مدن التجارة قبل الاسلام
مقدمة عامة
يعود أصل المدن في المشرق العربي قبل الإسلام الى المجتمعات القروية الزراعية لحقبة ما قبل المدنية في بلاد ما بين النهرين.
وربما كانت العائلة في هذه القرى الهيئة الاجتماعية الأهم. وكانت الزعامة من وظائف الأبوة. فالعائلات هي التي كانت ترشد
الى العبادة من اجل مصالحها الخاصة٬ كما كانت الملكية توزع وتراقب فيما بينها. وكانت علاقات السيد بالاتباع مثل ارتباط
الرجال الاشداء بالأب او بمؤسس العائلة اوشيخها٬ او ارتباطهم بأحد الأثرياء المحليين او بالطائفة او ارتباط الاخصائيين في
صنع الادوات المعدنية وسواها بقرى معينة. هكذا تم تنظيم الجماعات الصغيرة المنتجة. الا ان الحياة القروية لم تكن متحجرة.
فقد غدت وسائل الري٬ مع مرور الزمن٬ أكثر اتساعاً وشمولاً٬ وتحسنت الاعمال الخزفية نوعية وزخرفة٬ وبدأ علم المعادن
يظهر للوجود٬ كما ظهرت الأدوات المصنوعة من البرونز جنباً الى جنب مع أخواتها الحجرية. وهنالك دلائل على قدر معين من
التخصص الاقتصادي في تربية القطعان ورعيها وبصيد الاسماك وزراعة الحدائق واستغلال الحبوب وصنع الأواني المعدنية
والاتجار بها. كما ان هنالك برهاناً على وجود شبكة واسعة من المبادلات.
جاءت حقبة التغير الاقتصادي والتكنولوجي فأنتجت تخصصاً في العمل٬ فبتنا نرى انتقال الافراد من العمل الزراعي والعمل
الحرفي الجزئيين الى التخصص الكامل في الاعمال الانتاجية٬ وبالتالي التجارة. وأدت هذه النشاطات الاقتصادية الى شكل جديد
من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي٬ وبتنا نقرأ عن فائض في السلع وفي اليد العاملة من اجل اعادة توزيع الانتاج الاجتماعي –
الاقتصادي بين جماعات المزارعين ومربي القطعان ورعاتها وصيادي الاسماك والحرفين والتجار وصانعي الاواني المعدنية
والخشبية وسواها. وإذ مرت فترة غير قصيرة على تحرر المنتجين والمتاجرين من رعاية كانت الى وقت بيد المرجعيات
الحاكمة او الدينية فأصبحوا منتجين ومقاولين وتجاراً مستقلين. وقد صاحب ذلك توسع الجغرافيا التجارية بشكل هائل
وتحرر الافراد من سيطرة العائلة او الحكام وظهر الى الوجود مجتمع رفيع التمييز يقوم على حرية التجارة ضمن شرائع وتنظيم.
وغدت المدن والقرى مؤلفة من جماعات مستقلة وأصبحت وحدات تعمل ضمن إطار مجتمع أكبر.
من هذا النسيج انبثقت المجتمعات المدنية العربية والاسلامية وبتنا نرى مجتمعات منفتحة حيث السكان ينحدرون من عرقيات
مختلفة وخلفيات متعددة وطموحات اوسع من ذي قبل فتوسعت الافق والطموحات وازدهرت التجارة بعد ان توسعت وتحدثت.
وكانت بداية هذا التغيير والتبدل في ظهور مدن التجارة.
1 مكة قبل الاسلام
تميزت مكة بعلاقاتها التجارية الواسعة والمزدهرة قبل الإسلام . وكانت تجارتها محلية ودولية٬ إذ انها ارتبطت بعلاقات تجارية
ناشطة مع معظم انحاء شبه الجزيرة العربية٬ لا سيما وانها قد نشأت أصلاً ٬ قبل الاسلام٬ حول معبد ديني ولغايته. إلا انها ما
لبثت٬ مع تزايد الحجاج وما يرافق حضورهم٬ ان أصبحت حاضرة تجارية٬ فتوسعت منطقتها التجارية المحلية لتشمل الاسواق
التي كانت تقام في الأشهر الحرم. ورغم ان كل قبيلة كان لها آلهتها٬ فقد كان الحرم المكي يحتل مركزاً خاصاً بالنسبة للقبائل
المنتفعة من نظام مكة التجاري. وكان يطلب من هؤلاء ان يوقفوا نزاعاتهم طوال مدة اقامتهم في المدينة. كما وضع نظام شديد
الصرامة لضمان سلامتهم في الطريق بموافقة ابناء القبائل المجاورة لهذا الطريق. وأدى نجاح هذا النظام الى توسع تجاري كبير
آل بدوره الى إنشاء أسواق جديدة. وهكذا توسعت المنطقة المقدسة لتشمل الأسواق التي كانت تقام في الاشهر الحرم بالتوافق مع
الحج٬ فأصبح دين ذلك الزمان السابق للاسلام٬ ومن ضمن هذا الاطار٬ متوافقاً مع التجارة بحيث كان نجاح احدهم يؤدي الى
ازدهار الآخر. من هنا شاهدنا أسواق مكة وقد ازدهرت في النصف الاول من القرن السادس الميلادي وأضحت تجارة المدينة
المحلية تعتمد على مكانتها الدينية. وكانت هذه التجارة جزءاً من نظام مكة التجاري.
جاء التحول الحقيقي في مكانة مكة مع تحول تجارتها من تجارة محلية وموسمية الى تجارة دولية مستديمة الى حد كبير.
وتحقق هذا التغيير الكبير على يدي هاشم٬ الجد الأعلى للرسول٬ الذي عاش في منتصف القرن السادس ميلادي.
وأدرك تجار مكة ان بوسعهم ملء الفراغ في التجارة الدولية وأسرعوا الى فعل ذلك. ونزامن هذا التحول
مع صراع بدأت إشارات حدوثه تظهر بوضوح بين الساسانيين والبيزنطيين للسيطرة على الطرق والمراكز التجارية في شبه الجزيرة العربية.
واذ بمكة تبدو جاهزة الآن لملء الفراغ والاستفادة من الوضع الجديد٬ خصوصاً وانها كانت قائمة على ملتقى الطرق التجارية الرئيسة وتتمتع بخبرة
جيدة تؤهلها من تبوء هذا المركز٬ فضلاً عن الصلات الضرورية. ثم ان تجارتها الداخلية كانت تتمتع بفائض كبير يمكن تحويله
الى الاسواق الخارجية. ولما كان من الضروري بالحاح تأمين الطرق التجارية البرية٬ فقد دعا هاشم الى عقد اتفاق مع
الساسانيين والبيزنطيين للحصول على براءة مرور لتجار مكة عند توجههم الى بلاد الشام. وهذا ما توصل اليه في محادثات
اجراها مع الطرفين المتنازعين. وحصل على براءة مماثلة من الحبشة.
طبق هاشم نظام الايلاف او ميثاق السلامة ضماناً لسلامة قوافل مكة لدى مرورها في أراضي القبائل الاخرى التي لم يسبق لها
ان أسهمت في نظام مكة المحلي. أما بالنسبة للقبائل المشاركة في تجارة مكة المحلية فقد كان الأمر أكثر سهولة نظراً لأن هذه
القبائل أقرت بحرم المدينة والتزمت بالدفاع عنها. ولقب ابناء هذه القبائل بالحمس لشجاعتهم وانضباطهم الديني والولاء للحرم.
وكان هذا الحرم يضم قريشاً وسكان مكة٬ إضافة الى قبائل اخرى سكنت في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية من دون ان
يربطها رابط النسب القبلي. وكانت هذه القبائل هي التي تسيطر على طرق تجارية عديدة عبر شبه الجزيرة. وقد سبق لمكة ان
منحتها بعض الاشراف على الاسواق في مناطقها الخاصة. غير ان مكة حَملت هذه القبائل نصيباً من نفقات المحافظة على
النظام٬ خاصة بعد زيادة نصيبها من التجارة وخفض ما كانت تنوء تحته من أعباء كانت مكة تفرضها عليها. وللمؤسف ان هذه
الترتيبات أدت الى حروب محلية ومحاولة بعض العشائر المقيمة على الطرق التجارية لبسط سيطرتها غلى مناطق تخص عشائر
اخرى .
فتح التوسع التجاري الابواب امام المدن الاسواق للنمو والتوسع مما زاد من ثروة السكان المستقرين وكبرت سطوتهم على
حساب العشائر البدوية المجاورة مما وتر العلاقات بين العشائر المستقرة والعشائر البدوية٬ رغم انتماء بعضها الى قبيلة واحدة.
وقد وضع النبي حداً لهذا الوضع وأعاد التوازن الى الحلف٬ كما سنرى في بحث لاحق عندما نتحدث عن تجارة شبه الجزيرة
العربية بعد الاسلام.
2 بيبلوس ( جبيل )
كان لهذه المدينة القديمة القائمة على الشاطئ اللبناني دوراً بارزاً في تاريخ التجارة الدولية القديمة. فقد شهد مرفأها منذ القدم
حركة ناشطة انطلقت منه أخشاب الأرز وسواها من الاخشاب الى مصر وبلدان اخرى . حملت اسم " قبلة" بالكتابة المسمارية
ودعاها المصريون القدامى " قبنة"٬ بينما أطلق عليها الاغريق اسم بيبلوس منذ ان بدأت تصدر ورق بابيروس الى مرافئ
الشواطيء الايجية. ويقال ان اسم التوراة (بايبل) إشتق من هذا الاسم. وكانت التوراة تدعى قديماً ب"كتاب البابيروس" .
كان المنقب والكاتب الفرنسي ارنست رينان اول من حاول التنقيب في بيبلوس في منتصف القرن الثاسع عشر وتبعه بيار مونته
سنة ٬1920 ثم جاء موريس دينون ليكمل العمل. وكانت النتيجة غير المنتظرة ان بيبلوس القديمة قد غمرها البحر بعد ان
تعرضت لهزة ارضية عنيفة جداً
ظلت بيبلوس آهلة بالسكان في العصر الحجري الحديث وجاءتها موجات متتالية من المهاجرين٬ الاولى في العصر النحاسي
والثانية والأكبر عدداً في العصر البرونزي. وتظهر الكتابات والنقوش التي وجدت اثناء عمليات التنقيب ان علاقات تجارية
واسعة كانت قائمة بين بيبلوس ووادي النيل منذ السلالة الاولى وحتى السلالة السادسة. وتشهد المصادر الهيروغلافية المصرية
القديمة ان بيبلوس كانت تصدر أخشاب الارز الى مصر خلال السلالة الرابعة وحتى السادسة عندما دمر المدينة غاز غير
معروف. وجاء في اختام اسطوانية وجدت في هيكل قديم ان سجلات تعود الى ستيفروس من السلالة المصرية الثالثة تتحدث عن
وصول اربعين مركباً محملة بخشب الارز قادمة من بيبلوس. وكان خشب الارز ضرورياً لبناء مركب الاله رع سنوياً. وقد
ظهر في نقش سيتي الاول حاكم مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد الى ان سكان منطقة لبنان وسوريا وفلسطين كانوا
يقطعون الاشجار٬ تمهيداً لشحنها الى مصر لبناء السفينة المذكورة. وبعد ان ضعفت الامبراطورية المصرية وفقدت سيطرتها
على المدن الفينيقية٬ عين الحاكم المصري وكيلاً تجارياً له في فينيقيا. وكان هذا الوكيل يحمل معه الذهب والفضة ليبتاع
الاخشاب واشياء اوخرى .
الى الشرق نجد في ماري المدينة التاريخية التي كانت قائمة على ضفاف الفرات رسائل ولوحات ذات طابع تجاري تتحدث عن
تجارة ناشطة بين بيبلوس وبلاد ما بين النهرين. وكان لتجار مدن سومر وأكد ومدن شمال العراق علاقات تجارية مع مدن
الساحل الشامي بأكمله٬ من بينها راس شمرا وطرابلس وجبيل وبيروت وصور وعّكا ويافا وغزة٬ بالاضافة الى المدن الداخلية مثل
تدمر ودمشق واالبتراء وبصرى . وكانت العلاقات هذه تقوم على مبدأ المبادلة.
وفي لوحة اثرية محفوظة في متحف دمشق ما يؤكد حجم وكبر تجارة بيبلوس. فقد جاء في هذه اللوحة ان ملك بيبلوس تسلم من
ملك أوغاريت 540 شاقل (مثقال) من الفضة لقاء تعاقد على نقل تجاري٬ إضافة الى 50 شاقل آخر بدل تجهيز المراكب.
3 – تدمر
عمرت تدمر في أوائل القرن الثاني للميلاد على أثر سقوط دولة الانباط في شمالي جزيرة العرب وغربها. أسمها تحوير لكلمة
تتمر الآرامية والتي تعني المدينة التي يكثر فيها النخيل. وهو الاسم الذي عرفت به عند اليونان والرومان حيث سميت بلميرا أي
النخيل. وكان الاسكندر اول من أطلق عليها اسم بلميرا. وهي تقع في بادية الشام ولا تبعد كثيراً عن مدينة حمص .
بدأت تدمر المدينة بالظهور كمحطة تجارية مهمة على طريق القوافل بين بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام عقب قيام الدولة
الاخمينية الفارسية في القرن السابع قبل الميلاد. وكانت هذه الدولة قد عملت على تنشيط حركة القوافل التجارية على الطريق
التي تصل بلاد ما بين النهرين والهند وآسيا الصغرى ببلاد الشام. وعندما احتل الاسكندر تدمر ازدادت تجارتها في ظل الوحدة
التي أقامها الاسكندر بين الشرق والغرب. ولما خلف السلوقيون الاسكندر شجعوا التجارة التي تمر بتدمر وصولاً الى العراق.
وكانوا بذلك ينافسون البطالسة الذين سيطروا في ذلك الوقت على طرق التجارة الجنوبية في البحرين الاحمر والمتوسط .
تضرر اقتصاد تدمر كثيراً بعد قيام الدولة البارثية في العراق وايران وما تبعها من فصل بين بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام.
ولما سيطر الرومان على مصر وبلاد الشام٬ بما في ذلك تدمر٬ هادنوا الدولة البارثية فعادت التجارة الشرقية تمر بتدمر فازدهرت تجارتها واتسعت .
لطالما وجدت مصر المدينة الدولة نفسها بين عملاقين متصارعين: الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية. وقد إنعكس
هذا التصارع على نشاطها التجاري . فالفرس حاولوا بشكل شبه دائم قطع طرق التجارة التي تربط الرومان بتجارة الشرق
الاقصى عبر الشرق الادنى٬ وغالباً ما أدى هذا التوتر الى صدامات مسلحة على الحدود الفاصلة بين العملاقين. وبما ان تدمر
كانت في منطقة قريبة من هذه الحدود بين وادي الرافدين الذي سيطر عليه الفرس شرقاً٬ وبين سورية التي سيطر عليها الرومان
غرباً٬ فان الخط التجاري المهم جداً الذي يصل الشرق بالغرب كان غالباً ما يتعرض الى الانقطاع الى ان جاء الامبراطور
الروماني هدريان الى السلطة فسعى الى تحسين علاقاته بالفرس٬ فحول تدمر الى مستعمرة رومانية تتمتع ببعض الحرية.
وعندما تولى كركلا الحكم في روما منح تدمر وسكانها٬ كغيرها من الولايات الرومانية٬ الجنسية الرومانية. وكان هدريان من
قبل قد تنازل عن بلاد ما بين النهرين للبارثيين مما ساعد تدمر على توسيع تجارتها عبر الفرات وأقامة علاقات جيدة مع قبائل
العرب في منطقة النفوذ الفارسي٬ ومع الفرس أنفسهم ٬ فأمنت تجارتها. وفي القرن الثالث ميلادي تعاظمت قوة تدمر المدينة
الدولة بعدما استولت اسرة سافيروس على الحكم والتي كانت لها علاقات أسرية مع مدينة حمص٬ فانفتحت أمامها الطريق
المباشر مع البحر الأبيض المتوسط. وعندما إنتقل الحكم في بلاد فارس من البارثيين الى الساسانيين نشط التنازع على مناطق
الاطراف والسيطرة على طرق القوافل التجارية بين الشرق والغرب وتجدد النزاع المسلح بين الرومان والفرس٬ فازدادت حاجة
روما الى تدمر وقوتها العسكرية واستعانت بها.
كانت تدمر في هذا الوقت قد بلغت ذروة قوتها الاقتصادية وتجمعت لدى تجارها واصحاب المال ثروات هائلة وازداد عدد قوافلها
التجارية. وازاء الخطر الذي كان يهدد وضعهم هذا من قبل الساسانيين الذين اجتاحوا مناطق واسعة من سورية٬ نهض التدمريون
لمقاومة الفرس وتحرير ما استولوا عليه من ارض وعملوا على اعادة الحركة التجارية بين تدمر والخليج العربي من جهة٬ وبين
سورية وموانئ البحر الابيض المتوسط من جهة ثانية
زنوبيا
تولت في هذا الوقت اسرة أذينة التدمرية الحكم٬ وكان اولهم سبتيموس حيران الذي تقرب من الرومان وأسس مملكة تدمر.
أخضع ابنه أذينة القبائل المجاورة ومد جسور التفاهم مع الفرس خصوصاً بعدما هاجم الملك الفارسي سابور الاول سورية
واستولى على إنطاكية وهزم الامبراطور الروماني فالريان عند الرها. غير ان هذا التقارب التدمري – الفارسي لم يطل بعد ان
رفض سابور الاول التفاهم مع التدمريين ووقعت الواقعة بين التدمريين٬ معززين بقوة رومانية٬ والفرس وانتهت بهزيمة الفرس
وتحرير مناطق الجزيرة الفراتية المحتلة كنصيبين وحران وكذلك انطاكية. كافأ الرومان أذينة بان منحوه لقب امبراطور جميع
بلاد سورية وشبه الجزيرة العربية ويقال ارمينيا ايضاً. غير ان شهر العسل هذا لم يطل٬ إذ عمدت روما الى اغتيال أذينة وأحد
ابناءه٬ فخلفه ابنه وهب اللات الذي كان قاصراً فتولت والدته الزباء (زنوبيا) الوصاية عليه. كانت زنوبيا على قدر كبير من
الذكاء وسعة الحيلة. وكان أول ما فعلته تحصين جبهتها الشرقية مع الفرس فبنت الحصن الذي حمل اسمها على نهر الفرات.
وكان اول اختبار لها ولقدرتها انتصارها على جيش روماني جاء بحجة محاربة الفرس لكنه جاء في الواقع للتخلص من زنوبيا
التي لاحقت هذا الجيش وانتصرت عليه. وكان الهدف الاساس لزنوبيا السيطرة على مصر وعلى طريق التجارة الجنوبي عبر
البحر الأحمر ومراقبة المواصلات بين الهند وعالم البحر الأبيض المتوسط. وكانت مصر آنذاك تمون اهراءات روما بالمنتجات
الزراعية ومنفذاً للتجارة الشرقية عبر الجنوب.
لا شك ان زنوبيا كانت تعي ان صراعها مع روما غير متكافئ٬ ولا هي ارادت التوسع العسكري. كان هاجسها الدائم التوسع
التجاري مع تفهمها ان توازن القوى لا يصب في مصلحتها. لكنها لم تتردد في استعمال القوة تأميناً لمصلحة تدمر التجارية. وهذا
ما هدفت الى تحقيقه عندما ارسلت جيشاً من سبعين الف مقاتل لمحاربة الجيش الروماني المرابط في مصر وربحت المعركة
(سنة 270 م) وضمت مصر الى املاك تدمر. وبذلك أمنت زنوبيا طرق التجارة الجنوبية مع الشرق الاقصى عبر البحر الاحمر.
وفي مفاوضات لاحقت بين تدمر وروما وافق الرومان على بقاء الجيش التدمري في مصر مع اعتراف تدمر بسيادة الرومان
طويلاً تطلعت زنوبيا بعد ذلك نحو الشمال للسيطرة على طرق التجارة الشمالية.
وكان هذا الامر يشكل بنظر روما تحدياً كبيراً على هذا البلد وسك نقد حمل على احد وجهيه صورة مزدوجة لوجه القيصر
ووجه وهب اللات التدمري. غير ان التفاهم لم يدم لها.
فاذا ما تسنى لزنوبيا٬ بعد احتلالها لمصر٬ ان تحتل الاناضول وتضمه الى سورية٬ تكون قد سيطرت على منافذ التجارة
الجنوبية والشمالية٬ إضافة الى طرق المواصلات البرية والبحرية مع الشرق الاقصى وتحكمت بالمصادر الرئيسة لتموين روما.
لم تقف روما متفرجة على ما يحدث٬ فقررت توجيه ضربة عسكرية تقضي على تدمر. وكان ان التقى الجيشان في إنطاكية
وخسرت تدمر الجولة وانسحب جيشها الى حمص . سقطت حمص بدورها بيد الرومان٬ واستغاثت زنوبيا بالفرس والارمن
وبعض قبائل العرب لتقديم الامدادت فلم تلق اي دعم.
سقطت تدمر ومعها ملكتها التي اسرت وكبلت بالاصفاد ٬ ودخلت تدمر المدينة الدولة الطموحة عالم التاريخ غيرالمنسى .
4 – الاسكندرية
كانت الإسكندرية قبل 1500 ق م. مدينة فرعونية إسمها هاكوتيس. في سنة 332 ق.م. أضاف اليها الاسكندر المقدوني ضاحية
تقع في الجانب الغربي اسمها نيوبوليس واصبح الاثنان يؤلفان مدينة واحدة هي الاسكندرية. وقد أرادها الاسكندر مركز اتصال
وقاعدة بحرية تصل ماسيدونا بوادي النيل. ولما توفي الاسكندر أكمل نائبه كليومينس بناء المدينة. ويقال ان القديس مرقس جاء
بشخصه الى الاسكندرية وحول أناسها الى المسيحية. وهذا ما حمل بعض الناس في مصر على الشعور ان الاسكندرية لم تعد
مدينتهم بل مدينة غربية تبتعد عنهم شيئاً فشيئاً الى حد انها خسرت الكثير من تجارتها عندما ضعفت الامبراطورية وفقدت سلمها
في القرن الثالث قبل الميلاد ٬ فقل اناسها وفقدت الكثير من شأنها وقيمتها كمحطة تجارية . إحتلها خسرو ملك الفرس سنة 616
م. وجاءها العرب سنة 646 م. ثم جاء اكتشاف طريق الرجاء الصالح ليلحق ضرراً كبيراً بتجارة المدينة.
بنيت الاسكندرية في الاساس على قطعة ارض تفصل البحر الأبيض المتوسط عن بحيرة مريوت على رْعن (قنة الجبل الخارجة
منه والداخلة في البحر) على شكل T شرقاً وغرباً . وكان الغرض من هذا البناء جعل المدينة مرفأ بحرياً قادراً على استيعاب
التجارة القادمة بحراً. ومع الزمن طمر الغرين هذه ال T واصبحت برزخاً عرضه نصف ميل .
منذ ان أنشئت الإسكندرية اصبحت مركزاً تجارياً تأمه السفن المحملة بالبضائع الشرقية في طريقها الى الغرب مروراً بالبحر
الابيض المتوسط. وكانت بعض هذه البضائع مصرية المنشأ٬ منها المنتجات الزراعية التي كانت تفيض عن حاجة الشعب وباتت
تفتش عن اسواق خارجية. ومنها ايضاً صناعات مهمة مثل الورق والزجاج والنسيج والخشب المصنع وادوات الزينة والحلى
والزيوت والعطور والفخار. وقد سجلت المصادر القديمة٬ مثل ما ذكر المقريزي والمقدسي٬ ان الاقباط حملوا لواء صناعة النسيج
لمدة طويلة٬ حتى ان العرب كانوا يطلقون على المنسوجات المصرية اسم " قباطي". وكانت مصر تصدر الى باباوات روما عن
طريق الاسكندرية الكثير من الاقمشة النفيسة. وذاعت شهرة الاسكندرية نفسها في صناعة النسيج حتى قال عنها المقريزي ٬ في
مؤلفه" الخطط" ان الثياب المنسوجة في الاسكندرية لا مثيل لها وتحمل الى أقطار الأرض .
كانت السفن التجارية تواصل السير احياناً في البحر الأحمر الى القلزم (السويس الحالية) ومن ثم تسير في القناة النيلية التي تصل
البحر الأحمر والنيل عن طريق البحيرات المرة ووادي طميلات. وكانت هذه الطريق التي شقها الفراعنة وأعاد تأهيلها البطالسة
تسهل كثيراً على التجار الذين استخدموها للوصول الى الإسكندرية عن طريق النيل بعد ان ينتهي الطريق البحري عند ميناء القلزم .
كان البيزنطيون٬ ومن بعدهم العرب٬ يفرضون ضرائب على التجارة المصرية. وعرفت هذه الضرائب بالمكوس. ويقول المؤرخ
غروهمان ان كلمة مكس إشتقت من اللفظة السريانية ماكسو. ويقول المقريزي في كتابه "الخطط" ان أصل المكس في اللغة هو
الجباية. والمكس دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع. وكانت هذه الضرائب تجبى سابقاً من التجار الذين يتاجرون في مصر نفسها٬
أي من التجارة الداخلية. وكان المصريون قبل الفنح العربي يعتمدون في الزراعة والحصاد وجباية الخراج على السنين الشمسية
والشهور القبطية.
المراجع
R.B. Serjeant, Haram and Hawtah – 1
M.J.Kister , Mecca and Tamim 2
3 – البلاذري ٬ احمد بن يحي ٬ فتوح البلدان ٬ لايدن 1866 ٬.