل عكرمة خبر هزيمتهم مع (شخريت) إلى المدينة المنورة.
بعد ذلك تابع عكرمة سيره حتى التقى في مأرب المهاجر بن أبي أمية الذي كان أبو بكر -رضي الله عنه- قد أرسله من قبل إلى اليمن، على أن يمر بمكة فيضم إليه خالد بن أسيد، وبالطائف فيضم إليه عبد الرحمن بن أبي العاص، وبالسراة فيضم إليه جرير بن عبد الله البجلي، وبتهامة فيضم إليه عبد الله بن ثور، وبنجران فيضم إليه فروة بن مسيك، ثم اصطحبهم جميعا إلى اليمن..
وفي اليمن أسر المهاجرُ عمرَو بنَ معد يكرب وقيس بن عبد يغوث المكشوح، وكانا من قادة المرتدين الذين يؤلبون الناس، وأرسلهما إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ثم واصل سيره إلى صنعاء فدخلها، ولاحق شُذَّاذ القبائل الذين هربوا إليها، واقتحم هو وعكرمة حضرموت..
وفي تلك الظروف حاول البعض أن يهيج فتنة يروح فيها الصالح والطالح كما يحدث في العراق الآن، فقد جاء رجل يسمى الفجاءة إياس بن عبد ياليل إلى أبي بكر فقال: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام فحملته وسلحته، ثم انتهى إليّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأخذه فتأتيني به، فسار طريفة بن حاجز حتى أمسك به وجاء إلى أبي بكر، فأمر بطرحه في النار بمنطقة البقيع اقتصاصًا لمن قتل من أبرياء الناس...
وهكذا لم يهل شهر ربيع من العام التالي لخلافة الصديق إلا وقد قطع دابر المرتدين تمامًا، ونجح بسياسته الحازمة في أن يطهر الجزيرة العربية من كل رجس، وأن يجمعها على كلمة التوحيد لينطلق بعدها أبناؤها إلى الأقطار الأخرى مخرجين الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد، من جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فليكن لنا في مواقفه رضي الله عنه وأرضاه الأسوة الحسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مضى طليحة إلى كلب على النقع فأسلم ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمرًا في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام، ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف، فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك أبدًا، فقال يا أمير المؤمنين: ما تهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما، فبايعه عمر..