2 – وادي النيل عودة إلى: الفهرست
تحدثنا في القسم الاول من "المدخل" عن التجارة في العالم القديم المتمحور ما بين النهرين
والشواطئ السورية وهي المنطقة الجغرافية التي دعاها المؤرخ البريطاني جيمس بروسيد بالهلال
الخصيب٬ وننتقل الآن الى خط يتجه من الشمال الى الجنوب في القسم الاعلى من القارة الافريقية
والمسماة بوادي النيل حيث قامت حضارة متوازية تاريخياً الى حد ما مع حضارة ما بين النهرين
وامتدادها حتى السواحل الشرقية للبحر الابيض المتوسط. وان كان هذا الاستيطان المصري القديم
وما حقق من تقدم حضاري وثقافي وديني وتجاري تأخر بعض الشيء٬
فانه لا يقل اهمية عما
تحقق في المشرق المتصل به عن طريق شبه جزيرة سيناء. فقد كان التواصل والتفاعل بين
الجارين الجغرافيين ناشطاً وكأنه يحقق تكاملاً ولو ببعض الفوارق .
سنشير الى ما تحدث عنه المؤرخون عن التأثير السومري في حوض النيل ودوره في المدنية
المصرية الفرعونية. فثمة اجماع بين علماء المصريات المعاصرين انه من الممكن تتبع الأثر
السومري في المدنية الفرعونية. وعلى سبيل المثال٬ سنتكلم عن ختم الاشياء باسطوانات محفور
عليها صور على الطريقة السومرية واستعمال الاجر في اسلوب البناء وتقليد بناء السفن
السومرية٬ وفي كتابة الرموز الفكرية تكملها الفونيم من دون ان تحل محلها. وهناك اجماع على
ان الكتابة المصرية ظهرت فجأة على عكس ما حدث من تطور الكتابة السومرية التدريجي من
السابقة الصوتية .
قامت في وادي النيل حضارة متوازية تاريخياً٬ الى حد بعيد٬ مع حضارة بلاد النهرين وامتدادها
حتى السواحل الشرقية من البحر البحر الأبيض المتوسط . وإن كان هذا الاستيطان المصري
القديم وما حقق من تقدم حضاري وثقافي وديني وتجاري تأخر بعض الزمن٬ فانه لا يقل أهمية
عما تحقق في المشرق المتصل به عن طريق شبه جزيرة سيناء.
في هذا الجزء الافريقي نهر عظيم هو نهر النيل الذي يجري شمالاً من منابعه الافريقية ليصب في
البحر الأبيض المتوسط . وقد أمن هذا النهر الكبير لمصر والسودان استقراراً نسبياً دام حوالى
الألف سنة في ظل المملكة القديمة. وقد عاشت بعض انجازات هذه المملكة حتى بعد زوال المملكة
نفسها. وتشهد على ذلك انجازات متميزة بدءاً من اسلوب الفن المنظور ونظام الكتابة والديانة مما
حقق لمصر انجازاً بالغ الاهمية إذ تمكنت من المحافظة على شخصيتها حتى القرن الثالث
الميلادي ومن بعده حتى القرن الخامس رغم ما تعرضت له من تبديلات وتغيرات خلال ثلاثة
الاف ونصف الالف من السنين. وقد مكن ما حققه المصريون القدامى من تنظيم لمياه النهر
العظيم٬ خصوصاً في مجراه الادنى الى الشمال من الشلال الاول٬ ان تظل معالم هذا الانجاز
قائمة٬ مما سهل للمصريين من قلب المستنقعات من ارض ماحلة الى حقول ومزارع خصبة. وهذا
الانجاز لم يتحقق في سومر القديمة الواقعة بعض اراضيها في حوض الفرات الادنى ٬ إذ عادت
هذه الارض بعد زمن من الاهمال الى حالتها الطبيعية الاولى. ففي الجزء الغريني في جنوب
شرق العراق الحديث نجد ان أساليب السيطرة على المياه الى اعتمدها السومريون القدامى قبل
خمسة او ستة الآف سنة وجب البدء باصلاحها واعتمادها من جديد . ويعيد بعض المؤرخين هذا
الانجاز الرئيس للفراعنة المصريين الى قدرتهم على تنظيم حكومة مركزية فعالة حكمت مصر
من الشلال الاول حتى البحر الأبيض المتوسط .
أسهمت القدرة البشرية الكبيرة التي كانت بتصرف حكام مصر آنذاك ان تنتج من لوازم الحياة
فائضاً كبيراً لم يسبق له مثيل٬ يفيض عن الحاجات المحلية٬ فاذا بهذا الفائض يخرج مباعاً خارج
المدنية المصرية الفرعونية مما ساعد في استمرار زراعة ناشطة في مصر حتى يومنا هذا؛
وثانياً نطاق البلاد.
ويعود هذا الانجاز الى سببين اثنين:
اولاً توحيد مصر سياسياً وادارياً منذ بدء تاريخ
قيام نظام مواصلات داخلية جيد. وقد ظل هذا النظام فاعلاً حتى اختراع السكة الحديدية في القرن
التاسع عشر.
رغم ان البلاد المصرية تتعدى مساحتها المليون كيلومتر مربع فانها بأكثرها صحراء يخترقها نهر
النيل العظيم. وتقدر المساحة التي يمكن استغلالها زراعياً بخمسة بالمئة من المساحة العامة٬ وهي
تكاد تنحصر في دلتا النيل الى الشمال من القاهرة . اما في الجنوب٬ حيث مصر العليا٬ فان
الوادي يضيق الى حد كبير٬ ممتداً من اسوان وصولاً الى البحيرة الاصطناعية التي خلقها بناء
السد العالي. ورغم ضيق هذه المساحة الزراعية٬ فان مصر ظلت حتى اليوم بلداً زراعياً بشكل
عام. وتتواجد الاراضي القابلة للزرع على ضفاف نهر النيل حيث تعد الارض هناك من أخصب
المناطق الزراعية في العالم. وقد شهد العالم كيف ان زراعة القطن أدت الى تصنيع البلد في
السنوات العشرين والثلاثين من القرن الماضي . وفي الستينات من القرن الفائت حققت الصناعة
المصرية قفزة كبيرة بفضل التسهيلات التي حصلت عليها مصر من الاتحاد السوفياتي السابق.
علاقات مصر التجارية
كانت لمصر علاقات تجارية قديمة مع شبه الجزيرة العربية٬ خاصة مع اليمن التي كانت نقطة
الاتصال بين الهند ومصر منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وكان للبخور الذي تنتجه
حضرموت منذ القدم٬ دوره في جذب التجار المصريين الى اليمن التي تولت مركز الاتجار بهذه
التجارة. ومن اليمن كان البخور ينقل عبر البحر الأحمر او بطريق الحجاز ليوزع في اقطار العالم
القديم. وفي عهد لاحق٬ رأينا البطالسة٬ بعد ان استقروا في مصر٬
ينشؤون لهم اسطولاً في البحرالأحمر٬
مما اسهم في توسيع طرق التواصل التجاري المصري الى الشاطئ الافريقي الصومالي
وإلى جزيرة سومطره٬ ومن هناك كانت مصر تستورد العاج والصدف والعبيد. وتوسيعاً لتجارتهم
المزدهرة حفر البطالسة الترعة التي وصلت النيل بالبحر الاحمر٬ وأصلحوا الطريق بين قفط
الواقعة على نهر النيل وميناء برنيسي على البحر الاحمر.
الشرقية بعد احتلالهم لمصر وقرروا ركوبه ناقلين جنودهم من ارزي ينوى٬
قرب السويس سنرى في اللاحق من المقالات كيف استغل الرومان قيمة البحر الأحمر في التجارة الرومانية
الحديثة٬ الى لوكي كومي قرب ينبع٬ عابرين البحر الاحمر. ومشوا براً في محاولة للوصول من
هناك الى مأرب عن طريق نجران. لكن محاولتهم هذه فشلت ولم يتمكنوا من الوصول الى مأرب
فانسحبوا .
سنتحدث عن الموانئ المصرية الشمالية التي كانت السفن التجارية التي تبحر منها وتعود اليها
محملة بالبضائع٬ مثل ميناء ارزي ينوي عند رأس خليج السويس وميوس هرموس الواقعة في
منتصف الشاطئ المصري وتبعد قليلاً عن قفط القائمة على النيل وبرنسي وهي طرف الولاية
المصرية الجنوبية. اما موانئ الجنوب فكان أهمها ميناء ادونيس حيث كانت السفن المصرية تبادل
ما تحمله من قماش مصر وزجاجها وزيوت سورية وخمورها وسيوف وادوات اخرى٬ وبما
كانت تخزنه من منتوجات الحبشة واهمها العاج والجلود والاصداف والعبيد. وقد أطلق المؤرخون
على هذا الطريق اسم طريق البخور لاهمية هذه التجارة٬ فضلاً عن تجارة الزيوت والاقمشة
واللآلي والجواهر والارز والبهارات والعاج والطيوب والاصداف والفيلة. وكانت كل هذه
الاحمال تتبادلها السفن الراسية في ميناء ادونيس .