ممالك عربية تجارية المنشأ قبل الاسلام
قامت في المناطق العربية القديمة قبل الإسلام ممالك عربية عديدة. وكان لها دورها الكبير في تلك العصور. وسنتحدث في هذا
الفصل عن هذه الممالك٬ واحدة بعد الاخرى. وقد سبق ان تكلمنا في مقال مستقل عن تدمر المدينة – المملكة تحت فصل مدن
تجارية .
1 مملكة الانباط
شعب الانباط من أقدم الشعوب التي استقرت في جنوبي بلاد الشام . كانوا قبائل عربية بدوية نزحت من شبه الجزيرة العربية منذ
سيناء وجنوبي فلسطين٬ ثم أنشأوا لهم دولة امتدت من نهر الفرات شرقاً الى البحر الأحمر غرباً. يحدها غرباً وادي عربة وجنوباً القرن السادس قبل الميلاد
وانتشرت في بادية شرقي الأردن وشمالي الحجاز وتوسعت على حساب الأدوميين في شبه جزيرة
الحجاز وشرقاً بادية الشام وشمالاً فلسطين. وعندما قويت شوكة الانباط وسعوا مملكتهم فشملت دمشق وسهل البقاع وجبل عامل
وحوران ومدين وديدان (العلا الحالية) .
بنى الانباط مدناً وأنشأوا قرى واتخذوا البتراء عاصمة لهم. تقع البتراء في جنوبي غربي وادي موسى في شرقي الأردن على
الخط التجاري الذي يصل جنوبي الجزيرة العربية بشمالها. تحيط بها الجبال ولا يسهل الدخول اليها الا من الممر الضيق
المعروف بالسيق. ويعتقد المؤرخ لانكستر في كتابه "آثار الاردن" ان السيق لفظ نبطي محرف من كلمة الشق في السبئية القديمة.
كانت بلاد الانباط جبلية قفراء تكثر فيها المرتفعات الصخرية الوعرة٬ قليلة المياه. وربما انعكست هذه الطبيعة القاسية على
الانباط انفسهم فعرفوا بشدة المراس. ساعدتهم هذه البيئة الصخرية في صد هجمات الاعداء٬ لذلك سمى اليونانيون بلاد الانياط
ببلاد العرب الصخرية وسميت عاصمتهم بالبتراء٬ وهو أسم يوناني معرب٬ أي الصخرة لأنها منحوتة في الصخور. كذلك
عرفت البتراء في المصادر العربية باسم الرقيم٬ أي النقش القديم .
سمحت هذه الطبيعة للانباط ان يحتكروا العمل التجاري في منطقتهم الوعرة والصعبة فنقلوا البضائع والسلع بين مختلف الأقاليم
وسيطروا على طريق القوافل الموازي للبحر الأحمر الذي كان يربط اليمن والقسم الجنوبي في شبه الجزيرة ببلاد الشام ومصر
عن طريق غزة والمدن الفينيقية الشاطئية. وعندما تفككت امبراطورية الاسكندر بعد وفاته وسع الانباط حدود مملكتهم من غزة
الى ايلة (العـقـبـة) وأحكموا قبضتهم على الطريق التجاري البري مما أغضب الملك السلوقي انتيغوناس فهاجم بلاد الانباط سنة
312 ق. م لقطع التجارة عن خصومه البطالسة. لكن حملته فشلت وقام بحملة ثانية انتهت بعقد صلح مع الانباط .
أدرك البطالسة٬ من جهتهم٬ أهمية بلاد الانباط وأثرها في التجارة المصرية٬ كما أدركوا استحالة الاستيلاء على تلك البلاد الجبلية
الصخرية المحصنة٬ لذلك عمدوا الى تنشيط تجارة البحر الأحمر بهدف تجاوز الطريق البري٬ فأنشأوا الطرق والموانئ
والمحطات على سواحله المصرية٬ كما مدوا نفوذهم الى فلسطين والموانئ الفينيقية التي كانت تتعامل آنذاك مع قوافل الانباط.
وقاموا٬ من جهة ثانية٬ باحتلال اراضي اللحيانيين الواقعة على الطرق الشمالية من الحجاز وأقاموا مستعمرات لهم عند أطراف
بلاد الانباط. وبذلك أحاطوا بالبلاد وسدوا منافذ الطرق التجارية٬ مما إنعكس سلباً على التجارة البرية المارة ببلاد الانباط. وكان
جواب الانباط أن هاجموا سفن البطالسة في البحر الاحمر ورد بطليموس الثاني الذي حكم في القرن الثالث ق. م بأن عزز قواته
البحرية لحراسة سفنه التجارية وهاجم الطرق الشمالية واحتل خليج ايلة .
إستفاد الانباط من الحروب التي جرت في القرن الثاني قبل الميلاد بين البطالسة والسلوقيين فنشطوا تجارتهم مع سورية ووصل
تجارهم الى صور وجبيل وربما الى غيرهما. وعندما ضعف السلوقيون في القرن الاول قبل الميلاد اضطربت أوضاع المنطقة
بفعل الصراع بين البارثيين الفرس والرومان٬ حيث تمكن البارثيون من احتلال العراق واستقلت امارات متعددة في جنوبي بلاد
الشام مما عرقل التجارة المارة بالعراق وأدى بالتالي الى ان تستعيد طرق التجارة في غربي شبه الجزيرة العربية زخمها فازدهرت البتراء.
بدأ الانباط في سك عملتهم الخاصة منذ عهد ملكهم الحارث الثالث ( 62 – 87 ق.م. ) في الجرهاء مقلدين الدرخما الآثينية او
الدرخما التي كانت تسكها صيدون (صيدا). وفي وقت لاحق أخذت العملة النبطية الطابع العربي في رسومها ونقوشها. وفي زمن
الامبراطورية الرومانية ضرب الانباط نقوداً تتبع في وزنها الدينار الروماني.
حضارة الانباط مركبة. فهي عربية في لغتها٬ آرامية في كتابتها٬ سامية في ديانتها٬ يونانية– رومانية في فنها وهندستها. إستعمل
الانباط الخط الآرامي – الفينيقي واللغة الآرامية في الكتابة والمعاملات وفي "لغتهم الخاصة" في التخاطب.
حوروا الآرامي حتى أضحى أصل الخط العربي الكوفي .
دور البتراء التجاري
لعبت البتراء٬ عاصمة الانباط ٬ دوراً بارزاً في تاريخ العرب القديم. أنشئت كمحطة على طريق القوافل التجارية وازدهرت في
القرن الرابع قبل الميلاد وظلت ما يقرب من اربعمئة سنة تشغل مكاناً مهما على طريق القوافل ما بين اليمن والشام ومصر.
فقدت مكانتها التجارية بعد ان احتلها الرومان واتخذوا٬ بدلاً عنها٬ مدينة بصرى عاصمة للمقاطعة العربية.
تمحورت حياة المدينة الاقتصادية حول مركزها كمحطة تجارية لعدد من صناعات العطور والاواني٬ وسوقاً تجارية نشطة تبيع
ما ينتجه حرفيوها من نساجين ونجارين وحدادين وزراع. كانت تتدفق عليها السلع والبضائع من المدن المجاورة والجهات
الاخرى٬ وتجري فيها الصفقات التجارية وتعطى القروض وتتبادل النقود. كانت ملتقى القوافل العابرة لبادية الشام ما بين غزة
وبصرى٬ وما بين دمشق وايلة٬ وما بين اليمن وبلاد الشام والعراق والخليج العربي. وصلت تجارتها الى موانئ سورية الشمالية
والى الإسكندرية في مصر والى رودس وملتوس وديلوس وسلوقته والى ايطاليا والى الصين ايضاً. وشملت مستورداتها العطور
و الطيوب اليمنية والمنسوجات الحريرية من دمشق وغزة والصين والارجوان من صور وصيدا والحناء
من عسقلان واللآليء من الخليج العربي والخزف من روما. حملت تجارها الطيوب والمر والبخور والتوابل من اليمن الى مصر
وبعض دول شواطئ البحر الأبيض المتوسط . كما حملوا القار الى مصر للتحنيط.
بلغت البتراء قمة ازدهارها التجاري في القرن الاول للميلاد. وقد ظلت مركزاً تجارياً بين الشرق والغرب وبين الجنوب والشمال
الى ان أعاد الرومان فتح الطريق البري من القصر على البحر الاحمر حتى قفط على النيل.
في عام 106 جرد الامبراطور الروماني حملة عسكرية على البتراء وقضى على استقلالها واستقلال الانباط. ومنذ ذلك الوقت
تراجعت البتراء وفقدت دورها التجاري حتى تخلت عنه نهائياً الى مدينتي تدمر وبصرى.
بصرى عودة إلى: الفهرست
كانتُبصرى الواقعة في منطقة حوران جنوبي سوريا محطة تجارية مهمة٬ لا بل من أهم مدن الانباط في الفترة المتأخرة من
تاريخهم. كانت تقع على ملتقى الطرق البرية القادمة من شبه الجزيرة العربية عبر وادي السرحان وسوقاً تجارياً كان يبيع فيه
تجار الحجاز ما يحملونه من بضائع٬ كما كانت آخر محطة لتجار قريش في العهد البيزنطي٬ ومركزاً صناعياً لعدد من
الصناعات بينها صناعة الخمور .
لوكي كوما عودة
كانت مدينة لوكي كوما (القرية البيضاء) الواقعة على الساحل الشرقي من البحر الأحمر٬ ميناء الدولة النبطية الرئيس. وصفها
الجغرافي سترابو في كتابه "جغرافية سترابو" بأنها ميناء وسوق تجاري٬ ترسو فيه السفن التجارية وتنطلق منه القوافل التجارية
البرية الى البتراء. ويصف صاحب " الدليل الأثري" المدينة بأنها سوق تجاري وميناء ترسو فيه السفن٬ وفيها قلعة محصنة تقيم
فيها حامية عسكرية مهمتها جمع الضرائب التي كانت تفرض على التجار. قامت المدينة فوق واحة العينونة التي اعتبرتصالحة
للعيش ولانشاء المدن. وهي ارض واسعة قادرة على استيعاب جيش كبير كجيش الرومان الذي رابط فيها لأشهر عديدة. تتصل
لوكي كوما بالبتراء بطريق بري يمر في وادي عفال .
الحجر
أشار سترابو الى ميناء يقع الى الجنوب من لوكي كوما. ويبدو ان هذا الميناء كان تابعاً لمنطقة او مدينة إجراء٬ وهي مدينة
الحجر (مدائن صالح) المعروفة والتي كانت جزءاً من دولة الانباط. وقد اشتهر مرفأ المدينة في عهد الدولة اللحيانية لأن الحجر
كانت من مدنهم الرئيسة .
2 – الدولة المعينية
قامت الدولة المعينية في الجوف شرقي صنعاء بين نجران وحضرموت . أرضها كانت خصبة ومياهها كثيرة. إشتغل أهلها
بالزراعة والتجارة. عاصمتها قرنا٬ وهي معين .
هي من أقدم الممالك العربية في اليمن. جاءتنا أخبارها بأكثرها عبر الكتب الكلاسيكية اليونانية والرومانية ولم يرد لها ذكر في
المصادر العربية القديمة. ظلت حضارة المعينيين مجهولة حتى كشف أحد علماء الآثار عنها٬ وهو جوزف هالفي. أما النقوش
التي وجدت بين آثارها فحوت أسماء ملوك وأفراد وما يتعلق بهم من أحداث شخصية او خاصة. من هنا يصعب على الباحثين
تحديد ناريخ بداية هذه الدولة وتاريخ انتهائها. على ان البعض يضع هذه التواريخ بين القرن الخامس عشر قبل الميلاد والقرن
الاول الميلادي٬ بينما قال بعضهم ان تاريخها كان بين 1300 و 650 قبل الميلاد.
نفوذ المعينيين التجاري
سيطرت الدولة المعينية على الطرق التجارية بين شمالي وجنوبي اليمن٬ ونما نفوذ المعينيين حتى امتد الى شمالي الحجاز
ودخلتُمعان وديدان (العلا الحديثة) تحت سيطرتهم. وقال في هذا الصدد المؤرخ ألويس موسل في كتابه "شمال الحجاز"
المترجم الى العربية انه "خلال الألف الاول قبل الميلاد كان الجزء الأعظم من التجارة العالمية في بلاد العرب واقعاً في يد
السبئيين والمعينيين". ويضيف انه في كل واحة من الواحات الرئيسة التي تقع على الطريق التجاري كانت تقيم جالية من عرب
الجنوب بينهم مقيم جنوبي مهمته الاشراف على ملوك الاقليم ورؤسائه ومراقبتهم لكي لا يقوموا بأي عمل يضر بمصالح أسياده
السبئيين او المعينيين.
امتد نفوذ المعينيين حتى شمل الطريق التجاري البري الذي ربط اليمن ببلاد الشام ومصر وأنشأوا في كل واحة من الواحات
الواقعة على هذا الطريق محطة لهم تقيم فيها طائفة من المعين وجاليات جنوبية من الاوساط التجارية تحميها حاميات عسكرية.
وأقامت معهم٬ في هذه المراكز٬ جالية من الافريقيين الكوشيين الذين كانوا يمارسون التجارة مع المعينيين. ويبدو ان القوافل
المعينية كانت تسلك الطريق الغربي في شبه الجزيرة العربية أكثر مما تسلك الطريق الشرقي. فكانت تنطلق قوافلهم٬ في أكثر
الاحيان٬ من اليمن مارة بمكة ويثرب ومدائن صالح (مدينة الحجر) حتى البتراء. ومن هناك كانت تتوزع بين جنوبي سوريا
والعراق ومصر. ويعتقد بعض المؤرخين ان مكة كانت تحت نفوذ معين وأن معان كانت مدينة تابعة لها مزودة بحامية عسكرية
للدفاع عن مصالح الدولة المعينية. كذلك كانت تيماء الواقعة على الخط التجاري البري الغربي الذي ربط اليمن بالشام ومصر
تحت سيطرة المعينيين .
إقتبس المعينيون أبجديتهم وعلومهم في المحاسبة من الفينيقيين٬ وذلك لتدوين حساباتهم التجارية. وقد عثر في اور والوركاء
بالعراق وفي الجيزة بمصر على كتابات معينية ترجع الى القرن الثاني قبل الميلاد وكلها تشير الى الصلات التي ربطت العراق
ومصر بالدولة المعينية.
أدى توسع المعينيين شمالاً الى الاحتكاك بفينيقيا وآشور. وكان حكام أشور في سورية يتعاملون مع المعينيين المقيمين في
الواحات .
فينيقيوا شبه الجزيرة العربية!. هذا هو الاسم الذي أطلقه بعض الؤرخين المحدثين على المعينيين٬ لما كان بين الفينيقيين
والمعينيين من تشابه في اعمال التجارة. فالاثنان تجار التاريخ القديم في منطقتنا بامتياز.
قضى السبئيون على الدولة المعينية. إلا انهم سمحوا للمعينيين ان يتابعوا نشاطهم التجاري وان يتمتعوا بحكم ذاتي داخلي.
3 – مملكة سبأ
أسس عبد شمس بن يشجب مملكة سبأ. نسبه يرتقي الى قحطان. لقب بسبأ لكثرة غزواته وحروبه وغلب هذا اللقب على المملكة
وشعبها. كان إنطلاق سبأ في الجوف٬ في الشمال. وكان الآشوريون يطلقون اسم "يلاد عريبي" على هذه المنطقة التي كانت
أصلاً وطناً لكثير من الممالك في العهد الاشوري .
ورد اسم سبأ في أكثر من مصدر٬ بينها نقش معني يشير الى ان قبيلة بدوية كانت تسطو على الطريق التجاري الممتد بين جنوبي
شبه الجزيرة العربية ومعان في شمالها. وذكر العهد القديم ان لصوصاً سبئيين كلنوا يسطون على رعاة أيوب ويقتلونهم. وذكرت
النقوش الاشورية التي تعود الى ثلاثة من ملوك آشور هم تغلت فلاسر وسنحاريب واسرحدون ان هؤلاء فرضوا جزية على سبأ
خلال حكم مليكهم يثعمر وكرب إيلو.
من المرجح ان السبئيين كانوا شعباً بدوياً يتنقل داخل شبه الجزيرة العربية قبل ان يستقر في اليمن حوالى سنة 800 ق.م. وعندما
تمكنوا من الدولة المعينية أقاموا دولتهم على انقاضها وورثوا لغتها وديانتها وتقاليد شعبها وتجارتها وصاروا يشتغلون بنقل
التجارة بين الهند والحبشة ومصر وبلاد الشام والعراق٬ حتى أضحوا في القرن الاول قبل الميلاد أقوى وسطاء التجارة في العالم
القديم. وقد أثرى شعب سبأ ونما وازدهر نتيجة احترافه الزراعة من جهة٬ وسيطرته على الطرق التجارية البرية التي ربطت
آنذاك بين الجنوب والشمال٬ من جهة ثانية .
نفوذ السبئيين التجاري
سلك السبئييون إجمالاً طريقين رئيسين: الاول كان الطريق الذي طالما سلكته القبائل البدوية والذي يمتد داخل الاراضي الزراعية
على طول الشاطئ الغربي لشبه الجزيرة العربية من الشمال الى الجنوب؛ والثاني الطريق الذي يمتد على طول الساحل الغربي
للخليج العربي حتىُعمان وحضرموت. ولم تكتف سبأ بهذين الخطين٬ بل إفتتحت خطاً برياً جديداً بين اليمن وبلاد الشام على طول
ساحل شبه الجزيرة العربية الغربي كان يؤدي الى مكة والبتراء ومن ثم يتشعب الى مصر والشام وما بين النهرين. وكان الفرع
الشامي ينتهي عند غزة على البحر الأبيض المتوسط . ومن حضرموت٬ الغنية باللبان٬ كان يمتد طريق آخر تسلكه القوافل التجارية
حتى مأرب٬ عاصمة سبأ ويتصل هناك بخط تجاري آخر لهم.
لم تسلم قوافل السبئيون من تعديات البدو في اثناء سيرها على الطرقات البرية٬ رغم إتساع نفوذ السبئيين وقوتهم. كما ان نفقات
السفر البري أرهقهم فحولوا أنظارهم شطر البحر وراحوا يسافرون عن طريق البحر حيث المسافات أقصر والبحر أسلم. وكانت
تأتيهم منتوجات الهند وأفريقيا وتخزن في مرافئهم٬ كموزا وعدن٬ او تنقل بحراً الى مرفأ أيلة (العـقـبـة حالياً) ومنه براً الى
فلسطين والشام ومصر٬ او تنقل الى مرفأ القصير على البحر الأحمر ومنه الى قفط على النيل. وكان رعمسيس الثالث٬ حسب ما
ذكر المؤرخ جرجي زيدان في كتابه العرب قبل الإسلام قد بنى اسطولاً وأنزله الى البحر الاحمر وسافر فيه وصولاً الى الحبشة
والصومال والارض المقدسة (بلاد العرب) وكان غرضه الرئيس تسهيل التجارة البحرية المصرية بين مصر وأقصى الشرق٬ ثم
أنشأ طريقاً تجارياً برياً بين القصير والقفط وطريقاً بحرياً بين المحيط الهندي والنيل عن طريق بلاد العرب. وفي وقت لاحق
إحتفر الحاكم المصري سيني الاول قناة وصلت الى نهر النيل بالبحر الأحمر.
سيطرة الحكام السبئين على طرق التجارة
مرت مملكة سبأ بمرحلتين متتاليتين:
الاولى مرحلة المكربين٬ وهي مرحلة تلقب فيها حكامها بلقب مكرب سبأ٬ أي المقرب من الآلهة والناس والذي يقوم بدور الكاهن والملك في آن٬
والمرحلة الثانية المسماة مرحلة الملوك تلقب فيها حكامها بلقب ملك سبأ واتخذوا مأرب عاصمة لهم.
توالى على حكم سبأ عدد من المكربين٬ قيل انهم سبعة عشر مكرباً وقاموا بأعمال عمرانية٬ أبرزها بناء السدود. فقد بنى "سمه
علي بن ينف بن ذمر" سد رخاب٬ وهو جزء من سد مأرب ٬ فتوسعت الزراعة في مأرب وزادت ثروة أهلها. وسع ابنه "يثعمر"
سد حبابض. وأضحت مأرب نتيجة لذلك مقراً للفئات الغنية والمتنفذة وكبار الملاكين٬ ما هيأ لنقل العاصمة من صروح الى مأرب.
كان كرب إيل آخر الحكام المكربين. كان طموحاً وشاء التوسع فحارب ممالك وامارات في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة
واخضعها لحكم سبأ. وكانت سياسته هذه مخالفة لسياسة أسلافه الى قامت على البناء والزراعة واتبع سياسة عسكرية للتوسع
على حساب جيرانه والسيطرة على طرق التجارة الدولية. وتحقيقاً لطموحاته هذه تحالف كرب ايل مع ملكي حضرموت وقتبان
ضد المعينيين والأوسانيين وهاجم دولة معين وغزا المناطق المجاورة لها والمتحالفة معها في الشمال وقضى عليهم جميعاً. ثم
توجه الى أوسان في جنوبي اليمن٬ التي كانت تسيطر على الطرق النجارية في المنطقة وهاجمها وانتصر عليها. غير ان هذا
الانتصار قابلته أضرار فادحة في اقتصاد المناطق التي أخضعها بعد ان تدمرت بكاملها وقتل أكثر أهلها٬ ومن نجا منهم أخذ
أسيراً٬ وصودرت أملاك الناس وسجلت باسم الاسرة الحاكمة او الحكومة او المقربين.
حقق هذا الانتصار للملك السبئي السيطرة على طرق تجارة البخور والتوابل القادمة من الشرق والشمال. وظهرت سبأ بين
القرنين السابع والرابع قبل الميلاد كأكبر قوة تجارية في العالم القديم٬ وأصبح اسطولها التجاري الكبير يزود ٬ بين من يزود٬
معابد مصر بالبخور والطيوب المستوردة من اليمن والحرير والتوابل من الهند. واتخذ كروب ايل لقب ملك سبأ وأقتدى به من
بعده بقية الحكام .
كان هدف سبأ في المرحلة الثانية السيطرة على ما يهمها من طرق التجارة الدولية. وعرفت هذه المرحلة بمرحلة الملوك. فقد
اتخذ ملوك سبأ٬ في خلال هذه المرحلة ٬ مدينة مأرب عاصمة لهم وجعلوا من سلحين وقصرها مقراً يديرون منه شؤون البلاد.
ونمت الحرف الصناعية وأصبح لسبأ اسطولاً تحارياً كبيراً. وترجمت سبأ هذا التطور والازدهار توسعاً على حساب جيرانها٬
فوحدوا الممالك العربية الجنوبية وضموا الامارات المستقلة.
صادر السبئيون أراضي القبائل المعارضة وفرقوها على أسرهم ومناصريهم. وكان ذلك ايذاناً بانتقال الحكم بصورة تدريجية الى
أيدي الأسر الغنية والنافذة والاوسع املاكاً والأكثر قوة٬ وأضحى المال وسيلة رئيسة للوصول الى السلطة. وبالمقابل أصبحت
السلطة تخدم الأثرياء وتفتح امامهم كل النوافذ لزيادة ثرواتهم. وأدت هذه المعادلة٬ المال والسلطة ٬ الى ظهور أسر قوية لعبت
دوراً بارزاً في سياسة البلاد. ومن بين هذه الأسر: بنو مرثد ٬ بغ بثع من همدان ٬ بنو فيشان .
بدأ مركز سبأ التجاري يواجه صعوبات كبيرة منذ القرن الرابع قبل الميلاد بفعل اثنين: الاول خارجي٬ إذ ظهرت في مصر قوة
البطالسة التي احتكرت التجارة الشرقية وأفقدت سبأ مركزها ومكانتها التجارية في البحرين الاحمر والابيض المتوسط لصالح
اليونان والرومان. اما العامل الثاني فكان عاملاً داخلياً عندما واجهت سبأ ثورات عائلية بسبب ضمها للامارات المستقلة وتوحيد
القبائل تحت سيطرتها٬ فكان ان اصطدمت بمصالح الزعامات المحلية وظهرت اضطرابات وثورات داخلية أثرت سلباً على
الوضعين السياسي والاقتصادي للدولة وأتاحت للدول الاجنبية التدخل في شؤون سبأ الداخلية.
واجهت سبأ نتيجة لهذا الوضع المتأزم مواجهات مع الحبشة التي حاولت السيطرة بالقوة على السواحل اليمنية٬ كما واجهت
محاولات من قبل جضرموت وحّمير ومملكة كندة لاستعادة استقلالها. وشهدت الايام الاخيرة من حياة الدولة السبئية قيام نزاع
داخلي حول العرش أدى الى خراب ودمار٬ وتحولت الاراضي الزراعية الى اراضي جرداء قاحلة غير منتجة. وفي عام 30
ق.م تمكن أخصام سبأ من الزيدانيين٬ وهم قبائل عربية سكنت الى الشمال من حضرموت٬ ومن الحميريين وهم قبائل عربية
سكنت الى الغرب من حضرموت٬ من انتزاع العرش السبئي وأسسوا سلالة جديدة تلقب ملوكها "بملوك سبأ وذي ريدان" .
المراجع
. 2002 بيروت ٬ والتوزيع للنشر الاهلية ٬ الكاملة المجموعة ٬ زيادة نقولا ترجمة The Periplus of the Erythean Sea , chaper 10 1
2 عباس ٬ احسان : تاريخ دولة الانباط ٬ دار الشروق ٬ بيروت 1979 .
3 – لطفي عبد الوهاب ٬ يحي : العرب في العصور القديمة ٬ دار النهضة العربية ٬ بيروت 1979 .
4 – عرفان محمد ٬ حمور : أسواق العرب ٬ دار الشورى ٬ بيروت 1979 .
5 – فروخ ٬ عمر : تاريخ الجاهبية ٬ بيروت 1964 .
6 – موسل ٬ ألويس : شمال الحجاز ٬ تعريب عبد المحسن الحسيني ٬ الاسكندرية 1902 .
7 فخري ٬ أحمد : اليمن ماضيها وحاضرها ٬ القاهرة 1957 ٬ .
8 – سوسة ٬ أحمد : حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور ٬ بغداد ٬ لا تاريخ .
9 – وهب بن منبه : كتاب التيجان في ملوك حمير ٬ حيدر أباد 1247 ٬ ه .
10 – العهد القديم ٬ سر ايوب
11 – هومل ٬ فرتز : التاريخ العام لبلاد العرب الجنوبية ٬ تعريب فؤاد خسنين علي ٬ مكتبة النهضة المصرية ٬ القاهرة 1993 ٬
12 – حتي ٬ فيليب : تاريخ العرب ٬ دار غندور ٬ بيروت 1974 ٬ .
13 – زيدان ٬ جرجي : العرب قبل الاسلام ٬ دار الهلال ٬ القاهرة ٬ لا تاريخ .
14 – الشريف ٬ احمد ابراهيم : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ٬ دار الفكر العربي 1965 ٬ ..