منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الاديان الخمسة الكبرى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:09 am

الاديان الخمسة الكبرى 190

في علوم الأديان
نقدّم هذه السلسلة الجديدة «في علوم الأديان» لطالبي المعرفة في بلادنا، وهم كُثر في جامعاتنا، ومعاهدنا العليا، ومدارسنا الثانويّة، ونوادينا العلميّة، وأوساطنا الثقافية. فعسى أن تأتي أجزاء السلسلة بالنفع وتساعد على توسيع نطاق المعارف والتعمّق في مواضيع تهمّ الإنسان كلّه، ذهنًا وقلبًا، فتمهّد السبل للحوار النصوح بين الأديان والمذاهب، وللتعاون في إطار العيش المشترك بين الجماعات المختلفة.
البروفسّور الدكتور عادل تيودور خوري
أستاذ علوم الأديان سابقًا
في جامعة مونستر / ألمانيا

6 – مدخل إلى الأديان الخمسة
يجمع هذا الكتاب المعطيات الأساسيّة للأديان الخمسة الكبرى في العالم: الهندوسيّة والبوذيّة والإسلام واليهوديّة والمسيحيّة.
وغرضه إطلاع القارئ على أهمّ تعاليم هذه الأديان بالنسبة إلى عقائدها وقواعد المسلك الأخلاقيّ فيها، وطرق الخلاص التي تقدّمها لأتباعها، على اختلاف المذاهب والتيّارات التي نشأت وتطوّرت فيها.
في علوم الأديان
سلسلة يُشرف عليها 
عادل تيودور خوري
والمطران كيرلّس سليم بسترس


1. عادل تيودور خوري، مدخل إلى علوم الأديان، 2003، 84 ص.
2. عادل تيودور خوري وبيتر هونرمان، ما هو الخلاص؟ جواب الأديان الكبرى، 2004، 189 ص.
3. عادل تيودور خوري وبيتر هونرمان، من هو الله؟ جواب الأديان الكبرى، 2003، 141 ص.
4. عادل تيودور خوري وبيتر هونرمان، من هو قريبـي؟ جواب الأديان الكبرى، 2004، 204 ص.
5. عادل تيودور خوري، الظاهرة الدينيّة: نشأة الخلق، 2004، 244 ص.
6. عادل تيودور خوري، مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى، 2005، 175 ص.




مقدمة
عادل تيودور خوري
مدخل إلى 
الأديان الخمسة الكبرى


المكتبة البولسيّة 2005 جونية – لبنان

في علوم الأديان

سلسلة يُشرف عليها
عادل تيودور خوري
والمطران كيرلّس سليم بسترس


6

عادل تيودور خوري: مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى
المكتبة البولسيّة (جونية – لبنان)، 2005، 175 ص.

عادل تيودور خوري


مدخل إلى 
الأديان الخمسة الكبرى


المكتبة البولسيّة
جونية – لبنان
2005


نُقلت بعض فصول هذا الكتاب (البوذيّة، اليهوديّة، المسيحيّة)، من مؤلّف صدر بالألمانيّة عنوانه:
Emma Brunner-Traut (Hrsg.), Die fünf grossen Weltreligionen, Herder, Freiburg, 36e éd., 2000.


ساهم في نقل الفصل في البوذيّة الأب إميل أبي حبيب الأنطوني. ونقل الفصلين في اليهوديّة والمسيحيّة المطران كيرلّس سليم بسترس.


الطبعة الأولى 2005
© جميع الحقوق محفوظة للمكتبة البولسيّة
المكتبة البولسيّة: جونية – لبنان، ص.ب. 125
هاتف: 911561-09
فاكس: 918447-9-(00961)
643886-9-(00961)

مقدّمـة

يجمع هذا الكتاب المعطيات الأساسيّة للأديان الخمسة الكبرى في العالم: الهندوسيّة والبوذيّة والإسلام واليهوديّة والمسيحيّة.
وغرضه إطلاع القارئ على أهمّ تعاليم هذه الأديان بالنسبة إلى عقائدها وقواعد المسلك الأخلاقيّ فيها، وطرق الخلاص التي تقدّمها لأتباعها، على اختلاف المذاهب والتيّارات التي نشأت وتطوّرت فيها.
هذا مع العلم أنّنا نُعِدّ لنشر أجزاء مستقلّة مطوّلة المحتوى حول كلّ من هذه الأديان الخمسة الكبرى.
عسى أن نساهم بذلك في توسيع آفاق القرّاء، من أيّ انتماءٍ كانوا، وإنعاش الاستعداد فيهم للإقدام على مزاولة الحوار والتعاون مع مؤمني الأديان المختلفة في العالم.
عادل تيودور خوري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:11 am

الفصل الأوّل
مدخل إلى الهندوسيّة 




الهندوسيّة ليست ديانة موحّدة، بل هي مصطلحٌ جماعيّ لتيّارات دينيّة ومذاهب ومناهج وطرق خلاص مختلفة نشأت على مرّ الزمن ونمت في الهند. أهمّ مراحل تطوّر الهندوسيّة هي التاليّة:
الفيديّة هي الشكل القديم للهندوسيّة، وقد دخلت إلى الهند مع الآريّين حوالى سنة 1500 قبل المسيح. إنّ كتب الآريّين المقدّسة تدعى فيدا (المعرفة المقدّسة). وهي تتضمّن أناشيد للآلهة ونصوصًا لتقديم الذبائح، تعرّفنا عالم الثقافة، والتصوّرات عن الله، وصورة الإنسان وأشكال العبادة في زمن الفيدا.
عندما قامت أشكال مختلفة في طلب الخلاص وفي المجتمع الفيديّ وأصبح ما يقابلها من ممارسات العبادة أكثر تعقيدًا، تكوّنت طبقةٌ من خدّام العبادة المؤهَّلين تأهيلاً خاصًّا، كان شغلها الشاغل البحث عن علاقات الآلهة بظواهر الطبيعة وبأحداث الحياة البشريّة وبتكوين ممارسات العبادة الفعّالة المؤاتية وتفسيرها وتأسيسها نظريًّا. هؤلاء الكهنة الخبراء بالدين يُدعَون براهمة. ولذلك دُعيت تلك الحقبة التي تأثّرت بهم البراهمانيّة. مقابل هذا التركيز الشديد على الطقوس الدينيّة، ظهرت ردّات فعل من قِبَل طبقات صغيرة منغلقة راحت تبحث عن خلاصها في التأمّل والتنظير بدلاً من العبادة والطقوس. وقد رسا تعليمها السرّي في الأوبانيشادات القديمة.
المرحلة الثالثة شهدت تكوين الهندوسيّة. فنمت المناهج الفلسفيّة وطرق الخلاص الدينيّة المتنوّعة. ونشأت فرق قويّة حول آلهة خاصّة اكتسبت أهميّة كبرى وأزالت الآلهة الكثيرة الأخرى، مثل فيشنو وشيفا. كلّ هذه التيّارات الدينيّة والفرق والمناهج الفلسفيّة لا تزال إلى اليوم تسِم وجهَ أديان الهند.

أوّلاً: آلهة الهندوسيّة
إنّ الهندوسيّين، في مرحلة أولى من تطوّرهم الدينيّ، اختبروا الألوهة في أشكال ظهورها في الطبيعة، سواء ارتبطت أشكال الظهور هذه بالأرض أو بالسماء، بالنباتات أو بالحيوانات، بالإنسان نفسه أو أخيرًا بقوى مجرَّدة. هذه القوى عُدَّت قوى عُليا. وكان عملُها في معظم الأحيان مغلَّفًا بالأسرار، وردّاتُ فعلها خاضعة للنـزوات. ولكنّ الأساطير الهنديّة قد ذكرت آلهة الفيديّة، ووصفت أعمالهم الخارقة ومغامراتهم، وعرضت علاقاتهم بعضهم ببعض وبعالَم البشر.

1. آلهة الحقبة القديمة
1-1. إندرا
إندرا هو الإله القويّ الأعظم، يجسّد القدرة الخالقة، التي نظّمت العالم، وخلقت شروطَ الحياة. وهو يتغلّب بقدرته على كلّ الشياطين، وقوى الخواء والفوضى التي تقاوم نشأةَ عالَم منظَّم، وتعرّض للخطر باستمرار هذا النظام الكونيّ. وهو بنوع خاصّ يتسلّط على المطر والماء فيعزّز الحياةَ على الأرض. وهو إلهُ الحروب الوطنيّة، والمعين في الضيقات، يحمي الآلهة والبشر، ويمنح أتباعَه الأمان. إندرا هو إله النصر. ومن ثَمَّ فإنّ إندرا هو ملك البشر وصديقهم. وتدعوه نصوص العبادات "الأخ"، الذي يقبل الصلوات والقرابين، وهو قريبٌ من المصلّين.
1-2. رودرا
إذا كان إندرا هو الإله الصديق والصالح، فإنّ رودرا يمثّل الجانب الآخر من الألوهة، جانب الهول والقلق. لونُه الأحمر يذكّر بأنّه ينشر حوله الرعب. وغضبه يعبّر عنه أيضًا كونُه يقتل الناس بقوسه. فهو إذن سيّد الموت. إنّه يرسل المرضى والموت. ولكن بصفته سيّد الموت، فهو يحمي أيضًا من الموت، ومن ثَمَّ يُعَدّ طبيبًا وشافيًا.
1-3. أغني
أغني هو إله النار. نوره يتغلّب على الظلمة، وعلمه يحيط بكلّ أسرار العالَم والبشر. لمعانُه يُلهِم الرؤاة وينشّط النسّاك. هو الصدّيق الذي يحمي الناس من القوى الشريرة، ويقودهم إلى الطريق القويم ويمنحهم العونَ والسعادة. هو نار القرابين، يرافق الناس في المنـزل والعائلة، ويقوم بدور الوسيط بين مقدّمي القرابين والآلهة.
2. آلهة الهندوسيّة
في حقبة الهندوسيّة التي بدأت في القرن الرابع قبل المسيح، راح آلهة الفيديّة يفقدون أكثر فأكثر أهمّيتهم. واتّخذوا ملامحَ إنسانيّة مع كلّ ما يتضمّنه ذلك من فناء وضعف وتقلّص. إنّ تقلّصَ الآلهة الفيديّين قد رافقه ارتقاء لآلهة جدد، تركّز حولهم بوضوح متزايد اهتمام الهندوسيّين الدينيّ. وأهمّ هؤلاء الآلهة هم فيشنو وشيفا وبراهما.

2-1. فيشنو
كان فيشنو في الفيديّة إلهًا لا أهميّة له. أمّا في الهندوسيّة فيقوم بدور الخالق ووظيفة حارس العالَم التي كان يؤدّيها إندرا. على مرّ الزمن صار الإلهَ الأسمى، والسلطان القدير. وعُدَّ الظهورَ الشخصيّ للألوهة غير الشخصيّة، التي هي الأصل والكيان الأخير لكلّ الأفراد من الناس والأشياء. وقد صار فيشنو في تيّار الفيشنويّة الدينيّ محورَ عبادة متّسعة وتعليم عن الله متفرّع، نقتصر منه هنا على نقطتين.

2-1-1. التماهي بين فيشنو وكريشنا
يُعتبر كريشنا بطلاً أفضل أبعاد الحياة. وقد نقلت عنه البهاغافاد – جيتا الشهيرة (وهو جزء من ملحمة الشعب الهندوسيّة) تعليمًا عن الله يمكن إيجاز مضمونه على النحو التالي: الله هو مصدرُ كلّ الكائنات، وأساسُ كلّ الأشياء وحقيقتُها الباطنة. الله هو السيّد، وهو أوّلاً صديقُ البشر وهو في النهاية أيضًا غايتُهم. وهو يمنح الأمانَ والتحرّرَ والخلاص للذين يلتفتون إليه ويتمسّكون به.
وكريشنا نفسه، بصفة كونه إلهًا، عدَّه الهندوسيّون أيضًا الإله العطوف الذي يمنح الطمأنينة والحماية. ولذلك فهو إلى الآن محورُ كلّ اتجاه دينيّ يرتكز على المحبّة والعاطفة. وبالتالي فقد تجمّعت حول شخص كريشنا طائفة من الروايات الميثولوجيّة والحكايات التنظيريّة. وصار محورَ الإكرام والعبادة بالنسبة إلى شعب الرعاة وإلى أتباعه في الزمن اللاحق. وتنوّه الأسطورة بوجه خاصّ بما قام به كريشنا من ألعاب غراميّة واختبارات غراميّة مع الفتيات الراعيات. فقد صارت ألعاب العشق هذه صورة للبحث الصوفيّ عن الله، وصارت الاختبارات الغراميّة هدفًا لأتباع كريشنا. تتعلّق بهذه التصوّرات الأسطوريّة التنظيرات التي تعدُّ كريشنا تجسيدَ محبّة الله والطمانة الأكيدة للرضى الإلهيّ.

2-1-2. تجسّدات فيشنو
تعني ظهورات فيشنو أنّ الله يعمل بصلاحه لخير الإنسان ويتبيّن كمخلّص للعالَم والبشر، وهي تحدث باستمرار عندما يقع العالم والناس في حالة خطرة. ويبلغ عددها العشرة.
في العصر الذهبيّ لدورة العالم ظهر فيشنو كسمكة، لينقذَ الإنسان الأوّل من الطوفان ويرفعَ كتبَ فيدا المقدّسة من قعر البحر. ثمّ ظهر كسلحفاة ليعمل كسند لدى تحويل مياه البحر إلى زبدة، ويساعد بذلك الآلهة والشياطين للوصول إلى رتبة عدم الموت وإلى مختلف القيم. ثمّ ظهر فيشنو كخنـزير برّيّ ليُصعِد الأرضَ الغارقةَ في البحر. وأخيرًا اتّخذ شكلَ إنسان – أسد ليحرّرَ العالم من شيطان لم يتمّ التغلّب عليه إلى الآن.
بحسب هذا الدور الكونيّ ظهر فيشنو في حقبة العالم الثانية كوسيط في الخلق، فظهر أوّلاً كقزم لم يلبث أن تحوّل إلى جبّار يقيس بخطاه الواسعة الضخمة الكونَ كلّه ويُخضعه لسلطته. ثمّ عمل على إحلال النظام في المجتمع بشكل "راما" و"راما – شاندرا".
في نهاية حقبة العالَم الثالثة، التي تمثّل أعمقَ نقطة في الانحطاط، ظهر فيشنو في شكل بوذا. وفي نهاية الدورة الكاملة سيظهر في شكل المخلّص كالكي، ليكافئ الصدّيقين ويعاقبَ الأشرار ويُطلق دائرة جديدة من حقبات العالَم.

2 – 2. شيفا
- شيفا إله الموت والحياة: شيفا هو إلهٌ يثير في الناس الخوفَ والقلق. إنّه إله الموت والمرض والضيق. وهو يرسل في غضبه العاصفة والإبادة. وبصفة كونه إلهَ الموت، فهو أيضًا إله الماضي، وفي ما بعد صار متماهيًا مع الزمن (كالا). وتمّ تصويره إلهًا راقصًا، يرمز في رقصه الكونيّ إلى ماضي الكون، ويحدّد زوالَ العالم وصيرورةَ مسارات الطبيعة.
كما أنّ شيفا يستطيع أن يجلبَ الدمارَ والموت، فهو يستطيع أيضًا أن يصونَ منها، فيكون عنوان الحياة. ولذلك فهو يتمتّع بقدرة هائلة على الإنجاب، ورمزه هو القضيب الذكريّ (حجر لينغا). ويُصوَّر في رفقة ثور يرمز إلى القدرة على الإخصاب.
- شيفا الناسك: إنّ شيفا سيّدُ الغابات والعزلة، فهو معلّم الزهّاد المتجوّلين وصورة كلّ زهد ونسك. وهو نفسه الناسك الأكبر.
- شيفا الإله المتعالي على العالَم: على مرّ الزمن نُسِبت إلى شيفا بوضوح متزايد صفات تتجاوز هذا العالَم. فصار شيفا سيّد الكون المطلق المختصّ بخلق العالَم والحفاظ عليه وتدميره. ويفعل هذا في حركة منتظمة تعود باستمرار، وبها ترتبط أيضًا دورة الزمن. في هذا الدور الكونيّ يُصوَّر شيفا بثلاثة رؤوس أو ثلاث أعين (الخالق أو الحكمة، والمدمّر، والمحسن).
لقد تكوّنت حول شيفا حركة دينيّة، يقوم أيضًا في وسطها، إلى جانب طقوس فظّة، البحث النظريّ عن العلاقات بين الله ونظام العالَم. وفضلاً عن ذلك فقد نشأ، في العلاقة بالشيفاويّة، مذهبٌ يعترف بدور حاسم للمبدإ الأنثويّ في الألوهة. فزوجةُ شيفا هي رفيقتُه (شاكتي) التي هي تشخيص طاقته وقدرته. كما أنّ الإله نفسَه له أشكال أو أوجه متنوّعة، فزوجته تكون تارةً أليفة (شكل الأوما)، وتارة مدمّرة (شكل كالي، السوداء)، وتارةً متعالية على العالَم (شكل بارفاتي أو دورغا).

2 – 3. براهما
براهما ليس إله الجماهير الواسعة بقدر ما هو إله المثقّفين العاكفين على التنظيرات. صفاته تقوم في العلاقة بالخلق ونظام العالَم. إنّه سيّد الكون، وهو يراقب النظام العالَمي ويظهر كديّان.
على مرّ الزمن فقدَ براهما أكثر فأكثر أهميّته العمليّة. وتخلّى عن مكانته كإله أسمى لصالح آلهة أخرى. وفي ملحمة الشعب يظهر في مرتبة أدنى من مرتبة فيشنو. وإنّ نصوصًا لاحقة تجعله، بأمر من فيشنو أو شيفا، يبدأ كلّ مرّة دورة حقبات الزمن، ويستعيد نشاطَه كخالق.
وإنّ براهما، بصفة كونه إله الحكماء، يُعدّ الكارز بالمعرفة المقدّسة، الفيدا.
2 – 4. الله سيّد العالم
نتيجة مسيرة الهندوسيّة في توحيد عالَم الآلهة هي بروز إلـهَي الهندوسيّة الحديثة العظيمَين، فيشنو وشيفا. فهذان يعدّهما أتباعهما الإله الأسمى والأوحد، الذي يوحّد في ذاته جميع الصّفات الإلهيّة. ففي اعتقاد الفيشنويّين تقيم كلّ الألوهة في فيشنو، وكلّ الآلهة الأخرى ليست سوى وجوه من كيانه ولا تمثّل إلاّ وظائفه المتنوّعة. لا وجود لأيّ إله آخر إلى جانبه. لا شكّ أنّ النـزعة إلى التوحيد هي شبيهة عند الشيفاويّين. ومع ذلك فحصريّة إيمانهم بالله الواحد تبدو أقلّ شدّة. ويصف أتباع فيشنو وشيفا كلاًّ منهما بأنّه سيّد العالم (إشفارا).
وأهمّ صفاته ما يلي:
- سيّد العالم هو أيضًا سيّد الآلهة والبشر، كما أنّه سيّد الكون كلّه. وبذلك يظهر متفوّقًا على جميع الكائنات.
- سيّد العالم هو جوهر وحدة الكون. في شخصه تتوحّد جميع ظواهر العالم، إذ إنّه يمنحها جميعًا وحدةَ كيان أرفع في كيانه الخاصّ. وكذلك يتوحّد فيه نظام العالَم مع تنوّعه والقواعد الأخلاقيّة في تطبيقاتها المختلفة.
- سيّد العالم يشمل كلّ شيء بعلمه غير المحدود. فقد خلق العالَم بقدرته ووضع للكون نظامَه الثابت. وفي عنايته يهتمّ باستمرار خليقته. وهو من ثَمَّ يقوم في دائرة كيان تعلو على العالم، بمعنى أنّه لا يخضع لأيّ حدّ، وبنوع خاصّ لا يتعرّض للفناء.
- هذا يدلّ على تساميه. ولا يمكن إدراكه و وصفه في تساميه الخاصّ. فهو يقوم فوق المصطلحات والصفات كالكيان أو عدم الكيان. لا يمكن تحديده ولا قياسه، ولا حصره وبالتالي لا يمكن التعبير عنه. ولذلك يُدعى إله الآلهة.
- وإن كان هو نفسه لا يخضع لأيّ تغيير، فهو مع ذلك مصدر العالم المتغيّر. إنّه غير محدود، غير أنّه سيّد كلّ الكائنات المحدودة. إنّه مولود، إلاّ أنّ كلّ الكائنات وكلّ الأشكال التي تظهر فيها الحياة في العالم تولد منه. وفي نهاية الأمر فهو وحده يكوّن جوهرَ كلّ الكائنات.
- ومن ثَمَّ فسيّد العالَم هو كلّ شيء في الكلّ. إنّه نور الأجساد السماويّة، والطاقة والحياة في الكائنات الحيّة، والقدرة الباطنة الناشطة في النسّاك. إنّه أيضًا القاعدة العليا، والمرجع الأخلاقيّ الكامل، والديّان العادل.
- ويستطيع الإنسان أن يختبرَه في الاستسلام المحبّ (بهاكتي). فالإله المتسامي يظهر من ثَمَّ إلهًا قريبًا وصديقًا للإنسان، يفسح له في المجال ليصلَ إليه، وهو مستعدّ لإقامة علاقات صداقة ومحبّة مع البشر. من يستسلم للمحبّة يستطيع وحده أن يختبرَه في نقاوته الأخلاقيّة، وفي كماله، وفي مجده وبهائه، وفي نعمته ومحبّته المرهَفة.
3. الألوهة غير الشخصيّة (براهمن)
براهمن هو الألوهة المطلقة، الحقيقة المتسامية، والكائن الأعلى. وهو أيضًا خلاصة الكون. ولأنّ براهمن هو جوهر الألوهة، فهو يمتلك كلّ الصفات التي تعود لسيّد العالم، باستثناء تلك التي تُظهر في سيّد العالَم طابعًا شخصيًّا أو تفترضه، لأنّ براهمن هو الألوهة غير الشخصيّة.
3 – 1. صفات براهمن
- فبراهمن هو الأزليّ، المطلَق، والمتسامي الذي يستحيل التعبير عنه، لأنّه لا يمكن أن يُحدَّدَ بصفات أو مصطلحات. ولا يمكن الوصول إليه إلاّ بممارسة التأمّل والاستغراق.
- وبراهمن هو المصدر الأخير لكلّ الأشياء وكلّ الكائنات. وبما أنّه يُعتَبَر غيرَ شخصيّ، فإنّ نشأةَ العالَم لم تكن نتيجة عمل إرادة خلاّق منه، بل كانت بالحريّ عملاً آليًّا، وتدفّقًا مستمرًّا من كيانه نحو الخارج. ومن ثَمَّ فبراهمن هو جوهرُ كلّ الأشياء والكائنات الحيّة. إنّه يلج في داخلها كلّها، ويحرّكها ويحييها. وهو يُشبِه "الآتمان"، الأصلَ العميقَ لكلّ شيء ولكلّ إنسان. براهمن وآتمان لا يمكن الوصول إليهما بالتفكير المنطقيّ، بل فقط بالتأمّل العميق، بالغوص والمعرفة الحدسيّة.
- والبراهمن الذي من كيانه يخرج كلّ شيء، وهو الجوهر الأصليّ لكلّ الأشياء، هو أيضًا غايةُ كلّ الكائنات. وبما أنّه غير شخصيّ، فلا يُعَدّ حارسَ القيَم الأخلاقيّة والمرجعَ للتمييز بين الخير والشرّ. وليس هو موضوع العبادة والصلاة والإكرام الإنسانيّ. إنّه غاية البحث الروحاني، وموضوع المعرفة الحدسيّة والنقطة القصوى للاتّحاد الروحانيّ.

3 – 2. العلاقات بين براهمن وسيّد العالم
- براهمن، بالنسبة إلى أحد مذاهب الهندوسيّة، هو المتسامي الذي لا يمكن تجاوزه. هذا يعني أنّ الآلهةَ الشخصيّين وأسياد العالم الشخصيّين لا يُعدّون سوى أشكال شخصيّة لبراهمن. إنّهم دفقٌ من كيانه، وهم بذلك أشكال كيان منحطّة من تساميه الإلهيّ. فيهم ترتبط الألوهة المطلقة بالكون وبعالَم الإنسان. فهم درجة متوسّطة بين براهمن والعالم، الذي به يرتبطون وبالتالي يُحدِّدون. صحيح أنّ لهم قسط من التسامي، ولكنّ هذا التسامي هو نسبيّ. إنّ لهم حقيقة خاصّة، ولكنّها تُصلح فقط بالنسبة إلى الكون والبشر، لا بالنسبة إلى براهمن، المتسامي المطلق، الواحد الأصليّ، الذي هم أشكالُ ظهوره.
- براهمن نفسه هو على قدر كبير من التسامي وهو في ذاته الحقيقة الكاملة بحيث لا يقبل أن يكون ثَمَّةَ حقيقة أخرى (مطلقة) خارجًا عنه. براهمن، هذه الألوهة غير الشخصيّة، هو الألوهة الحقيقيّة. هو وحده الواحد المطلق، الذي لا صفة له، الذي لا يمكن تحديده، الذي يتجاوز كلّ كثرة وكلّ ثنائيّة.
إنّ يستحيل تصوّره أو التعبير عنه، إنّه المتعالي المطلق عن هذا الدهر، والسرّ الذي يفوق كلّ واقع في هذا العالم، وهو محتجبٌ فوق العالم والإنسان والألوهة.
براهمن ذلك المتسامي المطلق، هو، من خلال انبثاقاته، حاضرٌ في كلّ الكائنات بحيث لا يحصل أيّ منها على حقيقته إلاّ من خلال حقيقته. الأشياء والكائنات ليست لها حقيقة خاصّة بها. فهي تصدر عنه وتقيم فيه: هذه هي وحدة الوجود التامّة (الألوهة في الوجود كلّه). والأمر هو على هذا النحو بحيث إنّ براهمن هو وحده الموجود، وهو موجود في كلّ الكائنات: وهذا يعني أنّ الله وحده هو كلّ شيء.
ثانيًا: طرق الخلاص
إنّ تعاليم الخلاص المتنوّعة في الهندوسيّة وما تنطوي عليه من تصوّرات للخلاص ولطرق الخلاص لا تدّعي أيّة صلاحيّة عامّة لكلّ طبقات السكّان ولا للبشريّة كلّها. إنّ صلاحيّتها تقتصر على أتباعها من السكّان، وتعتنقها وتتبعها الفرَق المختلفة جنبًا إلى جنب.

1. طرق العبادة
1-1. أهداف العبادة
إنّ مطالب الخلاص الواقعيّة التي يسعى الهندوسيّ إلى تلبيتها من خلال هذه العبادة هي متنوّعة. منها النجاح والفلاح، وهذا يعني صدّ كلّ ما هو مضرّ وسلبيّ، والحماية من تأثيرات الكوارث الطبيعيّة والظواهر السماويّة غير العاديّة، والحماية من الأمراض والأوبئة، ومن الأعداء والخصوم والمناوئين. ويسعى الهندوسيّ، من خلال العبادة إلى الحصول على الصحّة والقوّة والعمر المديد والسعادة في الأسرة والجاه وازدياد الممتلكات والنفوذ في الجماعة، والأمان والوفاق والسلام، أو حتّى على الانتصار في المجتمع وفي العلاقات بسائر الشعوب. يُضاف إلى ذلك تأمين مسرى للنظام الكونيّ معتَق من البلبلة ودورة مؤاتية لأوقات السنة.
إلى جانب هذه الرغبات التي تُعرَض في ممارسات العبادة اليوميّة أو في الطقوس التي يُحتفل بها في مناسبات خاصّة، تحتوي الهندوسيّة على طقوس ترافق مراحلَ حياة الإنسان، ولذلك تدعى "أسرارًا". تحدّد هذه الطقوس بنوع خاصّ أوقات الأزمات في حياة الإنسان، أعني الأوقات التي تنتقل فيها الحياة من مرحلة إلى أخرى والتي لأجل ذلك تُعَدّ مليئة بالأخطار بالنسبة إلى مصير الفرد. ومن ثَمَّ لا بدّ من تأمين كلّ انتقال ليستطيع أن يكونَ ضمانةَ بركة وسعادة للمرحلة اللاحقة. الأسرار تحيط بظروف الحياة المرتبطة بحبَل المرأة وولادتها وقيامها. كما تحيط بزمن المراهقة والتنشئة، أي بتجاوز سنّ الطفولة والدخول في سنّ الرشد. وتتعلّق بنوع خاصّ باحتفالات الزواج وبتأسيس أسرة جديدة. وترافق أخيرًا الميتَ في مرحلة حياته القادمة في دورة الولادات المتجدّدة. إنّ أقصى رجاء الهندوسيّين يتركّز على التوقّف عن هذه الدورة وبلوغ الاستقرار في السماء.

1 – 2. فعاليّة شعائر العبادة
أمّا عن فعّاليّة هذه الطقوس وعن دور الآلهة والناس في تحقيق الرغبات المقصودة في العبادة، فقد نشأ في الهندوسيّة تصوّر متعدّد الجنبات.
- فحيث يُقبَل اختصاص مختلف الآلهة والقوى بالنسبة إلى سير العالَم، يسود الرأي بأنّ فعّاليّةَ العبادة والطقوس متعلّقة بنجاح الناس في نيل رضى هذه القوى. ولكن ثَمَّة أيضًا التصوّر بأنّ الكونَ كلَّه ليس سوى تحقيق وانتشار لمبدإ قديم لا يخلق أجزاءَ العالَم بل يُخرِجها من ذاته، ويُخرج إلى الوجود الشكلَ الواقعيّ للكون من خلال انبثاقٍ من ذاته الباطنة.
- ويرتبط بهذه العقيدة التصوّر الذي يرى أنّ مصدرَ الأشياء والكون كلّه هو ذبيحة، ذبيحة كائن قديم، وتجزئته لتكوين العالَم وتجهيزه. الآلهة أيضًا ليست سوى أشكال يظهر فيها هذا الكائن الواحد القديم. وهي لا تؤدّي بالتحديد أيّ دور حاسم في سير العالَم، فالفعّاليّة كلّها تنشأ من الذبيحة عينها. صحيحٌ أنّ الذبيحةَ تتوجّه إلى الآلهة، ولكن هؤلاء فضلاً عن هذا الدور ليس لهم أيّة قدرة على تلبية طلبات الناس. فهم أنفسهم يقدّمون الذبيحة ليحصلوا لذواتهم على القدرة والخلود. وبما أنّ فعّاليّةَ الذبيحة كامنةٌ في ذاتها، فلئلاّ تفقدَ الذبيحةُ فعلَها، أُثبِتت كلّ حركة بوجه محكَم، ونُقِلت كلّ كلمة في صيغة دقيقة جدًّا. والاتّباع المتقَن لمختلف الأحكام هو شرطٌ لا غنى عنه لنجاح الذبيحة. فالآلهة يُستدعَون والناس يقدّمون الذبيحة، ولكنّ الذبيحةَ نفسَها هي التي تُتمّ حتمًا فعلَها بفضل قوّتها الذاتيّة. ومن أجل اتّباع كلّ الطقوس بدون عائق، أُقيم كهنةٌ اختصاصيّون في أمور العبادة. وبذلك اكتسبت خدمة البراهمة أهميّة كبرى في الحياة الدينيّة.

1 – 3. نظام الميمانسا
إنّ هذه النظريّة في العبادة وفي مفهوم الذبيحة التي تعود إلى عصر البراهمة استمرّت في نظام الميمانسا الكلاسيكيّ. الهندوسيّة الكلاسيكيّة عرفت ستّة أنظمة رئيسيّة، فيها وجدت التنظيرات الفلسفيّة والعقائد وتصوّرات الخلاص في المدارس الدينيّة تعبيرَها، وتدعى دَرْشانا، أي آراء ونظرات وطرائق تقود إلى معرفة الواقع وإلى الحصول على الخلاص.
إنّ نظام الميمانسا هو أحد هذه الدَرْشانا. ومحور نظرته إلى الواقع هو كلمة الفيدا المقدّسة التي عليها ترتكز أهمية العبادة. فكلمة الفيدا هي أزليّة وتملك سلطتها المطلقة. كلمة الفيدا تخلق الواقع الذي تعبّر عنه. وبالتالي فكلمة الفيدا تضمن أيضًا فعاليّة الذبيحة.
الذبيحة والطقس لا يضمنان في طرق الخلاص الموصوف هنا رغائبَ الإنسان في هذا الدهر فحسب. فالهدف الأقصى يقود إلى ما وراء الأرضيّات، ويشير إلى التمتّع والفرح في سعادة السماء. ولا يستطيع الإنسان بلوغَ هذه السعادة إلاّ إذا تخلّص من وجوب الولادة مرّة أخرى في وجودٍ جديد مليء بالألم. وطريق التخلّص من دائرة الولادات المتجدّدة يبقى مرتبطًا بتتميم القواعد الفيديّة.

2. طريق الأعمال الصالحة
2-1. قانون الأخلاق
إنّ قانون الأخلاق يضمن الانسجام بين الكون وعالَم الإنسان. إنّه الطريق التي يجب اتّباعُها، لكي تبقى الحياة خالية من الاضطرابات ولكي يُتاحَ تعزيزها. من خلال قانون الأخلاق يعرف الهندوسيّ ما يتوجّب عليه أن يفعلَه ويجتنبَه، ويفكّر فيه ويقولَه، فهذا القانون هو قاعدة الخير. بتتميمه يبلغ الهندوسيّ إلى هويّته الخاصّة في الانسجام مع هويّة الآخرين، هويّة الجماعة وهويّة الكون كلّه.
الإرشادات الأخلاقيّة الواقعيّة تهدف إلى تحقيق الخير من قِبَل الناس في الفكر والقول والفعل. وهي تتعلّق بواجبات كلّ واحد. وتُبَلَّغ القواعد الأخلاقيّة بنوع خاصّ من خلال الطبقات التي يتكوّن منها المجتمع الهنديّ.

2-1-1. نظام الطبقات
إنّ نشأةَ الطبقات مرتبطةٌ بعوامل متعدّدة، نذكر منها ما يلي:
- عوامل ونشاطات مهنيّة وسياسيّة واقتصاديّة.
- انضمام أناس من مصادر مختلفة إلى فئة جديدة، سواء أكانت هذه الفئة مذهبًا جديدًا أم مهنةً جديدة.
- اهتمام الأفراد بالحفاظ على هويّتهم، وإيمانهم، وعوائدهم، وأعرافهم، وطقوسهم، وتقاليدهم الخاصّة.
- احترام أحكام المحرَّمات، ولا سيّما في ما يختصّ بمحرَّمات الطعام ومحرّمات الزواج.
- ويرتبط بهذا ما ينتج من عقيدة قانون مجازاة الأعمال وتصوّرات الطهارة وطقوس التطهير، وكذلك الآراء السحريّة في ما يتعلّق بممارسة بعض المهن.
- اجتهاد بعض الفئات، ولا سيّما الطبقات العليا، بتوثيق تفوّقها وإثباته.
فضلاً عن ذلك فقد عرفت الكتب المقدَّسة في الهندوسيّة أساسًا دينيًّا صرفًا لكيان الطبقات. فكيان الطبقات بحسب هذه الكتب هو نظامٌ اجتماعيّ لم يضعه البشر، بل حدّده الله نفسه. وعليه فإنّ ريغ- فيدا (12، 10: 90) مثلاً يذكر أنّ الخالق بوروشا قد كوّن الطبقات الأربع الرئيسيّة من أجزاء جسده الكونيّ: فمن فمه كوّن البراهمة، ومن يديه المحاربين، ومن فخذيه المزارعين والحرفيّين والتجّار، وأخيرًا من قدميه كوّن طبقةَ الخدّام. بناءً على هذا الأساس الدينيّ اكتسب كيان الطبقات في الهند تبريرًا وتثبيتًا جعلاه متأصّلاً بشكل راسخ في نظام الهند الاجتماعيّ.
إلى جانب هذه الطبقات ثَمَّة أيضًا في المجتمع الهنديّ الذين لا طبقة لهم، الذين لا يجوز مسّهم. فهؤلاء ليس لهم في المجتمع أيّ وطن، لأنّهم فقدوا الانتماء إلى طبقة، إمّا لأنّهم طُرِدوا منها لارتكابهم آثامًا ثقيلة، وإمّا لأنّهم نتيجة الخطيئة (الزواج المختلط)، وهم بالتالي خطر على النظام الكونيّ والاجتماعيّ. فأعضاء الطبقات الأخرى يتجنّبونهم، وهم يكسبون رزقَهم بالقيام بخدمات تتعلّق خصوصًا بالموت. فهم الجلاّدون، ومغسّلو الجثث، وقابضو الحيوانات، ومقطّعو اللحم، والعمّال في مصانع الجلد إلخ. إنّ المنبوذين والذين لا طبقة لهم، وإن كانوا مطرودين من المجتمع، غير أنّهم، إن مارسوا الزهد في حياتهم، قد يتمتّعون باعتبار كبير.

2-1-2. المسلك الأخلاقيّ
يعرض أدب الهندوسيّة الأخلاقيّ تصنيفًا للخطايا بين كبيرة وصغيرة. فالخطايا الصغيرة لا تكوّن أيّ انتهاك مميت ولا أيّ تهديد جدّي للنظام الكونيّ الاجتماعيّ. ومع ذلك فهي تنجّس فاعلها. فالخطايا الصغيرة هي على سبيل المثال قتل حيوانات، وسرقة كمّيًات ضئيلة إلخ. أكثر خطورةً هي المخالفات والجرائم الثقيلة كالقتل والإجهاض والزنى وسرقة المبالغ الكبيرة، والعلاقات الجنسيّة مع أعضاء من طبقات أدنى. مثل تلك الخطايا يعاقب عليها بشدّة رؤساء الطبقات المتنوّعة، ويمكن أن تصلَ العقوبة إلى الإقصاء من الطبقة، أي حتّى الموت الاجتماعيّ للخاطئ.
إنّ عواقبَ الخطايا يتمّ تداركها من خلال تتميم طقوس تكفير مناسبة. وأهمّ طقوس التكفير تقوم خصوصًا صلوات وذبائح.

2-2. قانون مجازاة الأعمال (قانون الكَرْمان)
بالنسبة إلى عامّة طبقات السكّان لم يكتسب قانون مجازاة الأعمال أهميّة إلاّ في الزمن الفيديّ المتأخّر. وقد ارتبط بعقيدة مجازاة الأعمال الشخصيّة واقعٌ جديد مفاده أنّ الإنسان نفسَه وعملَه الخاصّ قد احتلاّ من الآن فصاعدًا محورَ الاهتمام الدينيّ. فالقول الأساسيّ لقانون الكرمان يُثبِت أنّ أعمالَ الإنسان تحدّد مصيرَه.
كلّ عمل ينجم عنه كَرْمان، أيّ نتيجة يتحمّل تبعتَها، تبقى متعلّقة بالإنسان كمادّة رقيقة، حتّى بعد الموت. ومن ثَمَّ فكلّ وجود جديد هو نتيجة الوجود السابق ومحدَّد به.
وقانون المجازاة هذا يسير بصرف النظر عن تأثير الآلهة. إنّ ضرورتَه الباطنة تجعله نوعًا من عمل آليّ يقحِم الإنسان في دائرة لا نهاية لها من الولادات الجديدة، لا يستطيع أن يتخلّص منها بسهولة. فإذا فكّرنا في مدى الألم الذي يحيط بوجود الإنسان، يمكن أن نفهم أنّ الهندوسيّ يعُدّ بالضبط هذه السلسلة اللامتناهية من الوجودات الأرضيّة شرًّا مطلقًا يجب على الإنسان أن يتخلّص منه.
2-3. الخلاص بالأعمال الصالحة
إنّ الهندوسيّ يرى الخلاص الذي يسعى إليه من خلال الأعمال الصالحة في إنتاج كَرْمان صالح والحصول على المكافأة الصالحة في السماء. ولكن لا يصل إلى السماء إلاّ من جمّع قدْرًا كبيرًا من الكَرْمان الصالح، بحيث لا يعود يخضع لقانون الولادات الجديدة.
ولكي تكونَ الأعمال الصالحة من النوع الذي لا ينجم عنه أيّ كَرْمان يُرغِم على الولادة من جديد، يجب على الإنسان، بحسب تعليم البهاغافاد-جيتا، أن يتصرّف عن واجب، بدون رغبة، ولا هوى، ولا ميل إلى النتائج. على كلّ واحد أن يتقيّد بالدهارما (قانون الواجبات) المختصّ به وبالفضائل العامّة: الثبات، التسامح، ضبط النفس، الأمانة، الإخلاص. مثل هذا التتميم المتجرّد للواجب لا يُنشئ أيّ كَرْمان. هذا التعليم يُزيل التناقضَ بين الحياة العمليّة والزهد المتشدّد… وهو يقدّم لكلّ إنسان من عامّة الشعب ويعمل في المجتمع البشريّ أساسًا للحياة والعمل والنظرة إلى الخلاص.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:12 am

الفصل الأوّل
مدخل إلى الهندوسيّة 


3. طريق المعرفة الصوفيّة
كردّة فعل على طريق خلاص ممارسات العبادة الطقسيّة وعلى أولويّة الأخلاق وقانون واجبات النظام الاجتماعي، تطوّرت طريق خلاص ترتكز على المعرفة الصوفيّة للوحدة القائمة بين الله والعالَم والإنسان، ووجدت تعبيرَها الفلسفيّ في نظام الفيدانتا.
على مرّ الزمن تكوّنت أيضًا عقيدة مراحل الحياة كمحاولة لإيجاد تسوية بين طرق الخلاص المتنوّعة ووضعها كلّها في علاقة شاملة ودمجها بهذه الطريقة. بحسب هذه العقيدة، يتوجّب على كلّ إنسان من الطبقات الثلاث العليا أن يقطعَ في حياته أربعَ مراحل. هذه المراحل (أَشْرَما) هي: دراسة الفيدا (مدّة 12 سنة)، حالة ربّ البيت (25 سنة)، الزهد الممارَس في وسط العالَم (25 سنة)، الانقطاع التامّ عن العالَم والتجرّد الكامل (باقي الحياة). من يقطع هذه المراحل يحقّق مثالَ الحياة الإنسانيّة بحسب رأي الهندوسيّة.

3 – 1. الزهد
كلّ الكائنات في العالَم معرّضة للفناء وخاضعة لدورة الولادات الجديدة الدائمة. للتخلّص من هذا الوضع المؤلم، يتوجّب على الإنسان أن يتجرّد عن كلّ ما يعرّضه لقانون الفناء والولادة الجديد الصارم. ومن ثمّ ينبغي له أن ينقطع قدْر الإمكان عن كلّ نشاط ويتخلّى عن كلّ ميل إلى العالم وإلى الحياة. ولا يستطيع الزاهد أن يتغلّب على ألَم الوجود الأرضيّ إلاّ إذا عاش بدون رغبات وميول وأهواء ومارسَ اعتدال المزاج. علاوةً على ذلك يستطيع الحصولَ على الحريّة الباطنة والرفيعة التي يسعى إليها من خلال تجرّده.
للوصول إلى هذا اللانشاط والاطمئنان والحريّة، يأوي الزاهد إلى العزلة. وإلى جانب الفضائل المهمّة كاحترام الحياة، والعفّة، والطهارة، والفقر، ومحبّة الحقيقة، يمارس التمارين التي تسهّل له ضبطَ النفس والتجرّد عن العالم.

3-2. الخبرة الصوفيّة
إنّ أساس طريق خلاص المعرفة الصوفيّة نجده في الأوبانيشاد. فكلمة "أوبانيشاد" تعني "التعليم السرّيّ". ومن ثَمّ فالأوبانيشاد هي الكتابات التي تتجمّع فيها نظرات وأفكار معلّمين موهوبين بنوع خاصّ. إنّ فكرَ هؤلاء المعلّمين يدور خصوصًا حول سرّ الكون، وحول ما يقوم وراء تعدّد الظواهر من وحدة عميقة بين كلّ الكائنات: الأشياء والناس والإلهيّات.

3-2-1. وحدة الكيان
ترتكز عقيدة وحدة الكيان الأخيرة على العلاقة بين مصطلحين: الآتمان والبراهمان.
- الآتمان هو الذات، أساس وحدة الإنسان الفرد، هو الفاعل الذي تُنسَب إليه أحداث الحياة كلُّها، سواء جرت في الجسد أو في الروح، والذي مع ذلك يسجّل أحداثَ الحياة هذه من خلال وساطة الوعي. ويتكوّن الإنسان في نهاية الأمر من ثلاث طبقات: الجسد كجزء من العالَم المادّي، والميدان النفسيّ (الأحداث النفسيّة، النفس باعتبارها صاحبة القدرة النفسيّة، وموضع تجميع الكَرْمان)، والآتمان، أي الروح الصرف.
- البراهمان: القطب الثاني للوحدة الشاملة على صعيد الكون، العالَم الكبير، هو البراهمان. البراهمان هو الأزليّ والمطلق والمتسامي. إنّه يستحيل التعبير عنه، لأنّه غير محدود بمصطلحات أو بخواصّ يمكن وصفها. البراهمان هو المصدر الأخير لكلّ الأشياء وكلّ الكائنات. وبما أنّه غير شخصيّ، فإنّ نشأةَ العالَم منه ليست نتيجة عمل إرادة خلاّق، بل فيضٌ دائم من كيانه. البراهمان هو جوهر كلّ الأشياء وكلّ الكائنات الحيّة، التي نشأت كلّها عنه بالانبثاق.
- تنطلق طريق خلاص الأوبانيشادات من أنّ كلّ الكائنات تندرج في وحدة قصوى، وأنّ ذاتَ الإنسان الفرد من جهة والأساسَ الأصليّ لكيان الكون من جهة أخرى، أعني الآتمان والبراهمان، هما متماهيان. ومن ثَمّ يقوم الخلاص على معرفة هذه الوحدة الشاملة، واختبار تماهي الذات مع البراهمان. بيد أنّ هذا الاختبارَ هو حصيلة معرفة حَدْسيّة وليس نتيجة اعتبارات نظريّة أو براهين منطقيّة. وهو يتمّ عندما يعيش المتأمّل، بفضل كشف مفاجئ، امتدادًا لا حدّ له لوعيه، ويصل إلى نوع من رؤية للوحدة الشاملة، إلى معرفة حَدْسيّة بأنّه، وراء أشكال الظواهر وأحداث الحياة كلّها، لا وجود في الواقع إلاّ للإلهيّ، للبراهمان.

3-2-2. حصول الخلاص
هذا الحدْس هو بداية الخلاص النهائيّ. من يريد أن يبلغَ إليه يتوجّب عليه، فضلاً عن الكمال الخلقيّ وضبط النفس والتجرّد عن العالَم، أن يمارسَ التأمّل والتعمّق اللذين يساعدانه في ذلك. ولكن من يختبره بعد جهود متكرّرة لا يعود يُعير أهميّة لطرق الحياة في الوجود الأرضيّ، ولا للارتباطات بالعالم. فإنّ حقيقتَها تضمحلّ، ولا تعود سوى عناصر أو نواحٍ لعالَم ظاهر فارغ.
إنّ طريقَ هذا الحدْس تُفضي إلى الحريّة الباطنة. ويضمحلّ الخوف من شرّ الوجود الأرضيّ المليء بالألم. حتّى قانون الولادة الجديدة يفقد صرامَته. وبذلك يختبر المستغرق في التأمّل السعادةَ في الحياة الأرضيّة، والخلودَ بعد الموت، أي إنّه يتخلّص من دائرة الولادات الجديدة، ويبلغ إلى ميدان كيان الإلهيّ. وميدان كيان الإلهيّ هو إمّا سماء مملوءة غبطة أو العودة إلى الحقيقيّة الوحيدة، إلى الواحد الكلّي غير الشخصيّ، إلى البراهمان. ويتوقّف وجوده ككائن فرديّ، ويفنى نهائيًّا في الإلهيّ.

3-3. نظام الفيدانتا
إنّ نظام الفيدانتا وهو الصيغة الجذريّة للواحديّة، يرتكز على الرأي القائل بأنّ كلّ شيء في العالم ليس سوى مظاهر. فالواقع والحلم لا يختلف في الواقع أحدهما عن الآخر. ولا وجود في الحقيقة إلاّ لله أو للإلهيّ. البراهمان هو على هذا القدْر من التسامي، وهو في ذاته الواقعُ كلّه، بحيث لا يُفسح في المجال لأيّ شيء آخر حقيقيّ خارجًا عنه.
إن معلّم الفيدانتا الأكبر، شانكارا (788 – 820) قد حاول ان يدمجَ التصوّرات المتنوّعة التي تمّ التعبير عنها قبله في نظام جامع، دُعي "الكليّة الإلهيّة التخيليّة".
يعتقد شانكارا بنوع من نظريّة متدرّجة للحقيقة، يقوم بموجبها مستويان من الحقيقة والمعرفة. في الدرجة الدنيا يُفترَض أنّ الأشياء والكائنات في العالَم تملك حقيقةً خاصّة وقوامًا خاصًّا. غير أنّ المعرفة العليا تَعلَم أنّ الذات هي، على مستوى الإنسان، الحقيقة الوحيدة وراء أحداث الحياة. وأنّ العالم المادّي ليس سوى شكل يظهر فيه سيّد العالم. ذات الإنسان نفسها، التي هي جزءٌ مكوّن من هذا العالم، هي فيضٌ من سيّد العالم. ولكنّ سيّد العالم نفسَه ليس سوى انبثاق من البراهمان.
من يصل إلى هذه المعرفة يركّز جهدَه على من هو موجودٌ حقًّا، على الإلهيّ الأصليّ، ليكتشفَ ويجدَ في حقيقة البراهمان هويّته الخاصّة. فلا يبحث بعد عن السعادة السماويّة، يل يسعى للوصول إلى رؤية الحقيقة الوحيدة، إلى رؤية الوحدة الشاملة. بفضل هذه الرؤية، يستطيع أن يفنى في الأساس الأصليّ لكلّ كيان، في البراهمان. وهذا هو الخلاص الكامل.

4. طريق المعرفة النظريّة
تعتمد هذه الطريق على نظام سانكيا الفلسفيّ الذي يقول بالثنائيّة. ففي رأي طريق الخلاص هذه، يقوم العالم على مبدأين عالميّين: مادّة أولى نشيطة، ومجموعة من انفس غير نشيطة. فمن جوهر المادّة الأولى الأزليّة (أو الطبيعة الأولى)، يصدر العالم المادّي كلّه. وتأتي قوّته من تلك العناصر المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالجسد، كالقوى النفسيّة وأعمال الميدان النفسيّ. وبالتالي فإنّه يجد نوعًا من تجسيد قوّته الأصليّة في مختلف أشكال ظهور الوجود الأرضي. أمّا في ما يتعلّق بالأنفس الفرديّة غير النشيطة، فهي غير مرتبطة بالمادة الأولى ولا هي مرتبطة بعضها ببعض. وهي لا تصدر أيضًا عن روحٍ أولى ولا عن كائن إلهيّ أوّل. فهي في كيانها وعيٌ محض، يُدرك الأحداث في الإنسان وظواهر العالم المحيط به ويسجّلها بدون أن يشاركَ فيه، وبدون أن يتدخّل في أحداث الحياة. مثل هذه الروح ترتبط بجسد كلّما اجتمعت بالانبثاق من المادة الأولى عناصر وأعضاء وقوى، وتكوّن جسدًا يقدر أن ينالَ الروح. والروح، من خلال الارتباط بالجسد، وإنْ لم تشاركْ في أحداث الحياة، تعيش زمنًا من الأسر ووجودًا معرَّضًا لقانون الكَرْمان.
وبما أنّه، إلى جانب مبدأي العالَم هذين، المادّة الأولى والأنفس المنفردة، لا وجود لمبدإ على آخر، لا تتكلّم طريق الخلاص هذه على الله ولا على كائن إلهيّ. فلا حاجة هنا لأيّ براهمان. إنّ نظام العالم الأخلاقيّ وقانون مجازاة الأعمال يُعنَيان بالحفاظ على النظام في العالم. وما تدعوه المدارس الأخرى آلهة ليس سوى أنفس منفردة مخلَّصة قد جمعت كَرْمانًا صالحًا، وهي تستمرّ في الوجود في حالة سليمة مع مزايا خاصّة. وعليها أن تؤدّي دورًا إيجابيًّا في العلاقة بسير العالَم. ولكنّها لا تستطيع أن تقدّم للبشر أيّة مساعدة في سعيهم إلى الخلاص النهائيّ. وبالتالي فالذبائح وممارسات العبادة ليست أيضًا وسائل خلاص، لأنّها تساعد فقط على الحصول على أجر على هذه الأرض أو على مكافأة في سماء الآلهة، لا على التحرّر النهائيّ من الوجود البشريّ والعودة إلى حالة الروح المحض.
هذا الخلاص يمكن الحصول عليه بصورة تدريجيّة. فالإنسان، في أثناء وجوده على الأرض، يتّصف بخصال متنوّعة، إمّا صالحة وإمّا سيّئة: الفضيلة والرذيلة، المعرفة والجهل، التجرّد عن العالَم والتعلّق بالحياة إلخ. ويستطيع الإنسان، من خلال تعزيز خصاله الصالحة، أن يتحرّر تدريجيًّا من قيود الوجود الجسديّ ويبلغَ شيئًا فشيئًا إلى حالة الروح المحض. ويبلغ الدرجات الأولى من خلاصه عندما يكتشف أنّ روحَه لا تتماهى مع جسده، وأنّ ذاتَه لا تتماهى مع أعماله النفسيّة والجسديّة.

5. طريق التسليم المحبّ (البهاكتي)
إنّ انشغال القلب بالله يمكن أن يحدثَ بطرق متنوّعة وبكثافة مختلفة. والأساس المشترك بين كلّ هذه الأشكال هو الإيمان بإله شخصيّ والاعتقاد بأنّ الخلاصَ يتمّ من خلال التسليم لهذا الإله. فالخلاص ليس نتيجة إنجاز إنسانيّ، بل هو نعمة إلهيّة معطاة.

5-1. طريق البهاكتي الاعتياديّة توصي، كشرط للانشغال المثمر بالله، بممارسة الفضائل الأخلاقيّة كالرحمة وعدم العنف والتواضع والبساطة، وبعدم التوقّف عند الاعتبارات النظريّة المحض وعند النقاشات التي لا جدوى فيها. فما يجب أن يكونَ مهمًّا إنّما هو التفكير في الله والانشغال الحصريّ به.
وتفيد في ذلك الوسائل التالية: الحياة في جماعة أناس أتقياء، والإصغاء إلى معلّم عقيدة (غورو)، والحجّ إلى أماكن مقدّسة. وتنطوي على فعّاليّة خاصّة عبادة صورة الله (بوجا). وهي تقوم على معاملة صورة الله كما يعامَل الأمير: فيوقَظ الله بالترانيم والنغمات الموسيقيّة، ويُغسَّل ويُزيَّن بالزهور، ثمّ يعطى طعامًا ويبخَّر. ويمكن أيضًا حمل الصورة ومرافقتها إلى نزهة. في هذه المعاملة لصورة الله يعبّر المؤمن عن عبادته لله ومودّته ومحبّته وتسليمه له، وكذلك عن رغبته في الحياة في الشركة مع الله.
وهنا يملك أهميّة كبرى استدعاء اسم الله والترانيم والرقص إكرامًا لله. إنّ استدعاء اسم الله يُتيح الحياةَ في حضور الله الدائم، وبذلك التأكيدَ المستمرّ للتسليم له والارتباط به. مثل هذه الشركة مع الله هي كليّة القدرة. فهي لا تمنح مغفرةَ الخطايا وحسب، بل أيضًا النجاةَ من الشدّة والضيق. وهي تساعد على تجميع استحقاقات دينيّة كثيرة. وتحقّق خصوصًا الاتّحاد بالله، وهذا ما يعنيه في الواقع الخلاص. من يدعو الله يبلغ إلى السماء ويحصل على الخلاص النهائيّ. وتُستخدم مسبحة بمثابة وسيلة تساعد على هذا الاستدعاء الدائم لاسم الله. وكذلك فإنّ الطلبات التي يتذكّر فيها التقيّ مختلف أسماء الله وصفاته المتعدّدة تساعد على الوصول إلى كيان الله واختباره بصورة أعمق.
يستخدم التقيّ أيضًا الترنيمَ والرقص، حيث يكرَّر اسم الله أو تُرنَّم تراتيل وأناشيد روحيّة عاطفيّة. فالترنيم هو تأكيدٌ للكلام المنطوق به وتقويةٌ له. ومن ثَمَّ فالترنيم الدينيّ، وخصوصًا عندما يسانده الرقص ويكمّله، هو وسيلة فعّالة بنوع خاصّ لمضاعفة المشاعر وتعميق العلاقات العاطفيّة بالله وتكثيفها. إنّ التكرارَ التوقيعيّ للنغم والنصّ، فضلاً عن مغفرة الخطايا وتنقية القلب، يعمل على مضاعفة المشاعر لدى المشاركين في الترنيم والرقص، بحيث يقع البعض في نوع من حالة غيبوبة وحوادث انخطاف.

5-2. الطريق الأكمل، بحسب عقيدة ديانة البهاكتي، هي طريق الحبّ الجارف
من خلال تنمية مشاعر الحبّ والعلاقات العاطفيّة بألوهة شخصيّة، يرجو التقيّ الحصول على الاتّحاد بهذا الإله وعلى السعادة المرتبطة بذلك. العالَم وحياة الناس كلّها يُعدّان تعبيرًا عن عطفه الودود، وشكلاً تظهر فيه مغازلاته مع خليقته. فالله هو قدرة حبّ خلاّقة تبعث في نفس الإنسان كما في جسده رغبة في الحبّ واندفاعًا ونشوة، وتُنشئ بذلك الشرطَ للارتقاء إلى دائرة الكيان الإلهيّة.
في الأوساط التي تتوجّه إلى الإله فيشنو، يُعدّ كريشنا نموذج التقوى، ويُعرَض تصرّفه كمثال لطريق الحبّ الجارف. وتروي الأسطورة حياةَ كريشنا كراعٍ والأعمال العجيبة التي قام بها في صراعه ضدّ الشياطين والقوى الشريرة. وتُكرَّس هنا التفاتة خاصّة إلى المغازلات والاختبارات الغراميّة التي قام بها كرشينا مع الراعيات (غوبّي).
وبما أنّ هذه المغازلات بالضبط تُعَدّ مثالاً للسعي إلى الله، وبما أنّ ما يقابلها من اختبارات غراميّة تُعَدّ هدفًا للأتقياء، يتوجّب على معتنق ديانة البهاكتي أن يسعى إلى أن يتحوّل داخليًّا إلى راعية، أي أن يتماهى تماهيًا شديدًا مع راعية ويتصوّر باستفاضة وبشعور عميق مداعبات كريشنا الغراميّة مع حبيبته هذه، ليتاحَ له أن يعيش هو نفسه ما يماثلها من اختبارات. هذا الانشغال بكريشنا المفعم بالحبّ والمركّز يقود التقي إلى أن لا يفكّر من بعد إلا فيه. الله وحده يملأ قلبَه. وهو وحده يعيش مع حبيبه ويُقدِم على المغازلات الباطنة.
- داخل طريق الحبّ الجارف هذه يمكن التمييز بين اتجاهين. ثمّة أشكالٌ من دين الحبّ غراميّة إلى حدّ كبير ومتّسمة بشهوة عارمة. إلى جانب الاتجاه الشهواني الغراميّ، هناك في ديانة البهاكتي اتجاه الحبّ الصوفيّ الرقيق، الذي يُظهر غنًى كبيرًا في تعابيره وفي اختباراته العميقة. 
- سواء اعتنق الإنسان هذا الاتجاه أم ذاك داخل طريق خلاص البهاكتي، فإنّ سعيَه يتركّز على الوصول إلى هدف الخلاص الذي يعطي كلَّ جهوده معناها. فالهدف هو الله نفسه والشركة معه. عندما تضع النفس الإنسانيّة هذا الهدف نصب عينيها، تتغلّب على التخبّط في شباك العالم وفي مختلف أحداث الحياة. وتبلغ إلى الإيمان بالله ومن خلال الإيمان إلى محبّته. وتصل بالارتقاء من درجة إلى درجة إلى الحبّ الكامل الذي يضمن لها سعادةَ الاتّحاد بالله.
- في سعادة المخلَّص هذه ثَمّة درجتان رئيسيَّتان: الأتقياء الذين يسلكون طريقَ البهاكتي الاعتياديّة يصلون إلى سماء فيشنو، وينعمون فيها بالبهاء الإلهيّ وبالنور الإلهيّ ويتمتّعون بسعادة لا توصف. - أتباع الطريق الأكمل يبلغون إلى سماء أرفع وإلى سعادة أكمل. فيحصلون على طريقة الكيان الإلهيّة ويصيرون مشابهين لله. هذا الاتّحاد بالله لا يعني أنّ الإنسان يفنى تمامًا في الله ويفقد هويّته البشريّة. إنّه ارتباطٌ وثيق به ومشابهة كيانيّة معه، ومشاركة في الحياة الإلهيّة تتضمّن السعادة القصوى.

6. طريق اليوغا
اليوغا تعني تجميع القوى وتركيزَها والتمارين العمليّة التي تؤدّي إلى الاتصال بين الروح والألوهة. وبما أنّ نظام اليوغا يضع التأمّل في محور تعليمه وممارسته فهو يرتدي أهميّة بالغة لكلّ طرق الخلاص التي ترتكز على التأمّل والاستغراق.
تهدف طريقة اليوغا إلى تنقية روح الإنسان المشبتكة في الظروف الماديّة والنفسيّة لوجوده الأرضيّ الفرديّ والملطّخة بها، وتطهيرها بحيث تبلغ إلى حالة النقاوة الكاملة، وتصل بذلك إلى الحقيقة القصوى من ذاتها الخاصّة. ولكنّ الخلاص لا يقوم فقط على تطهير الروح الدائم والإفساح في المجال بذلك لوجود أفضل وسعادة أكبر في الحياة اللاحقة. وكذلك لا يقوم الخلاص على قيادة الروح إلى معرفة ذاتها في شكلها الصّرف المختلف عن الوجود الواقعيّ (كما في طريق خلاص المعرفة النظريّة). الخلاص الذي يتمّ السعي إليه في اليوغا يعاش في ارتياح الروح التامّ، في تأمّل عميق لا يدع أيّ إمكان فعليّ للظلمة والاضطراب.

6-1. التمارين
ولكنّ الطريقَ إلى تلك الحالة طويلة وشاقّة. ولا يمكن السير فيها بنجاح إلاّ بقيادة معلّم خبير. فبعد إزاحة العوائق المختلفة يمارس المتأمّل التمارين التالية:
1. الحفاظ على الوصايا الخمس: ضبط النفس، قول الحقيقة، العفّة، عدم الاكتراث بالخيرات الأرضية.
2. القيام بالممارسات الخمس: الطهارة، والتجرّد عن العالم، الزهد، الانشغال بالنصوص الدينيّة، توجيه القلب إلى الله.
3. موقف جسديّ تسانده السيادة على الحواس، وإراحة القلب وتركيز الروح.
4. انتظام النَفس الذي يعزّز تجميع قوى الروح، فيما هو يقاوم التشتّت الناجم عن التأثيرات الخارجيّة.
5. إنّ تراجعَ الحواس يوقف مدّ التأثيرات الخارجيّة ويساعد الروح على التركيز على موضوع تأمّلها.
6. تركيز الروح: بتثبيت النظر على نقظة، مثلاً على طرف الأنف، أو بالانشغال الشديد بموضوع أو بالله نفسه، يمكن الروح أن تتركّز بحيث تدرك إدراكًا دومًا أقلّ نشاطَها الباطن ومضامين الوعي الناتجة منه.
7. التأمّل يمنح الروح تطهيرًا عميقًا، ويساعد في الحفاظ على الوعي فارغًا من المضامين والتأثيرات، وفي التوجّه التام إلى موضوع تأمّله. وبذلك يتمّ الوصول إلى تماهٍ مع هذا الموضوع يبعث في الروح معارفَ واختبارات تقرّبها من معرفة واختبار ذاتها في الحالة الصافية.
8. التامّل العميق هو هدف التمرين. بذلك تصل الروح إلى التركيز العميق والكامل، وإلى معرفة ذاتها الحَدْسيّة معرفةً عميقة وكاملة، وإلى عيش الحقيقة القصوى عيشًا عميقًا وكاملاً، أعني إلى كيانها الخاصّ وكيان الواقع الروحيّ. في هذه المرحلة تتغلّب الروح على حالتها الأرضيّة وتصل إلى دائرة كيان أرفع. إنّ التبصّر في الحقيقة الأخيرة، ومعرفَة الحقيقة القصوى، وعيش الواقع الواحد، كلّ هذا يعني بداية الخلاص ويمنح تذوّقًا مسبقًا للخلاص النهائيّ.

6-2. محتوى الخلاص
يقوم الخلاص النهائيّ على الوصول إلى تطهير الروح تطهيرًا كاملاً من كلّ الأدناس الأرضيّة، بحيث تكتشف ذاتَها في شكلها الصافي أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيشَ هويّتها مع المطلق وتصل إلى الاتحاد بالله. هذه الاستعادة لوحدة الروح وهذا الاتحاد الباطن بالله يتضمّنان السعادة القصوى، إذ إنّهما يوسّعان الروح إلى ما لا نهاية، ويرفعانها إلى دائرة الكيان القصوى. هذه الحالة بالضبط التي تتجاوز الوجود الأرضيّ تجاوزًا لامتناهيًا تعجز الكلمات البشريّة عن وصفها. حيث يتمّ الوصول إلى الوحدة الكاملة لميدان الكيان بأجمعه، لا يعود مكانٌ للكلمات، وحيث يتمّ الوصول إلى اتّحاد المحبّة الكامل بالله، يختفي الواقع الأرضيّ الذي يمكن التعبير عنه ووصفه، ولا يبقى بعد إلاّ الكيان الإلهيّ.

7. طريق التانتريّة
ابتداء من سنة 500 بعد المسيح نشأت في الهندوسيّة حركة دينيّة أنمت نظامًا معقّدًا من ممارسات طقسيّة وتصوّرات صوفيّة وتمارين مختلفة. هذه الحركة المسمّاة تانتريّة ترتكز على الاعتراف بوحدة الحياة التي تشمل الله والعالم والإنسان وتربط بعضهم ببعض برباط وثيق. الكون (العالَم الأكبر) والإنسان (العالم الأصغر) يكوّنان وحدةً لا تنفصم، مجموعةً واحدة، يمكن أن يكونَ لكلّ جزء منها، ولا سيّما الإنسان، تأثيرٌ حاسم في المجموعة. ومن ثَمّ يمكن أيضًا أن يحصل الإنسان من خلال ممارسات وتمارين مثبتة بدقّة على قوّة تكاد تكون غير محدودة على الكون كلّه.

7-1. الدرجات السبع
- الدرجة الأولى هي طريق العبادات والقيام بالواجبات الأخلاقيّة والاجتماعيّة.
- الدرجة الثانية هي طريق البهاكتي، طريقة تصرّف أتباع الإله فيشنو. ففيما تتبنّى التانتريّة تمارين البهاكتي، تحوّلها وفقًا لعقيدتها الخاصّة في الخلاص. فتجعلها أكثر تعقيدًا وتضيف إليها عناصر تجعل من ممارسات طريقة الخلاص السابقة هذه تمارين مباشرة لطريق خلاص التانتريّة وتُدرجها بالتالي في مجمع نظام التانتريّة.
- الدرجة الثالثة هي طريقة تصرّف أتباع الإله شيفا، الذين يملكون علاوة على الإيمان وعلى الاستسلام لله، الإرادة الحازمة والجهد الشديد للخلاص الذي يسعون إليه عن طريق المعرفة. وبذلك يجمعون بين العلم والإرادة والعمل.
- في الدرجة الرابعة تبدأ التانتريّة الحقيقيّة. في هذه الدرجة يملك السالك كلّ الصفات التي ورد ذكرها في الدرجات الثلاث الأولى: الإيمان والتسليم، والطاقة والمعرفة. ثمّ يسير في التيّار إلى الوراء والعودة، من خلال استرجاع القوى، إلى المصدر الإلهيّ. ولذلك يوقف انتشار طاقاته الفيّاضة ويحملها إلى أقصى التركيز. ومن خلال التسامي بها يحوّلها إلى قوى تفتح له السبيلَ إلى الكينونة الشاملة. هذا التسامي يحدث من خلال التطهير وضبط النفس واختبار الذات الخاصّة. هذه الدرجة تدعى درجة طريقة تصرّف الجانب الأيمن (تانتريّة اليد اليمنى).
- الدرجة الخامسة هي طريق تصرّف الجانب الأيسر (تانتريّة اليد اليسرى). هنا يتقدّم استخدام القوى حتّى التنحية التامّة لطاقات الحياة وحتّى إزالة احداث الحياة. وتُلغى كلّ قيود الحياة (الشهوات والشفقة والشعور بالحياء)، وكلّ الرباطات العائليّة، وكلّ العوائد والتقاليد الاجتماعيّة، وكلّ رسوم الطبقات، وذلك بواسطة ممارسات مناسبة ومن خلال تأمّل مركّز.
- ما تمّ التوصّل إليه في الدرجة الخامسة يرتفع في الدرجة السادسة، في "طريقة التصرّف بالتوافق مع التعليم النهائيّ". ويظهر بوضوح أكثر التحرّر الباطن من العمى والشهوات وحلّ كلّ الرباطات الخاصّة والعائليّة والاجتماعيّة. والتقيّ، بمساندة مختلف التمارين، يتوغّل في سرّ الكون.
- الدرجة السابعة هي الدرجة الأخيرة والقصوى. إنّها طريقة تصرّف الإنسان الذي قطع كلّ الدرجات السابقة. وها هو الآن قد بلغ النطاق الإلهيّ. والأمّ الكبرى، التي هي ظهور الله الأنثوي وطاقة الله، تستقرّ الآن فيه، وقد اكتسب معرفة الإلهيّ القصوى. وبما أنّه قد بلغ إلى الخلاص الإلهيّ، فهو يدعى "المخلَّص الحيّ. وحياته على الأرض تفيد لتعليم الناس وإنقاذهم.

7-2. تمارين التانتريّة وممارساتها
إنّ الجسد الإنساني يملك، في نظر التانتريّة، بين قمّة الرأس وأعضاء التناسل، ستّة دوائر أو مراكز بشكل اللوتُس (النيلوفر). وموضع هذه المراكز هو عند الوريد الكبير "سوشومنا" الذي يقع في العمود الفقريّ ويجتاز الجسم كلّه. لهذه الدوائر أهميّة كونيّة، إذ إنّها تقابل القوى الكونيّة، ولذلك لها أيضًا قيمة نظريّة وصوفيّة. ومن ثَمّ يمكن من خلال الجسد الولوج إلى سرّ الكون، وكذلك إلى الدائرة الأزليّة لكيان الألوهة.
فإذا كان الكون، باعتباره مجموعة كاملة من القدرات المتنوّعة والقوى المهمّة للحياة، يمكن تنشيطه والسيطرة عليه من خلال طقوس وممارسات صوفيّة وبفضل وساطة الجسم الإنسانيّ، فلا بدّ إذن من إعطاء شكل للتمارين بحيث تصل إلى هدفها وتحقّق فعّاليتها بصورة أكيدة. ويفيد لذلك أيضًا، فضلاً عمّا ورد من موقف الجسم، وتنظيم التنفّس، والتقنيّات الجسديّة الأخرى، استخدام صوَر الآلهة والاهتمام الشديد بالنصوص الدينيّة.

8. طريق الشاكتيّة
تعني لفظة شاكتي القوّة والطاقة. الشاكتي هي إلاهة أنثويّة، وهي تُعَدّ رفيقةَ إله ذكريّ وزوجة له. وتنسب الشاكتية إلى هذه الإلاهة دورًا خاصًّا في مسيرة العالم، وتركّز عبادتَها وتمارينها الدينيّة على الشاكتي المناسبة. الشاكتية قريبة جدًّا من التانتريّة.
إنّ العبادة الشاكتيّة تسعى إلى الخلاص في اختبار الوحدة التامّة للإلهيّ المحتجب، وذلك عن طريق اختبار وحدة مظاهره. وهذا يعني أنّ الإنسان، من خلال اختبار تكامل وجوده الإنساني كجسد ونفس، يسعى للوصول إلى اختبار وحدة الكون المندمج، وفضلاً عن ذلك إلى اختبار الإلهيّ المندمج.
وبتعبير آخر: إنّ المتعبّد للشاكتي ينطلق من جسده، ويتماهى مع ما هو حسّي ويستخدم الجنسَ للبلوغ إلى الوجه المتكامل للإله الذكريّ والأنثويّ، فإنّ طاقة الله، أعني ظهورَه وعمله في الخارج، إنّما هي المبدأ الأنثويّ، الشاكتي.
وبما أنّ ما هو جسديّ والغذاء والجنس يمكن اعتبارها وسائل خلاص، فيجب القيام بالأكل والعمل الجنسيّ في إطار عمل عبادة في شكل طقسيّ. إن الطقس، فضلاً عن وظيفته في المراقبة والتنظيم، يستطيع أن يجعلَ الوظائف الجسديّة وسيلةً للمشاركة في الأحداث الكونيّة ولاختبار المتسامي.
لاكتساب رضى الشاكتي الثمين والتعمّق في سرّ القدرة الإلهيّة والوجود الإلهيّ، يلجأ المرء، إلى جانب الذبيحة (وفي القديم حتّى الذبائح البشريّة)، إلى رتبة العناصر الخمسة، التي ترد فيها العناصر التالية: شرابٌ مسكرٌ كوسيلة للخلاص وكمصدر لانشراح الصدر والفرح، - السمك لتقوية قوى الإنجاب، - اللحم لتشديد القوى العقليّة والجسديّة، - حبوبٌ مشويّة كموضع لقوى الأرض والجوّ والسماء، - التمتّع بأعمال الجنس باعتبارها الأساس الأصليّ للكون والحافظ له.
لاتّقاء خطر الممارسة الشاذّة لهذه الشعائر، فُرض أنّه لا يجوز أن يشاركَ فيها إلاّ الذين تحرروا من الأهواء والشهوات، وبالتالي المتقدّمون على طريق الخلاص وحدهم.
يجب أن نذكرَ أيضًا هنا تأويلاً رمزيًّا وتطبيقًا رمزيًّا للعبادة الشاكتيّة. فهي تجتنب تحويل العبادة إلى عمل غراميّ، بمعنى أنّها تتيح فقط الإتمام الرمزيّ للعمل الجنسيّ وتمنع المبالغات الفظّة التي تحدث في الذبيحة الدمويّة وفي البغاء المقدّس.

ملاحظة ختاميّة
بين كلّ طرق الخلاص والأديان هذه، التي أوجزناها في إطار مصطلح الهندوسيّة العام، ثمّة أمرٌ ثابت مشترك: وهو أنّه يجب اعتبار الإنسان جزءًا من وحدة حياة شاملة تضمّ الإنسان والعالم والله. ووحدة الحياة هذه يجب عدم تحطيمها. وكلّ تغرّب يعانيه الإنسان عن العالم وعن الله يكوّن خطرًا بالنسبة إليه، ويمنعه من تأمين حياته وتنميتها وإيصالها إلى اكتمالها الأخير. الإنسان هو في سعي دائم إلى الله. فبدون الله لا يمكن البلوغ إلى حياة مكتملة.

جدول زمني 
حوالي 2600 – 1600 ق.م. : الثقافة القديمة قبل الهندوسيّة
حوالى 1200 ق.م. : دخول القبائل الآريّة إلى الهند
وبدء تطوّر النصوص
حوالى 600 – 300 ق.م. : الأوبانيشادات القديمة
حوالى 500 ق.م.-500 ب.م. : نشأة البراهمانيّة والهندوسيّة والمذاهب الستّة الأساسيّة
حوالي 400 ق.م.-200 ب.م. : تطوّر ملحمة رامايانا
حوالي 400 ق.م.-400 ب.م. : نشأة ملحمة مهابهارتا
حوالي 200 ق.م. : نشيد بهاغافاد غيتا
القرن الثاني ق.م. - القرن الثاني ب.م. : انتشار الهندوسيّة في جنوبي شرقي آسيا وأندونيسيا
بعد المسيح 
القرن السابع : انتشار إكرام الإله فيشنو. وبدء نشأة الفيدانتا شنكرا
اعتبارًا من 700 : قمّة انتشار إكرام شيفا في كشمير
من القرن الحادي عشر : ازدياد انتشار منهاج البهاكتي
1193 – 1362 : انتشار الإسلام في مقاطعات الهند
منذ حوالي 1400 : نهضة تيّار البهاكتي
1498 : وصول باسكو دي غاما إلى الهند
1526 : بدء عهد المغول
1757 : تأسيس سلطة البريطانيّين
1869 – 1948 : مهاتما غاندي
1947 : استقلال الهند السياسيّ



مراجع
H. von Glasenapp, Der Hinduismus, München 1922.
-, Die fünf groen Religionen, Teil I: Der Brahmanismus oder Hinduismus, Düsseldorf 1952, 7-78.
J. Gonda, Die Religionen Indiens:
I. Veda und älterer Hinduismus (Die Religionen der Menschheit, 11), Stuttgart 1960, ²1978.
II. Der jüngere Hinduismus (Die Religionen der Menschheit, 12), Stuttgart 1963, ²1978.
W. Kirfel, Symbolik des Hinduismus und des Jainismus (Symbolik der Religionen, IV), Stuttgart 1959.
K. Klostermaier, Hinduismus, Köln 1965.
K. Meisig, De Hinduismus, 3ème éd., Freiburg 2003
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:17 am

الفصل الثاني
مدخل إلى البوذيّة 



البوذيّة تيّار دينيّ يرتكز على حدس بوذا الروحاني. وقد كان في بادئ الأمر يعتبر أنّ طريق الخلاص لا يستطيع سلوكها إلاّ قلّة من الناس، لا سيّما من بين الرهبان المنقطعين للاستغراق في التأمّل. ولكنّه مع مرور الزمان تطوّر إلى دين له تعاليمه ومؤسّساته، وإلى مجموعة من الطرائق المختلفة تسعى كلّ واحدة منها إلى تمكين الراغبين من البلوغ إلى الخلاص، وفي النهاية من تخطّي الوجود البشري بكليّته.

أوّلاً: بوذا (حوالى 560 – 480 قبل المسيح)
ما نعرفه عن بوذا يعود إلى الشهادات الدقيقة التي تركها لنا أتباعه الأوّلون، وإن امتزجت فيها مع مرّ الأيّام الوقائع الحقيقيّة بالتصوّرات الخياليّة النابعة من جموح التقوى. وأهمّ ما لدينا من المصادر هي مجموعة الأسفار المؤلّفة باللغة البالي (Pali)، أيّ مجموعة النظام الرهباني، ومجموعة الخطب التعليميّة، ومجموعة التعليم الراقي.
لقد كانت الطريق التي سلطها بوذا للوصول إلى الحكمة الكاملة، إلى ما تسمّيه الكتب البوذيّة "اليقظة"، طويلة شاقّة. فإنّه كان في بدء المرحلة الأولى من حياته أميرًا اسمه سيدهارتا غوتاما، وُلد في شمالي الهند نحو سنة 560 قبل المسيح، ونَعِمَ بحياة هانئة خالية من المتاعب، بعيدة عن أنواع الألم والعذاب، في قصر والده. ولكنّه عندما بلغ التاسعة والعشرين من عمره، على ما تروي القصص المنقولة، أرغمه اختبار مظاهر الهَرَم والمرض والموت على التفكّر في وضعه، وحمله على كره الحياة التي كان ينعم بها حتّى ذلك الحين. ثمّ كان له لقاء مع ناسك متجوّل، فقير خارجيًّا، سعيد في قلبه، فأقنعه ذلك بأنّه من الممكن سلوك طريق يؤدّي إلى التغلّب على شقاء الحياة وأنواع بؤسها. فغادر منـزله وعائلته، وتفرّغ لحياة ناسك متجوّل. وعندما خَبَر أنّ نظريّات المعلّمين وممارسات التنسّك الشديد لم تجلب له السلام الداخلي المنشود، ترك كلّ شيء واتّجه نحو جنوبي الهند حتّى بلغ إلى شجرة تين، فجلس عند جذعها واستغرق في التأمّل. وما زال على ذلك في عزلة تامّة وتركيز عميق لطاقات ذهنه، حتّى انكشف له فجأة، في حدس روحاني، أنّ الخلاص ممكن وأنّه يقوم على التجرّد الكامل عن العالم ويفضي إلى انحلال الوجود الشخصيّ في عالم الحسّ التجريبيّ، وأنّه لا مناص إلاّ بذلك من الدائرة اللامحدودة للولادات الجديدة في عالم الألم والمعاناة. وهكذا حصل الناسك المتجوّل على "اليقظة" واضحى بوذا. وقد جمع في عظاته المحتوى الأساسيّ لما انكشف له في ما دُعي "الحقائق المقدّسة الأربع"، وفي تعليم "النشوء عن علاقة"، أي ارتباط جميع الموجودات بعلّة سابقة وذلك في دائرة متكرّرة.

1. حقيقة المعاناة الشاملة
الحقيقة المقدّسة الأولى تحدّد واقع العالم والحياة البشريّة كحالة معاناة. كلّ شيء هو معاناة. إنّ هذه المقولة لا تنبع من تفكير سطحيّ في شؤون هذا العالم، إنّها خلاصة تأمّل مثابر وبصيرة عميقة. فإنّ بوذا بفضل تطهير باطنه والغوص المستمرّ في سرّ ذاته، استيقظ فيه الوعي بأنّ الوجود البشريّ هو في الأساس معاناة. ولكنّه اختبر على الفور كم يصعب على الناس أن يقتنعوا بهذه الحقيقة. ويُروى أنّه أمام هذا العائق وقع في حيرة، وأوشك أن يتخلّى عن إعلان حقيقة الخلاص. ولكنّه حبًّا لتلك القلّة من الناس الذين باستطاعتهم أن يتقبّلوا حدسه الروحاني، عزم أخيرًا على أن يعلن جهارًا حقيقة المعاناة الشاملة، لافتًا انتباه سامعيه إلى مظاهر الحياة التي تجعلهم يتنبّهون لعمق البؤس الكامن في الوجود البشريّ.
كلّ أحداث لها جانب أليم، حتّى إنّه باستطاعة المراقب الاعتيادي أن يدرك ذلك. ذلك يصحّ في الولادة والمرض والموت، وفي التطلّع إلى المستقبل المضطرب والقلق المستمرّ. كلّ هذا تكمن فهي المعاناة الجذريّة. الحياة مليئة بالأوجاع والخذلان والبغض. حتّى الفرحُ يتداخله السُّم، إذ هو ممتزج بالهمّ، أو يحتوي في بعض جوانبه على معاناة للآخرين، أو تجده مرتبطًا بظروف تولّد المعاناة. مثل ذلك الفرح الغير الصافي، فإنّه لا يستطيع أن يؤدّي إلى الخلاص، ولا يمكنه على الأقلّ أن يشبع رغبة الإنسان في السعادة.
ثمّ إنّ العالم والإنسان خاضعان لشريعة الصيرورة، أي لعدم الاستقرار. فتبدّلهما وزوالهما يكشفان عن طابع المعاناة فيهما وعن سبب هذه المعاناة.

2. نشوء المعاناة
للمعاناة سببان: سبب آلي وسبب نفساني.

2-1. السبب الآلي متعلّق بترابط عوامل الوجود التي يتألّف منها العالم والإنسان، وبمفعول شريعة ثواب الأعمال (كَرْمان). في العالم يتألّف الإنسان من عوامل خمسة يتعلّق وجوده بها ويقوم عليها كيانه كلّه. هذه العوامل هي المادّة وما هو جسدي، والانطباعات التي تتأتّى عن اتصال الحواس بالأشياء المقابلة لها، والإدراكات الحسيّة الناتجة منها، وتحرّك النفس والأميال وعزيمة الإرادة، وأخيرًا المعرفة أي الوعي ومحتوياته. وقد شرح علم الإنسان في البوذيّة عوامل الوجود هذه، وحدّد بدقّة أشكال أفعالها، وأدرجها في أصناف مختلفة. فإذا بها جميعها، في كيانها ومفاعيلها، خاضعة للصيرورة – في شكل الولادة والتقلّب والموت – ولذلك فهي حاملة للمعاناة. الإنسان في عالمه الحسّي التجريبي مركّب من هذه العوامل، وحياته كلّها تقوم عليها وهي مجرّد حصيلة تفاعلها.
زد على هذه الآليّة شريعة نوّاب الأعمال. فطالما لم يحصل الإنسان على الخلاص، فإنّه يجد ذاته سجينة دائرة ولادات متكرّرة لا حدّ لها، كلّ وجود جديد فيها مشروط بالأعمال التي أُنجزت طوال الحياة السابقة. فما دام الإنسان ينجز أعمالاً تترك فيه آثارًا مقابلة أو – وفقًا للتعبير البوذي – ما دامت ثمرة أفعاله تثقل حياته جاعلة من المحتوم الخضوع لولادة جديدة، تستمرّ سلسلة الولادات الجديدة إلى ما لا نهاية له، وتظلّ كلّ ولادة جديدة تنشأ متعلّقة بسابقتها.
هكذا يتّضح كيف تقوم سلسلة العلل الآليّة. فوجود الإنسان الحاليّ هو حصيلةٌ آليّة للوجود السابق، ويحدّده الآن الترابط الآليّ لعوامل الوجود الخمسة. فطالما لم يدرك الإنسان بعدُ مرحلة التحرّر، تستمرّ هذه الآليّة وتحدّد وجودًا جديدًا. و هكذا تتكرّر السلسلة وفقًا للخطة عينها. وقد عرض التعليم البوذي هذه السلسلة السببيّة، من جملة ما عرض، على الشكل البسيط التالي:
1. غير المتحّرر، الذي لم يبلغ الخلاص، يظلّ أسيرًا لعماه، ويجني بحث أعماله (جهل، عمى).
2. تنتج من الجهل إرادة العيش، أي ما يُقال له أشكال النشاط والأميال (هذه رواسب الحياة السابقة).
3. في علاقة بإرادة العيش تنشأ في بطن الأمّ الحامل المعرفة المبدئيّة، أي ما يُدعى بالأحرى في هذه المرحلة "ما قبل الوعي".
4. في علاقة بالمعرفة ومن خلال اتّحاد الروح بالجسد، ينشأ الاسم والشكل، أي فراديّة الإنسان الماديّ، ونموّه في المرحلة السابقة للولادة.
5. في علاقة بهذه المرحلة تتكوّن الأعضاء الحسيّة، أي الحسّ الداخليّ والحواسّ الخمس الخارجيّة.
6. بعد الولادة يتفرّع من الأعضاء الحسيّة الاتّصال بالأشياء المطابقة لها في العالم الخارجيّ.
7. في علاقة بهذا الاتّصال ينشأ الإحساس. وبهذا تتحرّك السلسلة السببيّة لعوامل الوجود.
8. في علاقة بالإحساس تنشأ الرغبة والعطش، وهو التمسّك بهذا العالم.
9. في علاقة بالعطش تنشأ رغبة التملّك، والشغف المتزايد والتمسّك بالحياة. وهذا ينتج كَرْمان جديدًا، ممّا يثقل الوجود في الولادة القادمة.
10. بهذا تنشأ وتقوم الشخصيّة التجريبيّة التي تبيّن شريعة الصيرورة. هكذا يُثبت البوذيّون فعّاليّة شريعة لا يمكن الإنسان أن يفلت منها. طالما يتابع دولاب الحياة الدوران بالنوع الذي سبق وصفه.
11. في علاقة بمجمل العوامل التي جاء عرضها، تنشأ الولادة.
12. في علاقة بالولادة يأتي الهرم والموت.
على هذا النحو تفسِّر مساهمة عوامل الوجود في كلّ حياة جديدة، وتواطؤها مع شريعة الكَرْمان، الدائرة المجملة للولادات الجديدة وتوضح جميع مظاهر حياة الإنسان التجريبيّ، وتكشف له عن أوجه المعاناة في الوجود.
ولكنّ هذا التواطوء الآلي لا يؤدّي إلى ديمومة المعاناة والشقاء إلاّ بواسطة الموقف النفساني الذي يتّخذه الإنسان. وهكذا فالعنصر الأوّل للسلسلة السببيّة هو ما دُعي في الرقم 8 رغبةً وعطشًا. هذا العالم يُغري الانسان ويستميله إلى العيش، عندما يحدّد محتويات الوعي من خلال الاتّصال بحواسّ الجسد. ويصبح العطش أكثر شدّة، والرغبة أكبر إغراء، بقدر ما يتماهى الإنسان في العمق مع هذا العالم، وبقدر ما يتجذّر فيه تجذّرًا يتعذّر اقتلاعه، الاقتناع بأنّه ليس مجرّد مجموعة أحداث آليّة، بل شخصيّة حقيقيّة تختبئ فيها "الأنا" وراء المظاهر التجريبيّة، مضفيةً على هذه تلاحمها الضروري. فإذا ظلّ الإنسان تحت إمرة هذا الخطإ، ارتبط ارتباطًا أوثق بالوظائف المعيشيّة التي تبقيه موثَقًا بواقع العالم، ظانًّا أنّه مصدر القوّة والملء لوجوده. بتعلّقه بهذا العالم يحسب أنّه يستطيع أن يحافظ على الأنا الذاتي ويخلّصه ويبلغ هكذا الفرح والسعادة. ويعتقد أيضًا أنّه قد يمكنه الإفلات بشكلٍ ما من الموت. ولكنّ كلّ ما ينتج من ذلك هو أنّه يلقى ذاته أكثر ارتباطًا بعالم الحياة وخاضعًا لا محالة لولادة جديدة.
إنّ هذا التعليم عن "اللاأنا" كان موضوعًا شَغَل البوذيّين ومؤرّخي الديانات شغلاً طويلاً.
ينخدع البشر بتصوّرات مختلفة يعبَّر عنها بأنا، ولي، وشخصي. وهذه التعابير تدلّ على وجود شخص مكلّف بتأمين لُحمة الأحداث الأرضيّة في حياة الإنسان. ولكنّ الواقع هو أنّ الشخص المتوهّم ليس هو سوى مجرّد خيال. وذلك لسببين. أوّلاً إنّ تصوّراتنا حصيلة نظريّات ماورائيّة لا تتناسب مطلقًا مع واقع العالم التجريبي. في العالم التجريبي يدلّ كلّ شيء على أنّ الإنسان يتكوّن من العوامل الخمسة للوجود ويخضع لتبدّلها السّببـيّ. لذلك لا جدوى في افتراض "أنا" خارج عن عوامل الوجود هذه، ولا فائدة من الضياع في تصوّرات عقيمة. يروي التقليد البوذي أنّ بوذا المعلّم ردّ عدّة مرّات رهبانًا وزهّادًا كانوا يلحّون في سؤالهم له عن حلٍّ لمثل هذه القضايا النظريّة والمجادلات التي كانت تدور في حلقات الكهنة والروحانيّين والهندوسيّين. وهذا الرفض للاشتغال بهذه القضايا الماسّة بالنطاق الماورائيّ يمتدّ إلى أمر وجود "الأنا". ودليل ذلك ما جاء في القصّة التالية.
"جاء إلى بوذا يومًا راهب متجوّل اسمه فاتساغوترا (في اللغة الباليّة: فاتشاغوتّو) وطلب إليه أن يجيب عن سؤاله: هل الأنا موجود أم لا؟ ولكنّ بوذا لم يردّ عليه جوابًا. في وقت لاحق فسّر لتلميذه أناندا علّة موقفه: "لو أجبتُ، يا أناندا، الراهب المتجوّل وقلتُ: الأنا موجود، لجاء هذا تثبيتًا لموقف الزهّاد والكهنة الذي يؤمنون بعدم التبدّل. ولو أجبت الراهب المتجوّل فاتساغوترا وقلت: الأنا غير موجود، لدَهش من كان يعتقد سابقًا بوجود الأنا وتساءل: قبلاً كان عندي أنا، أفزال الآن؟ وعندها يهبط من ارتباك إلى ارتباك أعظم. مثل هذه المداورات الفكريّة لا تفضي إلى المعرفة الخلاصيّة" .
فعلى على كلّ حال لا ينفع أن نقول عن أيّ شيء في العالم التجريبي بأنّه يؤلّف الأنا الكائنة فيّ. لأنّ جميع عناصر العالم وكلّ أحداث الحياة البشريّة ممهورة بميزات تظهر أنّها عالقة بالألم والمعاناة، فهي بالتالي تنحصر في عالمٍ على الإنسان أن يتخطّاه حتّى يمكنه البلوغ إلى الخلاص. جميع عوامل الوجود وأحداث الحياة متقلّبة خاضعة للصيرورة والزوال. فالعاقل الحكيم الفَطِن عليه أن يثبت، على ما يلي: … أيّ شكل من الأشكال، أكان ماضيًا أو مستقبلاً أو حاضرًا، أكان في الباطن أو في الخارج، كبيرًا أو صغيرًا، من مستوى العامّة أو الأشراف، بعيدًا أو قريبًا، كلّ هذه ليست لي، أنا لستُ إيّاها، وهي ليست قطعًا الأنا فيّ. فمن اطّلع على الأشكال وفقًا للحقيقة، من رآها ولم يتمسّك بها، فذلك بلغ الخلاص. بهذا النوع عينه يجب التعامل مع الفئات الأربع الأخرى لظاهرة الوجود…" .
ويمكن إذن أن نستنتج باختصار ما يلي: جذور المعاناة الشاملة وسبب سلسلة الولادات الجديدة في حلقة لا حدّ لها هي الرغبة والعمى (عطش وجهل).

3) إزالة المعاناة
هناك مخرج للإنسان ويقين بأنّ إزالة المعاناة ممكنة. هذه هي الحقيقة المقدّسة الثالثة عند البوذيّة. إزالة المعاناة تعني الوصول إلى حالة لا تشبه بأيّة ناحية علائم الوجود في العالم التجريبي. هي حالة حَصَل فيها التغلّب على العمى وإخماد الرغبة، فلا تكون هناك ولادة جديدة ولا صيرورة، ولا تقلّب ولا فساد ولا موت، حالةُ لا محدوديّة دائمة، فارغة من أيّ شكل محسوس، ولكنّها أيضًا حالة استقرار أبديّ وطهارة وطمأنينة وخلود وسعادة. هو الانفراد من وراء العالم، الجزيرة النائية، والمعبر والمكان الذي يمنح سترًا وحماية. تُدعى هذه الحالة نِرفانا (بلغة البالي: نِبَّانا). النرفانا نقيض العالم، ولذلك لا يمكن تحديده إيجابيًّا بنوع موافق. هو المطلق مقابل العالم المركّب من أجزاء. هو المتعالي، المغاير تمامًا، الذي لا يمكن ضبطه بواسطة المفاهيم ولا التلميح إليه بالأوصاف. النرفانا هو حالة التحرّر الكامل من أيّ تلوّث ومن أي ارتباط بالعالم، تحرّر من الجهل والهوى، وإفلات من سلاسل العالم وذوبان الشخص التجريبي الخالي من الأنا.

4) الطريق المؤدّية إلى إزالة المعاناة
لبلوغ النرفانا هناك طريق تُدعى في الحقيقة المقدّسة الرابعة طريق المراحل الثماني. جاء عن بوذا قوله: "أيّها الرهبان، هذه هي الحقيقة الشريفة عن الطريق المؤدّية إلى إزالة المعاناة: الرأي المستقيم، والعزم المستقيم، والقول المستقيم، والعمل المستقيم، والسلوك المستقيم، والسعي المستقيم، والتفكير المستقيم، والاستغراق المستقيم.
وهكذا فطريق الخلاص تقوم على مرحلتين: على أخلاقيّات تكون إعدادًا لسلوك الطريق الحقيقيّة المؤديّة إلى الخلاص، وعلى استغراق في التأمّل ذي طابع روحانيّ يقود إلى اكتساب الحكمة المنشودة.
إتمام الأحكام الأخلاقيّة ممكن لجميع أتباع البوذيّة. وغرضها إطفاء الشهوات، خاصّة الأهواء الأساسيّة، أي العمى، والرغبة، والبغض، التي هي أصل جميع الآفات البشريّة، إذ هي تكبّل الإنسان بهذا العالم وتخلّف كَرْمان سيّئًا يفضي من باب الضرورة إلى وجود أليم جديد. فالتحرّر من الشهوات يمكن أن يتمّ من خلال مسلك مليء بالفضائل. فعلى البوذي أن يمارس خاصّة الفضائل التالية: الرأي المستقيم، أي الاعتراف بالحقائق المقدّسة الأربع، وهذا تمهيد للولوج إلى سبيل الخلاص لا يمكن التخلّي عنه. ثمّ هناك العزم المستقيم على ممارسة التخلّي والتجرّد، والرأفة غير المحدودة والرضى تجاه جميع الكائنات الحيّة. ثمّ القول المستقيم. ثمّ العمل المستقيم، أي باختصار السلوك المستقيم، والمهمّ فيه أن يتصرّف كلّ واحد تصرّفًا لا يمسّ أيّ كائن آخر بأذى. وأخيرًا السعي المستقيم الذي يصدّ ما يهدّد الخلاص ويحثّ على طلب الخلاص.
متى تهيّأ للبوذي مثل هذا الاستعداد، أمكنه أن يحوز على التحرّر الشامل من الجهل ومن الشهوة. في التأمل والاستغراق الداخلي يستطيع هكذا أن يتغلّب بنوع جذري على الأهواء، ويتعمّق في التبصّر في التعليم البوذي، حتّى إنّه قد يُعطَى له في هذه الحياة أن يختبر مسبّقًا طعم الخلاص. أمّا التحرّر الكامل فلا يتمّ عادة إلاّ بعد ولادات جديدة متكرّرة، وبعد تعمّق في الاستغراق الداخلي.
عندما يقطع الإنسان أهمّ مراحل التأمّل والاستغراق الداخلي يبلغ الاستيقاظ. فالدرجة الأولى من الاستغراق تحرّره من الرغبة. والدرجة الثانية قوامها تفرّغ الروح الذي يبلغ وحدته الباطنة وبإلغاء كلّ محتوى يتعلّق بالفكر والتبصّر. والدرجة الثالثة تقوم بتخطّي كلّ فرغ وكلّ إحساس ملموس. وتقود الدرجة الرابعة أخيرًا إلى اختفاء الشعور بالارتياح النابع من وجود الجسد والحسّ الباطن. وتبقى في آخر المطاف المعرفة الصرفة، الوعي الصرف الخالي من المحتوى والطمأنينة البعيدة عن الاضطراب. في هذه الحالة يبلغ المتأمّل في حدث روحاني أسمى مراتب المعرفة ويكتسب الحكمة الكاملة.
وطالب الحكمة يجد عونًا في بعض الوسائل. هناك تراتب التنفّس، يحمل به قلبه على الراحة وذهنه على التجمّع. ثمّ إنّ التأمّل بالنجاسات، أي بالأشياء البشعة الكريهة في هذا العالم، يبيّن له كيف أنّ عالم المعاناة شنيع لا قيمه له، وبهذا يتحرّر من الرغبة والهوى. وهناك طرقٌ في التأمّل وتجميع الذهن تساعد على بلوغ حالة الوعي الخاص الخالي من المحتويات.
"لا تهدف جميع التمارين، كما يؤكّد بارو - إلى تلطيف الأهواء وقهرها فقط – وهذا هو الهدف الأساسيّ للبوذيّة – بل تنتج منها أمور أخرى أقلّ أهميّة لا يجوز إغفالها… بها يحصل السالك على ولادة جديدة بين آلهة عالم الأشكال وآلهة العالم الخالي من الأشكال، الذين توافق منازلهم درجات التأمّل والتبصّر المختلفة. وهذا يقود إلى إقامة هنيئة في ما بين الأمور المشاهَدة وإلى نوع من السعادة في هذا العالم المحدود في الزمن، يُعَدّ تذوّقًا مسبّقًا لسعادة النّرفانا، وإلى رؤية المعرفة التي بفضلها يذوب النشاط الذهني، فضلاً عن أنّ تلك الممارسات تؤدّي إلى التفكير الواعي الكامل أو إلى التحليل المليء بالحكمة وأخيرًا إلى ذوبان التلوّث، أي إلى إفناء الأهواء، وهذه ميزة القدّيسين الذين بلغوا الدرجات العليا، ويدعون أرهات".
طريق الخلاص هذا يفترض القدرة على التأمّل والاستغراق. لذلك بقي مقتصرًا على الرهبان، حتّى في نظريّة البوذيّة القديمة. أمّا العلمانيّون فبوسعهم فقط أن يُنتجوا كَرْمان جيّدًا بواسطة أعمال صالحة ودعم الرهبان وجماعاتهم. وهكذا يأملون بأن يكونوا جديرين بالدخول في الحياة الرهبانيّة في إحدى الولادات المقبلة. فالبوذي الأصيل هو إذن الراهب المتسوّل الذي يكرّس معظم أوقاته للتأمّل والاستغراق، ويحرّر روحه من كلّ تلوّث وينقّيها من العمى وكلّ شهوة. ولذلك فالفقر والامتناع عن الزواج والتزام السلام هي ركائز هذه الحياة الرهبانيّة. ومن مهمّات الرهبان أيضًا أن يبشّروا بالتعليم البوذي ويشرحوه ويروّضوا المبتدئين على أساليب التأمّل. وقد أفضى هذا النشاط إلى إغناء التراث الأصليّ للبوذيّة. وأيضًا إلى تباين في الآراء وبروز مدارس وفرق مختلفة.
نستعرض في ما يلي تعاليم التيّارات الرئيسيّة في البوذيّة، دون أن ندخل في التفاصيل وفي تبيان الآراء المختلفة عند مدارسهم وفِرقهم.

ثانيًا: البوذيّة القديمة – هينايانا (المركبة الصغيرة)
البوذيّة القديمة هي الوريثة المباشرة لتعليم بوذا الأصلي. وهي تدعى أيضًا بوذيّة تيرافادا، أيّ بوذيّة الأقدمين، أو بوذيّة شرافاكا، أيّ بوذيّة السامعين. وهناك تسمية أكثر شهرة، هي بوذيّة هينايانا، أي المركبة الصغيرة. وهذه التسمية التي يُشتمّ منها بعض التشاؤم، وردت في جماعات التيّار البوذيّ اللاّحق الذي وصف نفسه بأنّه المركبة الكبيرة (ماهايانا)، وذلك لأنّه كان يرى أنّ طريق الخلاص سهلة السلوك لجميع المؤمنين، بعكس ما كانت تقول به البوذيّة القديمة، التي كانت تخصّ بالخلاص فريقًا زهيدًا من الرهبان.
تتميّز البوذيّة القديمة بارتباطها الوثيق بالأصول الأوائل. وقد طوّرت بعض العناصر، التي كانت في ما بعد أساسًا في تكوين البوذيّة اللاحقة. وأهمّ هذه العناصر هي التالية.
شخص بوذا بدأ يتطوّر. فبعد أن كان معلّمًا ومدرّبًا، أضحى كائنًا متعاليًا فائق الطبيعة. وراح يُعتبر روحًا محضًا يسكن فوق العالم. أمّا ظهوره في شكل إنسان، فإنّما كان ذلك ليعلّم الناس طريق الخلاص. مع الزمن تحوّلت هذه الفكرة إلى تصوّر بوذا متعالٍ مطلقِ التعالي، حائز على صفات لامتناهية. من هناك انطلاق التعبّد لبوذا، تعبّدًا يُمارَس في أمكنة مقدّسة معيّنة في أديرة الرهبان.
إلى جانب بوذا شرعت تتبلور شخصيّة البوديساتفا. البوديساتفا هو من بلغ اليقظة، ولكنّه تخلّى موقّتًا عن ولوج النرفانا لالتزامه بنذر أخذ فيه على نفسه ألاّ يلج النرفانا إلاّ بعد أن يساعد سائر البشر على اكتشاف طريق الخلاص وسلوكها.
إنّ ظهور مثل هذه الآراء يعني تطوّرًا لاحقًا للبوذيّة الأصليّة القديمة، التي كانت تعتبر الخلاص حصيلة للجهد الفرديّ. فالراهب لا يجوز له أن يعتمد على أيّ شيء. وبوذا عينه لم يكن سوى حكيم أبصر نواحي التعليم الخلاصي وبشّر به، دون أن يكون باستطاعته مع ذلك أن يقدّم لأتباعه الخاصّين عونًا خلاصيًّا. فعلى الإنسان إذن أن يعتمد على نفسه. جهده الخاص، والحفاظ على تعليم بوذا، وممارسة التأمّل والاستغراق: هذه وحدها يمكنها أن تقوده إلى الحكمة والتحرّر من العمى والتعلّق بالحياة. وهي وحدها يمكنها أن تجعله يفلت من الدورة الآليّة للولادات الجديدة المليئة بالمعاناة.
ولكن هذه النظرة بدت على مرّ الزمن غير ملائمة بالنسبة إلى أغلبيّة البوذيّين الذين لم يكن بوسعهم أن يكرّسوا وقتًا طويلاً للتأمّل. في الكتب اللاحقة للبوذيّة القديمة عينها، هناك نظرة تقول بأنّ الرهبان أنفسهم لا يستطيعون أن يسلكوا الطريق المؤدّية إلى الخلاص. فالخلاص يتّسم هكذا بطابع مَعَاديّ. أمّا في بعض فترات متأخّرة من التاريخ، فتستطيع قلّة من الرهبان أن تنتج كَرمان جيّدًا وتتّخذ قرارًا مستقيمًا، فتعقد العزم على سلوك الطريق المؤدّية إلى الغاية النهائيّة.
وهكذا فإنّ اعتبار حاجات العلمانيّين إلى جانب الامتيازات الخاصّة بالرهبان في اتّباع الخلاص، قد أدّى إلى تطوير التعليم في مدرسة ماهايانا.

ثالثًا: البوذيّة ماهايانا (المركبة الكبيرة)
نشأت البوذيّة ماهايانا حوالي بدء العهد المسيحيّ. ولكنّها لم تبلغ كمال ازدهارها إلاّ بعد القرن الثاني. وتقوم مساهمتها الكبرى بإفساح المجال لمناهج جديدة في سُبُل الخلاص، مناهج تأخذ بعين الاعتبار الحاجات والأوضاع الحياتيّة عند الفئات المختلفة في الجماعة. وقد أضحى هذا التنوّع في طُرق الخلاص ممكنًا خصوصًا بفضل التطوّر اللاحق للتعليم عن بوذا وبوديساتفا.
ازداد بوذا تساميًا بحيث إنّه صار كائنًا فائق الطبيعة، متعاليًا، مطلقًا، يتخطّى المكان والزمان، بل يتخطّى عالم الأشكال عند الآلهة، والعالم الأرفع غير المادي عادم الأشكال. وهكذا يضحي بوذا الحقيقة المطلقة يتمّ تصوّره تارة ككائن غير شخصيّ، وطورًا ككائن شخصيّ، ويُدعى "جسم الشريعة". ولكن هذا البوذا المطلق لا ينتسب إلى عالمنا، بل هو منـزّه لا تطاله محاولات الإنسان لفهمه وحصره. ومع ذلك هو وحده الحقيقة، وما سواه ليس إلاّ مظهرًا عابرًا. أحد تجليّات البوذا المطلق هو البوذا السماويّ، المدعو "جسم التذوّق". هذا يقوم فوق عالمنا الحسّي ويحيا إلى جانب الآلهة، ولكنّه مرتبط بعالمنا الذي هو مجرّد مظهر، بحيث إنّه يكون موضوع إكرام وعبادة، ويمكن أن تصل إليه المفاهيم والتصوّرات البشريّة. وهناك طبقة أدنى، وهي التجلّي الأرضيّ لبوذا، ويسمّى "جسم الخليقة": أي بوذا في هيئة بشريّة. هذا البوذا مات، وتلاشت ذاتيّته الخاليّة من الأنا، فلا وجود لها من بعد. ويبقى البوذا الرحيم السماويّ (هذا خاصّة بالنسبة إلى العلمانيّين)، والبوذا المطلق الروحانيّ (هذا بالنسبة إلى الرهبان القادرين على التأمّل المستغرق والحدس الروحاني)، يحافظان على أهميّتهما الخلاصيّة في حياة البوذيّين وسعيهم وراء الخلاص.
إلى جانب بوذا لاقى تصوّر بوديساتفا انتشارًا واسعًا، واتّخذ أهميّة متزايدة. ففي نظر العلمانيّين البوديساتفا هو الشخص الديني المثالي، لأنّه قطع مراحل طريق الخلاص حتّى النهاية. ولكنّه شفقة على الناس، التزم أن يؤجّل خلاصه النهائيّ الخاص، ليمدّ يد المعونة للآخرين. فعزمه على المساهمة في خلاص الآخرين لا حدّ له. هو مستعدّ لأن يهب الآخرين استحقاقاته الخاصّة، لكي يحصلوا على الخلاص بسرعة أكبر، حتّى البلوغ إلى التحرّر النهائيّ. هناك حسب التعليم البوذي بوديساتفا أرضيّون، وكلّ إنسان شفوق محبّ يعمل على خلاص الآخرين. يمكن أن يكون واحدًا منهم. ولكنّ البوديساتفا السماويّين الذين يعيشون في عالم الآلهة، أشدّ فاعليّة، إذ إنّهم اكتسبوا صفات إلهيّة، ويكرّسون الآن ذواتهم، بنوع كامل، لخدمة الناس في أمر الخلاص، قبل أن يَلجوا النرفانا ويبلغوا إلى حالة البوذا الروحيّة.
إنّ تطوّر التعليم حول بوذا وبوديساتفا متّصل بتطوّر الطريق التقليدي للخلاص وبالكشف عن إمكانيّات جديدة للخلاص.

1. تطوّر الطريق التقليدي للخلاص
1-1. مدرسة طريق الوسط
إلى جانب الطريق المستند إلى الأخلاق الذي تمّ تلقّيه من البوذيّة القديمة دون تعديلات مهمّة، طرأ على طريق الحكمة السلبيّة، أي طريق التأمّل ونكران العالم والتبصّر العميق، تعمّق وإعادة تحديد. هذا عبّر عنه خصوصًا تعليم مدرسة "طريق الوسط" (مادياميكا)، التي يُقال إنّ مؤسّسها ناغارجونا قد عاش نحو منتصف القرن الثالث بعد المسيح. وقد جاء في هذا التعليم أنّ الأساس الجديد للتأمّل هو تأكيد الفراغ الشامل. كانت البوذيّة الأصليّة تستنتج أنّ جميع اشياء العالم وكلّ أحداث الحياة البشريّة هي غير ثابتة، مليئة بالمعاناة وخالية من الأنا. مدرسة طريق الوسط ساقت هذه الفكرة المسلّم بها إلى أقصى نتائجها: كلّ شيء فارغ، كلّ شيء في هذا العالم مجرّد مظهر، حتّى بوذا نفسه ليس هو سوى مظهر. فمن الغرور المستفحل أن نعتبر أيّ شيء ممّا نتصوّره أو نفكّر فيه شيئًا له شخص أو جوهر. فإنّنا في نطاق الإدراك الحسّي والأفكار نبقى في العالم التجريبي، وهذا هو مجرّد مظهر، إذ إنّ الإنسان غير قادر على الإطلاق أن يكوّن لنفسه مفاهيم وتصوّرات دون أن يرجع إلى هذا العالم. وحتّى المطلق عينه، والنرفانا أو بوذا الشريعة المتعالي، لا يمكن فهمهم إلاّ كنقيض للكيان التجريبي النسبي.
ولقد طوّرت مدرسة طريق الوسط مفهوم الحكمة السلبيّة بنوع استنتاجي صارم، حتّى إنّها صاغت مقولات تبدو مليئة بالمفارقات ومحيّرة، كلّ شيء فارغ، الإنسان فارغ، بوذا فارغ، وحتّى النرفانا فارغ. ليس المقصد من هذا بناء نظريّة فكريّة، المقصد النصح باتّخاذ موقف عمليّ. فالحكيم عليه ألاّ يجهد في الحصول على أيّ شيء وأيّ هدف في حياته. إنّما هو التخلّي التام عن العالم يصل بالحكيم إلى حالة طمأنينة بعيدة عن الاضطراب وإلى حريّة الروح الباطنة، أي إلى حالة تفتح أمامه طريق الخلاص.
فموقف الحكيم يتبلور في مبادئ ثلاثة:
- عدم التحصيل: الحكيم صار هادئًا إلى درجة أنّه لم يعد يرغب في تحصيل أيّ شيء، ولا في البلوغ إلى النرفانا. وعندما يكون عدم الرغبة في الحصول شاملاً عندئذٍ لا يكون في الإنسان أقلّ ميل إلى الحياة. وهكذا يُقرُب انحلال الإنسان التجريبي، وبالتالي يكون الخلاص قريبًا.
- عدم التأكيد: كلّ مقولة لها علاقة بعالم الفراغ، ولذلك لا تستطيع أن تعبّر عن شيء جوهري، ولا أن تمهّد للوصول إلى شيء حقيقي واستيعابه. فعلى العاقل الحكيم أن ينقّي ذهنه من أيّ تلوّث ومن أي فكر؛ عليه أن يقطع كلّ رابط يربطه بهذا العالم، فيقلع عن استعمال التعابير الفكريّة والاشتغال بالتحليلات المنطقيّة. بهذا يتوثّق فيه الاقتناع بأنّ العالم ليس هو سوى مجرّد مظهر، فيستطيع هكذا بسهولة أكبر أن تستتبّ فيه حالة الصفاء الداخليّ.
- عدم الوثوق بشيء: هذا ينصبّ في اتجاه المبدإ الثاني. فإنّه لا شيء في هذا العالم يستحقّ أن يتعلّق المرء به. فالخلاص يقوم فعلاً بالانحلال والتحرّر من عالم المظاهر هذا.
عندما ينجح الحكيم بفضل التأمّلات والممارسات المتكرّرة في الوصول إلى هذا الموقف السلبيّ الجذريّ، يحصل على العلم الشامل، فيعلم الروابط السببيّة التي تكوّن العالم، ويبلغ بذلك إلى الرؤية الواضحة الخلاصيّة لفراغ جميع الأشياء، بحيث إنّه لا يعود يحتفظ بأي ارتباط بهذا العالم. حتّى ولو أنّه واصل التفكير والقول والعمل. فأفكاره الخاصّة وأعماله لا تعود تهمّه، وذهنه لا تمسّه الأفكار المفردة، وقلبه لا تهزّه مظاهر العالم وأحداث الحياة. الحكيم بلغ الهدوء الداخلي الذي هو استباق للخلاص النهائيّ.
هذا يعني أنّه يجب عدم البحث عن الهدف الأقصى، وهو حالة بوذا أو النرفانا، كأنّنا نبحث عن كيان خارجيّ أو متعالٍ عن الإنسان. في النهاية، ليس هناك فرق بين النرفانا، كما نتمثّله عن حالة بوذا التي نتعرّف إليها، وأيّ كيان آخر من هذا العالم. الحكيم يعلم أنّ كلّ هذا فارغ، وهو مقتنع كليًّا بأن ذاته هي ذات بوذا والنرفانا.
فالفراغ له إذن جانبان. الجانب السلبي يشير إلى عدم الثبوت وإلى الزوال، وانعدام الأنا في عناصر العالم وأحداث الحياة. وهذا يُتيح للحكيم أن ينعتق بنوع أسهل من روابط العالم. ومن ناحية أخرى فإنّ الفراغ، إذا تمّ اعتباره إيجابيًّا، هو صفة جميع المظاهر. وعندما تُحلّ هذه المظاهر وتختفي، ينكشف فراغها ويبدو عندها كالشيء الوحيد الثابت، كالمبدإ الأوّل للعالم، بل كطبيعة بوذا الأصليّة، فإنّ بوذا لا يستطيع أن يلج النرفانا إلاّ إذا فرغ من الأنا وانحلّ. فالفراغ إذن هو الذي يجعل طلوع النرفانا ممكنًا، ومن ثمّ تطابقَه مع طبيعة بوذا.

1-2. مدرسة أتباع اليوغا
كان لطريق الحكمة السلبيّة توجّه جديد قام به أتباع منهج اليوغا، ودُعي مدرسة يوغاتشارا. وقد برزت هذه المدرسة في القرن الخامس بعد المسيح، وانتشرت في بوذيّة الماهايانا خلال القرن السادس. تقول هذه المدرسة بأنّ الحكمة الخلاصيّة تقوم بالوصول عن طريق التأمّل إلى فهم أعمق للبصيرة التي تثبت أنّ كلّ شيء فارغ، وأنّ كلّ شيء ليس سوى مظهر. فيبقى مع ذلك شيء واحد بمثابة أصلٍ ومبدإ أوَّل لجميع الأشياء في العالم ولكّ أحداث الحياة البشريّة. وهذا الشيء هو الروح. كلّ شيء فارغ، وكلّ شيء مجرّدُ مظهر، لأنّ كلّ شيء من إنتاج الروح، أو كما يقول أصحاب هذه الطريقة، كلّ شيء هو تلوّث الروح المجرّدة.
فبينما كانت مدرسة طريق الوسط تعتبر التأمّل الفاحص أساسًا للبصائر الروحانيّة، يرتكز تعليم مدرسة اليوغاتشارا على اختبار حالة الغيبوبة والاستغراق الانخطافي. في الاستغراق يختفي كلّ شيء، وتختفي الأفكار أيضًا، ويبقى فقط عنصر واحد مطلق، هو الروح، القدرة على التفكير والمعرفة الخاصة، والوعي الخالي من المحتويات. يمكن أن ندعوه وعيًا أساسيًّا أو، نظرًا إلى وظيفته، وعيًا خازنًا. الروح المحض هو الأساس الأصلي، لكيان الإنسان الفرديّ. ويصير وعيًا خازنًا، عندما يبدأ في تكوين الأفكار وخزنها تحت تأثير كَرْمان الوجود السابق. بهذا العمل يتلوّث الروح المحض تلوّثًا سطحيًّا، ويسبّب نشوء الفرد في سلسلة الارتباطات التي وضعناها سابقًا. الدرجة الثالثة هي تلوّث الروح العميق. يحصل ذلك عندما يكوّن الروح لنفسه المزيد من الانطباعات والتصوّرات ويتخيّلها. هذه الانطباعات والتصوّرات هي التي تؤلّف العالم التجريبي بجملته.
وعندما لا يبلغ الإنسان التنقية الشاملة لروحه، يبقى بعد الموت وعيه الخازن مشحونًا برواسب الحياة السابقة (كَرْمان) ويظلّ ملوّثًا. لذلك يكمن طريق الخلاص في إلغاء كلّ محتويات الوعي بواسطة التأمّل وجمع الروح والاستغراق الداخلي اللاحق، بحيث يختبر الروح نفسه – أقلّه لبرهة قصيرة – في حالة النقاء الخاصّ به، ويتأهّب هكذا لمعرفة طبيعة الحقيقيّة. فبتكرار الاستغراق الانخطافي ينجح الروح في التخلّي المتزايد عن محتويات وعيه، وتحرير ذاته من وهم عالم المظاهر. فيركّز قواه بنوع متزايد على الحقيقة الروحيّة المحضة الخالصة، إلى أن يبلغ من خلال سلسلة يقظات متكرّرة إلى الاستيقاظ النهائي، إلى النرفانا. فإنّه عندما يكون الروح نقيًّا غير ملوّث، عند ذلك فقط يبلغ المخلَّص إلى الحقيقة المطلقة، إلى طبيعة بوذا.
انطلاقًا من أساليب التأمّل في مدرسة طريق الوسط، ولا سيّما في مدرسة أتباع اليوغا، انتشر تيّار الشين الصينيّ (خصوصًا منذ القرن الثامن)، ووصل من هناك إلى اليابان، حيث كوّن منذ القرن الثالث عشر أساس بوديّة الزين (Zen).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:17 am

الفصل الثاني
مدخل إلى البوذيّة 


2. الطريق الجديدة للخلاص: الإيمان والتسليم
مع تطوير طرق الخلاص التقليديّة، فتحت البوذيّة ماهايانا طريقًا جديدة، خصوصًا أمام العلمانيّين وجميع الذين تمنعهم عوامل مختلفة عن سلوك طريق الخلاص السلبيّة والتفرّغ كليًّا للتأمّل وللاستغراق الانخطافي. هي طريق الإيمان والتسليم (بهاكتي). من الوجهة النظريّة تقوم هذه الطريق على تعليم مدرسة طريق الوسط القائل بأنّ كلّ شيء هو أساسًا فارغ، ولذلك ليس هناك فرق مبدئيّ بين مَن وصل إلى الاستيقاظ ومن لم يصل، بين مَن بلغ الخلاص ومن لم يبلغ، بين بوذا وسائر الناس، إذ إنّهم يملكون جميعهم مسبّقًا طبيعة بوذا وبالتالي هم قادرون على الحصول على الاستيقاظ. الفارق الوحيد يكمن في أنّ بعضهم يعرف هذه الحقيقة، وغيرهم لا يعرفها. ولاكتساب هذه المعرفة ونيل اليقظة، يحتاج من ليس قابلاً للتأمّل والاستغراق الداخلي إلى عونٍ يأتيه من الخارج. وهذا العون يأتيه من البوذا السماويّ، ومن العديد من البوديساتفا، إن اتّجه إليهم بإيمان مستسلم. ينتج من ذلك من جهة أنّ الإنسان يتمرّس بالفضائل الخلاصيّة التي تعينه على الإفلات من روابط العالم والحصول على ولادة جديدة أفضل، حتّى يبلغ الاستيقاظ أو الخلاص النهائيّ. ومن جهة أخرى يدلّ توجّه بوذا والبوديساتفا نحو الإنسان لتقديم العون، يدلّ على حصول الخير، حتّى بالنسبة إلى الحياة في هذا العالم. فحمايتهم تضمن الخلاص، ورضاهم يجلب فوائد كثيرة، حتّى على الصعيد المادي.
الإيمان والاستسلام يُعبّر عنهما خصوصًا في أشكال السلوك التالية:
- مسلك لا عيب فيه أخلاقيًّا، والسعي وراء تصرّف يتشبّه بتصرّف بوذا والبوديساتفا.
- تكريم بوذا. هذا ما أدّى إلى إقامة شعائر عبادة تقدّم لبوذا، كالحمد، والتكريم، والذّكر، والاقتداء، وما يتبع ذلك من العطايا والتقادم. هذه العبارة تمكّن العلماني من جمع استحقاقات عظيمة والحصول على وجود جديد أقرب إلى الخلاص، أو على ولادة جديدة في عالم الآلهة. هناك شكل خاصّ لهذه العبادة، تطوّر بتفاعل مناهج التأمّل ورغبة الحبّ عند المؤمنين. فقد ركّز كثيرون عبادتهم على بوذا معين أو أحد البوديساتفا، ممّا أدّى إلى توثيق رباط حبّ بينهم وبين موضوع إكرامهم، رباط يوفّق لبوذا أو للبوديساتفا تسليمًا يزداد عمقًا من قِبل المؤمن، وللمؤمن عونًا أشدّ من قبل بوذا أو البوديساتفا. وقد قامت حول بوذا أميتابها نوعًا ما ديانة خاصّة، ميزتها الأساسيّة ذكر متكرّر لاسم بوذا. فالاسم يجعل بوذا حاضرًا، والذكر يمكّن من توثيق رباط حبّ بين بوذا والمصلّي. وكان الرهبان يمارسون هذا النهج ويفرضون على أنفسهم تكرارًا لهذا الذكر لم يكن يُفرَض على العلمانيّين. وقد عرف هذا النهج تطوّرًا لاحقًا بدءًا من عام 950 بعد المسيح، في الأميديّة اليابانيّة، لا سيّما طريقة الجُودُو التي أسّسها هونين (1133 – 1212).
- ممكنة وخلاصيّة هي أيضًا طريق الإيمان الصادق. فالمؤمن لديه اقتناع عميق بأنّ بوذا والبوديساتفا مستعدّان لأن يمدّا له يد العون. وهو يلتزم بدوره تشبّهًا بالبوديساتفا، بأن يقدّم جميع استحقاقاته ليساعد الناس على التوصّل من وقت إلى آخر إلى الحصول على ولادات جديدة أفضل ملاءمة، يليها بعد ذلك بسهولة أكبر الاستيقاظ والخلاص النهائي. إنّ هذه الطريقة انتشرت خصوصًا في الأميديّة في اليابان. ويجدر هنا أن نذكر التركيز على الثقة الموضوعة في بوذا أميدا، خصوصًا من قِبل جماعة الشين، التي أسّسها أحد تلاميذ هونين، واسمه (شنران شونين (1173-1262).
هناك طريقة أخرى تسعى إلى إقامة ترابط أوثق بين الغارق في التأمّل وموضوع تأمّله المرتكز على الإيمان، وذلك بواسطة التفكير في صفات بوذا.

رابعًا: البوذيّة التانتريّة (فجريانا: مركبة الألماس)
حصل مع الوقت توفيق إضافيّ بين البوذيّة وحاجات الناس في البوذيّة التانتريّة، وهي تميل بشدّة إلى النهج التأليفي والباطني. وقد تمّ في التانتريّة، منذ القرنين السابع والثامن خصوصًا، تأليف بين التقليد البوذي للماهايانا وعناصر من الدين الشعبي الهندي الذي كان سائدًا قبل اجتياح الآريّين لمقاطعات الهند. وسمة هذا التيّار الرئيسيّة هي التشديد على شعائر العبادة ومفاعيلها السحريّة. العنصر السحريّ ليس غريبًا، حتّى عن البوذيّة الأصليّة، خصوصًا بموجب التعليم القائل بأنّ القدّيس الذي بلغ الاستيقاظ يملك قوّة سحريّة ويحصل على خصائص تفوق القوى البشريّة. ولكنّ ما كان هناك مجرّد مظهر هامشي، أضحى نقطة الارتكاز في التانتريّة. ولذلك تحتوي كتبها الدينيّة قبل كلّ شيء على عبارات سحريّة ونصوص طقسيّة، وما يقابلها من مؤلّفات تعليميّة وتفاسير.

1. تعليم التانتريّة
ومهما يكن من أمر، فإنّ تعليم الخلاص في البوذيّة التانتريّة يجب أن يُعتبر قبل كلّ شيء تطويرًا لبعض مقولات الماهايانا. فالتعليم عن أصناف البوذا تطوّر في اتجّاهٍ يركّز تنظيمًا تراتبيًّا لأعداد البوذا، بما فيه التوافق بين البوذا السماويّ والعالم التجريبيّ، أو زد على ذلك بين بعض أجزاء هذا العالم وأعضاء الجسم البشري. وقد أدّى هذا التعليم إلى تصرّف أنسب في شعائر عبادة بوذا، إذ بدأ يتبيّن أنّ البلوغ إلى بوذا حامل العون يزداد سهولة، إذا جاءت ممارسات العبادة مرتبطة بدقّة بالأجزاء الموافقة في العالم أو في الإنسان. وإلى جانب بوذا تظهر إلاهات تُدعى شاكتي. وهي تشخيص للطاقة والقدرة اللتين تعودان إلى بوذا. تلك الشاكتي تمتلك الامتيازات المعروفة عن إلالهات المجموعات الإلهيّة التقليديّة: هي صالحة ورهيبة في الوقت عينه، مَثَلها في ذلك مَثَل سائر المظاهر الأرضيّة لبوذا.
هكذا تحوّلت جماعة البوذا إلى آلهة من النوع المعتاد. وهناك، حسب تعليم بعض الفِرَق التانتريّة، فوق الكثير من البوذا السماويّين، ينتصب البوذا المطلق، المتعالي تعاليًا تامًّا، الذي يتخطّى تساميه تعالي بوذا الشريعة عند الماهايانا: هذا البوذا يُدعى بوذا الألماس. وهذا البوذا السامي يقوم عند التانتريّة بالدور الذي يعود إلى الإله الأسمى في جماعة الآلهة المعهودة، وإليه يرجع خلق العالم بواسطة قوى سحريّة. فالعالم، ومنه الإنسان، ليس هو إذن سوى هذه الخليقة السحريّة: ظاهرة صدرت عن فكر البوذا الألماسي المتعالي.
بهذا تقتبس التانتريّة تعليم مدرسة اليوغاتشارا. من جهة أخرى تحتفظ أيضًا بتعليم مدرسة الوسط عن الفراغ الشامل. فطريق الفداء يقود إلى اليقظة، مرورًا بالوعي لتماهينا الجوهريّ مع بوذا ومع العالم أيضًا. واستعمال ممارسات عبادة معيّنة يساعد الإنسان على أن يصير ما سبق وكان في الواقع دومًا، أي بوذا. فالخلاص يعني إذن إزالة الثنائيّة المُدّعاة للإنسان والبوذا، ويحصل ذلك إمّا بواسطة تحطيم عوامل وجود الفرد بمساعدة شياطين وآلهة مُرعبة، أم بواسطة الاتّحاد بطبيعة بوذا، التي تصوّر كالوحدة المكتملة بين المبدأين الذكر والأنثى.
وكلا الطريقتين تتخذان شكلاً باطنيًّا وجنسيًّا في ما يُقال له تانتريّة اليسار. إنّ هذا التحوّل عن البوذيّة الأصليّة الباغضة للأمور الجنسيّة، قد يحمل على الاستغراب. ولكن التانتريّة تبرّره لثلاثة أسباب:
- إن لم يكن هناك فرق بين الإنسان والعالم وطبيعة بوذا، فلا داعي إذن إلى القول بأنّ الأعضاء الجنسيّة ورغبة اللّذة الجنسيّة تبعد الإنسان عن الخلاص. فالشهوات لا وجود لها فعلاً خارج النرفانا. والتالي فإشباعها لا يمكن أن يكون عائقًا على طريق الخلاص.
- من جهة أخرى يستطيع الإنسان الذي يشبع رغباته ويمكّن شهواته من البلوغ إلى الأشياء الموافقة لحواسّه، بأن يستنتج من اختباره أنّ أمور العالم التي تُعتبر باعثة للسّرور هي بالحقيقة فارغة باطلة، جالبة للمعاناة.
- ثمّ إن كان المقصود البلوغ إلى طبيعة بوذا والوصول إلى المتعالي، وإن كان هذا المتعالي يُعتبر الوحدة التامّة بين المبدأين الذكر والأنثى، فالإنسان يُدرك مطابقة التامّة لهذا المتعالي، عندما يبلغ اكتماله بواسطة الفعل الجنسيّ ويقترب هكذا من طبيعة البوذا الكامنة فيه نفسه.
إنّ هذا النهج بسبب ما يخفي من مخاطر، لم يكن مباحًا للجميع، بل كان مقتصرًا على الذين تمرّسوا طويلاً بالفضيلة وبلغوا إلى بصيرة وحكمة وطمأنينة داخليّة تمكّنهم من أن يستسلموا للشهوات ويمارسوا شعائر العبادة السحريّة دون أذى وببعض الفائدة.
أمّا تانتريّة اليمين التي ازدهرت خصوصًا في الصين ابتداء من القرن الثامن فترفض إشباع الشهوات. لا جرم أنّ الشهوات لا غِنى عنها لأنّها تعطي الإنسان الطاقة والاندفاع الضروريّين. ولكن طريق الخلاص لا يُمهَّد لها إلاّ بتنقية تلك الشهوات. عندئذٍ فقط يمكن السالك أن يبلغ الحدس الروحاني والحكمة الهادئة اللذين هما مقدّمة التدرّج نحو الخلاص.

2. نهج وممارسات
ممارسات التانتريّة لها هدف مزدوج. بعضهم يرجو بواسطتها نيل عون فعّال لاكتساب البصيرة، فيما تدفع الآخرين رغبة الحصول على قوى عجائبيّة من خلال الممارسات السحريّة.
التأمّل والاستغراق هما جوهر الممارسات الدينيّة، حتّى في التانتريّة، كما هو الحال في جملة التقليد البوذيّ. بواسطتها يستطيع السالك أن يعرف وحدة ذاته مع ذات المتعالي والإلهيّ. هناك إمكانيّات مختلفة لاستحضار الإله الذي يسعى المتأمّل أن يحصل على الاتّحاد به. يمكن استعمال مقطعٍ من اللغة مناسبٍ لذلك الإله. هذا المقطع يُعتبر بذرة الإله. فمن خلال التكرار المُلحّ لهذا المقطع يشتدّ توجّه الروح نحو هذا الإله. المقطع الموافق لإله معيّن هو هوم أو فات، والمقطع الموافق لإلاهة هو سفاها. وهناك عبارة تُعدّ من أشهر العبارات يُستدعى بها البوديساتفا أفالوكيتشفارا (وهو يناسب بوذا التاريخ)، ونصُّها هو التالي: أوم ماني بادم هوم.
ومن الوسائل المتداولة استعمال حلقات سحريّة تُدعى ماندالا، من شأنها أن تظهر الإله المنويّ استحضاره في صلة بعالم الروح وبالكون، فتأتي به في أحد مظاهره أو مفاعيله المحسوسة. كذلك القول في صور الآلهة، فهي يمكنها أن تساعد على التأمّل. ثمّ إنّ التأمّل قد ترافقه حركات معيّنة تساعد على استقطاب الذهن، كأن ترافق حركة الجسد تلاوة العبارات فتسهّل بذلك تأمّل الروح واستغراقه. فإذا تمّ التطابق مع الإله المستحضَر حصل جسد المتأمّل على قوى سحريّة تجيء من ثمّ، حسب نظريّة معقّدة، مرتبطة بأجزاء معيّنة من الجسد.
إلى جانب التأمّل تحظى العبارات السحريّة بإقبال شديد. فإنّها تستعمل للبلوغ إلى الكثير من الأهداف المتنوّعة، حتّى الأهداف التي بسبب طابعها الماديّ ليس لها حسب التقليد الأصليّ أيّة صلة بالخلاص.

خامسًا: البوذيّة في العصر الحاضر
نشأت البوذيّة القديمة وانتشرت في الهند، حيث أمكنها أن تثبت تجاه الهندوسيّة. ثمّ قامت حركة تبشير أدّت إلى انتشار الدين الجديد خارج الهند: في سريلانكا وبيرمانيا وتايلاندا، وفي الكاشمير وسوماترا. ولكن بين القرن الحادي عشر والثالث عشر تقلّصت البوذيّة في الهند واختفت، لأنّها لم تستطع أن تصمد أمام ضغط الهندوسيّة الناهضة. أمّا في سوماترا وآسيا الوسطى فقد دَحرها انتشار التانتريّة (في القرن التاسع) والإسلام (في القرن العاشر).
ولكنّ التيّار البوذي القديم تيرافادا صمد مع ذلك حتّى أيّامنا في سريلانكا وبيرمانيا وتايلاندا، وفي كامبودجيا واللاّوس. ويبدو أنّها تشهد في العصر الحاضر فترة ازدهار جديد. وقد أدّى الاتّصال بثقافة الغرب وحضارته إلى حركة تجديديّة أوضحت طاقة البوذيّة على التكيّف. والبوذيّة هذه بمؤسّساتها ومدارسها، بمستشفياتها والمؤسّسات الاجتماعيّة لها دورٌ هام في المجتمع. وقد تتدخّل أحيانًا الجماعة الرهبانيّة حتّى في شؤون البلاد السياسيّة، فتعرض حلولاً لشتّى القضايا تتناسب بحسب رأيها مع روح التعليم البوذيّ ومع خير الشعب، لا جرم أنّ في داخل الجماعة الرهبانيّة تنوّعًا في الآراء حول نشاط الرهبان الاجتماعيّ والسياسيّ. ففيما تودّ الفئات المحافظة المزيد من الانعكاف والانعزال والهدوء كي يتسنّى لها التفرّغ للتأمّل، تعتبر فئات أخرى أنّ الالتزام السياسي من واجب الرهبان، إذ هم مدعوّون لممارسة رأفة غير محدودة.
أمّا البوذيّة ماهايانا فقد نافست في الهند قرونًا طويلة البوذيّة القديمة، حتّى ُدحرتا كلتاهما على يد الهندوسيّة ومن جرّاء حملات الاجتياح الإسلامي. وظلّت الماهايانا ناشطة في الصين واليابان، وفي كوريا والفيتنام. وهي تقوم اليوم بنشاط اجتماعي مرموق وبالتزام سياسيّ واضح. في اليابان المتطوّر صناعيًّا تواجه البوذيّة ماهايانا القضايا المتعلّقة بالعلمنة، وعليها أن تثبّت أقدامها تجاه الشنتويّة التقليديّة.
أمّا البوذيّة التانتريّة فقد نشأت في الهند وانتشرت في الصين، وهي لا تزال اليوم قائمة خصوصًا في التيبت وفي مغوليا.
إلى جانب الهندوسيّة بغناها المذهل وطاقتها شبه اللامحدودة على احتضان ظواهر دينيّة مختلفة، وإلى جانب الإسلام بشهادته لله الواحد الأحد، الرحمان الرحيم، تكوّن البوذيّة في الشرق الأقصى دينًا يجب على المسيحيّة أن تدخل في حوار معه.
أجل يجدر بنا أن نحاور البوذيّة حوارًا صادقًا منفتحًا يتلقّن فيه الطرف الواحد من الآخر الكثير من ألوان الاختيار الروحي، ويتقبّل العون ويقدّم بدوره التعاون على الصعيد الدينيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ العام.
جدول زمني 
حوالي 560 – 480 ق.م. : بوذا
حوالى 480 ق.م. : المجمع البوذيّ الأوّل في رجاغريها
حوالى 380/370 ق.م : المجمع البوذي الثاني في فايشالي

324 – 187 ق.م : سلالة الموريا، خصوصًا حكومة الملك أشوكا التقيّ (272-236).
250 ق.م. : المجمع البوذي الثالث في باتاليبوترا. الانتشار في سريلانكا
35 – 32 ق.م. : تحديد الكتب البوذيّة القانونيّة في سريلانكا
بعد المسيح 
القرن الأوّل : نشأة الماهايانا (المَرْكبة الكبيرة)
القرن الثالث : انتشار البوذيّة القديمة في كمبودجا وأندونيسيا
منتصف القرن الثالث : ناغارجونا مؤسّس مدرسة طريق الوسط
نهاية القرن الرابع/ بدء القرن الخامس : أزانغا مؤسّس مدرسة أتباع اليوغا
القرن الخامس : انتشار البوذيّة القديمة في بورما
حوالي 522 : وصول البوذيّة إلى اليابان

القرن السابع : انتشار الماهايانا في بورما، والبوذيّة القديمة في تايلاندا
القرن السابع : نشأة التانتريّة
القرن الثامن : التانتريّة في الصين وانتشار الماهايانا والتانتريّة في أندونيسيا
حوالي 750 : التانتريّة في تيبت
نهاية القرن الثامن : الماهايانا في كمبودجا
منتصف القرن الحادي عشر : توجّه بورما إلى البوذيّة القديمة
نهاية القرن الثاني عشر : انقراض البوذيّة في الهند
القرن الثالث عشر : توجّه تايلاندا إلى البوذيّة القديمة – اللامائيّة التيبيتيّة في مغوليا
القرن الرابع عشر : انتشار البوذيّة القديمة في كمبودجا ولاوس. إصلاح البوذيّة التيبيتيّة ونشأة "الجماعة الصفراء"
القرن الخامس عشر : توجّه أندونيسيا إلى الإسلام
القرن السادس عشر : توجّه مغوليا إلى البوذيّة التيبيتيّة
1782 : المجمع الرابع للبوذيّة القديمة في تايلاندا
1871 : المجمع الخامس في مندلاي (بورما)
1954 : المجمع السادس في رانغون (بورما)

مصادر
Die Lehrreden des Buddha aus der Angereihten Sammlung Anguttara Nikaya, 5 vol., 3ème éd., Köln 1968.
E. Meier / A. Th. Khoury, Buddha für Christen, Freiburg 1986.
G. Mensching, Buddhistische Geisteswelt, Darmstadt 1955.
مراجع
A. Bareau, Buddhismus, in: Die Religionen Indiens, III (Die Religionen der Menschheit 13), Stuttgart 1964, 1-215.
E. Conze, Der Buddhismus, Wesen und Entwicklung, 4ème éd., Stuttgart 1971.
E. Frauwallner, Die Philosophie des Buddhismus, Berlin 1956.
K. Meisig, Der Buddhismus, 3ème éd., Freiburg 2003.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:19 am

الفصل الرابع
مدخل إلى اليهوديّة


أرنولد غولدبرغ (Arnold Goldberg)

من أراد اليوم أن يرسمَ ببضع صفحات ملامحَ اليهوديّة واجهته صعوبة مماثلة لتلك التي تواجه من يريد أن يرسمَ ملامح المسيحيّة. فالعودة إلى التاريخ ترينا كم من التبدّلات عرفتها اليهوديّة وكم من الوجوه اتّخذتها، حتّى في الزمن الذي كان فيه اليهود يسيرون في خطّ واحد في شتّى الأمور، على الأقلّ في ميدان الممارسة الدينيّة، خطّ "الهلاخا". منذ بداية الإصلاح اليهوديّ في القرن التاسع عشر والانحطاط الدينيّ العامّ في القرن العشرين، لم تعد الممارسة الدينيّة الرباط الموحِّد. ثمَّة يهوديّة يقال لها تقليديّة يتمّ فيها العيش والإيمان بصورة تامّة بموجب التقليد اليهوديّ، وثمّة يهوديّة محافظة ليست على هذا القدر من التشدّد، وثمّة يهوديّة ليبراليّة، وثمّة يهوديّة الإصلاح تشبه في تعابيرها اللاهوتيّة البروتستنتيّة وقد تكوّنت على مثالها، على غرار يهوديّة الأقدمين الرابينيّة.
ففي محاولتي الحديث بنوع عامّ عن اليهوديّة، سأتوجّه إلى يهوديّة الأقدمين الرابينيّة، أعني إلى تلك الحقبة من الزمن التي ارتسمت فيها، على ما يبدو لي، الملامح النهائيّة لوجه اليهوديّة. ومن ثَمَّ فإنّ محاولتي تهدف إلى رسم بعض الملامح لليهوديّة، تلك الملامح التي تنطبق على اليهوديّة بصورة عامّة.

1. ما هي اليهوديّة؟
اليهوديّة، كما نصادفها اليوم، هي حصيلة تاريخ طويل يمتدّ على أكثر من ثلاثة آلاف سنة. لا ندرك تلك الظاهرة إلاّ إذا عدنا إلى تكوين اليهوديّة بعيدًا في التاريخ، وهنالك نصادف مبدأين تكوّنت عليهما اليهوديّة: مبدأ العرق ومبدأ شعب العهد.
العرق هو نسل إبراهيم ويعقوب، النسل المختار. من وُلد في هذا العِرق هو يهوديّ. هذا هو الأساس الطبيعيّ. أمّا العهد فهو الذي يجعل اليهود شعبًا. فهم بقبولهم العهد مع الله في سيناء، صاروا شعبَ الله الذي تكوّن بحسب وصايا الوحي. العهد يقتضي منهم أن يكونوا شعبًا لكي يتمّموا بهذه الصفة مشيئة الله، ويكون الله من ثَمَّ حاضرًا في وسطهم. هذا يعني أنّ العهدَ يكوّن الشعب وذلك بصورة حتميّة. صحيح أنّ ذلك لا يكون بمعزل عن العرق، فالعرق هو الذي يعقد العهد، ولكنّ العرق لا يكوّن بذاته شعبًا. من هذا ينتج أنّه لا رجوع إلى الوراء من شعب العهد إلى شعب آخر. اليهود هم شعب العهد، وإلاّ لا يكونون شعبًا، ليس لهم وجود آخر. انطلاقًا من هذا يمكننا أن نفهمَ المسائل المطروحة باستمرار في اليهوديّة الحديثة والتي لم تجدْ لها حلاًّ في ما يتعلّق بالوجود الوطنيّ والدينيّ.
ولكن اليهوديّة لم تبلغ قطّ منتهى مسيرتها. صحيحٌ أنّها لا تعدّ دينًا شموليًّا على غرار المسيحيّة، وإن جرت محاولات في القديم في هذا الشأن، ولكنّها قد قبلت باستمرار ما أمكنها من الدخلاء. وقد حدث ذلك في القديم، بحيث إنّ عددَ الدخلاء قد فاق بعدّة أضعاف نسل إبراهيم.
يصير الدخيل عضوًا جديدًا في العرق. من البديهي أنّه ليس ابنَ إبراهيم ولا يستطيع أن يصير ابن إبراهيم. ولكنّه يدخل في العهد ويقبل التوراة. وبذلك لا يلتزم بحفظ الوصايا وحسب – فالتوراة لا تقتصر على الوصايا – أو بالإيمان فقط بإله واحد، بل يعتنق أيضًا تاريخ الشعب اليهوديّ، هذا التاريخ الذي يؤمن به الآن. صحيحٌ أنّه لا يستطيع أن يقول: "الله الذي أخرج آبائي من مصر"، إذ إنّ آباءه لم يكونوا هناك. بيد أنّه يؤمن بأنّ هذا الإله قد أخرج الإسرائيليّين من مصر، ويجعل تاريخهم تاريخَه، تاريخًا مهمًّا لحياته، وإلاّ لا يمكنه أن يُعَدّ من اليهود. ومن ثَمّ فإنّه يصير ابنَ إبراهيم بحسب الروح ومن خلال الإيمان.

2. الإيمان بالله
اليهوديّة هي إذن قبل أيّ أمر آخر تاريخٌ يؤمن به المرء. فالله لا يُعلَّم ولا يؤمن به الناس بصورة مجرَّدة في عقائد دينيّة، هذا ما تفعله فلسفات الدين، بل في علاقة تاريخيّة: الله الذي خلق العالم، والذي اختار الآباء، هو الذي خلّص إسرائيل. ولكنّ الوعدَ بأنّ ما لم يفعله الله علنًا لم يصرْ بعد تاريخًا، هو رجاء بتاريخ للمستقبل.
إنّ هذا المفهوم لله وللعالَم في ارتباط تاريخيّ قد يسهل نسبيًّا علينا نحن أبناء القرن العشرين، ولكنّ هذه النظرة إلى العالم في القرن الأوّل قبل المسيح كانت أمرًا جديدًا، تمّ فيه الخروج على الفكر الأسطوريّ وعلى العبادة المرتبطة به وما ينطوي عليه من تصوّر متكرّر للأسطورة. وعوضًا عن ذلك وُضِع خطّ زمنيّ مستقيم كوّنت معالمَه أحداث تاريخيّة لا يمكن أن تتكرّر.
لذلك لم يكن لليهوديّة أيّ قانون إيمان خاصّ بها؛ المحاولة الأولى لصياغة مثل هذا القانون قام بها ابن ميمون في القرن الثالث عشر. صحيحٌ أنّ هذه البنود الثلاثة عشر التي وضعها ابن ميمون قد صارت جزءًا من الليترجيا، ولكن يصعب القول إنّها قد اكتسبت أهميّة فائقة. فبصرف النظر عن بعض الأمور الملزمة التي حدّدها الفرّيسيّون: مثل وحدانيّة الله، ووحي التوراة، وقيامة الموتى، لا وجود في اليهوديّة لأيّ قانون إيمان، ولا لأيّ مضمون عقائديّ محدَّد، يكسب رضى الله ويكون على نحو ما قانون إيمان يقود إلى الحياة الأبديّة. الإيمان بالله الواحد مطلوب، ولكنّه ليس إيمانًا مجرّدًا. إنّ فلاسفةَ الدين المتأخّرين هم الذين تحدّثوا عن كيان الله الواحد. المطلوب إنّما هي "الإيمونا"، التي تُترجَم عمومًا بالإيمان، ولكن من الأفضل ترجمتها بالأمانة والثقة. فموضوع الإيمان ليس ما هو الله بل كيف هو الله، وما الذي صنعه وكيف صنعه. موضوع الإيمان هو برّه وهدايته. وهذا الإيمان ليس على الإطلاق استسلامًا لقدر شاءه الله، إذ إنّ اليهودي مستعدّ دومًا لأن يصارعَ إلهه، كما فعل يعقوب الذي نال اسمَ إسرائيل، أي مصارعَ الله – ولكن دومًا في الثقة (فالصراع الآخر هو الشقاق الذي لا يصدر عن الثقة بل عن الرّيبة). ولكنّ المطلوبَ ليس فقط الثقة بل أيضًا المحبّة والتعلّق. هذه المحبّة تنطوي طبعًا على جهات كثيرة. ولكنّها قبل أيّ أمر آخر استسلام كامل لله، كما جاء في تفسير المشنا (بيراخوت 11: 5) لما ورد في سفر تثنية الاشتراع 6: 5: "أحبب الربّ إلهكَ بكلّ قلبك – أي لا يكن شيء آخر في قلبكَ، حتّى مع أميالك الشريرة (وهذا يعني: لا يقل الإنسان: ما دمتُ خاطئًا لا أستطيع أن أحبّ الله)؛ بكلّ نفسك – أي حتّى لو أخذ حياتكَ؛ بكلّ قدرتكَ – أعني بكلّ ما تملك، أو بكلّ ما وهبكَ إيّاه".
إنّ التصوّرَ الشائع لإله اليهود المقيم في أعالي السماء بعيدًا عن الإنسان، وفي معظم الأحيان غاضبًا، هذا التصوّر لتسامي الله المطلق، الذي نصادفه أحيانًا عند فلاسفة الدين اليهود، هو تصوّرٌ خاطئ. لا وجود لصورة مُلزمة عن اله – لا عقيدة يمكن أن تقول أكثر من تأكيد وحدانيّة الله -، ومن ثَمَّ يستطيع كلّ يهوديّ أن يتصوّر الله كما يشاء: فالقبّاليّ يراه "غير محدود"، فهو وراء هذا العالم ولا يمكن أن يدركَه الفكر البشريّ، والذي يصل إلى أعماق الكون السفلى – هذا التصوّر هو تصوّر الأفلاطونيّة الحديثة أكثر ممّا هو تصوّر اليهوديّة؛ الروحانيّ المركبيّ يتصوّر إلهه ككائن يجلس على عرش في أعالي السماء محاطًا بكائنات سماويّة لا تُحصى؛ الفيلسوف يحلو له النظر إلى الله كإلى روح محض. ولكن عندما نتحدّث عن اليهوديّة الرابينيّة، التي حافظت على تصوّر الله بحسب التقليد الصحيح لليهوديّة الكتابيّة، في هذه الحالة يجب التخلّي عن السؤال عن تسامي الله عن الكون أو عن حضوره فيه. هذه المصطلحات هي مصطلحات فلسفيّة غريبة عن اليهوديّة الرابينيّة. فهذه لم تهتمّ كثيرًا للتصوّرات التي نصادفها مرارًا في الكتاب المقدّس والتي تصف الله بأوصاف بشريّة. فالله يُصوَّر أو يظهر في وجه مختلف، ليتيح للعين أو للأذن أن تُدرَكه.
ربّما يكون مور (G.F. Moore) على حقّ في قوله إنّ الرابيّين، وكثيرًا من اليهود التقليديّين اليوم، يرون الله فوق العالم ولكن ليس خارج العالم. لا شكّ أنّنا نصادف في تنظيرات الأقدمين الدينيّة فكرةَ الله الكائن قبل الخلق والله الكائن وراء مجال الكون – ولكنّ الرابيّين قد أشاروا في هذه التنظيرات إلى أنّ هذا الميدان لا يمكن أن يدركَه العقل البشريّ، وأنّ الانشغالَ به لا يمكن أن يؤدّي إلاّ إلى تضليل الفكر.
مهما يكن من أمر فإنّ الله لم يكن، بالنسبة إلى الرابيّين، خارج العالَم إلاّ إلى حدّ قليل، بالمقارنة مع ما كان بالنسبة إلى اليهوديّة الكتابيّة. فالله يسعى بالحريّ إلى جماعة البشر، وقد كان حاضرًا حضورًا حقيقيًّا وسط إسرائيل في الهيكل. إنّ حضور الله هذا، الذي يصفه سفر تثنية الاشتراع "بسكنى الاسم"، يصفه الرابيّون بلفظة "شكينا" ومعناها "السكنى". فالشكينا هي الله من حيث هو حاضر بين البشر في الهيكل. الشكينا تتماهى مع الله، أي إنّها ليست على الإطلاق كائنًا منفصلاً عن الله؛ وهي لم تُعبَد قطّ، ولا أُطلقت عليها صفات الله. وهي لا تعمل بصورة مستقلّة إلاّ من حيث إنّها توحي بذاتِها. والله يبقى في هذا التصوّر دونما تغيير في السماء. إنّ الله الساكنَ في السماء يُنعَت في بعض الحالات كشكينا، إمّا لأنّ الإنسان يتصوّره مقيمًا هناك، وإمّا لأنّه يطبّق تصوّر الهيكل على السماء. فإنّ موضعَ الشكينا هو الهيكل، هناك ميدانها. ولكنّ الشكينا ليست في الهيكل بفضل الموضع بل بفضل الجماعة، ليست من أجل المكان بل من أجل البشر.
انطلاقًا من الشكينا، بحسب رأي الأكثريّة، في الهيكل، تمّ تصوّر الروح القدس، روح النبوّة، ولذلك انقطعت النبوّة مع تدمير الهيكل. ولكنّ الروح القدس، بخلاف الشكينا، لا يتماهى مع الله، وليس له كيان مستقلّ؛ والنصوص المتأخّرة تكاد لا تفرّق بين الأمرين، فالشكينا تمتصّ على نحو ما الروح.
في اليهوديّة الرابينيّة غلب الرأي القائل إنّ الشكينا لم تغادر قطّ الشعب اليهودي. فبعد دمار الهيكل انطلقت معهم إلى السبي، ولم يعد لها أيّ موضع بعد. صحيحٌ أنّه لا يدور الكلام على ألم الشكينا، ولكنّ التصوّرات اقتربت كثيرًا من هذا الموضوع. وبالتالي فإنّ خلاص إسرائيل لا يتمّ من أجل إسرائيل وحسب بل أيضًا من أجل الشكينا، فيجب أن يخلّص الله نفسَه أيضًا على نحو ما. ثمّ إنّ الشكينا تحتلّ في تصوّر الأمور المعادية موضعًا مركزيًّا. ففي الخلاص الأخير ستعتلن الشكينا في وسط الشعب. أو إنّها، على غرار عمود الناس قديمًا في الصحراء، ستتقدّم إسرائيل وتعود بمجد إلى أورشليم. (هنا تأخذ الشكينا مكان المخلّص، ويعود الماسيّا من جديد في صورة المخلّص).
ولكن في هذه الأثناء الشكينا هي في الشعب اليهوديّ. إنّها حاضرة في كلّ جماعة تصلّي، إنّها في وسط القضاة وتنير أحكامهم، بل هي لدى كلّ فرد يتعلّم ويصلّي. ومن ثمّ فالله ليس بعيدًا عن اليهودي، إنّه قريبٌ منه كلّ القرب، بل يمكن القول إنّ ثمّة شركة مصير بين الله وشعبه، فهو لا يتوارى عن شعبه.
تعترف اليهوديّة بالله على أنّه واحد، ولا تستطيع بالتالي أن ترى فيه إلاّ مشيئة واحدة. ولكن كيف يكون الله من جهة الأب الكليّ الصلاح والمحبّ الرحيم، ومن جهة أخرى القاضي الصارمَ والعادل؟ توضح اليهوديّة الرابينيّة هذا الأمر أحيانًا بصورة مجازيّة، وأحيانًا تستخدم الاستعارة للكلام على طرق الله أو صفاته. فثمّة لدى الله طريقة الرحمة وطريقة الحقّ الصارم، وهما مرتبطتان باسمَي الله، أعني إلوهيم ويهوه. فبحسب طريق الحقّ الصارم، لا يستطيع أيّ إنسان أن يثبت، ولذلك لا يسري مفعول هذه الطريقة إلاّ على المجرم. وفي ما سوى ذلك يُقاد العالم ويُدان بحسب طريقة الرحمة.
إنّ التوحيد الإلهيّ يؤكَّد منذ البدء بكلّ شدّة. في هذه الحالة تظهر مشكلة الشرّ والكيان الإلهيّ بحدّة كبيرة، ولا سيّما بعد التلاقي مع الأنظمة الثنائيّة، سواء أكان نظام الفرس أم نظام الغنوصيّين، والتي تُرفَض كلّها. ويورد اللاهوت الرابينيّ القديم قول الله في سفر أشعيا النبي: "أنا مبدع النور وخالق الظلام، وصانع الهناء وخالق الشقاء" (أشعيا 45: 7).

2. الشرّ والشيطان
وبهذا يُقصى وجود مبدإ ثانٍ شرّير. فالشرّ الموجود في العالم والذي لا يأتي من الإنسان، هو من الله، الذي على الأقلّ يسمح به. وبالتالي فإنّ للشيطان في اليهوديّة دورًا ثانويًّا. ومصدره تفسّره شتّى التيّارات في اليهوديّة الأولى بصورة مختلفة. ولا يظهر كملاك ساقط إلاّ في الأسفار الرؤيويّة وعلى هامش اليهوديّة الرابينيّة. ففي اليهوديّة التقليديّة يظهر منذ القديم أنّه المدّعي العام الذي يتّهم الإنسان، فهو لا ينعم بتقدير الله بل دومًا بسماح الله من أجل البرّ. فبصفته مدّعيًا يسائل الإنسان، وهكذا فهو خاضع "لطريقة الحقّ الصارم". وفي بعض النصوص يصعب التمييز بين "طريقة الحقّ الصارم" والمدّعي. فإذا نظرنا عن قرب إلى الموضوع، تبيّن لنا أنّ الشيطان يمثّل مطلبَ قداسة الله. فسؤاله هو: "ما الإنسان حتّى تذكره؟" (مزمور 8: 5). فالإنسان واقع تحت حكم الخطيئة ومتمرّد وكاذب – هكذا يراه الشيطان. وقد يحدث أنّ الله يعطي الشيطان فرصة ليمتحنَ الإنسان. في هذه الحالة يجري ما نعرفه من سفر أيّوب. الشيطان، في سفر أيّوب بالضبط، يكاد لا يكون سوى انعكاس لشكّ الله بالنسبة إلى الإنسان، كما تبيّن ذلك بدقّة رفقة شيرف ، وهو ليس فقط مجرّبَ الإنسان، بل أكثر من ذلك هو مجرّب الله.
حيث يُفسَح في المجال للشيطان، ليجرّبَ الإنسان، قد يحدث أن يتألّم إنسان بارّ بريء. هذا ما اعترفت به اليهوديّة منذ البداية. بل إنّ شاعرًا يهوديًّا معاصرًا، بير- هوفمان (Beer-Hoffmann)، قد تحدّث عن مسؤوليّة الله في هذا الأمر، من دون أن نتمكّن من القول إنّه تخطّى بذلك إطار اليهوديّة. ولكن متى كان هذا الألم أيضًا بريئًا، فهو بدون خطيئة. فذبيحة إسحاق، تلك التجربة التي يتعرّض لها الإنسان، والتي لا تفسير لها، قد صارت في اليهوديّة مثالاً للألم الذي ينطوي على المصالحة والتكفير. وقد حدثت بالضبط في موضع هيكل المستقبل على جبل صهيون. إنّ ألم الإنسان البارّ يثير عطف الله ويُنشئ هكذا التكفير، يستر خطايا الجماعة. منذ زمن المكابيّين الذي ظهر فيه أوّل شهود للإيمان – والكنيسة الكاثوليكيّة أيضًا تكرّم هؤلاء الإخوة المكّابيّين السبعة الأسطوريّين -، نشأ نوع من لاهوت الألَم، يرى في ألم الإنسان البارّ، وأيضًا في ألم الجماعة الذي يُحتمَل عن رضى، قيمة القِيام مقام الآخرين. وبقي للمسيحيّة أن تذهبَ بلاهوت الألم إلى نتيجته القصوى.

3. صورة الإنسان
هذا النهج الفكريّ "الأحاديّ" كان لا بدّ أن تقابلَه أيضًا صورة الإنسان. فالإنسان خُلق وحيدًا بحسب وحدانيّة الله. وبالتالي فكلّ الناس متساوون في القيمة، بل إنّ البشريّة كلّها متضمّنة في الإنسان الفرد، إذ إنّها أتت من إنسان واحد. صحيحٌ أنّ اليهوديّة الرابينيّة تعلّم أنّ الإنسان مكوَّن من جسد ونفس، ولكنّها تُعنى باجتناب التجزئة والانقسام إلى اثنين. فالإنسان لا يكون كاملاً إلاّ بالجسد والنفس، باعتباره وحدة، ولذلك في القيامة سيعاد الإنسان كاملاً. أمّا التمييز الحادّ بين الجسد والنفس والروح فلم يرد إلاّ في الاعتبارات الفلسفيّة اللاحقة، ولكن من دون المسّ بوحدة الإنسان.
من الطبيعي أن تعارضَ اليهوديّة الرابينيّة تعاليم الثنائيّة التي تفصل الجسد عن الروح. فالإنسان صالحٌ كما خلقه الله، ولم يحدث أيّ سقوط للروح أغلق على النفس في سجن الجسد. ولكن، بما أنّ اليهوديّة بعيدة كلّ البعد عن العقائد الملزمة، فقد أتيح لمثل هذه الآراء أن تنمو على الهامش. فإلى جانب التصوّر السائد بأنّ الله يخلق لكلّ جسد نفسَه، ثمّة أيضًا محاولات تعتبر أنّ كلّ الأنفس قد خُلقت منذ البدء. أمّا في اليهوديّة الرابينيّة فلا نصادف أيّ وجود سابق حقيقيّ للأنفس ككائنات روحيّة، تستمدّه الأنفس في الواقع من الله. وهكذا فالنفس ليست أيضًا روحًا محضًا تحمل مرغمة نيرَ الجسد وتسعى إلى العودة إلى دائرة الروح.
على نحو مماثل يتوافق مع الفكر "الأحاديّ" أنّ إمكانيّة فعل الشرّ ليست قائمة خارج الإنسان – أو حتّى مسندة إلى الجسد – بل في الإنسان نفسه. فالإنسان مخلوق مع ميلين: "الميل الصالح" و"الميل الشرّير". ويستطيع أن يقرّر بحريّة بين الاثنين، ولكنّهما جزءان من ذاته. "الميل الشرّير" ليس شرّيرًا بحدّ ذاته – وإلاّ كان الإنسان منذ البدء خاضعًا للشرّ – إنّما هو القدرة على الشرّ. بعض الرابيّين يعدّونه تماهيًا مع الأميال الإنسانيّة، فيقولون إنّ هذا الميل ضروريّ للحياة، بيد أنّ فسادَه هو الذي يقود إلى الشرّ. هنا أيضًا نرى تأثير ضآلة العقائد في اليهوديّة؛ وفي هذه الحالة فإنّ الآراء لا تبدأ تتصلّب إلاّ إذا تعرّضت أسس الدين للخطر من خلال تأثيرات غريبة.
تعرف اليهوديّة طبعًا خطيئة الإنسان الأوّل وعواقبها الفعليّة. فبسببها صار الإنسان مائتًا. ولكنّها لم تقبلْ يومًا فكرةَ الخطيئة الأصليّة، وكأنّ الإنسان قد صار منذ ذلك الوقت في حالة من الخطيئة وغير قادر من ذاته على فعل الخير. وكذلك بالنسبة إلى تحديد الإنسان ثَمَّة أقوال مختلفة، بحسب ما تكون صورة العالم مرتكزة على الإنسان الذي يُعَد محور الخليقة أم على الله، بحيث يُعدّ الله محورَ الخليقة. فالذين يرون المحورَ في الإنسان يُبرِزون شركة الإنسان مع الله. وهذا الرأي الأخير هو الذي غلب، بحيث إنّ الإنسان يُنظَر إليه على أنّه مُعَدّ ليحيا إلى الأبد في الفردوس أمام وجه الله، أعني في شركة مع الله. إنّ الله يسعى إلى الشركة مع الناس، التي هي قصد الخلق. وإذا لم يستطعْ أن يخلقَ تلك الشركة، فالخليقة لا تكتمل إلاّ في التاريخ، أعني بقدر ما تتحقّق الشركة مع الله.
غير أنّ ملكوت الله هو أيضًا جزء من هذه الشركة. الله، ما دام هو الله، فهو ملكٌ على الناس. لا شكّ أنّ الملكوت هنا يجب أن يُفهَم كصورة، كتعبير عن السيادة، ولكنّه ملكوت حقيقيّ ومملكة.

4. الملكوت: اليهوديّة والشعوب الأخرى
فإذا كانت البشريّة مُعدّة أصلاً لتقبّل الله في وسطها، كيف يكون وضع الشعب اليهوديّ؟ ما هو موقعه بين الشعوب؟ إسرائيل هو الشعب الذي أخذ على عاتقه نشرَ ملكوت الله بين جميع الشعوب، لهذا اختاره الله، ولهذا أراد الله أن يكونَ حاضرًا في وسطه. والسؤال ماذا يكون من أمر الشعوب الأخرى، قد تمّت الإجابة عنه بصورة مختلفة بحسب الزمن والأوضاع – ولكنْ ثَمّة أمرٌ واحدٌ أكيد وهو أنّها بالنظر إلى إسرائيل لا تُعَدّ شعوبًا، فالله ليس له سوى شعب واحد، وبقدر ما تقبل هذه الشعوب الله ملكًا عليها، تصبح إسرائيل وليس شيئًا آخر. هذا لا يعني أنّ الأمم قائمة خارج أيّة علاقة بالله، بل هي "أبناء نوح"، وهي مرتبطة بالله من خلال العهد مع نوح. فتُطبَّق عليها وصايا نوح التي تحتلّ حيّزًا واسعًا في تفسير الرابيّين: كالنهي عن سفك الدماء وعن عبادة الأصنام وعن الزنى وعن السرقة، ووصيّة القضاء. الحفاظ على وصايا نوح يقود الأمم إلى التبرير.
يجب النظر إلى علاقة اليهوديّة بالعالم غير اليهودي من ناحيتين: ناحية المعاد وناحية الخبرة المباشرة. فالترقّب المعادي يتوقّع تدفّقًا أخيرًا للشعوب نحو أورشليم، حيث تكون نهايتها. من هذه الناحية فالشعوب الوثنيّة هي أعداء الله وهي حتمًا مجموعة هالكة – وليس لها نصيبٌ في الحياة الآخرة. الاختبار المباشر للمحيط الوثنيّ يمكن فقط أن يثيرَ البغض، واللقاء مع العبادات الوثنيّة لا يستدعي إلاّ الازدراء. وهذا الاختبار يقابل في هذه الحالة انتظارَ نهاية الأزمنة. ولكن في الحقيقة فإنّ فكرة الاختيار لا تتضمّن حتمًا نبذَ غير المختارين.
الله هو إذن ملك في إسرائيل. ومن ثَمّ تُعتبر اليهوديّة بأنّها اعتناق "لنير ملكوت السماوات". وهذا يحدث بالمعنى الحصريّ لدى قراءة قول سفر تثنية الاشتراع: "اسمعْ يا إسرائيل: إنّ الربّ إلهنا هو ربّ واحد" (6: 4)، يُضاف إليه الجملة التالية: "لتكن سيادة ملكوته مباركة إلى الأبد". من ينطق بهذه الأقوال يعتنق نيرَ ملكوت السماوات، إذ يعترف بالله الواحد، ويقبل الله ملكًا عليه. إنّ مطلب سيادة الله يقوم في كلّ حال بأنّ الله هو ملك، سواء قبله الإنسان أم لم يقبلْه؛ ولكن إذا لم يقبل الإنسان الله، فالله لا يستطيع إلاّ أن يتصرّفَ بحسب "طريقة الحقّ الصارم"، أعني أن يُسلِمَ خليقته إلى الهلاك، ولن يبقى في هذه الحالة أحد يمكن الله أن يملك عليه. وإذا قبلَ الإنسان الله ملكًا، يحقّق ملكوت الله في مجاله، والشعب يحقّق ملكوت الله في مجاله، إلى أن تعتلنَ أخيرًا سيادة الله وتصبحَ منظورة في العالم، فيُمجَّد الله، وهكذا يُفسَح له في المجال، وتصير أيضًا الشركة مع الله ممكنة، ويستطيع الله في النهاية أن يصيرَ حاضرًا حضورًا علنيًّا في وسط البشر – وهكذا يتحقّق قصد الخلق. ومن ثمّ فإنّ مجال مصطلح "ملكوت السماوات" يمتدّ من القبول الشخصيّ لسيادة الله إلى الاعتلان النهائيّ في نهاية الأزمنة للملكوت في القدرة والمجد وسط البشر.
5. الإيمان والعمل
إنّ قبولَ ملكوت الله هو شرطٌ لكلّ عمل دينيّ. وبتعبير آخر يمكن القول: الإيمان هو شرط العمل. ولكن لا يمكن فصل هذا الإيمان عن العمل وجعله قائمًا في ذاته. وبالتالي فإنّ قبول "نير ملكوت السماوات" يتبعه قبول "الوصايا".
كثيرًا ما أُسيء فهمُ اليهوديّة بأنّها دين شريعة. إنّ تنظيمَ الحياة الدقيق من خلال الأوامر والنواهي والاحترام المتقن لأصغر الأحكام، ولا سيّما في ميدان الطقوس حيث لا يمكن إدراك معنى الوصايا الموضوعيّ، قد يثير في الواقع هذا الشعور. ولذا يمكن القول إنّ اليهوديّة هي دين العمل القويم. لا شكّ أنّ ثمّة خطر التصلّب، والضياع في عمل لا فكر فيه، وهذا خطرٌ بشريّ. ولكنّ تتميمَ الوصايا، أعني العمل بموجب الوصايا، لا معنى له سوى تقديس الإنسان، كما جاء في سفر الأحبار: "كونوا قدّيسين، فإنّي أنا قدّوس" (11: 44). الإنسان القدّيس وحده قادرٌ على الشركة مع الله. بيد أنّ القداسة تشمل كلّ ميادين الحياة، وليس فقط الميدان الطقسيّ. يمكن القول إنّ الإنسانَ لا يستطيع أبدًا في الميدان الطقسيّ الحصولَ على القداسة الموافقة، وإلاّ وجب عليه أن يصيرَ مثل الملائكة. القداسة الموافقة حقًّا للإنسان لا يحصل عليها إلاّ في ميدان العدل، حيث يظهر على حقيقته: في التعامل مع قريبه. ولذلك يقول أيضًا الرابيّون، تعليقًا على قول سفر تثنية الاشتراع: "إيّاه تعبدون وبه تتعلّقون" (13: 5): "يستحيل على الإنسان التعلّق بالله الذي هو نارٌ آكلة. بل على الإنسان بالحريّ أن يجعلَ من طريقة الله طريقتَه الخاصّة: فكما يطعم الله الجياع، هكذا فليطعم هو أيضًا الجياع، وكما يكسو الله العراة، هكذا فليكسُ هو أيضًا العراة…".
ولكن من الخطإ إقامة تناقض بين حياة العمل والحياة الطقسيّة، كما قد يحدث أحيانًا في جهل تامّ لجوهر الوصايا. فإنّ أصغرَ الوصايا، كغسل اليدين قبل الأكل، تؤدّي هي أيضًا إلى قداسة الإنسان. ولكن ليس مجرّد العمل هو الذي يقدّس بل أيضًا النيّة. وهذه النيّة في تتميم الوصايا يعبّر عنها الإنسان باعتناقه نيرَ السماء وتتميمه الوصايا وخضوعه لسيادة الله. لذلك قبل تتميم أيّة وصيّة، تقال صلاة بركة يتمّ فيها اعتراف بالله ملكًا على العالم. ومن ثَمّ يمكن القول إنّ الحياة التي يحياها اليهوديّ بصورة قويمة هي حياة شعائر العبادة.

6. التوراة
في وسط هذه الحياة اليهوديّة تقوم التوراة، التعليم الموحى. فمن التوراة أوّلاً يعرف المرء ما الذي يجب أن يفعله وكيف يجب أن يعيش. وهي بالمعنى الحصريّ الأسفار الخمسة الأولى، وبالمعنى الواسع الكتاب المقدّس كلّه، وأخيرًا سياق الكتاب المقدّس في التقليد الشفويّ، وبالتالي مجموعة التقليد المكتوب والشفويّ، كلّ العلم الدينيّ الذي تمّ على مرّ القرون تدوينه في الأدب التراثيّ. من الخطإ عدّ التوراة "شريعة"، وذلك ليس فقط لأنّ هذا غير صحيح في الواقع، فالتوراة هي أيضًا ما أُوحي من تاريخ وحكمة وشعائر عبادة. في التوراة يلتقي اليهوديّ بالحريّ الله ويتعرّف على مشيئته وطريقته، إنّها بالنسبة إليه كلام الله وتعليم الحكماء ووحي محبّة الله للشعب وعربون هذه المحبّة. فيها يجد الإجابة عن كلِّ أسئلته. إنّ البحث في التوراة ومعرفتَها وفهمَها قد صارت في إسرائيل القديم مثالاً للتربية، كما ورد في المزمور الأوّل: "بل في شريعة الربّ مسرّته، وفي شريعته يهذّ نهارًا وليلاً". وبعد تدمير الهيكل صارت التوراة بنوع أشدّ موضع اللقاء مع الله.
إنّ دراسةَ التوراة هي فريضة، فيُطلَب من كلّ يهوديّ أن يتعلّم وسع طاقته، ومن ثمّ فاليهود هم في الواقع أهل كتاب – وقد كانوا كذلك على الأقلّ حتّى زمن غير بعيد. ولكنّ هذا التعلّم ليس مجرّد تعلّم عقليّ وتمكّن من المادّة التي يشكّل تعقيدها عادة تحدّيات كبيرة لعقل الإنسان، بل هو تعلّم ليتُرجيّ، تعلّم هو بمثابة عبادة الله. وبذلك فأضعف الناس فكريًّا له نصيب في التعلّم. ويتلقّى فصلاً من التعلّم في ليتُرجيّا صلاة الصباح اليوميّة، ولكن في الوقت عينه من غير المستحبّ استخدام الدراسة كوسيلة لهدف، للحصول على الإكرام أو على وظيفة. الدراسة هي دومًا هدف دينيّ في ذاته. والتوراة هي أيضًا ما يجمع اليهوديّة على هذا النحو. لم يعد هناك منذ ألف سنة أيّة مؤسّسة مركزيّة لليهوديّة. ما حفظ جماعة اليهود إنّما هي الحياة بحسب التوراة، كما يأمر به التقليد وكما يعلّمه العلماء بالتوافق مع التقليد. إنّ سلطة العلماء مؤسّسة فقط على أنّ قراراتهم يُعترف بها عمومًا بأنّها تعبير صحيح عن التوراة.

7. صلاة الجماعة
في وسط حياة الجماعة تقوم عبادة الله الحقيقيّة، صلاة المجمع الطقسيّة. منذ تدمير الهيكل لم يعد هناك تقديم ذبائح ولا ميدان مقدَّس داخل هذا العالم، يمكن أن يقفَ فيه اليهوديّ ليصلّيَ ويقرّب الذبيحة مباشرة أمام الله. فلم يبقَ إلاّ الصلاة. هذه الصلاة موجَّهة دون شكّ إلى موافقة صلاة الهيكل ولكنّها لا تحلّ محلّها. إنّها صلاة علمانيّين، والكاهن، الذي هو من نسل هارون، لم يعد له في هذه الصلاة أيّة وظيفة سوى أنّه يمنح البركة الكهنوتيّة. الجماعة تقوم حيث يجتمع للصلاة عشرة يهود بالغين من الرجال. المتقدّم في الصلاة، المكلَّف من بين العلمانيّين بهذا الأمر في الجماعات الصغيرة، هو فقط المسؤول عن الجماعة، وهو يتلو الصلاة باسمها. مرّتين في اليوم تلتئم الجماعة للصلوات الثلاثة المفروضة، ومن المستحبّ الصلاة مع الجماعة، بل إنّ ثمّة صلوات محدّدة لا تمكن تلاوتها إلاّ ضمن الجماعة.
في صلاة الجماعة يكون الله، الشكينا، حاضرًا. غير أنّ هذا الحضور ليس حضورًا مقدَّسًا، ليس حضورًا يمكن التعبير عنه من خلال صلاة خاصّة أو تصرّف خاصّ، كما كان يحدث قديمًا في الهيكل. ومهما يكن من أمر فالمصلّي يقف أمام الله وليس أمام إله الجماعة الحاضر فيها والقريب منها، بل أمام إله السماء الذي يصلّي له. بل أكثر من ذلك إنّ التسبيح القدّوس الثلاثيّ الذي تنطق به الجماعة يدخل في تسبيح الكائنات السماويّة، الملائكة والسيرافيم.
صحيحٌ أنّ صلاة الجماعة منظّمة، فثمّة محاولات لأعمال طقسيّة، ولا سيّما في الأعياد، كما يُحتفل بها في إطار الليترجيّا البيتيّة، كالعشاء الفصحيّ مثلاً، إلاّ أنّ الصلاة اليهوديّة لا تتضمّن أيّة أعمال رمزيّة. ففي العبادة الطقسيّة لا يحدث شيء يعبّر عن حقيقة أرفع وأعمق من خلال كلمات أو حركات أو علامات، أو يؤدّي تكراره إلى ما لا تبصره العين. يمكن القول إنّ الرمز غريب عن اليهوديّة. هذا يسهل فهمه إذا فكّرنا أنّ اليهوديّة هي ديانة تاريخ. فالحدث التاريخيّ فريدٌ ولا يمكن تكراره. ومن ثَمّ فالعلاقة في اليهوديّة لها دومًا وظيفة "الذكر" والتذكار. فعيد الفصح البيتيّ هو مثلاً تذكارٌ للخروج من مصر وليس على الإطلاق تكرارًا رمزيًّا. وإن كانت ليلة الفصح بالنسبة إلى الكثيرين هي وقت خاصّ جدًّا محاطٌ بالسرّ، وينتظر الكثيرون فيها الخلاص من السبي، فمع ذلك لا يحدث شيء يمكن أن يكونَ تكرارًا. فالحدث التاريخيّ لا يمكن تكراره.

8. الخطيئة والتوبة
إنّ تتميم الوصايا يكتسب به الإنسان الاستحقاق أو التبرير. وتعني هذه اللفظة ما يؤدّي إلى التطهير في يوم الدينونة. فالخطيئة تحمّل الإنسان ذنبًا. الخطيئة هي أوّلاً تمرّد على الله، ورفضٌ لنير الملكوت وللوصايا. ولكنّ كلّ مخالفة هي في ذاتها خطيئة؛ والذنب الموضوعيّ، أعني التصرّف الخاطئ عن جهل أم عن خطإ، هو أيضًا خطيئة موضوعيّة، ويحتاج إلى تكفير. (نميل اليوم إلى التقليل من أهميّة هذا الخطإ الموضوعيّ. ولكن يجب ألاّ نُغفل أنّ الخطيئة غير المقصودة تنوء بثقلها على الإنسان الذي يعيش حياة طقسيّة. وعلم نفس الأعماق يمكن أن يعلّمنا الكثير في هذا الموضوع). ولكن إذا كان الخطأ ممكنًا، ويجب دومًا اجتنابه، فمع ذلك توصّلت اليهوديّة تحت وطأة الاضطهادات إلى وضع حدود قصوى لا يجوز في أيّة حالة تجاوزها: فعبادة الأصنام وسفك الدّم والزنى، هذه هي الآثام الثلاثة التي هي أثقل من مطلب الإنسان بالحفاظ على حياته الخاصّة. يمكن عدّها الخطايا المميتة الحقيقيّة، ومن الأفضل أن يخسرَ الإنسان حياتَه من أن يقترف تلك الخطايا.
نكاد لا نستطيع القولَ إنّ الخطيئة تغيّر الإنسانَ في كيانه. ولكن ثمّة محاولات لمثل هذه التصوّرات. فالخطيئة تقلّل من قداسة الإنسان وتجعله غيرَ قادر على الاقتراب من الله. فبعد أن دُمِّر الهيكل وصار من المستحيل إجراء طقوس التكفير كما يأمر بها الكتاب المقدَّس، لم يبقَ لليهوديّة سوى الارتداد كأداة تكفير وممارسة التوبة التي تُترَك للتقدير الشخصيّ. الارتداد عن الطريق الخاطئ أو الشرير، والرجوع إلى الله، يكفّران عن كلّ الخطايا. وفي رأي الرابيّين يقوم الخاطئ التائب في مرتبة أرفع من مرتبة الصدّيق الذي لم يسقط أبدًا – وهذا لا وجود له في الواقع، لأنّ كلّ إنسان يخطأ. صحيح أنّ الارتداد لا يُعتِق الإنسان من عقوبة الخطيئة، ولكنّه يقيه من أن ينبذَه الله. حتّى الخاطئ الكبير لا يُغلَق أمامه باب الارتداد، ومع ذلك يستطيع الله أن يحرمَه من التبصّر الذي يمكن أن يقودَه إلى الارتداد. ومن ثَمَّ يبقى طريق الارتداد مفتوحًا، ولكن فقط للذين يُمنَحون نعمة التبصّر.

9. الحياة الأخرى بعد الموت
اليهوديّة، على غرار المسيحيّة، تميّز، في تصوّر الحياة الآخرة، بين الناحية الفرديّة والناحية الجماعيّة. ففي الكتاب المقدَّس نفسه تكاد لا تُطرَح مسألة استمرار الحياة الفرديّة بعد الموت، ففي الجحيم الكتابيّة، الأموات لا يسبّحون الله. ثمّ إنّ تصوّر قيامة الجسد، الذي يربط تلك القيامة بالدينونة العامّة، قد جعل من الجحيم مكان انتظار موقّت. ففي مثل هذا التصوّر لا ينتقل الإنسان إلى حياة أخرى.
ولكن في فترة من الزمن ظهر التصوّر بأنّ أنفس الصدّيقين تنتقل بعد دينونة فرديّة إلى فردوس في عالم آخر أو في السماء، أمّا أنفس الخطأة فيُحكم عليها في عقاب جهنّم، التي هي في اليهوديّة الرابينيّة بالحريّ مطهرٌ موقّت ومحدود جدًّا، نوع من تطهير مؤلم للنفس. ربّما تكون هذه التصوّرات في الأصل غريبة عن اليهوديّة، ولكنّه قد تمّ استيعابها استيعابًا تامًّا. وبقي التعارض الداخليّ مع الترقّب الجماعيّ للخلاص. هذا التعارض لم يتمّ تجاوزه إلاّ بصورة جزئيّة من خلال ترقّب قيامة الجسد والدينونة العامّة.
إنّ الترقّب الجماعيّ لنهاية الأزمنة يبقى من جهة أخرى منسجمًا مع المعاد الكتابيّ: مفاده ترقّب ماسيّا مسيح من بيت داود، سيحرّر إسرائيل ويعيده إلى أرضه ويعيد بناء الهيكل؛ وهجوم الأمم على أورشليم، وحروب جوجٍ وماجوج، وأخيرًا يعود الله نفسه، الشكينا، في مجد علنيّ إلى أورشليم، ويكون ملكًا على الأرض كما هو في السماء، وحينئذٍ ستكون، كما جاء في سفر أشعيا النبيّ 65: 17، سماء جديدة وأرض جديدة، وتضمحلّ الحدود بين السماء والأرض.
ما قيل هنا لا يحيط بالمسألة كلّها. فتصوّرات شؤون الآخرة متناقضة بعضها مع بعض إلى حدّ كبير. إنّها أمور خاصّة بالمستقبل الآتي. ومع ذلك لا شيء يُرتَقَب بشوق قبل مجيء الماسيّا واعتلان ملكوت الله، وكثيرًا ما يكون هذا موضوعَ الصلاة اليوميّة.

10. الماسيّا
ولكن من هو الماسيّا؟ إنّه إنسان، تجيب اليهوديّة بالمقارنة مع ما تؤمن به المسيحيّة. إنّه ملك مثاليّ سيقيم العدلَ ويهيّء هكذا عودةَ الله بمجد؛ إنّه يأتي فقيرًا راكبًا على حمار (زخريّا 9: 9)، أو يأتي بمجد على سحاب السماء (دانيال 7: 13)؛ إنّه هنا، بحسب قول رابّي يهوشوَع بن لاوي في القرن الرابع، يتألّم ويعاني السبيَ مع الشعب اليهوديّ، منتظرًا رجوعَهم، وحاملاً ألمه للتكفير عن ذنوب إسرائيل. في بعض الأحيان تعود صورة الملك المخلّص، إنّه ملك كامل، فالشكينا تتقدّم حينئذٍ وتعود إلى الظهور. وفي بعض الأحيان، كما في أيّام بار كوشبا مثلاً، إنّه فقط محرّر سياسيّ يحرّر إسرائيل من السلطة الأجنبيّة. في هذا يظهر مرارًا وجه الماسيّا بن يوسف الغامض الصورة، الممسوح من بيت يوسف، إنّه ماسيّا يلقى حتفه في الحرب ضدّ الشعوب الوثنيّة.
ولكنّ هذا الماسيّا ليس على الإطلاق الإله المتجسّد، كلمة الله الذي صار إنسانًا. هنا يستحيل تجاوز الحدود بين التصوّرات الماسيويّة في اليهوديّة وفي المسيحيّة. لقد جمعت المسيحيّة في الإنسان يسوع كلّ ما نجده في اليهوديّة من ملامح فرديّة للماسيّا ومن تصوّر للشكينا. فيكون هو، بحسب التعبير اليهودي، تصوّرها على هذا النحو -، والملك من بيت داود، والقاضي العادل، والإنسان الذي يبذل حياتَه عن خطايا إسرائيل، والإله الذي لا يتهرّب من ألمَ مخلوقاته.
إنّ عالم اليهوديّة الآتي هو في هذا الدهر. بيد أنّه سماء جديدة وأرض جديدة، إنّه عالَم قد تبدّل من أساسه وتقدّس بجملته. ولكن ليس الإنسان هو الذي يدخل إلى السماء، ولا نفوس الصدّيقين الراقدين، ولا الرؤيويّ الحيّ هو الذي يعبر المنازل السماويّة إلى أن يصل إلى عرض الله، بل الله هو الذي يأتي إلى الإنسان. هذا الأمر ينطبق تمامًا مع المبدإ "الأحاديّ" لليهوديّة الرابينيّة. فإنّ خلاصَ الإنسان في السماء، إذا رافقه هلاك هذا العالم في الدينونة، هو إنكارٌ لهذا العالم، خليقة الله؛ وفي هذه الحالة نصل حتمًا إلى نظرة ثنائيّة للعالم. الأرض الجديدة والسماء جديدة هما بالحريّ داخل الخليقة، وسيُخلقان من جديد مع هذا العالم.
العالم الآتي هو إتمام لقصد الله في خلقه. بعد ذلك يعيش الإنسان في الخلود في شركة مع الله، أمام وجهه، وفي معرفة كاملة لله. لا شكّ أنّ ثمّة آراء كثيرة تجعل من العالم الآتي فردوسًا، مكانًا لحياة رغد وهناء. ولكن يغلب الرأي في العموم أنّ الموضوعَ يتعلّق هنا بمعاينة الله، بكمال معرفة الله. لقد أشاد إلياد Eliade، في كتابه عن أسطورة العودة الدائمة، إلى أنّ الفكر، في تصوّر الحياة الأخرى، يُفضي من جديد إلى دائرة العودة الدائمة، ولكنّ الدائرة تحلّ محلّها ولادة جديدة وحيدة. هذا إخفاق لنظرة العالم التاريخيّة، إذ إنّ الإنسان لا يحتمل خطّ الزمن الذي يسير مستقيمًا ولا يُفضي إلى أيّ مكان. الفكرة تُغري، ولكنّها ليست على جانب كبير من الصحّة. لا شكّ أنّ التاريخ الذي يسير باستمرار ستوضح له نهاية، غير أنّ النهاية ليست عودة البداية ولا إعادة الفردوس. النهاية تقوم في نهاية خطّ زمنيّ مستقيم، إنّها اكتمال. وما بين البداية والنهاية، أعني التاريخ، لا يُنسى، بل يبقى كواقع وكذكرى – وفي هذا عينه يبقى أيضًا الإنسان المتجلّي إنسانًا ولا يصير ملاكًا لا مَصيرَ له. يناقش الرابيّون السؤال هل ستبقى ذكرى الخروج من مصر في أيّام الماسيّا أو في العالم الآتي. ويخلص الرابيّون إلى أنّ الخلاصَ الأخير يكون الأهمّ، وتبقى معه ذكرى الخروج من مصر. وفي النهاية لن تكونَ فقط نظرة الناس المتجلّين إلى الله، بل المعرفة، الخبرة المشتركة في التاريخ التي تربط بين الله والإنسان، العشق التاريخيّ. وهكذا يجب أن يبقى الإنسان أيضًا أمام الله، ودومًا مختلفًا عن الله، لكي يبقى إنسانًا.

جدول زمني 
1280 – 1180 : الخروج من مصر؛ موسى؛ احتلال الأرض على يد يشوع بن نون
1180 – 1004 : زمن القضاة، صموئيل، شاول، بدء الملكيّة
1004 – 965 : داود
965 – 962 : سليمان؛ تقسيم المملكة
722 : انهيار مملكة الشمال؛ الأنبياء: هوشع، أشعيا
586 – 536 : تدمير أورشليم الأوّل، السبي إلى بابل. الأنبياء: إرميا، حزقيال. اعتماد الأسفار الخمسة في قانون الكتاب المقدّس
520 – 420 : إعادة بناء الهيكل؛ عزرا، نحميا. آخر الأنبياء: حجاي، ملاخي، زخريا. اعتماد الأسفار النبويّة في قانون الكتاب المقدّس
166 – 37 : ثورة المكّابيّين، حكم الحشمونيّين. بدء العلم الكتابيّ الرابينيّ. انتشار اليهوديّة من خلال الشتات والرسالة في حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق
66 – 70 ب.م. : الثورة ضدّ رومة؛ تدمير أورشليم الثاني
70 – 135 : الأكاديميا في جفنة تصير مركز اليهوديّة الروحي؛ دستور الآباء. تطبيق الفرّيسيّة في اليهوديّة الرابينيّة. فتنة بار كوشبا
135 – 390 : جمع التقليد الشفويّ، وتثبيته وتدوينه: كتابة المشنا (حوالى سنة 200)، التلمود الفلسطينيّ (حوالى سنة 390). بابل تصير مركز العلم الكتابيّ الرابينيّ
500 : تدوين التلمود البابليّ
1000 : انحطاط الأكاديميّات في الشرق، انتقال المراكز الروحيّة والماديّة إلى أوروبة
القرن 12 - 13 : ازدهار الحياة الفكريّة اليهوديّة في إسبانيا وفرنسا. اضطهاد اليهود في فرنسا وإنكلترا وألمانيا يؤدّي إلى انهيار جماعات يهوديّة مهمّة
1492 – 1497 : طرد اليهود من شبه الجزيرة الإسبانيّة
1564 : جوزيف كارو ينشر "شُلخان أروخ"، مجموعة قوانين التشريعات الطقسيّة اليهوديّة، التي لا تزال ملزمة في العصر الراهن
نهاية القرن الثامن عشر : بدء حركة التنوير اليهوديّة
القرن التاسع عشر : تحرّر اليهود وحصولهم على المساواة (النسبيّة) في المواطنة في معظم دول أوروبا الغربيّة والوسطى؛ حركة الإصلاح اليهوديّة
1940 – 1945 : حوالى ستّة ملايين من يهود أوروبا يهلكون في إبادة جماعيّة في البلدان التي احتلّها النازيّون


مراجع
J. Guttmann, Die Philosophie des Judentums, 1933
E. L. Ehrlich, Kultsymbolik im Alten Testament und im nachbiblischen Judentum, 1959.
S. Schechter, Aspects of Rabbinic Theology, 1961.
G. Scholem, Die jüdische Mystik in ihren Hauptströmungen, 1967.
J. Maier, Geschichte der jüdischen Religion, 1972.
Encyclopaedia Judaica, 16 vol., 1971/72.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:22 am

الفصل الخامس
مدخل إلى المسيحيّة

فالتر كاسبر (Walter Kasper)
1. تحديد المسيحيّة

من أراد أن يصف المسيحيّة يقع على الفور في حيرة. إذ لا يمكن تحديد المسيحيّة في صيغة مقتضبة. فالمسيحيّة تظهر في أوجه متعدّدة. فمنذ الألف الأوّل ظهر وجهان للمسيحيّة مختلفان أحدهما عن الآخر، واحدٌ في الشرق وآخر في الغرب، ما أدّى في القرن الحادي عشر، على أثر خلافات كبيرة ومجامع مسكونيّة حرّمت كثيرًا من البدع والهرطقات، إلى انفصال لا يزال قائمًا في يومنا هذا بين الشرق والغرب. وفي القرن السادس عشر حصلت خلافات في الكنيسة الغربيّة أدّت، على أثر حركة الإصلاح البروتستنتيّ، إلى تشعّب الكنيسة الواحدة إلى جماعات متعدّدة. وبعد عدّة قرون من الانفصالات ونشاة كنائس جديدة، عادت الكنائس، من خلال الحركة المسكونيّة، إلى العمل من أجل وحدة المسيحيّين. ولكن في الوقت نفسه نشهد في المسيحيّة داخل الكنائس الكبرى تمايزًا وتعدّدًا يتخطّى مجرّد التمييز بين نزعة تقليديّة محافظة ونزعة تقدّميّة. ففي هذا الجوّ من التعدّد، يُطرح السؤال ما هي الأمور الأساسيّة التي تجمع بين كلّ الكنائس، وتكوّن ما يمكن تسميته جوهر المسيحيّة، وما يجب الاستناد إليه في التفكير في مستقبل المسيحيّة في الألف الثالث؟
لقد شهدت المسيحيّة على مدى ألفي من تاريخها تطوّرات عميقة، ولا يزال التطوّر يسم اليوم أيضًا صورتها. إنّ تاريخ المسيحيّة الحاليّ محدّد من خلال تقليد العهد القديم والتحرّر من الشريعة اليهوديّة، ومن خلال القبول التاريخيّ للتراث المسيحيّ الأوّل في الإطار الثقافي اليوناني والرومانيّ والجرماني والغربي على وجه العموم، كما من خلال الرجوع إلى الثقافة القديمة في عصر النهضة، والإصلاح المرتكز على العودة إلى شهادات الكتاب المقدّس الأولى. إنّ حركات التجديد في عصرنا يجب النظر إليها على خلفيّة عالم متغيّر، ولا سيّما على خلفيّة سيطرة الثقافة الغربيّة من خلال انتشارها على مدى العالم كلّه من خلال العلم والتقنيّة. في هذه الحالة يتعيّن على المسيحيّة أن تُثبتَ بصورة جديدة طابعها الشموليّ الجامع. فهذه التطوّرات لا تختصّ فقط بالأشكال الخارجيّة بل أيضًا بمفهوم الإيمان. لذلك لا نجد أنفسنا أمام تاريخ لتكوين الكنيسة وما تحتوي عليه من شعائر وتقوى ولاهوت فحسب، بل أيضًا أمام تاريخ حقيقيّ لعقائد الكنائس المسيحيّة.
السؤال عن جوهر المسيحيّة، عمّا هو الأمر الحاسم والمميّز الذي يُلزم جميع المسيحيّين، لا يمكن، بناء على ما قلناه، الإجاة عنه بصيغ عامّة أو بجمل توجز الاعتراف بالإيمان أو التعليم المسيحيّ. فلكي تستطيع هذه التعابير أن تكون ملزمة بصورة ثابتة، يجب أن تُترجَم في لغة عصرنا وتساؤلاته. وهذا لم تتوصّل إليه أيّ من الكنائس ولا أيّ من لاهوتيّيها. ما يمكن قوله في الوقت الراهن هو أنّ المسيحيّة لا تصوَّر كمسيحيّة "مجرّدة"؛ فلا يمكن وصفها إلاّ انطلاقًا من تاريخها بما هو تاريخ حيّ.
بناء على هذه النظرة التاريخيّة للمسيحيّة ثمّة أمر مشترك بين جميع الذين يُدعَون مسيحيّين: إنّهم يستندون إلى تاريخ يسوع المسيح ومصيره، ويُثبتون أنّ شخصه و"قضيّته" يستمرّان اليوم من خلالهم. وإن توصّلوا في هذا الأمر إلى نتائج متنازع فيها، فإنّ نقطة انطلاقهم واحدة ومركزَهم واحد. وبما أنّ يسوع المسيح يكوّن ليس فقط البداية الوحيدة للمسيحيّة بل أيضًا أساسها وعلى نحو ما روحها، فهذا يحول دون تحويل المسيحيّة إلى مزيج من الأديان المتعدّدة. مع يسوع المسيح تحافظ المسيحيّة على "ذكرى خطرة" (ميتس J.B. Metz)، تساعد ليس فقط على تبرير المسيحيّة بل أيضًا على نقد كلّ ما تحقّقه في التاريخ. وبالتالي فما هو حاسمٌ ومميّز في المسيحيّة ليس فكرة أو مبدأ، بل إنّه اسم وشخص. ومن ثَمَّ يجب استنتاج المسيحيّة في خطوة أولى من التفكير انطلاقًا من تاريخ يسوع المسيح وتاريخ تجسيد حضوره في الكنيسة. وفي خطوة ثانية يمكننا أن نسأل ما الذي ينتج من هذا التاريخ بالنسبة إلى المفهوم المسيحيّ للإنسان وللعالَم، كما بالنسبة إلى علاقة المسيحيّة بالأديان الأخرى.

2. الاعتراف بيسوع المسيح
كلّ الكنائس المسيحيّة تعترف بيسوع المسيح؛ فتؤمن بأنّ الله قد أقامه من بين الأموات وبأنّه حاضرٌ حضورًا فعّالاً في الكنيسة من خلال كرازتها وأسرارها، وأنّه هو الذي في النهاية سيعتلن سيّد التاريخ. وتعترف بأنّ يسوع المسيح هو إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ. فالكلام على يسوع المسيح ليس بالتالي كلامًا على شخص يحمل اسمًا مزدوجًا، بل هو بالحريّ اعتراف إيمان بأنّ يسوع هو المسيح، أعني المخلّص النهائيّ المرسل من قِبَل الله؛ فمن خلاله يحقّق الله نفسُه الخلاص.
هذا الاعتراف الملزم جميع الكنائس يطرح اليوم أسئلة كثيرة. فمنذ التنوير في العصر الحديث وظهور البحث التاريخيّ النقديّ في الكتاب المقدّس، تعرّض هذا الاعتراف للتساؤل. فما أن بدأ النقد التاريخيّ بالتساؤل من كان يسوع في الحقيقة، وراح المؤرّخون يتحرّرون طبقة إثر طبقة من مجموعة التصوّرات الكنسيّة اللاحقة، ليكتشفوا من جديد الملامح الأصليّة لشخصه التاريخيّ، تبيّن التمييز بين يسوع التاريخيّ ويسوع الإيمان الكنسيّ. صحيح أنّ الأطروحة التي عُرِضت في بداية القرن العشرين والتي تدّعي بأنّ يسوع لم يعِش أصلاً بل هو مجرّد أسطورة قد تبيّن أنّها سخافة تاريخيّة. "المذود، وابن النجّار، والمندفع من بينَ الناس الوضعاء، وصليب العار في النهاية، كلّ هذا يمتّ إلى التاريخ وليس إلى العصر الذهبيّ الذي يهوى الأساطير" (بلوخ E. Bloch). ما لا يرقى إليه شكّ هو أنّ يسوع قد عاش في فلسطين في العقود الثلاثة الأولى من التاريخ الذي نعتمده اليوم، ربّما من سنة 6/7 قبل المسيح إلى سنة 30 بعد المسيح. أمّا الاعتراف بأنّ يسوع هو المسيح، والربّ، وابن الله، فلم ينشأ، بحسب ما نعرفه اليوم من التاريخ، إلاّ بعد موت يسوع في الجماعات المسيحيّة الأولى. وبالتالي تواجهنا مشكلة وهي كيف أنّ يسوع التاريخ صار مسيح الإيمان الكنسيّ. مع الإجابة عن هذا السؤال يتقّرر أيضًا السؤال بأيّ حقّ تستند الكنائس المسيحيّة إلى يسوع.
إنّ تاريخ "البحث عن حياة يسوع" الذي تناول هذه المسألة هو طويل ومتعرّج. فقد بدأ مع ريماروس S. Reimarus الذي نشر ليسينغ Lessing مقتطفاته. غير أنّ ثمّة مفترقات هامّة في تاريخ هذا البحث قد ظهرت عند شتراوس (D. F. Strauss)، وشلايرماخر (F. Schleiermacher)، وفريده (W. Wrede)، وشفايتسر (A. Schweitzer)، وبولتمن (R. Bultmann). فتمّ التشديد بنوع خاصّ على أنّ روح الربّ هو الذي ينعكس في يسوع. ثمّ كان يسوع الكارز بالأخلاق عند المتنوّرين، ثمّ يسوع الاختبار الباطنيّ عند التقويّين والليبراليّين، وبعد ذلك يسوع الذي يمثّل جوهر الإنسانيّة عند المثالانيّين، أو صديق الفقراء والثائر عند الاشتراكيّين. إنّ مشروع "البحث عن حياة يسوع" يُعَدّ اليوم مخفقًا بجملته. فالمصادر الأهمّ هي الأناجيل الأربعة القانونيّة؛ غير أنّها لم تُدوّن بصيغة يوميّات. ونظرًا إلى وضع المصادر هذا، يصير من نسج الخيال ادّعاء التمكّن من إعادة تكوين سيرة يسوع ووصف نفسيّيته. ومع ذلك يجب ألاّ يقودَنا هذا الأمر إلى الشكّ والخنوع. فالسؤال "الجديد" عن يسوع التاريخي في العقدين الأخيرين (كيزمان E. Käsemann، وفوكس E.Fuchs، وبورنكام G. Bornkamm)، وغيرهم قد أثبت بوضوح كبير أنّه من خلال ظلمة التاريخ تظهر إلى حدّ ما بجلاء الملامح المميّزة لكرازة يسوع وتصرّفه. نعلم علم اليقين أنّ يسوع قد انطلق من الكرازة المَعَاديّة التي قام بها يوحنّا المعمدان ومن حركة المعموديّة التي رافقتها، وأنّه نتيجة لتصرّفه قد حُكِم عليه بالموت على الصليب. وبين هذين القطبين يمكن تصوّر شخص يسوع و"قضيّته" ببعض الدقّة. أمّا تأكيد خلاف ذلك فيمكن تركه للهواة السذَّج من بين اللاهوتيّين.
في وسط بشارة يسوع تقوم الكرازة بقرب مجيء ملكوت الله. وبذلك يحتضن يسوع الترقّبَ الإنسانيّ العامّ لحاكم عادل والرجاء الخاصّ بالعهد القديم، الذي يرى أنّ الله نفسه في نهاية الزمن سيقيم الحقّ والعدل وينشئ السلام الشامل. لقد أظهر يسوع في تصرّفه وعمله أنّ ملكوت الله الخلاصيّ هذا قد بدأ. فتكلّم وتصرّف بسلطة مطلقة كواحد يقف مكان الله. هذه هي خلفيّة مؤاكلته للخطأة التي أثارت الاستياء، ومعجزاته التي أثارت العجب، والتي لا يمكن إنكار نواة تاريخيّة لها، وخصوصًا وعده بالخلاص للفقراء والمقهورين والمنبوذين والمضطهَدين. وقد كان ملكوت الله بالنسبة إليه ملكوت "الآب" (أبّا)، ملكوت محبّة الله، التي لا تقتصر على "نفس" الإنسان بل تشمل أيضًا جسده الذي، بحسب المفهوم العبرانيّ، لا يمكن على الإطلاق فصله عن النفس، وتقتضي ارتدادًا لا ينحصر في باطن الشخص، بل يشمل أيضًا العلاقات الاجتماعيّة في ما تتطلّبه محبّة القريب ومحبّة العدوّ. إنّ يسوع، بهذه الرسالة التي تتخطّى التصوّرات القائمة وبهذا المطلب، قد اصطدم بكلّ الفرق الدنيويّة والدينيّة في عصره ووقع في نزاع معها. وهكذا حُكم عليه بالموت بحجّة التجديف على الله والثورة. هو الذي كرز بقرب الله من المهمَلين مات مع كلّ علامات إهمال الله له. إنّ موَته على الصليب لا يمكن اعتباره، في منطق العهد القديم، إلاّ لعنة من الله.
وبما أنّ يسوع قد ربط "قضيّته" ربطًا تامًّا بشخصه، فإنّ موتَه يعني بالنسبة إلى تلاميذه إخفاق آمالهم. ولذلك لم تستطع المسيحيّة أن تضمَن مستقبلاً بعد موت يسوع إلاّ انطلاقًا من يقينها بأنّ الله قد تماهى مع المصلوب، أعني في لغة الرؤيويّة اليهوديّة أنّ الله قد أقامه من الموت، وأنّ يسوع هو الآن حاضر بطريقة جديدة، وبتعبير الكتاب المقدّس، حاضر "بالروح القدس". غير أنّ القيامة لم تُعتبَر في الكتاب المقدّس إحياء وعودة إلى الحياة القديمة، بل هي بدء لحياة جديدة ونهائيّة في ملكوت الله. ومن ثَمَّ فإنّ قيامة يسوع تعني تثبيت مطلبه المعاديّ ومباشرة العمل به. وقد أكّد بولس نفسه أنّ المسيحيّة بدون الإيمان بقيامة يسوع هي باطلة ولا أساس لها. بدون القيامة لا يكون يسوع سوى قتيل بريء ولا يصير أساسًا للرجاء بل بالحريّ مدعاة للشكّ والخنوع. والتلاميذ لم يستطيعوا أن يكتشفوا بوضوح وبدون لبس معنى حياة يسوع الأرضيّة إلاّ في ضوء الإيمان بالقيامة وقدرة هذا الإيمان. لذلك لا يتّخذ الاعتراف بيسوع و"بقضيّته" معناه الكامل إلاّ إذا ارتكز على الاعتراف بالمسيح القائم والحيّ.
وفي حين يمكن البحث من الوجهة التاريخيّة في تصرّف يسوع الأرضيّ وعمله، على غرار الظاهرات التاريخيّة الأخرى، فالاعتراف بيسوع القائم لا يخضع لأيّ بحث تاريخيّ أو من أيّ نوع آخر. إنّ العثور على قبر يسوع فارغًا يمكن تفسيره بطرق متعدّدة؛ ولم يكن بالنسبة إلى المسيحيّة برهانًا على القيامة، بل علامة متأخّرة للإيمان. ومن ثَمّ فما يمكن إدراكه تاريخيًّا ليس القيامة نفسها بل فقط إيمان التلاميذ الأوّلين بالقيامة. فيظهر هذا الإيمان منذ الطبقات الأولى للتقليد، ويمكن تصديقه من الناحية الإنسانيّة استنادًا إلى أنّ شهود هذا الإيمان الأوّلين قد قبلوا الاستشهاد من أجله. بالنسبة إلى وضع المصادر هذا، فإنّ النظريّات التي تتكلّم على خداع التلاميذ، أو تبديل القبر، أو الموت الظاهر، أو الرؤى الذاتيّة (الهلوسة)، أو تفكير التلاميذ اللاهوتيّ الخاصّ، تخلق مشكلات أكثر ممّا تحلّ. إنّ الاعتراف بقيامة المصلوب يصير "مفهومًا"، بالنسبة إلى الإيمان، انطلاقًا من مجمل ارتباط الرجاء المعاديّ ببرّ الله، هذا الرجاء المعاديّ بأنّ الله في النهاية سيكون "كلاًّ في الكلّ"، و"يمسح كلّ دمعة"، هو الأفق الحقيقيّ لفهم رسالة يسوع المسيح.
هذا الأفق المعاديّ الشامل قد فقده إلى حدّ بعيد التاريخ المسيحيّ اللاحق. إنّ نزع الطابع المعاديّ مرتبط بارتداء المسيحيّة الثوب الهلّينيّ. فما أن خرجت المسيحيّة عن المجال اليهوديّ، كان عليها بسبب مطلبها الشموليّ أن تستسلم للنقاش مع عالم الهلّينيّة ومع مطلب الشموليّة الذي تنطوي عليه فلسفة الكلمة (Logos). هذا الاصطباغ بالطابع الهلّينيّ لا يعني بذاته أيّ فساد للمسيحيّة، بل يدلّ فقط على أنّها قد تمّ استيعابها بصورة حيّة من قِبَل الثقافة القائمة يومئذٍ. ما قد يكون غير شرعيّ هو أن تتغلّب الهلّينيّة على المسيحيّة من الداخل. إنّ خطر الانزلاق في تلفيقيّة ذلك العصر العامة لم يكن خطرًا ضئيلاً، ومن الإنجازات البارزة للتطوّر العقيديّ في الكنيسة الأولى أنّه عرف بوضوح الحدود بين ما هو مشروع وغير مشروع في ارتداء الطابع الهلّيني، وتقيّد بها. بناء على مثل هذا "التعليق في التناقض"، توصّلت المجامع المسكونيّة الأولى، ولا سيّما نيقية (325) وخلقيدونية (451)، إلى العقيدة القائلة بأنّ يسوع المسيح هو إنسان حقيقيّ وإله حقيقيّ بدون امتزاج ولا انفصال.
لا جرم أنّ الثمن الذي كان على المسيحيّة أن تدفعه مقابل هذا الاستيعاب الحيّ كان عاليًا جدًّا. فبدل إله التاريخ الحيّ، كما شهد له العالم القديم والعهد الجديد، ظهر إلى حدّ بعيد، نتيجة لذلك، مفهوم لله يتّسم بطابع عدم التغيّر وعدم التألّم (apatheia). هذا المصطلح اليونانيّ لله يكاد لا يفسح في المجال للكلام على إمكانيّة أن يصيرَ الله إنسانًا أو أن يتألّم أو يموت. وبذلك وقعت رسالة المسيح في خطر فقدان معناها العميق، تلك الرسالة التي لا بدّ لها من أن تقول إنّ الله هو إله الناس، الذي في يسوع المسيح دخل في مرافق الحياة البشريّة ومخاطرها، وعانى عبث الموت، لينقذَنا من خلال عمله هذا. إنّ لاهوت المسيح هذا غير التاريخيّ والذي نُزع عنه إلى حدّ بعيد أفقه المعاديّ قد أفقد المسيحيّة كثيرًا من نظرتها المستقبليّة التي تأخذ بمجامع القلوب. فصارت في معظم الأحيان مجرّد قوّة محافظة.
إنّ الجمع الذي تمّ في تطوّر عقائد الكنيسة الأولى بين الحضارة القديمة والمسيحيّة قد صار أساس الثقافة الغربيّة بمجملها. ولذلك ليس من باب المصادفات أن توضَع أيضًا عقائد الكنيسة الأولى من جديد وبطريقة نقديّة موضعَ التساؤل، في عصرنا الذي تظهر فيه ضمن الأزمات بوادر حقبة جديدة. إنّ مطلب المسيحيّة الشموليّ يعني بدون شكّ أنّها غير مرتبطة بثقافة معيّنة بصورة حصريّة ونهائيّة. فلا يمكنها بالتالي الحفاظ على هويّتها واستمرارها إلاّ من خلال تبدّل تاريخيّ عميق. ولذلك يحاول اليوم كثير من اللاهوتيّين البروتستنتيّين والكاثوليكيّين ، ليس بمعزل عن حافز الفلسفة المثالانيّة الألمانيّة (فيخته Fichte، وشلّينغ Schelling، وهيغل Hegel)، أن يُظهروا من جديد وبأكثر جلاء الإله الحيّ، إله العهد القديم والعهد الجديد، الذي لا يجلس في علياء سماء لا يمكن الوصول إليها وهو غير مهتمّ لأهوال التاريخ، بل بالحريّ تبيّن في يسوع المسيح على أنّه إله الناس، والذي اعتلن جوهره العميق مرّة وبصورة نهائيّة على الصليب. فتساميه يجب ألاّ يُعتبَر بعدًا مكانيًّا، بل هو حريّة لا يمكن إدراكها ولا يمكن التصرّف بها، حريّة المحبّة المتجرّدة عن ذاتها. بناء على التسامي المفهوم على هذا النحو، يجب القول إنّ الله هو أيضًا حاضر حضورًا تامًّا في العالم؛ إنّه يلتقينا في يسوع الذي هو أخونا، وفي جميع الإخوة، ولا سيّما في ألم الجائعين والمرضى والمنبوذين والمضطهدين.
بموجز الكلام يمكن القول إنّ المسيحيّة تعتقد أنّ المعنى الأعمق لكلّ الكائنات، وسرّ الواقع الذي يشمل كلّ شيء وينفذ في كلّ شيء، الذي ندعوه الله، قد تبيّن في يسوع المسيح أنّه المحبّة التي تعطي ذاتها وتتجرّد عن ذاتها. إنّها تحقّق ذاتها بالضبط في عطاء ذاتها عطاء حرًّا؛ وفي ارتباطها بالآخر تحرّره. وقد وجد هذا الإيمان أسمى تعبير له في عقيدة الثالوث. هذه العقيدة، في مفهومها الصحيح، بعيدة كلّ البعد عن الاعتقاد بوجود ثلاثة آلهة، وليست متأثّرة بأيّ شرك، بل هي الاعتراف الشامل بأنّ الله قد تبيّن في يسوع المسيح أنّه ربّنا وأخونا، وبأنّه يلتقينا من خلال "الروح القدس" في كلّ إخوتنا. وبمعنى شامل يصل العهد الجديد إلى نهاية تطوّره إلى القول: "الله محبّة".

3. العلاقة بين الله والإنسان في التاريخ
في تاريخ العهد القديم والعهد الجديد، ولا سيّما في جمعهما الفريد في يسوع المسيح، اعتلن المفهوم المسيحيّ للعالم وللإنسان. وبالتالي فالمسيحيّة، في بشارتها بتاريخ واقعيّ، تتضمّن مطلبًا شموليًّا. لا تستطيع المسيحيّة أن تبرهن بصورة مجرّدة عن هذا المطلب الشامل، بل تقتصر على أن تشهدَ له واقعيًّا؛ لا يسعها سوى أن تتوجّه إلى الآخرين وتدعوهم إلى الإقدام على هذا التاريخ، ليختبروا في عمل الحقيقة أنّ صدقيّته تتجلّى في ظواهر الواقع. ومن ثَمّ لا تعتبر المسيحيّة ذاتَها فلسفة أو أيّة نظريّة إلى جانب غيرها من الفلسفات والنظريّات. ولا تعتبر ذاتَها أيضًا الفلسفة الحقيقيّة، إنّما هي بشارة (إنجيل)، تثبت أو تسقط مع التاريخ الذي تشهد له. إنّها وحدة العمل والكينونة، ووحدة الكينونة والزمن (التاريخ). ولذلك فالمقولات اللاهوتيّة هي تفسير لاختبار قام به الإيمان مع الاختبار البشريّ. سنعالج في ما يلي لاهوتيًّا ثلاثة من تلك الاختبارات ونوضح بالتالي ثلاث بُنى أساسيّة للإيمان المسيحيّ.

3-1. عقيدة الخلق
الاختبار الأساسيّ الأوّل للإيمان في لقائه مع الواقع هو اختبار شموليّته. وقد انعكس من ناحية العقيدة في الإيمان بالخلق. إنّ هذا الاعتقاد لم يظهر بصراحة في العهد القديم إلاّ عندما دخل إسرائيل في القرن السابع أو السادس قبل المسيح في اتّصال وصراع مع القوى العالميّة يومئذٍ (مصر وأشور وبابل)، ومع تصوّراتها لنشأة الكون. إنّ إيمان إسرائيل بأنّ الله هو الذي يدير الكون ورجاءه بالمجيء النهائيّ لملكوت الله كان لا بدّ أن يظهرا في هذا الوضع المحرج من خلال امتداده الشامل: الله هو سيّد على جميع الشعوب وعلى جميع الآلهة؛ إنّه سيّد على الواقع كلّه، وسيّد أيضًا على الحياة والموت؛ ولأنّ كلّ ما هو قائم يخضع له، ولأن لا وجود لشيء إلاّ به، ولأنّ لا وجود لأيّ مرجع مناقض يشبهه، من أجل ذلك كلّه يمكن الاستسلام له استسلامًا تامًّا في الإيمان والرجاء. إنّ عقيدة الخلق من العدم لم تكن سوى الصيغة السلبيّة للمقولة الإيجابيّة عن سيادة الله الشامل. وهي لا تعني إذن أنّ الله قد خلق الكون من العدم كما من مادة سابقة؛ فالتعبير عن سيادة الله المطلقة على كلّ الكائنات، تؤكّد بالحريّ عدم وجود أيّ شرط مسبق. ويجب بالتالي القول إنّ الله قد دعا العالم إلى الوجود بحريّة محبّته المطلقة. ولذلك فالكائنات متعلّقة تعلّقًا مطلقًا بالله، له تدين بوجودها، ومع ذلك فهي تنعم باستقلال ذاتي منحتها إيّاه محبّة الله.
ومن ثَمّ فالإيمان بالخلق قد نشأ كنتيجة وكمسوّغ للإيمان الكتابيّ بالتاريخ. ينتج من هذا أنّ القول بأنّ العالم هو خليقة الله ليس نظريّة في نشأة الكون، يمكن وضعها مقابل نظريّة التطوّر أو العمل على الانسجام بين النظريّتين. الخلق كمقولة لاهوتيّة والتطوّر كمقولة في علم الطبيعة لا يجيبان عن السؤال عينه. التطوّر يتعلّق بكائنات مفترضة من قَبل؛ وما يعالجه هو كيفيّة تغيّرها انطلاقًا من قواها الذاتيّة. الأقوال الكتابيّة في الخلق تستعمل طبعًا أقوالاً عن الكيفيّة تستقيها من تصوّر العالم الشائع آنذاك؛ غير أنّ قصدها ليس تفسير كيفيّة تكوينها، بل الإجابة عن السؤال الأكثر عمقًا والأكثر شمولاً لماذا وُجدت أصلاً؛ فالموضوع لا يتعلّق عندها بكيفيّة نشأة الكائنات وتطوّرها، بل بوجودها عينه، الذي هو وجود عارض وبالتالي غير واجب، ومن ثَمّ فالكون لا يملك في ذاته علّة وجوده.
مع القول بالخلق تعترف المسيحيّة بمفهوم للكون يتجاوز الاختيار بين الأحديّة والثنائيّة. الواقع، ولا سيّما المادّة وجسد الإنسان، ليس، في نظر الإيمان المسيحيّ بالخلق، مبدأ شرّيرًا مناقضًا لله، بل هو واقعٍ أراده الله واستحسنه، إنّه نعمة من نعم الله. وبذلك يقضي الإيمان بالخلق على فكرة اعتبار الواقع عملاً شيطانيًّا. ومن ناحية ثانية فهو لا يفسّر الواقع بطريقة أحاديّة، كأنّ الكون قد انبثق من الله. فالكون، باعتباره مخلوقًا من العدم، يختلف اختلافًا جذريًّا عن الله الخالق. وهذا يعني نزع صفة الألوهة وصفة الأسطورة عن العالَم ووضع الأساس لمفهوم "دنيوي" عن العالم. ومنذ رواية الخلق الأولى، تتحوّل النجوم، التي كان الشرق القديم قد اعتاد أن يعبدَها، إلى مجرّد مصابيح؛ ولا يترتّب على الإنسان أن يخدمها، إنّما هي في خدمة الإنسان، إذ تنير طريقه وتدلّه على الأوقات. وهكذا ينتقل الإنسان منذ العهد القديم إلى وسط الخليقة أو إلى قمّتها. والتمييز بين الله والعالم وما يتضمّنه من إلغاء للأسطورة يتيحان للكائنات أن تنعم باستقلالها كمخلوقات. وبهذا يتميّز الإيمان المسيحيّ من الخرافة. فبما أنّ الإيمان يميّز بين الله والعالم، يمكنه أيضًا أن يدع العالم يكون عالمًا قائمًا بذاته. إنّ استخلاص هذه النتائج هو الإنجاز الكبير الذي حقّقه لاهوت المدرسة في العصر الوسيط، ولا سيّما توما الأكويني. فعندما لا يُنظر إلى العالم إلاّ من خلال العالم، كما حدث مرارًا في العصر الحديث، حينئذٍ يصير من جديد جسمًا نهائيًّا وبالتالي صنمًا. مثل هذه " القوى والسلاطين" الشيطانيّة يراها الكتاب المقدّس بنوع خاصّ في السلطة السياسيّة التي تجعل ذاتها سلطة مطلقة (بابل، رومة) وكذلك في الغرور التقنيّ الحضاريّ للإنسان (برج بابل). إنّ اعتبار العالم صادرًا عن عطاء محبّة الله الحرّة والمحرّرة هو وحده يتيح للإنسان أن يُثبت كرامة العالم دون أن يُرغَم على أن يُسبغَ عليه إيديولوجيًّا صفة المطلق.
إنّ شموليّة الإيمان المسيحيّ التي يعبّر عنها الإيمان بالخلق منحت المسيحيّة عبر تاريخها القدرة الذاتيّة على تحمّل المسؤوليّات الدنيويّة وعلى إعطاء شكل للعالم. أمّا أن تكون المسيحيّة في هذا الأمر قد أساءت مرارًا فهمَ رسالتها وأنكرتها، بازدرائها وانتهاكها حريّة الإنسان والعالم، فهذا واقع تاريخيّ، يمكن إثبات خطإه انطلاقًا من أوضاع المسيحيّة عينها. ولكنّ مثل هذا الخطإ لا يجوز اجتنابه بأن تنسحبَ المسيحيّة من العالم. فبناء على مطلبها الشامل، عليها أن تبقى دومًا في خدمة الإنسان والعالم. وهي تقوم بهذه المسؤوليّة بالضبط من خلال التمييز الصحيح بين الله والعالم. وإنّها، إذ تنـزع عن الإنسان عبء الرغبة في أن يصير إلهًا، هذا العبء الذي يستحيل عليه تحمّله، تحرّره في الوقت عينه ليقومَ كإنسان بالأعمال الإنسانيّة. ولأنّ المسيحيّة هي بالضبط شكر (إفخارستيّا) لله، فهي أيضًا مسؤوليّة من أجل عالم إنسانيّ.

3-2. تاريخ الإنسان مع الله: تاريخ الخلاص
في الارتباط الوثيق باختبار الواقع على أنّه خلق، يقوم الاختبار الثاني، وهو اختبار الواقع على أنّه تاريخ الله مع الإنسان. المصطلَح المستعمل لهذا الاختبار هو تاريخ الخلاص. غير أنّ هذا التعبير غامض، ولذلك لا يحبّذ الكثيرون استعماله؛ ولكن لم يُقترَح إلى الآن مصطلح أفضل وأقلّ غموضًا. غير أنّ المهمّ ليس المصطلح نفسه بقدر ما هو اختبار الإيمان الذي يحاول وصفه. إنّ الله، بصفته سيّد الكون الحرّ، لا يُختبَر في العهد القديم والعهد الجديد من خلال نظام للكون مؤسّس في بدء الزمن وثابت كما هو بصورة دائمة؛ الأمر الحاسم بالنسبة إلى الإيمان الكتابيّ ليس الكون والطبيعة، إنّما هو اختبار قيادة الله في التاريخ. الله ليس البعد العميق للكون الحاضر في كلّ زمان ومكان، ولكن غير الممكن إدراكه واقعيًّا في أيّ مكان؛ بل يعتلن بالحريّ في انعطاف أصيل وحرّ من خلال ما يقوم به في التاريخ من اختيار ودعوة، ومن مغفرة ودينونة. والإنسان، في التقائه إله التاريخ هذا، اختبر ذاتَه أنّه مختار ومدعوّ ومرسَل قد ألقيت عليه مسؤوليّة تاريخيّة. وبالتالي فإنّ مقولات حريّة كلّ إنسان، والمسؤوليّة، والشخص، والفرد، والفرادة والنهائيّة في التاريخ، قد تمّ تصوّرها أوّلاً على قاعدة التاريخ المسيحيّ للخلاص.
بيد أنّ المسيحيّة لا تضع نصب عينيها الفرد المنعزل والمشتّت. فالكتاب المقدّس ينظر إلى الإنسان دومًا في تداخلاته مع البشريّة جمعاء ومع تاريخها. حتّى في لقائه بالله في الخلاص والهلاك، لا يبدأ الإنسان الفرد أبدً من النقطة الصفر؛ بل يقوم بالحريّ في ترابط متضامن من الخلاص والهلاك مع جميع الناس. والمقولات مثل الخطيئة الأصليّة، وقيامة الجسد العامّة، ودينونة العالم، يجب فهمهما في هذا الارتباط. إنّ مصطلح الخطيئة الأصليّة الغامض لا يعني وراثة بيولوجيّة تسم أفرادًا منعزلين في سائر الأمور؛ فالمقصود بهذا المصطلح هو إ ثبات ارتباط حريّة كلّ إنسان بوضع معيَّن، بمعنى أنّ الإنسان الفرد لا يرسم خطوط حياته ولا يضع شكلها بصورة مستقلّة تمامًا، إنّما هو متعلّق بمجمل تاريخ خطيئة البشريّة. والتضامن في الهلاك يقابله التضامن في الخلاص. فدعوة إبراهيم نفهسا تتضمّن بركة لجميع الشعوب. وقد فهم إسرائيل اختياره بأنّه دعوة إلى تمثيل جميع الشعوب. والمسيحيّون ليسوا مرشّحين أصحاب امتياز للخلاص؛ فأن يكونَ الإنسان مسيحيًّا يعني بالحريّ أن يكون مرسلاً ليُسهِم في خلاص العالم.
من كلّ هذا تنتج نظرة للواقع، لا تحدّدها أنظمة أزليّة تسير الطبيعة بموجبها، بل تتكوّن بالحريّ من خلال تاريخ اللقاء بين الله والناس. وهذا التاريخ لا يسيطر على البشريّة مثل قدَر مأسويّ مشؤوم؛ إنّه تاريخ الذنب والنعمة والدينونة والمغفرة. ومن ثمّ فتاريخ الله مع الناس، ولا سيّما التاريخ الذي يسير من العهد القديم إلى العهد الجديد، ليس تاريخ تقدّم في خطّ مستقيم تصاعديّ. هذا المفهوم الحديث للتاريخ يعود بلا شكّ إلى المصادر الكتابيّة، ولكنّه يحوّل هذه المصادر إيديولوجيًّا أو ماديًّا إلى نوع من تاريخ الطبيعة. إنّ تواصل التاريخ، من وجهة النظر المسيحيّة، يرتكز فقط على أمانة الله الخالقة، ضمن عدم أمانة الناس ورغم عدم الأمانة هذا. من هنا ينتج مفهوم للتاريخ يمكن وصفه بالنموذجي: إنّ الاختبارات الحاضرة والماضية تبيّن كما في مرآة أو كما في ظلال ما يمكن أن نرجوَه للمستقبل؛ وهكذا ثمّة مقايسة بين التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل.
إنّ أقوال المسيحيّة بشأن أمور الآخرة يجب أيضًا فهمها انطلاقًا من المقابلة مع ما جرى إلى الآن من تاريخ الله مع الناس. إنّها ليست تحقيقات صحفيّة مسبقة، بل أقوال رجاء بالنظر إلى محبّة الله التي اختبرناها بصورة نهائيّة في شخص يسوع المسيح. ومن ثَمّ لا يتوجّه رجاء المسيحيّ إلى مستقبل (futurum) الإمكانيّات الموضوعة في الواقع، بل إلى المجيء (adventus) النهائيّ لملكوت محبّة الله. هذا الرجاء يمنع التفكير في عاقبة مزدوجة للتاريخ بالنسبة إلى الخير والشرّ. ولكن من جهة أخرى فإنّ التفكير في مصالحة كلّ الكائنات بصورة رخيصة يُعارض التاريخ. بالنّظر إلى يسوع المسيح، الذي اتّخذ الدينونة على عاتقه ممثّلاً الجميع، يستطيع المسيحيّ أن يرجو أنّ ملكوت الله سوف يجلب الخلاص لجميع الناس. مثل هذا الرجاء المتّجه إلى يسوع المسيح هو رجاء يمثّل تمثيلاً فعّالاً رجاء جميع الناس.
النظرة التاريخيّة إلى الواقع تعني بالنسبة إلى المسيحيّة حافزًا دائمًا لتحمّل المسؤوليّة في التاريخ. فلأنّ المسيحيّ يرجو كلّ شيء من الله، من أجل ذلك عينه يستطيع بفضل هذا الرجاء أن يفعل كلّ شيء للاخرين. وبالتالي فالمسيحيّة ليست ديانة عمل باطنيّ محض. إنّها من جوهرها تنطوي على بُعْد سياسيّ. أمّا إلى أيّ مدى يمكن استخلاص لاهوت سياسيّ من هذا البُعْد، فهذا موضوع خلاف وجدَل (ميتس J. B. Metz ومولتمن (J. Moltmann. يجب بالحريّ أن نرى الأهميّة السياسيّة للمسيحيّة في نقد كلّ لاهوت سياسيّ. فلأنّ المسيحيّة ترى كلّ التاريخ في ظلّ ملكوت الله، يتوجّب عليها أن تعارض كلّ محاولة يقوم بها أيّ شعب أو طبقة أو عرق أو فريق لينصّب نفسه سيّد التاريخ وفاعل التاريخ الشامل. وكذلك يجب على الكنيسة الاّ تخطأ فتعتبرَ ذاتَها حكومة إلهيّة. مع هذا التدمير النقديّ الإيديولوجيّ لكلّ ادّعاء سياسي مطلق تُسهم المسيحيّة في أنسنة السياسة. فبقولها إنّ اكتمال التاريخ النهائيّ ليس عملاً يمكن صنعه تاريخيًّا، تصون حريّة الفرد، الذي لا يستمدّ كرامته ممّا يستطيع نظام سياسيّ القيام به، بل من الله وحده. ولكنّ حريّة الله والحريّة أمام الله هما حريّة الجميع في التضامن. ومن ثمّ فإنّ حريّة الفرد لا يمكن تحقيقها إلاّ في نظام تضامني للحريّة. مع هذا الموقف الذي يتجاوز الاختيار بين الفردانيّة والجماعيّة، تملك المسيحيّة موهبة اجتماعيّة خاصّة، تلتزم استنادًا إليها إقامة العدل والسلام في العالم. المسيحيّة، بحسب المجمع الفاتيكاني الثاني، هي علامة وحدة جميع الشعوب والأعراق والطبقات وسرّ هذه الوحدة. ولذلك فالبشارة المسيحيّة بالمحبّة ليست بديلاً عن العدل، بل هي اكتماله الفائق.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:23 am

[size=24]الفصل الخامس
مدخل إلى المسيحيّة
[/size]



3-3. عقيدة الفداء
إنّ اختبار الحريّة التي لا يمكن تقديرها في العلاقة بين الله والإنسان في التاريخ يؤدّي إلى اختبار أساسيّ ثالث للإيمان المسيحيّ، يمكن وصفه باختبار النـزوح. وقد توسّعت فيه عقيدة الفداء المسيحيّة. لقد اختُبر الفداء في العهد القديم أصلاً كتحرير من ضيق واقعيّ. ففي بداية تاريخ الخلاص الكتابيّ يقوم نزوح إبراهيم من أرض آبائه. وإنّ التحرير أو النـزوح (الخروج) من عبوديّة مصر يعبتره العهد القديم عمل الفداء العظيم الذي أجراه الله؛ وقد صار في كرازة الأنبياء نموذجًا للتحرير في نهاية الأزمنة. وفي العهد الجديد صار عبور الأحمر صورة للفصح، أعني عبور يسوع من خلال الموت والقيامة. والمسيحيّ يؤمن بأنّه من خلال المعموديّة يندرج في هذا الحدث ويُحرَّر من سلطة الخطيئة والموت. ولتفسير هذا الفداء بما يعنيه من تحرير، عُرضت في الكتاب المقدّس كما في التقليد اللاهوتي تصوّرات عن التكفير والذبائح مستقاة من تصوّرات مشتركة بين مختلف الأديان. ولكن في الوقت عينه تمّ إصلاحها. فبحسب الاعتقاد المسيحيّ لا يتعلّق الموضوع في الفداء بإقامة نظام من تبادل الإنجازات، بل بالتحرير من شريعة إنجازات من هذا النوع. إنّ رسالة الفداء المسيحيّة لا تُعتبر شريعة بل هي إنجيل يحرّر متجاوزًا الشريعة من خلال المحبّة.
البرّ، أي النظام القويم بين الله والإنسان، لا تمكن إقامته، بحسب الاعتقاد المسيحيّ، من خلال نظام من الإنجاز والإنجاز المقابل. إنّ اختبار النـزوح هو اختبار ما هو دومًا أعظم، وما يفوق دومًا كلّ شيء، وما هو دومًا جديد في محبّة الله. ولا يعطي الإنسان هذا الاختبار حقَّه إلاّ إذا تخلّى عن كلّ حساب وتنازل عن كلّ مطلب. هذا هو المعنى الأصلي لمصطلح "الإيمان" الكتابي. المقصود "بالإيمان" هو الموقف الذي لا يعتمد فيه المرء على إنجازاته الخاصّة ولا على قدرته الخاصّة بل يضع اتكاله التامّ على الله، ويقدّم له المجدَ ويرى فيه أساس وجوده. مثل هذا الإيمان الذي يتخلّى عن كلّ المعايير الدنيويّة هو الجواب الوحيد الموافق عن اختبار محبّة الله، هذا الاختبار الذي يحطّم كلّ المعايير، ويحرّر الإنسان من حيّز أنانيّته الضيّق ومن قلق الحياة الذي يساوره لتأمين نفسه، ويفتح له مستقبلاً جديدًا في محبّة تعطي ذاتها حتّى الموت. وبالتالي فإنّ موضوع الزيادة والفيض هو التحديد الحقيقيّ لتاريخ الخلاص (راتسينغر J. Ratzinger).
هذه الشريعة الأساسيّة للاكتمال الفائق يعبّر عنها بطريقة فريدة صليب المسيح وقيامته. على الصليب تظهر طاعة يسوع التي بها يتخلّى عن ذاته ويجيب عن محبّة الآب التي بها يتجرّد عن ذاته. إنّ فعل الطاعة البشريّة، الذي، في أقصى العجز، يحتمل بثبات التخلّي الإلهيّ، هو في الأساس الثغرة التي تنسكب فيها قدرة محبّة الله المحجوبة في نقيضها لتحقّق نهائيًّا الملكوت في التاريخ. ولذلك لا يمكن وصف هذا الحدث بالأسطورة، لأنّ مجيء محبّة الله النهائيّ لا يتحقّق إلى جانب التاريخ، بل في طاعة بشريّة تامّة. إنّ العقيدة الكلاسيكيّة القائلة بطبيعتين في شخص يسوع المسيح الإلهيّ الواحد قد أوضحت هذا الحدث بدقّة كبيرة، وإن بدت غامضة على نحو ما بالنسبة إلينا اليوم. ولذلك يحاولون اليوم، بخلاف اللاهوت التقليديّ، ألاّ يصفوا هذا الحدث بمقولات الفلسفة اليونانيّة والمدرسيّة، بل بمقولات تستند إلى العلاقة والشخص. وهكذا يصير الصليب والقيامة النموذج الفريد والنهائي للشريعة الأساسيّة في المسيحيّة، شريعة المحبّة التي تتجاوز نفسها، والتي تحرّر الإنسان ليتمّم بوجه فائق الشريعة في المحبّة.

3-4. الكنيسة
إنّ التاريخ الذي افتتحه يسوع المسيح لملكوت الله هو تاريخ فداء، أيّ أنّه واقع تاريخيّ محرِّر حيث يُقبل في الإيمان: أعني في الكنيسة، باعتبارها جماعة المؤمنين. الكنيسة، بحسب اعتقاد جميع الكنائس المسيحيّة، هي، من خلال كرازتها وأسرارها ومن خلال حياتها كلّها، ولا سيّما من خلال الأخوّة التي تسود فيها، المكان والعلامة لحضور روح المسيح. وباعتبارها جماعة في روح المسيح الواحد، لا تستطيع، بحسب جوهرها عينه، أن تكون إلاّ كنيسة المسيح الواحدة. ومن ثّمَ لا يسع المسيحيّة إلاّ أن تشعر بأنّ انقسامها إلى كنائس متعددّة تُقصي كلّ منها الكنائس الأخرى هو بمثابة شكّ.
التباينات الحاسمة بين الكنائس المسيحيّة ناجمة عن مفهوم مختلف للأقوال التي رسمناها آنفًا حول حضور واقع الفداء في الكنيسة. فالتقليد البروتستنتيّ يشدّد أكثر على انحجاب الكنيسة، والتقليد الكاثوليكيّ على طابعها المنظور (من خلال علامات الأسرار المنظورة). ومع ذلك لا تذهب الكنيسة الكاثوليكيّة إلى القول بالتماهي بين روح المسيح ومؤسّستها. هذا ما أوضحه بجلاء المجمع الفاتيكاني الثاني. ومن جهة أخرى لا تفصل العقيدة البروتستنتيّة الروح عن المؤسّسة. إنّ المصلحين قد ابتعدوا بصراحة عن هذه المحاولة التي يقوم بها بعض المندفعين، وربطوا بين روح الله "الكلمة والسرّ اللذين يعتلنان في الخارج". غير أنّ الكنائس البروتستنتيّة تؤكّد أكثر أنّ كلام الله وعمله يتمّان في التاريخ وفي الكنيسة حيث يشاء الله ومتى يشاء. أمّا الكنيسة الكاثوليكيّة فتتميّز بأنّها تؤكّد إلزاميّة مؤسّسة الكنيسة التاريخيّة، وعقيدتها، وأسرارها ووظائفها، وترى في هذا كلّه علامة لحضور الله وعمله في واقع التاريخ. لذلك يمكن وصف الأمر الحاسم المعاديّ كمبدإ لما هو كاثوليكيّ (شلير H. Schlier)، فيما يُعدّ تأكيد الحريّة المسيحيّة علامة مميّزة للبروتستنتيّة. ومع أنّه قد تمّ في العقود الأخيرة تخطّي كثير من الجدل وسوء الفهم، يبدو أنّه لا يزال قائمًا هنا خلال جدّي، يحول دون المشاركة الكنسيّة الكاملة في سرّ الإفخارستيّا.
الأرجح أنّ النـزاع بين الكنائس لن يُحَلّ من خلال محاولات انسجام مباشرة وأعمال منفردة. ربّما يُسهم في الحلّ التعميق لاختبار الروح القدس ولاهوت الروح القدس. وهذه هي الطريق الفضلى للتقرّر أيضًا من كنائس الشرق. فالروح القدس هو رباط المحبّة التي تشمل الوحدة والتنوّع، والتي تعني الارتباط في الحريّة والحريّة في الارتباط. إنّه الأساس الأخير والتعبير الأكثر إيجازًا لشريعة الاكتمال الفائق في المحبّة. انطلاقًا من لاهوت لروح المسيح الفعّال في الكنيسة، يجب التغلّب على الخلافات بين الكنائس وفي الوقت عينه الحفاظ على رغباتها المبرَّرة. وهذا لا يعني أنّه يمكن أن تنشأ في المستقبل، في عصر يمكن على ما نرجو أن يعقبَ تعدّد الكنائس، كنيسة الروح المحض. إنّ تخطّي الحرف نحو الروح يجب بالحريّ القيام به من جديد باستمرار، والتوتّر بين المحافظة والتجديد، وبين الموهبة والمؤسّسة يجب احتماله من جديد باستمرار. هذا النـزوح الدائم هو وحده كفيل بأن يفسح في المجال للكنيسة لتنسجم مع شريعة المحبّة الفائقة.

4. علاقة الكنيسة بالأديان الأخرى
مثل هذا النـزوح مطلوب في الانقلاب الحاضر للكنائس المسيحيّة ليس فقط للتغلّب على الخلافات القائمة بين الكنائس نفسها، بل أكثر من ذلك على المستوى العالميّ في اللقاء مع ثقافات الشعوب الأخرى وأديانها. إنّ شموليّة الرسالة المسيحيّة تمنع أن ترى في هذه الأديان مجرّد زور وكذب وبهتان، وأن تُغفل أنّها تتضمّن آثارًا وأجزاء من حقيقة الله (بذور الكلمة). "في سعي البشريّة المتلمّس نحو الله يحيا سعي الله المتلمّس نحو البشريّة" (التعليم المسيحيّ الهولندي). المسيحيّة، استنادًا إلى نظرتها في تاريخ الخلاص، تكتشف في الأديان من جهة الانحرافات التي يتعرّض لها الله والإنسان وتنتقدها؛ ومن جهة أخرى ترى فيها أيضًا علامات مشيئة الله الخلاصيّة الشاملة، وقيادته للتاريخ وعلامات فعّاليّة الروح القدس. إذ إنّ "كلّ حقيقة، مهما كان من يكرز بها، تأتي من الروح القدس" (القدّيس أمبروسيوس). لذلك ثمّة، بحسب الاعتقاد المسيحيّ، إمكانيّة خلاص موضوعيّة لكلّ إنسان يتمّم مشيئة الله كما يحدّدها له ضميره في مختلف أوضاع حياته الواقعيّة. في هذه العلاقة بالأديان وفي ما تحويه من قبول ورفض (فريس H. Fries )، تعتبر المسيحيّة ذاتها كمال الأديان الفائق. ولكنّ المسيحيّة نفسها لا تستطيع هي أيضًا أن تصل إلى "ملئها" في واقع التاريخ إلاّ إذا تخطّت شكلها الذي لا يزال إلى الآن غريبًا إلى حدّ بعيد، لتتقبّل في ذاتها غنى الشعوب وأديانها.
في هذه العلاقة الواسعة يمكن فقط أن يُفهم صحيحًا مطلب المطلقيّة الذي هو موضوع خلاف وجدل كبيرين. هذا المصطلح الكثير الغموض لم يصدر عن اللاهوت المسيحيّ بل عن الفلسفة المثاليّة. ولذلك لا يجوز استعماله إلاّ مع تفسير لاهوتي جديد. المقصود به هو أنّ المسيحيّة تكتشف في يسوع المسيح الوحي النهائيّ والذي لا يمكن تجاوزه جوهريًّا والشامل، الذي به كشف الله عن محبّته لجميع الناس. هذا المصطلح، في مفهومه الصحيح، لا يتضمّن إذن أيّ تعصّب ضيّق أو تزمّت، بل بخلاف ذلك وعدًا للجميع وبالتالي التزامًا بخدمة الجميع. يُعترف اليوم عمومًا أنّ هذه النظرة تستتبع تغييرًا في ممارسة الرسالة في جميع الكنائس، لتتّخذ الرسالة شكلاً أكثر حوارًا. فالموضوع في الرسالة لم يعد يتعلّق بإنقاذ "أنفس" منفردة، ولا بالأحرى بمجرّد انتشار الكنيسة. المسألة هي بالحريّ مسألة انغراس المسيحيّة. وهذا يعني أكثر من تكييفات منهجيّة تربويّة؛ فالأمر يتعلّق بمسيرة مبدعة، يمكن أن ينشأ فيها، في طريقة مبتكرة، وجه جديد للمسيحيّة أعني مسيحيّة هنديّة وصينيّة وأفريقيّة. في مثل هذا التلاقي الخلاّق مع الشعوب وأديانها، تستطيع المسيحيّة أن تُسهم في المصالحة والسلام بين الشعوب.

ما هي إذن المسيحيّة؟ في الختام أيضًا لا نستطيع أن نحصر جوهرها في تحديد. التحديدات من ذاتها تصف حتمًا وقائع. بيد أنّ المسيحيّة توصف من خلال موضوع الزيادة والفيض ومن خلال شريعة الاكتمال الفائق. الإله المسيحيّ ليس ضروريًّا، ولكنّه أكثر من ضروريّ (يونغل E. Jüngel). المسيحيّة، بالضبط في استحالة تحديدها، هي العلامة المَعَاديّة لحريّة الله في المحبّة، تلك الحريّة التي تفوق كلّ شيء. والمسيحيّة، بكونها تلك العلامة، عليها أن تبرهن عن ذاتها بمساعدتها في عالم متغيّر على تحقيق الوحدة في الكثرة، والحريّة في الارتباط، والعدل من خلال المحبّة. ولكونها الاعتراف بمحبّة الله التي تفوق كلّ شيء والتي اعتلنت من خلال يسوع المسيح، تقدم على الخدمة باهتمام يفوق كلّ حقّ وكلّ عدل لقيام عالم أكثر إنسانيّة. بدل أن نحدّد جوهرها، علينا أن نحاول أن نرويَ بطريقة حيّة تاريخها الذي يتجاوز دومًا ذاته، ونعمل اليوم على تحقيقه.
جدول زمني
حوالى 6/7 قبل المسيح حتّى 
30 بعد المسيح : حياة وأعمال يسوع المسيح
انطلاقًا من حوالى سنة 32 : عمل وأسفار الرسل بولس الرسوليّة
حوالى 48/49 : "مجمع الرسل" في أورشليم: التحرّر من الشريعة اليهوديّة
حوالى 64-67 : استشهاد الرسولين بطرس وبولس في رومة
حوالى 150 : إتمام تكوين العهد الجديد
القرن الثالث والرابع : عصر اضطهادات المسيحيّين الكبرى
313 : قرار ميلانو على يد قسطنطين: المسيحيّة دين مسموح به
325 : المجمع المسكونيّ الأوّل في نيقية: يسوع المسيح إله حقّ
380 : قرار ثيوذسيوس: المسيحيّة دين الدولة
451 : المجمع المسكونيّ الرابع في خلقيدونية: يسوع المسيح إله حقّ وإنسان حقّ
حوالى 480-547 : بندكتُس من نورسيا: مؤسّس الرهبانيّة الغربيّة
754 : تتويج ببيان القصير إمبراطورًا – نشأة الدولة البابويّة
800 : تتويج شارل الكبير إمبراطورًا للغرب: بدء الإمبراطوريّة الرومانيّة الجرمانيّة المقدّسة
1054 : الانفصال النهائيّ بين الكنيسة البيزنطيّة والكنيسة الرومانيّة
1077-1122 : الجدل حول الحقّ في تعيين الأساقفة في الغرب
1096-1270 : عصر الحملات الصليبيّة
1215 : المجمع اللاترانيّ الرابع: قمّة توسّع السلطة البابويّة
1309-1377 : منفى باباوات في أفينيون- فرنسا
1378-1417 : الانشقاق الكبير في الغرب
1517 : نزاع الغفرانات وبدء الإصلاح على يد مارتن لوتر
1522 : الإصلاح في تسوريخ على يد تسْفنغلي
1536-1564 : الإصلاح في جنيف على يد كَلْفين
1545-1563 : المجمع التريدنتيني: تحديدات ضدّ الإصلاح، وإصلاح ذاتيّ للكنيسة الكاثوليكيّة
1555 : سلام أوغسبورغ الدينيّ
1869-1870 : المجمع الفاتيكاني الأوّل: أوّليّة البابا وعصمته
1875 : إنشاء الرابطة العالميّة للإصلاح
1927 : مؤتمر الكنائس العالميّ الأوّل: اجتماع هيئة "الإيمان والنظام" في لوزان- سويسرا
1947 : إنشاء الرابطة العالميّة اللوتريّة
1948 : الجمعيّة العامّة الأولى لمجلس الكنائس العالميّ في أمستردام – هولندا
1961 : المؤتمر الأرثوذكسيّ العامّ في رودس – اليونان
1962-1965 : المجمع الفاتيكاني الثاني: تجديد الكنيسة الكاثوليكيّة الداخلي وانفتاحها المسكونيّ

المراجع
G. Ebeling, Das Wesen des christlichen Glaubens, Tübingen 1959.
Evangelischer Erwachsenenkatechismus. Kursbuch des Glaubens. Im Auftrag der Katechismus-Kommission der Vereinigten Evangelisch-Lutherischen Kirche Deutschlands, hrsg. von W. Jentsch, H. Jetter, M. Kiessing und H. Reller, Gütersloh 1975.
R. Guardini, Das Wesen des Christentums, Würzburg 51958.
Katholischer Erwachsenenkatechismus. Das Glaubensbekenntnis der Kirche, hrsg. von der Deutschen Bichofskonferenz, Limburg u.a. 1985.
تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة بعنوان: التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ للبالغين: المسيحيّة في عقائدها، نشره مجلس أساقفة كنيسة ألمانية، نقله المطران سليم بسترس، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، رقم 18، المكتبة البولسيّة، جونية – لبنان، 1998.
W. Kasper, Einfürung in den Glauben, Mainz 71983.
W. Kasper, Jesus der Christus, Matthias-Grünewald Verlag, Mainz 1992.
تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة بعنوان: يسوع المسيح، نقله المطران يوحنّا منصور، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، رقم 23، المكتبة البولسية، جوينة – لبنان، 2000.
A. Kallis, Orthodoxie – was ist das? Mainz 1979.
H. Küng, Christ sein, München 1980.
H. Küng u.a. Christentum und Wertreligionen. Hinführung zum Dialog mit Islam, Hinduismus und Buddhismus, München 1984.
J. Moltmann, Der gekreuzigte Gott. Das Kreuz Christi als Grund und Kritik christlicher Theologie, München 1972.
Neues Glaubensbuch, hrsg. von Feiner und Vischer, Der gemeinsame christliche Glaube, Freiburg i. Br. 21973.
K. Rahner, Grundkurs des Glaubens. Einführung in den Begriff des Christentums, Müchen 1976, 111979.
J. Ratzinger, Einführung in das Christentum, München, 121977.
تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة بعنوان: جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحيّ، ترجمه إلى العربيّة الدكتور نبيل خوري، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، رقم 15، المكتبة البولسيّة، جونية – لبنان، 1994.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:25 am

الفصل الثالث
مدخل إلى الإسلام 
1. بعثة محمّد

وُلد محمّد في مكّة حوالي عام 570 في قبيلة قُرَيش. كان من آل هاشم وكان اسم أبيه عبد الله. لكن ما عتّم والده أن تُوفّي. ومع أنّ الطفل وُلد في مدينة مكّة، إلاّ أنّه نشأ في مجتمع قَبَليّ وبيئة متأصّلة في العادات والأخلاق القَبَليّة المتعارَف عليها في الجزيرة العربيّة منذ القِدَم. ذلك أنّهم عَهدوا إلى مُرضعٍ من البدو في رعاية الطفل. ثمّ توفّيت أمّه والصبيّ لا يزال في السادسة من العمر. فتعهّده أوّلاً جدّه ثمّ عمّه أبو طالب، والدُ عليّ الذي سيصبح خليفة. كان محمّد وهو حَدَثٌ يرعى الماشية في الصحراء، وكان أحيانًا يرافق عمّه في رحلات القوافل إلى سورية. ويُفيد النقل الإسلاميّ القديم أنّ محمّدًا كان في الثانية عشرة من عمره لمّا التقى، في إحدى هذه الرحلات، راهبًا مسيحيًّا شاهدَ على كتفه علامة رسالته النبويّة اللاحقة.
ولمّا بلغ الخامسة والعشرين أخذ يقود بنفسه القوافل التابعة لأرملة غنيّة اسمها خديجة، ثمّ ما لبث أن تزوّجها حُبًّا، فُرزقا من هذا الزواج عددًا من الأولاد، نخصّ بالذكر منهم فاطمة التي تزوّجها عليّ في ما بعد، فأصبحت أصلاً لذريّة محمّد وشَغَلَت بذلك مكانةً خاصّة لا سيّما في الشّيعة. ويَعتبر القرآن هذا الزّواج من خديجة دليلَ رضًا من الله ونعمة (93: Cool. وهكذا أصبح محمّد تاجرًا غنيًّا مستقرًّا واكتسب من ثم مكانةً ونفوذًا في المجتمع المكيّ.
كان محمّد في سنّ الأربعين لمّا بدأ يتساءل عن معنى الحياة في مجتمع فاسد، لا يُولي الفقيرَ أيَّ اعتبار، بل يظلمه ويقهره بلا شفقة وينساق مرحًا وراء شهواته لإرضائها ما طاب له. وعليه يميل تدريجيًّا إلى الاختلاء. وذات يوم بينما كان معتزلاً في حراء بجبل النور على مقربة من مكّة، عرض له عارضٌ رأى فيه القرآن والنقل الإسلامي دعوةً إلى النبوّة. ذلك أنّه رأى الملاك جبريل يأمره بأن "يقرأ" أي بأن يبلّغ الناس علنًا رسالة من الله (96: 1 – 5).
عاد محمّد منفعلاً، مرتاعًا، غارقًا في التفكير، محاولاً تفسير ما جرى له. مرّت فترة توقّف فيها الانخطاف والوحي. فساوره اليأس وخشي أن يُضحِيَ لعبةً للشيطان. ثمّ عاودته الرؤيا والدعوة فنشأ في قلبه اليقين بأنّه مُعدٌّ لأن يكون نبيًّا.
عندئذٍ شرَعَ يجول في مكّة يعظ أبناء قومه وينذرهم بغضب الله الوشيك ويوم الدين الدّاهم. فعليهم أن يتوبوا ويُقْلعوا عن سيرتهم السيّئة ويؤمنوا بالله إيمانًا صادقًا، فهو وحدَه خالق العالم وهو الديّان الوحيد للناس، لا إله إلاّ هو ولا حَوْل إلاّ به. وكان المضمون الرئيسيّ لوعظه في تلك الحقبة الوعيدَ بقرب يوم الدين، والحَثّ على تحسين السيرة، وإصلاح الحياة الاجتماعيّة الفاسدة، والإيمان بالله الواحد الأحد.
غير أنّ خُطَب النبيّ الجديد وإنذاراته المُقلقة بوعيد الله لم تَلْقَ قبولاً لدى أهل مكّة، فأنذروه بوجوب الكفّ عن دعوته. وخاضوا مجادلات حادّة معه، وأنكروا عليه حقّه في مثل هذه الدعوة، وكذّبوا صحّة رسالته. وقالوا: لمّا كان تلقّى الوحي وهو نائم، منخطف، يرتجف، فهو ليس إلاّ كاهنًا. بل ذهبوا إلى حدّ القول إنّه أداة في يد الشيطان.
ردّ محمّد على تشكيك المشتركين، ولكن عنادهم جرحه في الصميم لأنّه كان حائلاً دون إنجاز رسالته وهي هَدْي الناس إلى الله الرحمن الرحيم. بيدَ أنّه ظلّ وفيًّا لرسالته وأعرض عن خصومه المعاندين. وبقي هؤلاء يناصبونه وجماعته العِداء ويُثيرون لهم المتاعب ويضطهدونهم، بحيث أصبح المسلمون الأوائل عُرضةً للمطاردة والنّفي والخوف من الموت الزّؤام. ولمّا أضحت حَمَلات المكيّين لا تُطاق وصار بقاءُ الجماعة نفسه مُهدّدًا، عقد محمّد العزمَ على مغادرة مدينة الآباء والأجداد وهاج مع جماعته إلى يَثرِب (التي سُمّيت في ما بعد مدينة الرسول). تَمّت الهجرة في العام 622م، الذي أصبح العام القمريّ الأوّل من التقييم الهجري. إنّ الهجرة إلى المدينة أسفرت عن نتائج بعيدة المدى لمحمّد وأتباعه الأولين. ذلك أنّ الترحيب الودّي الذي لقيه فيها وازدياد عدد أنصار الإسلام، جعلا محمّد محطّ الأنظار ومحور الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في المدينة. وهكذا كان عليه أن يتولّى القيادة الاجتماعيّة والسياسيّة للجماعة.
لم يكن ممكنًا أن يكتفي محمّد بنشر رسالة تدعو إلى الزُّهد وتقصُر اهتمامها على الحياة الأخرى، بل كان عليه أن يعالج أمور المسلمين اليوميّة وأن يقيم لهم نظامًا اجتماعيًّا وأن يُرسيَ أُسس التضامن بين الجماعة، التضامن القائم لا على العصبيّة القبليّة، بل على الإيمان المشترك. أخيرًا كان على محمّد أن يقود الكفاح السياسي والجهد الحربيّ ضدّ أعداء الإسلام في الخارج وفي الداخل على السّواء.
لم يكن محمّد في المدينة النبيّ المُلهَم والمتعبّد الزّاهد في الدنيا فحسب، بل أضحى رجل الدولة البارع، والمشرّع الحكيم، والزّعيم السياسي والقائد العسكريّ، وبكلمة موجزة: صار الشخصيّة المركزيّة لجماعة المسلمين الأوائل. وهكذا رأى "رسول الله" سلطته تتعاظم وتتعزّز بنجاح سياسته وبمساندة الوحي الإلهيّ.
لكن الترحيب الودّي الذي لقيَه محمّد في المدينة، ما كان ليعنيَ أنّ الفئات الاجتماعيّة كلّها اعترفت بصحّة رسالته ولا أنّ الجميع وقفوا أنصارًا بجانبه دونما تحفّظ. فالنّصارى – ومن قبلهم اليهود – الذين عاملهم محمّد في مكّة بكثير من الاحترام ودعاهم "أهل الكتاب"، لم يتمكّنوا من الإقدام على الاعتراف برسالته. فاليهود خصوصًا كانوا مرتبطين مع أهل مكّة بمعاهدات اقتصاديّة وعسكريّة. ثمّ إنّه كان من المتعذّر عليهم أن يُقرّوا قول محمّد بأنّ رسالته ليست إلاّ امتدادًا يَصلُ بين التوراة والقرآن، (لا سيّما ما يتعلّق بسِيَر الأنبياء والتشريع…). فابتعد محمّد عنهم وأعلن استقلال الإسلام إذ أَسند الإسلامَ من قبل اليهود والنصارى مباشرة إلى إبراهيم أبي المؤمنين جميعًا. ورسمَ ألاّ يتّجه المسلمون في الصلاة شطرَ القدس من بعدُ، بل شطرَ الكعبة، لأنّ الكعبة، المَقْدِسَ المركزيّ للعرب، قد بناها – كما يذكر القرآن – إبراهيمُ مع ابنه اسماعيل بيتًا لعبادة الله الواحد. وبذلك جعل للإسلام قاعدةً دينيّة هي أيضًا رمزٌ لوحدته السياسيّة.
وكان على محمّد أن يحارب المكيّين في الخارج. فأخذ المسلمون يشنّون غارات على قوافل المكيّين ويُلحقون بهم خسائر مُحرجة. وهذه النـزاعات المسلّحة بين الجبهات المتعادية أدّت إلى وقوع عدّة معارك ومجابهات بين الطرفين: فانتصر المسلمون في بدر (624)، لكنّهم هُزِموا في أُحُد حيث جُرِحَ محمّد نفسه (625). وقام المكيّون بمحاصرة المدينة (627) فلم يُسفر الحصار عن نتيجة حاسمة، لأنّ المسلمين كانوا قد حفروا خندقًا حول المدينة (وقعة الخندق). وفي عام 628 طوّق المسلمون مكّة، ثمّ أبرم الطرفان هدنةً لمدّة عشر سنوات (معاهدة الحُديبية)، لكنّ المكيّين لم يحترموها، فزحف المحاربون المسلمون على مكّة، ففتحت أبوابها لمحمّد بلا مقاومة، بعدما حصلت على ضمانة بأنّه لن يَمسَّ سكّان المدينة بأذى. فوفَى محمّد بوعده ودخل الكعبة وأزال ما كان فيها من أصنام وصوَر ورموز عبادة وثنيّة، وكان ذلك عام 630.
وفي العامَين 630 – 631 أرسلَت القبائل العربيّة وفودًا إلى النبيّ ليقبل دخولها في الإسلام. فأعلن محمّد عام 631 إلغاء العبادات الوثنيّة. أخيرًا في عام 632 قام صُحبةَ عدد كبير من المسلمين بالحجّ إلى مكّة فأصبحت تلك الحجّة مثالاً يقتدي به الحُجّاج المسلمون في الأجيال اللاحقة. ثمّ ما عتّم محمّد أن مَرِض فجأةً وتوفّي في 8 حزيران عام 632م.
يُعتبر محمّد وجهًا من أهمّ الوجوه في تاريخ الديانات. وقد تضاربت الآراء فيه. فاعتبره غيرُ المسلمين مصابًا بمرض نفسيّ أو مضلّلاً. لكن اليوم لم يعُدْ أحد يشكّ في صدقه وشعوره الدينيّ العميق. أمّا للمسلمين الأتقياء فهو رسول الله ونبيّ عظيم، نقل إلى البشر الوحي الإلهيّ في المرحلة الأخيرة من تاريخ الأنبياء. فالقرآن يسمّيه "خاتم النبيّين" (33: 40).
2. مصادر الإسلام
2-1. القرآن
القرآن هو للمسلم المؤمن آخِرُ كلام أوحي به الله للنبيّ بواسطة الملاك جبريل. دُعي هذا الوحي الإلهيّ قرآنًا، لأنّ المقصود هو أن يُقرأ ويُتلى، وأوّل ما أُمِر به به محمّد كان "اقْرَأ" (96: 1).

2-1-1. نشأة المصحف
لم ينـزَّل القرآن دفعةً واحدة. وهو لا يتناول المسائل الدينيّة والاجتماعيّة بطريقة منهجيّة منسّقة. إنّما تلقّاه النبي تدريجيًّا على مرّ الأيّام. وهو يتضمّن وعظًا وحثًّا وقَصصًا لسِيَر الأنبياء وجدلاً مع المشركين واليهود والنصارى. كما ينطوي على أجوبة وأحكام أمست ضروريّة للردّ على أسئلة معيّنة وظروف عمليّة.
طالما بقي محمّد على قيد الحياة، كانت الصحّابة تهتمّ بحفظ القرآن – وعلى قدْر المستطاع – بتدوينه خطيًّا. وكانوا يستخدمون ذلك القرآن في أداء شعائر الصلاة المفروضة. لكن بعد وفاة النبيّ وجّهوا عنايتهم إلى صيانة كلام الوحي من النسيان والتّحريف. فصدَر أوّل مصحَف للقرآن في عهد الخليفة أبي بكر الصدّيق (632 – 634م) عن يد زيد بن ثابت، الذي كان أحد كتّاب النبيّ محمّد. ولمّا كانت القراءات المتنوّعة تسبّب خلافات بين المسلمين، تمّ تكليف زيدٍ ثانيةً في عهد الخليفة عثمان (644 – 654م) بإعداد مُصحَف رسميّ يتضمّن صيغة إلزاميّة لمختلف النصوص.
وقد أُرسلَت نسخة من هذا المصحَف المنقَّح الرسميّ إلى كلّ من المدن الرئيسيّة في الجزيرة العربيّة وسورية والعراق. ولمّا كانت الأبجديّة العربيّة، كما هو معروف، لا تنطوي على أحرف محرَّكة، قام الأمويّون في العراق بإعداد مصحَفٍ جديد مضبوط بالشكل الكامل، تلافيًا للأخطاء وللقراءات التي من شأنها أن تغيّر معنى الآيات، إنْ هي لم تحرِّك تحريكًا صحيحًا.
يتألّف المصحف من 114 سورة أي قطعة مستقلّة. وكلّ سورة مقسّمة إلى آيات. غير أنّ السُّور ليست مرتّبة بحسب تاريخ ظهورها. ولئن كانت السّور الأولى التي نجدها في القرآن أطول من السُّور الأخيرة، فإنّ الطول لا يشكّل مبدأً كافيًا لتبرير الترتيب الحالي. وربّما بدَت الأحكام الشرعيّة الواردة في هذا السُّور الطويلة مهمّة جدًّا لاحتياجات الحياة اليوميّة لجماعة المؤمنين، بحيث تمَّ وضعها في البداية. غير أنّ النصّ الحالي للقرآن يَذكُر إلى أيّة حقبة ترتقي كلّ سورة، أهي الحقبة المكيّة أم الحقبة المدنيّة.

2-1-2. أهميّة القرآن
إنّ خصائص القرآن ترجع، في نظر المسلمين، إلى أصله الإلهيّ. فالقرآن نفسه يؤكّد أنّ الوحي أُنزل على النبيّ محمّد بواسطة الملاك جبريل (42: 52/2: 97). وجاء في بعض الآيات أنّ القرآن ليس إلاّ نسخة عن "كتاب مَكنُون" أو "لوح محفوظ" في السماء، يمكن اعتباره أصلاً لجميع الكتب المقدّسة (56: 77-78 / 85: 21-22 / 43: 4). ولمّا كان عِلم أصول الدين الإسلاميّ ينطلق من أنّ الوحي أُنزل على محمّد حرفيًّا، كان لا مفرّ من التساؤل هل كان القرآن قبلَ إنشاء العالم أي هل هو أزليّ؟ الرأيُ السائد بين علماء الدين هو أنّ مضمون القرآن أزليّ. أمّا غِلافه – أي الألفاظ الناقلة لمعناه، صوتًا وحرفًا – فهو مخلوق.
وبما أنّ القرآن كلام الله فهو خال من التناقض: "أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا" (4: 82). أمّا النّسخ أي إلغاء بعض الأحكام الفرديّة أو تبديلُها فيعود إلى ما جاء في القرآن نفسه عن احتمال نسيان النبيّ آيةً موحاة، أو عن قيام الله بإلغاء أحكام خاصّة أو بتبديلها (87: 66-7 / 17: 86) فالله أعلم بما ينـزّل (87: 7 / 16: 101)، والأمر رهنٌ بحريّة تصرّفه في الوحي والتعبير عن مشيئته العليّة (17: 86 / 16: 10). ومهما يكن من أمر فإنّ نَسْخَ بعض الأحكام المعيّنة يهدف إلى تبديلها بمثلها إن لم يكن بما هو خيرٌ منها (2: 106). وما كان للنبيّ ذاته أن يغيّر من تلقاء نفسه شيئًا ممّا ينقله الله إليه (10: 15).
ثمّ إنّ القرآن لا يجارَى ولا يُعلَى على بيانه. فالقرآن يتحدّى المشتركين بأن يُجاروه (52: 34 / 17: 88) ويقول إنّهم أعجز من أن يأتوا بعَشر سُوَر من مثله (11: 13-14) بل بسورةٍ واحدة (10: 38 / 2: 23). وعليه، يَرى المسلمُ أنّ عَجْزَ البشر عن الإتيان بمثل القرآن يشكّل برهانًا على أنّه كلام الله. كما أنّ إعجازَه يُعتبَر معجزةً تُثبت رسالة محمّد النبويّة. وهذا التفرّد الذي يتميّز به القرآن يتناول لغَته كما يتناول مضمونَه.

2-2. السنّة والحديث
السنّة هي المصدر الرئيسيّ الثاني للإسلام. إنّها المنهاج المثاليّ للنبيّ محمّد، الذي كانت مهمّته الأولى الدعوة إلى القرآن وتأويله تأويلاً أصيلاً. والقرآن يصف محمّدًا بأنّه للمؤمنين "أسوة حسنة" (23: 21). فقد كان "يأمرهم بالمعروف ويَنهاهم عن المُنكَر ويُحِلّ لهم الطيّباتِ ويحرّمُ عليهم الخبائثَ ويضعُ عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم" (7: 157).
إنّ نهجَ محمّد في جماعته، وطريقتَه في تأدية واجباته كمسلم مثاليّ، وأسلوبَ قيادته المؤمنين على صراط الله، والنحوَ الذي حدّد به قواعد السلوك الواجبة، كلّ ذلك يوضح سُنّته أي المِنهاجَ الذي نقله إلينا رواةُ الحديث على اختلال مشاربهم.
والحديث هو الوثيقة الرسميّة للأعراف العريقة المنقولة من السَّلَف إلى الخلَف في الإسلام. وهو ينطوي منها على ما يلي:
- أقوال محمّد، إرشاداته، الترتيبات التي رسمها، القرارات التي اتّخذها، الاستنتاجات التي توصّل إليها، تقييمه لشتّى الأمور ومواقفه منها.
- سلوكه، معالجته الأمور، طريقتَه في إتمام واجباته الدينيّة، أسلوبه العمليّ في تطبيق بعض التوجيهات المعيّنة.
- موقف من أفعال جماعته: هل سكت عن فعل معيّن أم أيّدَه أم حثّ عليه؟ ونقيضُ ذلك: هل لامَ فعلاً ما؟ أم شَجَبَه؟ أم حرَّمه؟

2-3. الإجماع، منهج الأمّة
الإجماع هو اتّفاق رأي العلماء، في فترة من الزمن تَلَت وفاةَ الرسول، على إقرار حُكم شرعيّ عمليّ معيّن.
إنّ أغلبيّة العلماء تُضفي على الإجماع صبغةً إلزاميّة. وهم في ذلك يستندون إلى أقوال القرآن وإلى الحديث ذاته.
فالقرآن يؤكّد: "مَن يشاقِق الرسولَ من بعدِ ما تبيّن له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين، نُوَلِّهِ ما تولّى ونُصْلِهِ جهنّم وساءت مصيرًا" (4: 115). على أساس هذه الآية ينشأ الطابع المُلزِم المنوط بإجماع العلماء، وهذا الإجماع هو الذي يوضح الطريق للمؤمنين.

2-4. المصادر الثانويّة للتشريع 
والطرق المتّبعة لإقرار الحلول الفقهيّة
إلى جانب القرآن والحديث وإجماع الأمّة، يُقرّ علماء الشريعة كمصادر ثانويّة لإقرار الحلول الفقهيّة، القياس، والعُرف والعادة، والرأي الشخصيّ والاجتهاد على أن يُراعي المجتهد مصالح الأمّة والإنصاف والإحسان ويأخذ بفطنة بالاستحسان ويعتمد في بعض الحالات على الاستصحاب.

3. الله
إنّ الإيمان بالله والخضوع التامّ لمشيئته السامية هما صُلْبُ الإسلام. كما أنّ مضمون الإيمان برمّته يتعلّق بالله: "آمن الرسولُ بما أُنزل عليه من ربّه والمؤمنون. كلٌّ آمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله" (2: 285).
3-1. الله الخالق
الله هو خالق السماوات والأرض، وهو خصوصًا خالق الإنسان. والإنسان هو المخلوق الذي ميّزه الله عن سواه وفضّله على غيره من المخلوقات. أمّا خَلْق الإنسان فَنَهج الله فيه طريقةً خاصّة إذ خلقه من التّراب والطين والصّلصال، ونفخ فيه من روحه وقوّمه أحسن تقويم وصوّره فأحسن صورته، وزوّده بالسمع والبصر والفؤاد وجعل له عينين ولسانًا وشفتين. وبعدما خلق الله الإنسان الأوّل جعل له زوجةً منه.

3-2. الله المدبِّر
بعدما خلق الله العالم والإنسان داعيًا الجميع إلى الوجود، لم يتركهم لمصيرهم، بل لا يزال يرعاهم بعنايته الإلهيّة.
وعليه جعل الأرض قابلةً لسُكنى الإنسان وزوّدها بما يلزم لخدمة الحياة البشريّة وازدهارها (17: 70).
والله يفعل ذلك بلا توقّف بل يواصل نشاطه الخلاّق باستمرار. ففِعلُ الخلق لم ينتهِ في أقدم الأزمنة، بل نستطيع القول إنّ الله يجدّد خلْقَ العالم والإنسان باستمرار. وهذا يعني أنّ كلّ شيء في كلّ لحظة يتجدّد بإراداة الله الحرّة التي لا تعرف القيود. 

3-2-1. الله على كلّ شيء قدير: القضاء والقدر وحريّة الإنسان
يؤكّد كلٌّ من القرآن والنّقل الإسلامي تأكيدًا قاطعًا قدرة الله المطلَقة على كلّ شيء. فالله وحده يُحيي وهو وحده يُميت. إنّه يرى ويسمع كلَّ شيء، ولا شيء يَخفى عليه، حتّى أعمق ما في القلب من أسرار، وهو يحيط بكلّ شيء عِلمًا. وقبل كلّ شيء فإنّه يقدِّرُ مصيرَ الإنسان. لكن هل يستطيع الإنسان أن يساهم في تنظيم حياته وإعطائها الشكل الذي يريد؟ وبصورة أدقّ: هل يلعب الإنسان دورًا في الإتيان بأعماله؟ وهل تُفسَح له الحريّة لذلك؟
إنّ عِلم الكلام الإسلاميّ يتمسّك بحريّة الإنسان وفي الوقت عينه بقضاء الله. بيدَ أنّ الشعب يؤمن إيمانًا وطيدًا بقضاء الله، كما يَثبُتُ ذلك جليًّا من أقواله ومن سلوك الجماهير الإسلاميّة، إلى حدّ أنّ كثيرين يتسرّعون في الاستنتاج بأنّ الإسلام يقول بالحتميّة. لا الإسلام حتميّ ولا الإيمان الشعبي حتمي. فلا هذا ولا ذاك يؤمن بقَدَر أعمى لا رحمة فيه ولا شفقة، بل بأنّ الحياة البشريّة يسيّرها الله الحيّ بأحكامه المطلَقة التي لا مُحاسبَ له فيها، إنّما الله في الوقت نفسه سيّد حكيم رحيم بالإنسان.

3-2-2. الله يمتحن الإنسان
خلق الله الإنسان وخصّه بمواهب حسنة. وهو الذي يوجّه مصيره ويرافق حياته بقدرته الشاملة، وقد جعله خليفةً في الأرض جيلاً بعد جيل (قرآن 2: 30). فوجب على الإنسان، مع ما طُبِعَ عليه من هَوًى وضعف و"نفسٍِ أمّارة بالسوء" (12: 53)، وعلى الرغم من عِداء الشيطان له، أن يصون الأمانة التي اؤتُمن عليها وأن يسلك في حياته وفي معاملته لِخَلْقِ الله، سلوكًا لائقًا بمنـزلته.
ويصرّح القرآن أنّ الله لم يخلُق الإنسان عبثًا (23: 115). والقرآن نفسه يعطي أمثلةً عن الفِتنة والبليّة. وما يلقاه الإنسان من خير وشرٍّ هو بلاء، كذلك ظروف الحياة المتنوّعة تُتيح للإنسان أن يُثْبِت إخلاصَه لله في ساعة الشدّة والحزن. والله يبلو الناس بعضًا ببعض. وما على الأرض من زينة وخيرات، إنّما ينطوي على فتنة تُظهِرُ مَن مِنَ الناس يُحسِِنُ عَمَلاً (18: 7 / 6: 165). ومِن وسائلَ الامتحان أيضًا إتمام الفرائض الأخلاقيّة (16: 92). وكذلك القول في تقسيم البشر جماعاتٍ مختلفة (5: 48 / را 7: 168). على الإنسان إذًا في كلّ ظرف من ظروف الحياة أن يتذكّر ذلك ويقول: "هذا مِن فَضْلِ ربّي ليبلوني أأشكُرُ أم أكفُرُ" (27: 40).
فمن لا يخرج ظافرًا من المحنة ولا يجد السبيل إلى الإيمان ولا يعمل صالحًا يكون قد "خسر الدنيا والآخرة" (22: 11). وعلى نقيض ذلك: "إنّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات سيجعلُ لهم الرّحمن ودًّا" (19: 96). وهو يَعدُهم بالثواب في هذه الدنيا وفي الآخرة. والقرآن يؤكّد: مَن عمِلَ صالحًا مِن ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيِيَنَّه حياة طيّبة ولَنَجزيَنّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (16: 97).

3-2-3. الله وهُداه
لكي ينتصرَ الإنسان في التجربة ويكونَ مَرْضيًّا عند الله، عليه أن يجد الحقيقة ويعتنق الإيمان. وعليه أيضًا أن ينهجَ سواءَ السبيل ويُطيعَ أوامر الله كما بيّنها له الله في الوحي وثبّتها في الشريعة. ومَن هداه الله في هذا السبيل فهو المسلم الصحيح، له أن يتوقّع الثواب في الجنّة وسيجد رحمةً من الله في يوم الدّين.
3-3. الله الديّان
لم يكتفِ الله الخالق بإبداع هذا الكون منذ البدء وبمرافقة الإنسان طوال حياته، بل شاء أيضًا أن يكون الحاكم الذي سيحاسِب الناس على إيمانهم وعلى أعمالهم في يوم الدّين.
وسيتقدّم الأنبياء الذي أُرسِلوا عَبْرَ الأجيال إلى شعوبهم ليشهدوا على بني قومهم (10: 47). ويسوع أيضًا سيؤدّي شهادته على اليهود والنّصارى (4: 159). ولن تجوزَ شفاعة الأنبياء ولا الملائكة إلاّ بإذن الله (20: 109 / 21: 28). ويُفيد النّقل الإسلامي أن محمّدًا سيشفَع بالمسلمين وبذلك يُدخلهم أفواجًا إلى الجنّة.
وسيُصدر الله حكمَه على البشر استنادًا إلى إيمانهم وأعمالهم. أمّا معرفة صلاح الإنسان فتتمّ بالكتب التي يدوِّن فيها الملائكة أعمال البشر. فالصالح يحمل كتابه بيمينه والشرير بشِماله (69: 19 و25) أو أيضًا "وراء ظهره" (84: 10). وهنالك موازينُ سماويّة تُتيح مقارنةً عادلةً بين الأعمال الصّالحة والأعمال الطالحة (101: 6-9). أخيرًا، جاء في النقل أنّ هنالك جسرًا ضيّقًا كالشّعرة منصوبًا فوق هاوية جهنّم يسمّى الصراط (را 37: 23) فالأشرار يتدَهْورون منه إلى الهاوية فيما يعبره المؤمنون سالمين.
وحالما يُصدر الله الحُكم، يُقسَم الناس قسمَين رئيسيّين: أصحاب اليمين (هم المخلّصون 56: 8 و27 / 74: 39) وأصحابَ الشمال (هم الهالكون 56: 41).
فالهالكون يُقيمون أبدَ الدهر في الجحيم (43: 74 – 77 / 11: 106 – 107 / 3: 24). أمّا عذابهم فلا يُطاق. والقرآن يصفه وصفًا حيًّا نافذًا. فالجحيم لا سلامَ فيها والهالكون يتخاصمون ويتراشقون التُّهم (38: 55 – 64) "إذ الأغلالُ في أعناقهم والسلاسل يُسحَبون في الحَميم ثمّ في النار يُسجَرون" (40: 71 – 72). ويُضرَبون ويَكتوون بالنار، لا يموتون فيها ولا يَحْيَون (20: 74).
أمّا في الجنّة فيتمتّع المؤمنون والذين تبعوهم إليها، بالنعيم خالدين (11: 108). ويصف القرآن مُتَع الجنّة التي يتعذّر بيانُها، بصورٍ تعكِس سعادةَ الأرض: فهنالك جنّات تجري من تحتها أنهار من الماء واللّبن والخمر والعسل (14: 23 / 47: 15) وفاكهة وافرة وملذّات جسديّة (36: 55-57) والتمتّع الجنسيّ بحُورٍ عين (52: 20 / 56: 22 و35-37). وهنالك الأمن والسلام (15: 45 – 50). كذلك المؤمنات لهنّ الجنّة وما فيها من مُتَعٍ (36" 56 / 13: 23). ويجد القارئ مزيدًا من التفاصيل عن الجنّة في السُّوَر التالية: 52: 17-24 / 56: 10-40 / 55: 46-78 / 76: 5-22.
إنّ الصُّوَر التي يستعملها القرآن لوصف نعيم الجنّة، يأخذها كثير من علماء الدين الإسلامي بمعناها الحرفيّ، غير أنّ المؤلّفين يشيرون إلى أنّ الغبطة في الجنّة أسمى من المُتَع الأرضيّة وأنّها في الحقيقة تفوق قدرةَ الإنسان على التخيّل. وهذا يعني أنّها في الواقع تختلف عن الخيرات والملذّات الأرضيّة. أجَل، تُطلَق عليها الأسماء نفسُها، غير أنّ حقيقتها لا مثيل لها في ما على هذه الأرض.
وفي الجنّة سيختبر المؤمنون رضا الله (9: 72) ويحظَون بسلامه (36: 58). وقبل كلّ شيء سينظرون إليه: "وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة" (75: 22-23). ويرى العلماء التّابعون للمذهب السنّي الأشعريّ أنّ رؤية الله هي أعظم ما في السماء من غبطة (9: 72). وهي ما يصفه القرآن ﺑ "الحُسنى وزيادة" (10: 26). وقد أكّد النبيّ للمسلمين: "إنّكم ستعرَضون على ربّكم فترونه كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رؤيته" (التّرمذيّ، صفة الجنّة 16).

3-4. الله الأحد
التوحيد أساس الإسلام. فشهادة المسلم تقول: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسول الله". والقرآن يكرّر في آيات كثيرة أن الله واحد. وهذا ما تؤكّده بوجيز العبارة سورة الإخلاص التي كثيرًا ما يتلوها المسلمون: "قُلْ هو الله أحد. الله الصَّمَد. لم يَلِد ولم يولَد. ولم يكنْ له كُفوًا أحد" (112: 1-4).
والقرآن يحمِل على المشركين الذين يعبدون آلهة أخرى من دون الله. كما أنّه ينتقد أيضًا بعض تعاليم الدين المسيحيّ.
ومن مآخذ القرآن على المشركين أنّ آلهتهم المزعومة لا تستطيع أن تأتيَ بشيء من أعمال الله: الخلق، تجديد الخلق، الرِّزق، إعانة الإنسان، وعمومًا عمل أيّ شيء (را 27: 59-64). والله غنيّ عن أيّ كائن آخر، ولا حاجة به أن يتّخذ ولدًا، فله الكون كلّه (10: 68). لا صاحبةَ له، ولا قرابة بينه وبين الملائكة. إذا خلَق شيئًا فلا يفعل ذلك بالولادة بل بكلمته الخلاّقة (19: 35 / 2: 117). أمّا القول بأنّ ثمّة آلهة أخرى من دون الله فهُراءٌ لسبب آخر وهو أنّه يؤول إلى التناقض والتناحر، لأنّ تلك الآلهة ستطمح إلى انتـزاع السلطان والعرش من الله (17: 41). ومن شأن مثل هذا التنافس (23: 91) أن يُفسد الخلق (21: 22). فالله إذًا واحد أحد. وعليه فإنّ عبادة الأوثان أو الشِّرك، على حدّ تعبير القرآن، لَهيَ كبيرة وأفظعُ مِن أن يغفرها الله للإنسان (4: 48 و116).
إنّ توحيدَ الإسلام الصارم لا يحمل على المشركين فحسب بل على النصارى أيضًا، إذ يأخذ عليهم الغُلُوّ في تكريم المسيح ابن مريم. فالقرآن يعترف بيسوع نبيًّا ورسولاً عظيمًا لله (19: 30 / 3: 48-49 / 4: 171 / 33: 7 / 5: 110-111). ويسمّيه المسيح عيسى (3: 45).
ويسوع هو، في نظر القرآن، "روحٌ من الله" (4: 171) لأنّه، في رأي المفسّرين المسلمين، حُبِل به بنفخ الروح من مريم (را 21: 91 / 66: 12)، كما خُلِق آدم بنفخٍ من الروح الإلهيّ (را 15: 29 / 32: 9 / 38: 72).
ويُسمّي القرآن أيضًا يسوع المسيح "كلمة الله" (4: 171) وكلمةً من الله (3: 45). بيدَ أنّ هذه الصفة لا تعني، كما حاول المدافعون عن الدين المسيحيّ دائمًا التركيز على ذلك، أنّ القرآن يعترف بألوهة يسوع المسيح وأنّه يدعوه الكلمة الأزليّ. فيسوع هو للمسلمين كلمة الله بمعنى أنّه خُلِق بكلمة الله المُبدِعة (را 3: 47 و59/ 19: 53) أو أنّ الله سبق فبشّر به بكلمته التي ألقاها في فم الأنبياء أو أنّه نبيٌّ يبشّر بكلمة الله أو أخيرًا أنّه كلمة الله أيّ بُشرى الله للناس.
ليس يسوع المسيح ابن مريم إذًا سوى إنسان أنعم الله علين (43: 59 / 4: 171-172)، فلا يجوز أن يسمَّى ابن الله. والحُجَج التي يأتي بها القرآن ضدّ المشركين تصلُح هنا أيضًا في نظره. ثمّ إنّ يسوع تصرّف بين الناس كإنسان عاديّ "فهو وأمّه كانا يأكلان الطعام" (5: 75). وبالتالي كان له أن يسلك، أُسوةً بسواه من الخَلْق، إلاّ أن يأتي الرحمن عبدًا (19: 93). لذا، عندما يُجلّ النصارى المسيح كابن الله فإنّ هذا الإجلال هو أقرب إلى الشِّرك منه إلى التكريم لأنّه يذكّر بأقوال المشركين (9: 30). ويعود القرآن فيصف الذين يأخذون بهذه الأقوال بأنّهم كفروا (5: 17 و72). ذلك أنّ النصارى لم يتلقّوا هذا التعليم من يسوع نفسه لأنّ يسوع، على حدّ ما ورد في القرآن، كان يبشّر قائلاً: "يا بني إسرائيلَ اعبدوا الله ربّي وربّكم" (5: 72 / را 5: 116 – 117). ويرى القرآن أنّ يسوع لو علّم تعليمًا خاطئًا عن نفسه وعن علاقته بالله، كما يدّعي النصارى في تعاليمهم التي يُشتَبه في أنّها مُشرِكة، لناقض رسالته النبويّة: "ما كان لبشر أن يؤتيَهُ الله الكتابَ والحُكمَ والنبوَّة ثمّ يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله" (3: 79). ويرى القرآن أنّ قول النصارى بألوهة يسوع المسيح لا بدَّ أن يكون تزويرًا لرسالة المسيح، فهو إذًا يُعزَى إليهم وإلى علمائهم. والقرآن يَعجَب من السهولة التي يرجعون فيها عن الحقّ ويقول: "اتّخذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا والمسيح ابنَ مريم وما أُمِروا إلاّ ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يُشركون" (9: 30-31).
ويرفض القرآن أيضًا الإيمان بالثالوث ويعتبره إيمانًا بثلاثة آلهة. (راجع 4: 171؛ 5: 73).

3-5. الله المتعالي
كم من مرّة يعود القرآن إلى إبراز تسامي الله عن خلقه: "هو العليّ" (2: 255 / را 20: 114 / 23: 116). "لا تُدركه الأبصار" (6: 103). "ليس كمِثله شيء" (42: 11).
4. أركان الإسلام
4-1. الشهادة
يدخل الإنسان الإسلامَ بالشهادة أي بقوله: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسول الله". وغالبًا ما يردِّد المؤمن هذه الشهادة تأكيدًا لإيمانه وتعزيزًا لطاعته لله ولتعلّقه بالرسول والإسلام وجماعة المسلمين.

4-2. الصلاة
الصلاة هي التعبير الأسمى عن الإيمان. فهي تعني ضمنًا الاعترافَ بسلطان الله المُطلق وبتبعيّة الإنسان لمشيئة الله.
ويميّز الإسلام الصلاة المفروضة من الصلاة الشخصيّة (الدّعاء) والصلاة الصوفيّة التي بها يتوجّه القلب إلى الله (الذِّكر).
الصلاة المفروضة على المسلم خمس مرّات في اليوم، وفي هذه الأوقات يدعو المؤذّن المؤمنين إلى الصلاة.
لا يجوز للمسلم أن ينتقل تَوًّا من أعماله اليوميّة إلى أداء الصلاة. بل عليه أن يتأهّب لها ليكون في حالة الطهارة اللازمة شرعًا. يكتسب المسلم حالة الطهارة بإحدى طريقتَين، بحسب ما يكون عليه من جَنابَة أي نجاسة: فإمّا الاغتسال الجُزئيّ (الوُضوء) وإمّا الاغتسال الكامل (الغُسل) في حالة الجنابة الجنسيّة ويتناول الغُسل جميع أعضاء الجسم.
علاوة على طهارة جسد المصلّي، ينبغي أيضًا أن تكون ملابسه نظيفة وكذلك المكان الذي يصلّى فيه. هذا المكان يُفَضَّل أن يكون المسجد (المعبد). إنّما يجوز استعمال مكان آخر بمدّ سجّادة أو قطعة من الثياب أو أيّ شيء مماثل آخر على الأرض.
تتألّف الصلاة الشرعيّة من عدد من الوحدات تسمّى ركعة. فصلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة العشاء تتألّف كلّ منها من أربع ركعات، فيما تنطوي كلٌّ من صلاة المغرب والصبح على ركعتين فقط.
علاوة على فريضة الصلاة الفرديّة، هنالك صلاة الجماعة التي تُقام يومَ الجمعة، ويوم عيد الفطر في ختام شهر رمضان، ويومَ عيد الأضحى في ختام الحجّ إلى مكّة، وكذلك في حالة وفاة أحد المؤمنين (صلاة الجنازة) أو في زمن الحرب (صلاة الخوف) أو في حالة القَحْط الشديد والجفاف (صلاة الاستسقاء).
إنّ القرآن يعتبر صلاةَ الجُمُعة أي صلاةَ الجماعة فريضةً إلزاميّة: "يا أيّها الذين آمنوا إذا نُوديَ للصلاة من يوم الجمعة فاسعَوا إلى ذكر الله وذَرُوا البيع. ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلّكم تُفلّحون" (62: 9 – 10).
يوم الجمعة في الإسلام ليس إذًا يومَ عطلة على غرار الأحد في المسيحيّة، إنّما هو اليوم الذي يتجمّع فيه المسلمون في المسجد عند الظهر، لأداء فريضة الصلاة بقيادة إمام. والملزمون بصلاة الجمعة هم الرجال (إذًا لا النساء ولا الأطفال) ما لم يحُلْ سببٌ كافٍ دون القيام بهذا الواجب.
وقبل صلاة الجمعة يستمع المؤمنون إلى تلاوة رسميّة من القرآن. وهي نوعٌ من التأمّل في نصّه المقدّس، يترك أثرًا بليغًا في قلوبهم ويحملهم على خشوع أعظم وخضوع أعمق لمشيئة الله.
ولمناسبة صلاة الجماعة تُلقَى في المصلّين خطبة تتناول شتّى المواضيع من دينيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، ممّا يهمّ الجماعة أو يتعلّق بمصالح الإسلام في العالم.

4-3. الزكاة
إضافة إلى الصّدقة الطوعيّة التي تُعطَى لصالح الفقراء، وإلى التبرّعات التي تُقدَّم لمساندة الجماعة في قيامها بالواجبات الاجتماعيّة والخيريّة، يعرف الإسلام تقدمةً ماليّة شرعيّة تُدعى الزّكاة. وهي مساهمة المؤمنين في تمويل المشاريع الملقاة عمومًا على كاهل الجماعة الإسلاميّة المتضامنة وكاهل الدولة الإسلاميّة. ويمتدح القرآن المؤمنين الأتقياء "الذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم" (70: 24 – 25). فمَن قام بواجب التضامن هذا، حقَّ له أن يرجو من الله المففرة وثواب الصالحين.
ويُحدَّد مبلغ الزكاة وَفْقًا لقيمة ما يخضع للضريبة من سِلَع وبضائعَ ودخل. أمّا المستفيدون من توزيع الأموال الناجمة عن الزّكاة، فكانوا في عهد النبيّ ينتمون إلى الفئات التالية كما أوردها القرآن: "إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرِّقابِ والغارمينَ (مَن عليهم دَيْن) وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم" (9: 60).

4-4. الصّوم
المكلّفون هم المؤمنون البالغون، الممتلكون قواهم العقليّة، القادرون فعلاً على إتمام فريضة الصّوم. ويُعفى من الصّوم الحوائض والحوامل والمُرضِعات وكذلك المرضى والمُسنّون والمسافرون الذين لا طاقة لهم به.
على مَن فاته الصوم، أن يصوم عددًا مماثلاً للأيّام التي لم يصُمها وعلاوة على ذلك، يجب أن يكفِّر عن تقصيره، مثلاً بإطعام المساكين (2: 184). كذلك المُعفَون من الصوم، يُنصَحون بأن يقوموا بصوم بديل، إن استطاعوا (2: 184-185).
زمن فريضة الصوم هو شهر رمضان القمريّ الذي يتنقّل مع مَرّ السنين، من فصل إلى فصل على مدار السنة الشمسيّة، ممّا يثقل أو يخفِّف من عبء الصوم. ذلك أنّ على المؤمن أن يمتنع عن الطعام والشراب وما شاكل، وعن التدخين والوِصال، من الفجر إلى غروب الشمس.
ولا يصحّ الصوم إلاّ إذا جدّد المسلم يوميًّا نيّته بأن يصوم، على أن يَتمّ تجديد النيّة قبل بزوغ النهار. وعلاوة على ذلك، لا يكتسب صومُه العمقَ الدينيّ، إلاّ إذا رافقته ممارسة عدد من الفضائل ومنها إلجامُ النظر وإلجام اللسان (تجنّب الكذب والافتراء والحَنَث…) وإلجام الأذُن والسيطرة على سائر أعضاء الجسم. أخيرًا، يحمل الصوم المؤمنين على الصبر ويقوّي إرادتهم للتغلّب على مصاعب الحياة، ويعزّز قواهم الروحيّة ويؤهّلهم للسعي إلى إرضاء الله وللخضوع لمشيئته. وعليه فإنّ القرآن يعتبر الصومَ سبيلاً إلى التقوى وتعبيرًا عنها (2: 183).
إنّ شهر رمضان هو في الإسلام زمن نعمة وبركة، إذ إنّ تنـزيل القرآن تمّ في إحدى لياليه، وفيه ليلة القدْر، التي تقع في السابع والعشرين منه (97: 1 / 44: 2-5). ويقول القرآن في هذه الليلة: "ليلةُ القدْرِ خيرٌ من ألفِ شهر. تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها من كلِّ أمر. سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر" (97: 3-5).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75866
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الاديان الخمسة الكبرى Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاديان الخمسة الكبرى   الاديان الخمسة الكبرى Emptyالخميس 12 نوفمبر 2015, 9:26 am

[size=24]الفصل الثالث
مدخل إلى الإسلام 
[/size]


4-5. الحجّ إلى مكّة
ويقول القرآن في هذه الفريضة: "لله على الناس حجُّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً" (3: 97).
ويجب أن تتمّ هذه الفريضة على الأقلّ مرّة في الحياة. أمّا المكلَّفون فالرّجال والنساء من البالغين، الممتلكين قواهم العقليّة، الأحرار، القادرين فعلاً على الحجّ من الناحية الصحيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والتنظيميّة. وكلّ من لا يُتِمُّ هذه الفريضة، يتركها كدَين على ورثته فيصبحون مُلزَمين بقضائها. أمّا مَن يتعذّر عليه الحجّ إلى مكّة لأسباب قاهرة فيجب أن يُكلَّف غيرَه بإنجاز هذه الفريضة عنه.
قبل أن يَطَأَ الحاجُّ منطقة مكّة، عليه أن يؤكّد نيّته بإتمام فريضة الحجّ. بعد ذلك يدخل في التّحريم بالاغتسال وغير ذلك من شعائر التطهير فيخلَع ثيابه ويستتر بقطعتين من القماش الأبيض مخصِّصتين للحُجّاج وأخيرًا يصلّي ركعتَين. وحتّى نهاية شعائر الحجّ، عليه أن يمتنع عن "الرَّفث والفُسوق والجِدال" (2: 197)، وعن الصيد وعن أكل لحم الصيد (5: 1-2 و95-96)، وعن كلّ عمل من شأنه أن يُفسِد حالة التحريم.
في مدينة مكّة المكرَّمة يبدأ الحاجّ بالطّواف حول الكعبة سبع مرّات. وبعدما يطوف حول الكعبة عليه أن يُستحسَنُ أن يشربَ من ماء بئر زَمزَم. ثمّ يسعى بين هضبتَين، الصَّفا والمَرْوَة.
بعد ذلك ينطلق الحجّاج زرافاتٍ في اتّجاه جبل عرفات، فيبلغون مدينة مِنى بعد غروب الشمس. وبعدَ شروق الشمس ينطلقون إلى جبل عرفات فيبلغ الحدُّ ذروتَه بالوقوف هنالك، حيث يتقدّم المؤمن أمام الله فيُعلن خضوعَه المُطلَق له وطاعته التامّة.
وبعد غروب الشمس يغادر الحُجّاج عرفات متوجّهين إلى مُزْدَلِفة ومنها يعودون إلى مِنى حيث يرجُمون الشيطان رمزيًّا. ثمّ يذبحون الأضاحي من الأنعام. هذا ما يُسمَّى في العالم الإسلاميّ عيدَ الأضحى، الذي يذكِّر بتضحية إبراهيم، وهو يقع في اليوم العاشر من ذي الحجّة، شهر الحجّ.
ختامًا يحلِقون شعرهم أو يقصّرونه ويطوفون ثانية حول الكعبة سبعَ مرّات. وبذلك يُحِلُّون أي يخرجون من التّحريم فتنتهي فريضة الحجّ الرسميّ.
وقد اعتاد الحجّاج أن يمكثوا في مكّة بضعة أيّام أخرى للقيام ببعض العبادات الفرديّة. ومن المُستحسَن أن يعرّجوا على المدينة، وهم في طريق العودة، لزيارة قبر النبيّ، وكذلك على القُدس لزيارة قبّة الصخرة والمسجد الأقصى.

5. الأخلاق والقواعد المسلكيّة
تتعلّق الأخلاق بالخير. لكنْ، ما هو الخير وما هو الشرّ؟ إنّ الأشعريّين الذين يمثّلون السُّنة في الإسلام، يجيبون عن هذا السؤال بقولهم إنّ الإنسان لا يُدرك ذلك من خلال النوعيّة الباطنيّة للفعل الإنسانيّ ولا من الرجوع إلى قاعدةٍ تمّ وضعها بطريقة ما، ويتفهّمها العقل البشريّ، بل فقط من معرفة مشيئة الله. ذلك أنّ الله هو الذي يحدّد قواعدَ الخير والصّلاح، بحريّته التي لا مجال لمناقشتها. وعليه فإنّ دور العقل البشريّ ينحصر في تقصّي الوحي القرآني واعتماد شرحه الرسميّ في النقل المشروع، لمعرفة أحكامه الوضعيّة ووَصْفِها وتوضيح نتائجها العمليّة. فالأخلاق هي إذًا جزءٌ من الشريعة، على غِرار سائر الأحكام الوضعيّة في الإسلام. وبالتالي تنحصر مسؤوليّة الإنسان – قبل كلّ شيء – في الخضوع لمشيئة الله بلا قيدٍ ولا شرط.
والتحديد الوضعيّ للقواعد الأخلاقيّة ليس اعتداءً على الحريّة البشريّة، إنّما هو، في نظر الإسلام، سَندٌ للإنسان يستحقّ التّرحيب والتقدير، لأنّ الإنسان من تلقاء ذاته ما كان ليهتدي إلى سواء السبيل (راجع 7: 43). ولكي ينجوَ الإنسان من الشرّ، يكفيه أن يتبع هُدى الله.
غير أنّ الخبرة تُثبت أنّ الإنسان يسقط باستمرار فريسةً للخطيئة. وما تاريخ البشر إلاّ تاريخ عصيانهم وتصلّبهم في الشرّ. بيدَ أنّ الذّنوب ليست كلّها متساوية في الخطورة.
فهنالك كبائر ولَمَم أيّ ذنوب صغيرة (را 53: 32 / 42: 37 / 4: 31). وأفظع الخطايا هي التي تُرتَكب ضدّ الله والإيمان. أمّا الكُفر فيضع الإنسان خارج نطاق رحمة الله وهذا يعني أنّه لا يُغفَر (4: 168 / 9: 80). ومِن الكُفر عبادة الأوثان (4: 48 و116) وجحود الإسلام (4: 137). ويؤكّد القرآن أنّ شفاعة النبي نفسه لن تُجديَ نفعًا في هذه الحالة فالله لن يغفر هذه الخطايا (63: 6 / 9: 80). أمّا الخطايا الأخرى فتمَسُّ حياة الإنسان أي تُبيدها أو تضرّها ضررًا فادحًا (القتل، الضرب المميت، الجَرْح، الدعارة، اللّواط، الزّنى…) أو تَمَسُّ ممتلكاته أو سمعتَه وتُلحق بها الضّرر. كلّ هذه الخطايا يمكن أن تُغفَر فالله على استعدادٍ لأن يغفر الذنوب جميعًا (39: 53) "لِمَن يشاء" على حدّ تعبير القرآن (2: 284 / 3: 129). وغفران الذنوب والمعاصي يتمّ بفضل الإيمان (راجع 20: 73 / 26: 51 / 46: 31)، والوفاء في اتّباع النبيّ (3: 31)، والقيام – عن إيمان – بالفرائض الدينيّة المتنوّعة (الصلاة والصّوم والزّكاة والحجّ إلى مكّة)، زِدْ على ذلك النّدامة والتّوبة عن ارتكاب المعاصي (42: 25 / 4: 17). والتوبة الصّادقة تعبِّر عن ذاتها بأعمال التكفير والتعويض، التي تصالح الخاطئ فعلاً مع الله (5: 39). ومِن ثَمَّ كان على المؤمنين أن يتوبوا ويكفِّروا عن ذنوبهم (24: 31 / 66: 8 / 5: 74). وعليهم أن يستغفروا الله. ذلك كلّه موجزٌ في المقطع التّالي من القرآن:
"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسَهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم. ومَن يغفر الذنوبَ إلاّ الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربّهم وجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونِعْمَ أجرُ العاملين" (3: 135 – 136).
من الواضح أنّ مغفرة الكبائر تشملُ أيضًا مغفرة اللّمَم، كما أنّ تجنّب المعاصي الثقيلة يجلُب مغفرة الذنوب الصغيرة أيضًا (53: 32 / 4: 31). وبأولَى حجّة تكسِب الأعمالُ الصالحة (كالصلاة مثلاً: 11: 114) المغفرةَ من الله.
تقوم المناقبيّة الإسلاميّة على القِيَم الأخلاقيّة، وهي تنطوي على أوامرَ ونواهي يمكن تشبيهُها بالوصايا العشْر الواردة في التّوراة (قرآن 17: 22 – 39 / 6: 151-153). وسنبيّن في العرض التالي وجه الشَّبه:
إنّ أساس المناقبيّة والقِيَم الأخلاقيّة الإسلاميّة هو الإيمان بالله وحدَه. إنّه واجبٌ مطلوب من الإنسان إزاءَ الله وحدَه. فالإيمان بالله والخضوع له، إنّما يُعبَّر عنهما بإتمام الواجبات الدينيّة. ومَن كان مؤمنًا متواضعًا انفتح له سبيلُ التعمّق في إيمانه (32: 15). أمّا التكبُّر فيمقته الله لأنّه يحوِّل الإنسان عن الدِين وعن عبادة الخالق (40: 35). فالله لا يحبّ المستكبرين (16: 23) بل يُلقِي بهم في جهنّم جزاءَ تجبّرهم (16: 27 / 4: 172-173). ويدين القرآن أيضًا نكرانَ الجميل ويصف الإنسان بأنّه عمومًا كنود. أمّا الشاكرون فينالون ثوابَهم من الله (3: 144). كذلك يؤكّد القرآن "أنّ الله مع الصابرين" (2: 153) وأنّه سيؤتيهم "أجرَهم مرّتين بما صبروا" (28: 54 / 29: 59). والقرآن يَشجُب الأَيمان التي يؤدّيها الإنسان استهتارًا (2: 224). كذلك مَن يلجأ إلى القَسَم دسًّا ومَكرًا وما شاكَل، فعليه أن يتوقّع العذاب جزاءً (16: 94). أمّا مَن وعد وأقسَم فعليه أن يَفيَ بوعده (16: 91 / 5: 89). وإذا تسرّع الإنسان وأقسم طَيْشًا، كأنْ يَحلِفَ بحُكم العادة، فيُعامَل بحلْمٍ (2: 225)، إنّما عليه أن يكفِّر عن ذَنْبِه فيُطعِمَ عشَرةَ مساكين أو يصوم ثلاثة أيّام (5: 89).
ومن واجبات المسلم أن يُكرمَ والديه وأن يعاملهما برفقٍ ويحفظَ لهما الجميل ويعتني بهما عند اللزوم (2: 215). غير أنّ واجب احترام الوالدين لا يجوز ان يؤدّي إلى امتهان الإيمان، فلا تحلُّ طاعتهما إذا دَعَيا إلى الجحود بالدّين، مهما ألحّا (29: 8 / 31: 15). ويجدرُ بنا أن نوردَ، في هذا الصَّدَد، مقطعًا قرآنيًّا جميلاً:
"وقضَى ربّك ألاّ تعبُدوا إلاّ إيّاه وبالوالدَين إحسانًا. إمّا يبلُغَنَّ عندكَ الكِبَر أحدُهما أو كِلاهما فلا تقُل لهما أُفٍٍّ ولا تنهَرْهما وقُلْ لهما قولاً كريمًا. واخفِض لهما جناحَ الذُلّ من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا" (17: 23-24).
ويحثّ القرآن على احترام الحياة ويَنهَى عن القتل بلا مُبرِّر (4: 29 و92). ذلك أنّ القتل الاعتباطي هو أساسًا اعتداء على البشريّة كلّها: "مَن قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعًا. ومَن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعًا" (5: 32). أمّا القاتل فغضَبُ الله عليه ولعنته، وله عذابُ جهنّم (4: 93). وعلاوة على ذلك، تنطبقُ على القتل الأحكام الجزائيّة الخاصّة بكلّ جُرمٍ وهي تنطلق عمومًا من المبدإ القديم: العَين بالعَين والسِنّ بالسِنّ (2: 178).
أمّا بشأن الحبّ والأمور الجنسيّة فيتّخذ الإسلام موقفًا إيجابيًّا. فمِن آيات الله في خلقه "أنْ خلقَ لكم من أنفسِكم أزواجًا لتَسكنوا إليها وجعلَ بينكم مودّةً ورحمةً…" (30: 21). فالرّجل للمرأة والمرأة للرّجل، وكلّ منهما لباسٌ للآخر (2: 187). والنساء "حَرْثٌ" للرّجال (2: 223). ولا يُحرَّم الوِصال إلاّ في حالة الحَيض (2: 222) وزمن التوبة والصوّم، نهارًا فقط (2: 187)، وزمنَ الحجّ طوال فترة التّحريم (2: 197). والزوّاج هو الوضع الذي يجوز فيه الجماع (70: 31). فلا بدَّ إذًا للعازب من الامتناع "إلى أن يُغنيَه الله"، أي حتّى الزواج (24: 33). إنّما يحِلّ للرّجال وحدَهم أن يعاشروا إماءَهم (70: 29-30 / 23: 5-6). وهذا التشريع مطابق للأحكام القديمة التي تعترف بحقّ الرجل على مَن يملِك من إماء. في ما سوى ذلك فالعفّة فرض على النساء (24: 60). وعلى الرّجال أيضًا (70: 29 / 23: 5 / 24: 30). وهذا يعني تحريم الدّعارة (6: 151 / 7: 28) والبغاء (24: 33) واللّواط (4: 16 / 7: 80-81). فكلّ هذه المآثم تُعتبَر جرائم وتلاحَق. وأثقلها الزنى لأنّه يجرح شرفَ الأُسرة ويُثيرُ الشكّ في شرعيّة الأولاد.
والقرآن يأمر صراحةً بالعدل ويعتبره الفضيلة الخاصّة بالمسلمين: "يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامينَ لله شهداء بالقِسْط ولا يَجرِمَنَّكم شَنآنُ قوم على ألاّ تعدِلوا. إعدلوا هو أقربُ للتّقوى. واتّقوا الله إنّ الله خبيرٌ بما تعلمون" (5: 8 / 7: 29 / 49: 9). وعليه يَشجُبُ القرآن الغِشَ والتدليس في التجارة ويوصي قائلاً: "أَوفُوا الكَيْلَ والميزانَ بالقِسط" (6: 152). أمّا استيفاء الفوائد فيعتبره القرآن رِبًا ويحرّمه، هذا في رأي كثير من المفسّرين. ومَن لا يترك الرّبا فعليه أن يتوقّع حربًا من الله ورسوله (2: 278-279). والأمانات يجب أن تؤدَّى إلى أصحابها في الأجَل المُتّفَق عليه (70: 32 / 4: 58). ومَن عاهَد فعليه أن يَفيَ بعهده ويقوم بواجبه (2: 177). ومِن العدل أيضًا، في نظر القرآن، معاملة الضّعيف والملهوف بالحُسنى، لا سيّما الفقير وابن السّبيل (30: 38). كذلك ينبغي على المسلمين أن يعدِلوا حتّى في معاملة الكُفّار المُسالمين (60: Cool. كما يقتضي العدل أيضًا ألاّ يَسلِبوا الناس ما يملكون (26: 183 / 7: 85). أمّا المظالم، أيًّا تكن أنواعها، فعلى القاضي أن يلاحقها. وثمّة عقابات معيّنة للسّرقة وأعمال العنف.
ويولي القرآن أهميّة خاصّة لأن يقول المؤمنون "قولاً سديدًا" كي ينالوا هم أيضًا مغفرةً من الله ونعمة (33: 70-71). ومحبّة المؤمنين للحقيقة تحرِّم عليهم شهادة الزّور (25: 72) والنِّفاق والرِّياء "وأن يُحمَدوا بما لم يفعلوا" (3: 188). كذلك الغرورُ والظنّ (49: 12) والسعي بالنّميمة (24: 19) والافتراء (4: 112)، ذلك كلّه محرَّم وهو يعرّض صاحبه لعقاب من الله.
وعلاوةً على هذه الأحكام التي تطابق مضمونَ الوصايا العَشْرِ في التّوراة، فإنّ القرآن يمتدح الفضائل التي من شأنها أن تدعم حياة المؤمنين في الجماعة وتجعلَ منهم قدوةً لسائر الناس (راجع 2: 143). 

خاتمة: الحوار بين المسيحيّين والمسلمين
إنّ الحوار الدينيّ لمهمّة عسيرة، لا سيّما بين المسيحيّين والمسلمين، لأنّ علاقاتهم التقليديّة ظلّت مُتّسمة حتّى الآونة الأخيرة بالرِّيبة والعِداء، بل الحقد. زدْ على ذلك الأحكام التّعميميّة التي يُطلقها كلّ طرفٍ على الآخر، علمًا أنّ تلك الأحكام لا تزال حتّى الآن تتَّسم، في معظمها، بالتحيُّز والتّحامل وسوء التفاهم والانفراد بالرأي. وغالبًا ما تكون أيضًا ذريعةً لتغطية مخاوفَ من شأنها أن تُجرَّ عواقب اجتماعيّة وسياسيّة لا يعلم مداها إلاّ الله.
يُضاف إلى ذلك كلّه التطوّرات التاريخيّة أدّت إلى تباعد الفكر المسيحيّ عن المفاهيم الإسلاميّة تباعدًا متزايدًا. فالظروف الاجتماعيّة والثقافيّة تغيّرَت، كما أنّ المناهج اللاهوتيّة والمقولات الفكريّة في المسيحيّة تختلف في أيّامنا اختلافًا بيّنًا عمّا هي عليه في الإسلام. وممّا يزيد هذه الفوارق خطورة، أنّ الإسلام لا يزال متمسّكًا أشدَّ التمسّك بسَلَفيّة القرون الوسطى وأنّه لم يجد حتّى الآن سبيلاً إلى الدخول في المنهجيّة الفكريّة الحديثة.
لكنّ المقارنة المباشرة بين الأقوال اللاهوتيّة والمناهج الدينية بين الطرفين، في المرحلة الأولى من الحوار، قد لا تُجدي…
وعلى الرغم من المصاعب التي أتينا على ذِكرها، لا بدَّ من مواصلة المساعي من أجل الدّخول في التحاور الفِعلي، إذْ لا فائدة من الانتظار، لأنّ الأحسن، كما يقول المَثَل، غالبًا ما يكون عدوَّ الحسَن. فليس من الممكن اليوم أن نحقّقَ وحدةً عقائديّة مباشرة. بل علينا أن نتسلّح بالصّبر وألاّ نستبق الأحداث بهدف الوصول الفوري إلى المرحلة الختاميّة من الحوار.
وقد نستطيع الاتّفاق على هذه القاعدة لإنعاش الدّين: "مِن ثمارهم تعرفونهم" (متّى 7: 20). فالمهمّ هو إجلالُ شهادة الحياة وشهادة التاريخ، وبالتالي اعتبار النواحي التّالية:
- الحياة الدينيّة وأشكال التقوى.
- فعّاليّة الدين في حياة الأفراد والجماعات والمجتمع والأسرة الدّوليّة.
- قدرة الدين على التكيّف والتأقلم، وقابليّته للحياة في العالم المعاصر.
من محاسن الحوار أنّه يؤهّلنا لمعرفة ثمار الدّين هذه، ويعلّمنا كيف ننظر وكيف نقدِّر بعين ناقدة. ومن ثمَّ، لن يبقى الحوار بعدَ اليوم منازلةً لتحطيم الخصم، أو دفاعًا عن الدّين هدفه تفنيد الاعتراضات، بل يُمسي حوارَ الإصغاء والمشاركة، حوارَ مَن يقف ذاته لإنجاز الاتّصال الإيجابيّ والشهادة الحيّة.
بذلك نكون قد أرسَينا الأساس، ليعترف كلّ طرفٍ بما لدى الطّرف الآخر من قِيَم دينيّة إيجابيّة، ويتبنّاها إغناءً لحياته الخاصّة. ذلك أنّ هذه القيَم الأصيلة هي بمثابة أثَر نعمة الله ومفعول روحه القدّوس في حياة الإنسان. وهكذا يسير المتحاورون معًا، في البحث عن الله وعن الحقيقة الكاملة الحيّة. وهكذا نستطيع أن نختبر الضيافة، التي هي من الفضائل الأساسيّة في المجتمع الشرقيّ، المسيحيّ والإسلاميّ، على أن تتناول الاستضافة ليس الأشخاص البشريّة فحسب، بل أيضًا القِيَم التي يحيَون بها. كلُّ ذلك يقودنا إلى الاعتراف بتكامليّة جميع المظاهر التي يتّخذها عَمَلُ روح الله في البشر وفي التاريخ. وهكذا أيضًا تتمكّن جماعة المؤمنين من أن تتعرَّف، تعرُّفًا يزداد عمقًا ووضوحًا، معالم وجهها الكاملة في مُحيّا "الغريب". وهكذا تتعلّم كيف تتعرّف أعمال الله في التاريخ على نحو أفضل وأدقّ وتتقبّلها، ومن خلالها تتعرَّف أيضًا – بل تحقّق – الأبعاد الحقيقيّة لشموليّتها.
ومن المهمّ أيضًا، بل من الأكثر إلحاحًا واستعجالاً، مباشرة التعاون بين المسيحيّين والمسلمين في الجهود التي تُبذَل حاليًّا لتسوية القضايا المشتركة التي تهمُّ جميع بني البشر وتحرّكهم أو التي تنشَأ بنوع ملحوظ في بلد معيّن.
من هذه القضايا الكثيرة نكتفي بذكر ما يلي:
- صَوْن الهويّة الذاتيّة، دينيّة كانت أو اجتماعيّة أو سياسيّة،
- إمكان التّعايش في مجتمع تعدُّدي في ثقافته ونظرته إلى الكون،
- مكانة المرأة في المجتمع،
- تربية الأولاد وتنشئة الشبيبة،
- دَمج المرضى والمُسنّين في الحياة العامّة للمجتمع،
- حماية الحياة قبل الولادة وبعد الولادة ورفع نوعيّة الحياة،
- إحلال السّلام وصيانته،
- صَوْن الخليقة والبيئة والمحافظة على الانسجام بين الإنسان والطبيعة،
- السَّعي إلى إقامة العدالة بين الناس،
- التّنمية والتّضامن والإخاء الشامل،
- التعامل مع الابتكارات التِقنيّة الجديدة التي من شأنها أن تهدِّد الإنسان في صميم تكوينه…
فمِن شأن الحوار والتعاون، أن يَحملا المسيحيّين والمسلمين على أن ينفتحوا بعضهم على بعض ويتقاربوا، ومن شأنهما أن يتيحا لهم اختبار التضامن مع الجميع والإخاء الشامل في عالمنا هذا الواحد، وأن يطبّقوا عمليًّا هذه المفاهيم. لا يجوز لنا بعدَ اليوم أن نعادي بعضُنا بعضًا ونبقى خصوما. ولا يجوز لنا أن نكتفي بأن نعيش الواحد إزاء الآخر كغرباء، ولا أن نعتبر بعضُنا بعضًا متنافسين. بل علينا أن نعمل معًا ونبقى شركاء. فالهدف الذي ينبغي أن نحقّقه هو أن يكونَ كلُّ واحدٍ منّا للآخر، وأن يصبح صديقًا للآخر.

جدول زمني 

حوالي 570 : مولد محمّد
حوالي 613 : بدء إبلاغ الرسالة
622 : الهجرة إلى المدينة
630 : فتح مكّة
632 : وفاة النبي محمّد
632 – 661 : الخلفاء الراشدون: أبو بكر، عُمَر، عثمان، علي
635 : فتح دمشق
638 : الاستيلاء على القدس
639 – 642 : فتح مصر وبلاد الفرس. بدء اجتياح شمالي أفريقيا
661 – 750 : خلافة الأمويّين
711 – 714 : فتح إسبانيا – والدخول إلى وادي الهندوس
732 : معركة بواتيه واندحار الجيش الإسلامي
750 – 1258 : خلافة العبّاسيّين
756 : الأمويّون في إسبانيا
762 : تأسيس بغداد
786 – 809 : خلافة هارون الرشيد في بغداد
909 : خلافة الفاطميّين في أفريقيا الشماليّة
929 : الأمويّ عبد الرحمن الثالث يُعلن نفسه خليفًا
973 – 1171 : الفاطميّون في مصر
1096 – 1099 : الحملة الصليبيّة الأولى
1099 : الصليبيّون في القدس
1187 : استعادة القدس على يد صلاح الدين الأيوبي
1258 : اجتياح بغداد على يد المغول. ونهاية الخلافة العبّاسيّة
1453 : سقوط الأمبراطوريّة البيزنطيّة، واستيلاء العثمانيّين على القسطنطينيّة
1492 : سقوط مملكة غرناطة، ونهاية السلطة الإسلاميّة في إسبانيا
1798 : نابليون في مصر. اتّصالات أولى بالعلوم الأوربيّة
النصف الثاني من القرن التاسع عشر : ضعف السلطة العثمانيّة. نشأة المستعمرات في العالم الإسلاميّ (الهند، مصر، أفريقيا الشماليّة)
منذ 1948 : نشأة دولة إسرائيل، وبدء أزمة القضيّة الفلسطينيّة
1978 : بدء الثورة الإسلاميّة في إيران


مراجع

عادل تيودور خوري: الإسلام في عقيدته ونظامه، المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون 6، المكتبة البولسيّة، جونية - لبنان 1997، طبعة ثانية، 1999.
محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة 1959، الطبعة السابعة، القاهرة – جدّة 1974.
صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، بيروت (الطبعة الأولى 1958)، الطبعة الثانية 1969.
صبحي الصالح: علوم الحديث ومصطلحه، عرض ودراسة، بيروت (الطبعة الأولى 1959)، الطبعة الثانية 1971.
محمّد باقر الصدر: فلسفتنا، بيروت (الطبعة الأولى 1379ﻫ)، الطبعة الثانية عشرة 1402ﻫ / 1982م.
عفيف عبد الفتّاح طبّارة: روح الدين الإسلامي، بيروت 1955.
محمّد المبارك: نظام الإسلام، العقائد والعبادة، بيروت (الطبعة الأولى 1968)، الطبعة الثانية 1973.
أندراوس بشته وعادل تيودور خوري: الإسلام يسائل المسيحيّة في الشؤون اللاهوتيّة والفلسفيّة (المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون 13) المكتبة البولسيّة، جونية - لبنان 2000.
أندراوس بشته وعادل تيودور خوري: العقيدة المسيحيّة في لقاء مع الإسلام (المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون 16) المكتبة البولسيّة، جونية – لبنان 2002.
أندراوس بشته وعادل تيودور خوري: القيم – الحقوق – الواجبات: مسائل أساسيّة لنظام عادل للعيش المشترك في النظرة المسيحيّة والإسلام (المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون 19) المكتبة البولسيّة، جونية – لبنان 2002.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الاديان الخمسة الكبرى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: