الفصل الثالث
مدخل إلى الإسلام
1. بعثة محمّد
وُلد محمّد في مكّة حوالي عام 570 في قبيلة قُرَيش. كان من آل هاشم وكان اسم أبيه عبد الله. لكن ما عتّم والده أن تُوفّي. ومع أنّ الطفل وُلد في مدينة مكّة، إلاّ أنّه نشأ في مجتمع قَبَليّ وبيئة متأصّلة في العادات والأخلاق القَبَليّة المتعارَف عليها في الجزيرة العربيّة منذ القِدَم. ذلك أنّهم عَهدوا إلى مُرضعٍ من البدو في رعاية الطفل. ثمّ توفّيت أمّه والصبيّ لا يزال في السادسة من العمر. فتعهّده أوّلاً جدّه ثمّ عمّه أبو طالب، والدُ عليّ الذي سيصبح خليفة. كان محمّد وهو حَدَثٌ يرعى الماشية في الصحراء، وكان أحيانًا يرافق عمّه في رحلات القوافل إلى سورية. ويُفيد النقل الإسلاميّ القديم أنّ محمّدًا كان في الثانية عشرة من عمره لمّا التقى، في إحدى هذه الرحلات، راهبًا مسيحيًّا شاهدَ على كتفه علامة رسالته النبويّة اللاحقة.
ولمّا بلغ الخامسة والعشرين أخذ يقود بنفسه القوافل التابعة لأرملة غنيّة اسمها خديجة، ثمّ ما لبث أن تزوّجها حُبًّا، فُرزقا من هذا الزواج عددًا من الأولاد، نخصّ بالذكر منهم فاطمة التي تزوّجها عليّ في ما بعد، فأصبحت أصلاً لذريّة محمّد وشَغَلَت بذلك مكانةً خاصّة لا سيّما في الشّيعة. ويَعتبر القرآن هذا الزّواج من خديجة دليلَ رضًا من الله ونعمة (93: . وهكذا أصبح محمّد تاجرًا غنيًّا مستقرًّا واكتسب من ثم مكانةً ونفوذًا في المجتمع المكيّ. كان محمّد في سنّ الأربعين لمّا بدأ يتساءل عن معنى الحياة في مجتمع فاسد، لا يُولي الفقيرَ أيَّ اعتبار، بل يظلمه ويقهره بلا شفقة وينساق مرحًا وراء شهواته لإرضائها ما طاب له. وعليه يميل تدريجيًّا إلى الاختلاء. وذات يوم بينما كان معتزلاً في حراء بجبل النور على مقربة من مكّة، عرض له عارضٌ رأى فيه القرآن والنقل الإسلامي دعوةً إلى النبوّة. ذلك أنّه رأى الملاك جبريل يأمره بأن "يقرأ" أي بأن يبلّغ الناس علنًا رسالة من الله (96: 1 – 5).
عاد محمّد منفعلاً، مرتاعًا، غارقًا في التفكير، محاولاً تفسير ما جرى له. مرّت فترة توقّف فيها الانخطاف والوحي. فساوره اليأس وخشي أن يُضحِيَ لعبةً للشيطان. ثمّ عاودته الرؤيا والدعوة فنشأ في قلبه اليقين بأنّه مُعدٌّ لأن يكون نبيًّا.
عندئذٍ شرَعَ يجول في مكّة يعظ أبناء قومه وينذرهم بغضب الله الوشيك ويوم الدين الدّاهم. فعليهم أن يتوبوا ويُقْلعوا عن سيرتهم السيّئة ويؤمنوا بالله إيمانًا صادقًا، فهو وحدَه خالق العالم وهو الديّان الوحيد للناس، لا إله إلاّ هو ولا حَوْل إلاّ به. وكان المضمون الرئيسيّ لوعظه في تلك الحقبة الوعيدَ بقرب يوم الدين، والحَثّ على تحسين السيرة، وإصلاح الحياة الاجتماعيّة الفاسدة، والإيمان بالله الواحد الأحد.
غير أنّ خُطَب النبيّ الجديد وإنذاراته المُقلقة بوعيد الله لم تَلْقَ قبولاً لدى أهل مكّة، فأنذروه بوجوب الكفّ عن دعوته. وخاضوا مجادلات حادّة معه، وأنكروا عليه حقّه في مثل هذه الدعوة، وكذّبوا صحّة رسالته. وقالوا: لمّا كان تلقّى الوحي وهو نائم، منخطف، يرتجف، فهو ليس إلاّ كاهنًا. بل ذهبوا إلى حدّ القول إنّه أداة في يد الشيطان.
ردّ محمّد على تشكيك المشتركين، ولكن عنادهم جرحه في الصميم لأنّه كان حائلاً دون إنجاز رسالته وهي هَدْي الناس إلى الله الرحمن الرحيم. بيدَ أنّه ظلّ وفيًّا لرسالته وأعرض عن خصومه المعاندين. وبقي هؤلاء يناصبونه وجماعته العِداء ويُثيرون لهم المتاعب ويضطهدونهم، بحيث أصبح المسلمون الأوائل عُرضةً للمطاردة والنّفي والخوف من الموت الزّؤام. ولمّا أضحت حَمَلات المكيّين لا تُطاق وصار بقاءُ الجماعة نفسه مُهدّدًا، عقد محمّد العزمَ على مغادرة مدينة الآباء والأجداد وهاج مع جماعته إلى يَثرِب (التي سُمّيت في ما بعد مدينة الرسول). تَمّت الهجرة في العام 622م، الذي أصبح العام القمريّ الأوّل من التقييم الهجري. إنّ الهجرة إلى المدينة أسفرت عن نتائج بعيدة المدى لمحمّد وأتباعه الأولين. ذلك أنّ الترحيب الودّي الذي لقيه فيها وازدياد عدد أنصار الإسلام، جعلا محمّد محطّ الأنظار ومحور الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في المدينة. وهكذا كان عليه أن يتولّى القيادة الاجتماعيّة والسياسيّة للجماعة.
لم يكن ممكنًا أن يكتفي محمّد بنشر رسالة تدعو إلى الزُّهد وتقصُر اهتمامها على الحياة الأخرى، بل كان عليه أن يعالج أمور المسلمين اليوميّة وأن يقيم لهم نظامًا اجتماعيًّا وأن يُرسيَ أُسس التضامن بين الجماعة، التضامن القائم لا على العصبيّة القبليّة، بل على الإيمان المشترك. أخيرًا كان على محمّد أن يقود الكفاح السياسي والجهد الحربيّ ضدّ أعداء الإسلام في الخارج وفي الداخل على السّواء.
لم يكن محمّد في المدينة النبيّ المُلهَم والمتعبّد الزّاهد في الدنيا فحسب، بل أضحى رجل الدولة البارع، والمشرّع الحكيم، والزّعيم السياسي والقائد العسكريّ، وبكلمة موجزة: صار الشخصيّة المركزيّة لجماعة المسلمين الأوائل. وهكذا رأى "رسول الله" سلطته تتعاظم وتتعزّز بنجاح سياسته وبمساندة الوحي الإلهيّ.
لكن الترحيب الودّي الذي لقيَه محمّد في المدينة، ما كان ليعنيَ أنّ الفئات الاجتماعيّة كلّها اعترفت بصحّة رسالته ولا أنّ الجميع وقفوا أنصارًا بجانبه دونما تحفّظ. فالنّصارى – ومن قبلهم اليهود – الذين عاملهم محمّد في مكّة بكثير من الاحترام ودعاهم "أهل الكتاب"، لم يتمكّنوا من الإقدام على الاعتراف برسالته. فاليهود خصوصًا كانوا مرتبطين مع أهل مكّة بمعاهدات اقتصاديّة وعسكريّة. ثمّ إنّه كان من المتعذّر عليهم أن يُقرّوا قول محمّد بأنّ رسالته ليست إلاّ امتدادًا يَصلُ بين التوراة والقرآن، (لا سيّما ما يتعلّق بسِيَر الأنبياء والتشريع…). فابتعد محمّد عنهم وأعلن استقلال الإسلام إذ أَسند الإسلامَ من قبل اليهود والنصارى مباشرة إلى إبراهيم أبي المؤمنين جميعًا. ورسمَ ألاّ يتّجه المسلمون في الصلاة شطرَ القدس من بعدُ، بل شطرَ الكعبة، لأنّ الكعبة، المَقْدِسَ المركزيّ للعرب، قد بناها – كما يذكر القرآن – إبراهيمُ مع ابنه اسماعيل بيتًا لعبادة الله الواحد. وبذلك جعل للإسلام قاعدةً دينيّة هي أيضًا رمزٌ لوحدته السياسيّة.
وكان على محمّد أن يحارب المكيّين في الخارج. فأخذ المسلمون يشنّون غارات على قوافل المكيّين ويُلحقون بهم خسائر مُحرجة. وهذه النـزاعات المسلّحة بين الجبهات المتعادية أدّت إلى وقوع عدّة معارك ومجابهات بين الطرفين: فانتصر المسلمون في بدر (624)، لكنّهم هُزِموا في أُحُد حيث جُرِحَ محمّد نفسه (625). وقام المكيّون بمحاصرة المدينة (627) فلم يُسفر الحصار عن نتيجة حاسمة، لأنّ المسلمين كانوا قد حفروا خندقًا حول المدينة (وقعة الخندق). وفي عام 628 طوّق المسلمون مكّة، ثمّ أبرم الطرفان هدنةً لمدّة عشر سنوات (معاهدة الحُديبية)، لكنّ المكيّين لم يحترموها، فزحف المحاربون المسلمون على مكّة، ففتحت أبوابها لمحمّد بلا مقاومة، بعدما حصلت على ضمانة بأنّه لن يَمسَّ سكّان المدينة بأذى. فوفَى محمّد بوعده ودخل الكعبة وأزال ما كان فيها من أصنام وصوَر ورموز عبادة وثنيّة، وكان ذلك عام 630.
وفي العامَين 630 – 631 أرسلَت القبائل العربيّة وفودًا إلى النبيّ ليقبل دخولها في الإسلام. فأعلن محمّد عام 631 إلغاء العبادات الوثنيّة. أخيرًا في عام 632 قام صُحبةَ عدد كبير من المسلمين بالحجّ إلى مكّة فأصبحت تلك الحجّة مثالاً يقتدي به الحُجّاج المسلمون في الأجيال اللاحقة. ثمّ ما عتّم محمّد أن مَرِض فجأةً وتوفّي في 8 حزيران عام 632م.
يُعتبر محمّد وجهًا من أهمّ الوجوه في تاريخ الديانات. وقد تضاربت الآراء فيه. فاعتبره غيرُ المسلمين مصابًا بمرض نفسيّ أو مضلّلاً. لكن اليوم لم يعُدْ أحد يشكّ في صدقه وشعوره الدينيّ العميق. أمّا للمسلمين الأتقياء فهو رسول الله ونبيّ عظيم، نقل إلى البشر الوحي الإلهيّ في المرحلة الأخيرة من تاريخ الأنبياء. فالقرآن يسمّيه "خاتم النبيّين" (33: 40).
2. مصادر الإسلام
2-1. القرآن
القرآن هو للمسلم المؤمن آخِرُ كلام أوحي به الله للنبيّ بواسطة الملاك جبريل. دُعي هذا الوحي الإلهيّ قرآنًا، لأنّ المقصود هو أن يُقرأ ويُتلى، وأوّل ما أُمِر به به محمّد كان "اقْرَأ" (96: 1).
2-1-1. نشأة المصحف
لم ينـزَّل القرآن دفعةً واحدة. وهو لا يتناول المسائل الدينيّة والاجتماعيّة بطريقة منهجيّة منسّقة. إنّما تلقّاه النبي تدريجيًّا على مرّ الأيّام. وهو يتضمّن وعظًا وحثًّا وقَصصًا لسِيَر الأنبياء وجدلاً مع المشركين واليهود والنصارى. كما ينطوي على أجوبة وأحكام أمست ضروريّة للردّ على أسئلة معيّنة وظروف عمليّة.
طالما بقي محمّد على قيد الحياة، كانت الصحّابة تهتمّ بحفظ القرآن – وعلى قدْر المستطاع – بتدوينه خطيًّا. وكانوا يستخدمون ذلك القرآن في أداء شعائر الصلاة المفروضة. لكن بعد وفاة النبيّ وجّهوا عنايتهم إلى صيانة كلام الوحي من النسيان والتّحريف. فصدَر أوّل مصحَف للقرآن في عهد الخليفة أبي بكر الصدّيق (632 – 634م) عن يد زيد بن ثابت، الذي كان أحد كتّاب النبيّ محمّد. ولمّا كانت القراءات المتنوّعة تسبّب خلافات بين المسلمين، تمّ تكليف زيدٍ ثانيةً في عهد الخليفة عثمان (644 – 654م) بإعداد مُصحَف رسميّ يتضمّن صيغة إلزاميّة لمختلف النصوص.
وقد أُرسلَت نسخة من هذا المصحَف المنقَّح الرسميّ إلى كلّ من المدن الرئيسيّة في الجزيرة العربيّة وسورية والعراق. ولمّا كانت الأبجديّة العربيّة، كما هو معروف، لا تنطوي على أحرف محرَّكة، قام الأمويّون في العراق بإعداد مصحَفٍ جديد مضبوط بالشكل الكامل، تلافيًا للأخطاء وللقراءات التي من شأنها أن تغيّر معنى الآيات، إنْ هي لم تحرِّك تحريكًا صحيحًا.
يتألّف المصحف من 114 سورة أي قطعة مستقلّة. وكلّ سورة مقسّمة إلى آيات. غير أنّ السُّور ليست مرتّبة بحسب تاريخ ظهورها. ولئن كانت السّور الأولى التي نجدها في القرآن أطول من السُّور الأخيرة، فإنّ الطول لا يشكّل مبدأً كافيًا لتبرير الترتيب الحالي. وربّما بدَت الأحكام الشرعيّة الواردة في هذا السُّور الطويلة مهمّة جدًّا لاحتياجات الحياة اليوميّة لجماعة المؤمنين، بحيث تمَّ وضعها في البداية. غير أنّ النصّ الحالي للقرآن يَذكُر إلى أيّة حقبة ترتقي كلّ سورة، أهي الحقبة المكيّة أم الحقبة المدنيّة.
2-1-2. أهميّة القرآن
إنّ خصائص القرآن ترجع، في نظر المسلمين، إلى أصله الإلهيّ. فالقرآن نفسه يؤكّد أنّ الوحي أُنزل على النبيّ محمّد بواسطة الملاك جبريل (42: 52/2: 97). وجاء في بعض الآيات أنّ القرآن ليس إلاّ نسخة عن "كتاب مَكنُون" أو "لوح محفوظ" في السماء، يمكن اعتباره أصلاً لجميع الكتب المقدّسة (56: 77-78 / 85: 21-22 / 43: 4). ولمّا كان عِلم أصول الدين الإسلاميّ ينطلق من أنّ الوحي أُنزل على محمّد حرفيًّا، كان لا مفرّ من التساؤل هل كان القرآن قبلَ إنشاء العالم أي هل هو أزليّ؟ الرأيُ السائد بين علماء الدين هو أنّ مضمون القرآن أزليّ. أمّا غِلافه – أي الألفاظ الناقلة لمعناه، صوتًا وحرفًا – فهو مخلوق.
وبما أنّ القرآن كلام الله فهو خال من التناقض: "أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا" (4: 82). أمّا النّسخ أي إلغاء بعض الأحكام الفرديّة أو تبديلُها فيعود إلى ما جاء في القرآن نفسه عن احتمال نسيان النبيّ آيةً موحاة، أو عن قيام الله بإلغاء أحكام خاصّة أو بتبديلها (87: 66-7 / 17: 86) فالله أعلم بما ينـزّل (87: 7 / 16: 101)، والأمر رهنٌ بحريّة تصرّفه في الوحي والتعبير عن مشيئته العليّة (17: 86 / 16: 10). ومهما يكن من أمر فإنّ نَسْخَ بعض الأحكام المعيّنة يهدف إلى تبديلها بمثلها إن لم يكن بما هو خيرٌ منها (2: 106). وما كان للنبيّ ذاته أن يغيّر من تلقاء نفسه شيئًا ممّا ينقله الله إليه (10: 15).
ثمّ إنّ القرآن لا يجارَى ولا يُعلَى على بيانه. فالقرآن يتحدّى المشتركين بأن يُجاروه (52: 34 / 17: 88) ويقول إنّهم أعجز من أن يأتوا بعَشر سُوَر من مثله (11: 13-14) بل بسورةٍ واحدة (10: 38 / 2: 23). وعليه، يَرى المسلمُ أنّ عَجْزَ البشر عن الإتيان بمثل القرآن يشكّل برهانًا على أنّه كلام الله. كما أنّ إعجازَه يُعتبَر معجزةً تُثبت رسالة محمّد النبويّة. وهذا التفرّد الذي يتميّز به القرآن يتناول لغَته كما يتناول مضمونَه.
2-2. السنّة والحديث
السنّة هي المصدر الرئيسيّ الثاني للإسلام. إنّها المنهاج المثاليّ للنبيّ محمّد، الذي كانت مهمّته الأولى الدعوة إلى القرآن وتأويله تأويلاً أصيلاً. والقرآن يصف محمّدًا بأنّه للمؤمنين "أسوة حسنة" (23: 21). فقد كان "يأمرهم بالمعروف ويَنهاهم عن المُنكَر ويُحِلّ لهم الطيّباتِ ويحرّمُ عليهم الخبائثَ ويضعُ عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم" (7: 157).
إنّ نهجَ محمّد في جماعته، وطريقتَه في تأدية واجباته كمسلم مثاليّ، وأسلوبَ قيادته المؤمنين على صراط الله، والنحوَ الذي حدّد به قواعد السلوك الواجبة، كلّ ذلك يوضح سُنّته أي المِنهاجَ الذي نقله إلينا رواةُ الحديث على اختلال مشاربهم.
والحديث هو الوثيقة الرسميّة للأعراف العريقة المنقولة من السَّلَف إلى الخلَف في الإسلام. وهو ينطوي منها على ما يلي:
- أقوال محمّد، إرشاداته، الترتيبات التي رسمها، القرارات التي اتّخذها، الاستنتاجات التي توصّل إليها، تقييمه لشتّى الأمور ومواقفه منها.
- سلوكه، معالجته الأمور، طريقتَه في إتمام واجباته الدينيّة، أسلوبه العمليّ في تطبيق بعض التوجيهات المعيّنة.
- موقف من أفعال جماعته: هل سكت عن فعل معيّن أم أيّدَه أم حثّ عليه؟ ونقيضُ ذلك: هل لامَ فعلاً ما؟ أم شَجَبَه؟ أم حرَّمه؟
2-3. الإجماع، منهج الأمّة
الإجماع هو اتّفاق رأي العلماء، في فترة من الزمن تَلَت وفاةَ الرسول، على إقرار حُكم شرعيّ عمليّ معيّن.
إنّ أغلبيّة العلماء تُضفي على الإجماع صبغةً إلزاميّة. وهم في ذلك يستندون إلى أقوال القرآن وإلى الحديث ذاته.
فالقرآن يؤكّد: "مَن يشاقِق الرسولَ من بعدِ ما تبيّن له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين، نُوَلِّهِ ما تولّى ونُصْلِهِ جهنّم وساءت مصيرًا" (4: 115). على أساس هذه الآية ينشأ الطابع المُلزِم المنوط بإجماع العلماء، وهذا الإجماع هو الذي يوضح الطريق للمؤمنين.
2-4. المصادر الثانويّة للتشريع
والطرق المتّبعة لإقرار الحلول الفقهيّة
إلى جانب القرآن والحديث وإجماع الأمّة، يُقرّ علماء الشريعة كمصادر ثانويّة لإقرار الحلول الفقهيّة، القياس، والعُرف والعادة، والرأي الشخصيّ والاجتهاد على أن يُراعي المجتهد مصالح الأمّة والإنصاف والإحسان ويأخذ بفطنة بالاستحسان ويعتمد في بعض الحالات على الاستصحاب.
3. الله
إنّ الإيمان بالله والخضوع التامّ لمشيئته السامية هما صُلْبُ الإسلام. كما أنّ مضمون الإيمان برمّته يتعلّق بالله: "آمن الرسولُ بما أُنزل عليه من ربّه والمؤمنون. كلٌّ آمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله" (2: 285).
3-1. الله الخالق
الله هو خالق السماوات والأرض، وهو خصوصًا خالق الإنسان. والإنسان هو المخلوق الذي ميّزه الله عن سواه وفضّله على غيره من المخلوقات. أمّا خَلْق الإنسان فَنَهج الله فيه طريقةً خاصّة إذ خلقه من التّراب والطين والصّلصال، ونفخ فيه من روحه وقوّمه أحسن تقويم وصوّره فأحسن صورته، وزوّده بالسمع والبصر والفؤاد وجعل له عينين ولسانًا وشفتين. وبعدما خلق الله الإنسان الأوّل جعل له زوجةً منه.
3-2. الله المدبِّر
بعدما خلق الله العالم والإنسان داعيًا الجميع إلى الوجود، لم يتركهم لمصيرهم، بل لا يزال يرعاهم بعنايته الإلهيّة.
وعليه جعل الأرض قابلةً لسُكنى الإنسان وزوّدها بما يلزم لخدمة الحياة البشريّة وازدهارها (17: 70).
والله يفعل ذلك بلا توقّف بل يواصل نشاطه الخلاّق باستمرار. ففِعلُ الخلق لم ينتهِ في أقدم الأزمنة، بل نستطيع القول إنّ الله يجدّد خلْقَ العالم والإنسان باستمرار. وهذا يعني أنّ كلّ شيء في كلّ لحظة يتجدّد بإراداة الله الحرّة التي لا تعرف القيود.
3-2-1. الله على كلّ شيء قدير: القضاء والقدر وحريّة الإنسان
يؤكّد كلٌّ من القرآن والنّقل الإسلامي تأكيدًا قاطعًا قدرة الله المطلَقة على كلّ شيء. فالله وحده يُحيي وهو وحده يُميت. إنّه يرى ويسمع كلَّ شيء، ولا شيء يَخفى عليه، حتّى أعمق ما في القلب من أسرار، وهو يحيط بكلّ شيء عِلمًا. وقبل كلّ شيء فإنّه يقدِّرُ مصيرَ الإنسان. لكن هل يستطيع الإنسان أن يساهم في تنظيم حياته وإعطائها الشكل الذي يريد؟ وبصورة أدقّ: هل يلعب الإنسان دورًا في الإتيان بأعماله؟ وهل تُفسَح له الحريّة لذلك؟
إنّ عِلم الكلام الإسلاميّ يتمسّك بحريّة الإنسان وفي الوقت عينه بقضاء الله. بيدَ أنّ الشعب يؤمن إيمانًا وطيدًا بقضاء الله، كما يَثبُتُ ذلك جليًّا من أقواله ومن سلوك الجماهير الإسلاميّة، إلى حدّ أنّ كثيرين يتسرّعون في الاستنتاج بأنّ الإسلام يقول بالحتميّة. لا الإسلام حتميّ ولا الإيمان الشعبي حتمي. فلا هذا ولا ذاك يؤمن بقَدَر أعمى لا رحمة فيه ولا شفقة، بل بأنّ الحياة البشريّة يسيّرها الله الحيّ بأحكامه المطلَقة التي لا مُحاسبَ له فيها، إنّما الله في الوقت نفسه سيّد حكيم رحيم بالإنسان.
3-2-2. الله يمتحن الإنسان
خلق الله الإنسان وخصّه بمواهب حسنة. وهو الذي يوجّه مصيره ويرافق حياته بقدرته الشاملة، وقد جعله خليفةً في الأرض جيلاً بعد جيل (قرآن 2: 30). فوجب على الإنسان، مع ما طُبِعَ عليه من هَوًى وضعف و"نفسٍِ أمّارة بالسوء" (12: 53)، وعلى الرغم من عِداء الشيطان له، أن يصون الأمانة التي اؤتُمن عليها وأن يسلك في حياته وفي معاملته لِخَلْقِ الله، سلوكًا لائقًا بمنـزلته.
ويصرّح القرآن أنّ الله لم يخلُق الإنسان عبثًا (23: 115). والقرآن نفسه يعطي أمثلةً عن الفِتنة والبليّة. وما يلقاه الإنسان من خير وشرٍّ هو بلاء، كذلك ظروف الحياة المتنوّعة تُتيح للإنسان أن يُثْبِت إخلاصَه لله في ساعة الشدّة والحزن. والله يبلو الناس بعضًا ببعض. وما على الأرض من زينة وخيرات، إنّما ينطوي على فتنة تُظهِرُ مَن مِنَ الناس يُحسِِنُ عَمَلاً (18: 7 / 6: 165). ومِن وسائلَ الامتحان أيضًا إتمام الفرائض الأخلاقيّة (16: 92). وكذلك القول في تقسيم البشر جماعاتٍ مختلفة (5: 48 / را 7: 168). على الإنسان إذًا في كلّ ظرف من ظروف الحياة أن يتذكّر ذلك ويقول: "هذا مِن فَضْلِ ربّي ليبلوني أأشكُرُ أم أكفُرُ" (27: 40).
فمن لا يخرج ظافرًا من المحنة ولا يجد السبيل إلى الإيمان ولا يعمل صالحًا يكون قد "خسر الدنيا والآخرة" (22: 11). وعلى نقيض ذلك: "إنّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات سيجعلُ لهم الرّحمن ودًّا" (19: 96). وهو يَعدُهم بالثواب في هذه الدنيا وفي الآخرة. والقرآن يؤكّد: مَن عمِلَ صالحًا مِن ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيِيَنَّه حياة طيّبة ولَنَجزيَنّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (16: 97).
3-2-3. الله وهُداه
لكي ينتصرَ الإنسان في التجربة ويكونَ مَرْضيًّا عند الله، عليه أن يجد الحقيقة ويعتنق الإيمان. وعليه أيضًا أن ينهجَ سواءَ السبيل ويُطيعَ أوامر الله كما بيّنها له الله في الوحي وثبّتها في الشريعة. ومَن هداه الله في هذا السبيل فهو المسلم الصحيح، له أن يتوقّع الثواب في الجنّة وسيجد رحمةً من الله في يوم الدّين.
3-3. الله الديّان
لم يكتفِ الله الخالق بإبداع هذا الكون منذ البدء وبمرافقة الإنسان طوال حياته، بل شاء أيضًا أن يكون الحاكم الذي سيحاسِب الناس على إيمانهم وعلى أعمالهم في يوم الدّين.
وسيتقدّم الأنبياء الذي أُرسِلوا عَبْرَ الأجيال إلى شعوبهم ليشهدوا على بني قومهم (10: 47). ويسوع أيضًا سيؤدّي شهادته على اليهود والنّصارى (4: 159). ولن تجوزَ شفاعة الأنبياء ولا الملائكة إلاّ بإذن الله (20: 109 / 21: 28). ويُفيد النّقل الإسلامي أن محمّدًا سيشفَع بالمسلمين وبذلك يُدخلهم أفواجًا إلى الجنّة.
وسيُصدر الله حكمَه على البشر استنادًا إلى إيمانهم وأعمالهم. أمّا معرفة صلاح الإنسان فتتمّ بالكتب التي يدوِّن فيها الملائكة أعمال البشر. فالصالح يحمل كتابه بيمينه والشرير بشِماله (69: 19 و25) أو أيضًا "وراء ظهره" (84: 10). وهنالك موازينُ سماويّة تُتيح مقارنةً عادلةً بين الأعمال الصّالحة والأعمال الطالحة (101: 6-9). أخيرًا، جاء في النقل أنّ هنالك جسرًا ضيّقًا كالشّعرة منصوبًا فوق هاوية جهنّم يسمّى الصراط (را 37: 23) فالأشرار يتدَهْورون منه إلى الهاوية فيما يعبره المؤمنون سالمين.
وحالما يُصدر الله الحُكم، يُقسَم الناس قسمَين رئيسيّين: أصحاب اليمين (هم المخلّصون 56: 8 و27 / 74: 39) وأصحابَ الشمال (هم الهالكون 56: 41).
فالهالكون يُقيمون أبدَ الدهر في الجحيم (43: 74 – 77 / 11: 106 – 107 / 3: 24). أمّا عذابهم فلا يُطاق. والقرآن يصفه وصفًا حيًّا نافذًا. فالجحيم لا سلامَ فيها والهالكون يتخاصمون ويتراشقون التُّهم (38: 55 – 64) "إذ الأغلالُ في أعناقهم والسلاسل يُسحَبون في الحَميم ثمّ في النار يُسجَرون" (40: 71 – 72). ويُضرَبون ويَكتوون بالنار، لا يموتون فيها ولا يَحْيَون (20: 74).
أمّا في الجنّة فيتمتّع المؤمنون والذين تبعوهم إليها، بالنعيم خالدين (11: 108). ويصف القرآن مُتَع الجنّة التي يتعذّر بيانُها، بصورٍ تعكِس سعادةَ الأرض: فهنالك جنّات تجري من تحتها أنهار من الماء واللّبن والخمر والعسل (14: 23 / 47: 15) وفاكهة وافرة وملذّات جسديّة (36: 55-57) والتمتّع الجنسيّ بحُورٍ عين (52: 20 / 56: 22 و35-37). وهنالك الأمن والسلام (15: 45 – 50). كذلك المؤمنات لهنّ الجنّة وما فيها من مُتَعٍ (36" 56 / 13: 23). ويجد القارئ مزيدًا من التفاصيل عن الجنّة في السُّوَر التالية: 52: 17-24 / 56: 10-40 / 55: 46-78 / 76: 5-22.
إنّ الصُّوَر التي يستعملها القرآن لوصف نعيم الجنّة، يأخذها كثير من علماء الدين الإسلامي بمعناها الحرفيّ، غير أنّ المؤلّفين يشيرون إلى أنّ الغبطة في الجنّة أسمى من المُتَع الأرضيّة وأنّها في الحقيقة تفوق قدرةَ الإنسان على التخيّل. وهذا يعني أنّها في الواقع تختلف عن الخيرات والملذّات الأرضيّة. أجَل، تُطلَق عليها الأسماء نفسُها، غير أنّ حقيقتها لا مثيل لها في ما على هذه الأرض.
وفي الجنّة سيختبر المؤمنون رضا الله (9: 72) ويحظَون بسلامه (36: 58). وقبل كلّ شيء سينظرون إليه: "وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة" (75: 22-23). ويرى العلماء التّابعون للمذهب السنّي الأشعريّ أنّ رؤية الله هي أعظم ما في السماء من غبطة (9: 72). وهي ما يصفه القرآن ﺑ "الحُسنى وزيادة" (10: 26). وقد أكّد النبيّ للمسلمين: "إنّكم ستعرَضون على ربّكم فترونه كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رؤيته" (التّرمذيّ، صفة الجنّة 16).
3-4. الله الأحد
التوحيد أساس الإسلام. فشهادة المسلم تقول: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسول الله". والقرآن يكرّر في آيات كثيرة أن الله واحد. وهذا ما تؤكّده بوجيز العبارة سورة الإخلاص التي كثيرًا ما يتلوها المسلمون: "قُلْ هو الله أحد. الله الصَّمَد. لم يَلِد ولم يولَد. ولم يكنْ له كُفوًا أحد" (112: 1-4).
والقرآن يحمِل على المشركين الذين يعبدون آلهة أخرى من دون الله. كما أنّه ينتقد أيضًا بعض تعاليم الدين المسيحيّ.
ومن مآخذ القرآن على المشركين أنّ آلهتهم المزعومة لا تستطيع أن تأتيَ بشيء من أعمال الله: الخلق، تجديد الخلق، الرِّزق، إعانة الإنسان، وعمومًا عمل أيّ شيء (را 27: 59-64). والله غنيّ عن أيّ كائن آخر، ولا حاجة به أن يتّخذ ولدًا، فله الكون كلّه (10: 68). لا صاحبةَ له، ولا قرابة بينه وبين الملائكة. إذا خلَق شيئًا فلا يفعل ذلك بالولادة بل بكلمته الخلاّقة (19: 35 / 2: 117). أمّا القول بأنّ ثمّة آلهة أخرى من دون الله فهُراءٌ لسبب آخر وهو أنّه يؤول إلى التناقض والتناحر، لأنّ تلك الآلهة ستطمح إلى انتـزاع السلطان والعرش من الله (17: 41). ومن شأن مثل هذا التنافس (23: 91) أن يُفسد الخلق (21: 22). فالله إذًا واحد أحد. وعليه فإنّ عبادة الأوثان أو الشِّرك، على حدّ تعبير القرآن، لَهيَ كبيرة وأفظعُ مِن أن يغفرها الله للإنسان (4: 48 و116).
إنّ توحيدَ الإسلام الصارم لا يحمل على المشركين فحسب بل على النصارى أيضًا، إذ يأخذ عليهم الغُلُوّ في تكريم المسيح ابن مريم. فالقرآن يعترف بيسوع نبيًّا ورسولاً عظيمًا لله (19: 30 / 3: 48-49 / 4: 171 / 33: 7 / 5: 110-111). ويسمّيه المسيح عيسى (3: 45).
ويسوع هو، في نظر القرآن، "روحٌ من الله" (4: 171) لأنّه، في رأي المفسّرين المسلمين، حُبِل به بنفخ الروح من مريم (را 21: 91 / 66: 12)، كما خُلِق آدم بنفخٍ من الروح الإلهيّ (را 15: 29 / 32: 9 / 38: 72).
ويُسمّي القرآن أيضًا يسوع المسيح "كلمة الله" (4: 171) وكلمةً من الله (3: 45). بيدَ أنّ هذه الصفة لا تعني، كما حاول المدافعون عن الدين المسيحيّ دائمًا التركيز على ذلك، أنّ القرآن يعترف بألوهة يسوع المسيح وأنّه يدعوه الكلمة الأزليّ. فيسوع هو للمسلمين كلمة الله بمعنى أنّه خُلِق بكلمة الله المُبدِعة (را 3: 47 و59/ 19: 53) أو أنّ الله سبق فبشّر به بكلمته التي ألقاها في فم الأنبياء أو أنّه نبيٌّ يبشّر بكلمة الله أو أخيرًا أنّه كلمة الله أيّ بُشرى الله للناس.
ليس يسوع المسيح ابن مريم إذًا سوى إنسان أنعم الله علين (43: 59 / 4: 171-172)، فلا يجوز أن يسمَّى ابن الله. والحُجَج التي يأتي بها القرآن ضدّ المشركين تصلُح هنا أيضًا في نظره. ثمّ إنّ يسوع تصرّف بين الناس كإنسان عاديّ "فهو وأمّه كانا يأكلان الطعام" (5: 75). وبالتالي كان له أن يسلك، أُسوةً بسواه من الخَلْق، إلاّ أن يأتي الرحمن عبدًا (19: 93). لذا، عندما يُجلّ النصارى المسيح كابن الله فإنّ هذا الإجلال هو أقرب إلى الشِّرك منه إلى التكريم لأنّه يذكّر بأقوال المشركين (9: 30). ويعود القرآن فيصف الذين يأخذون بهذه الأقوال بأنّهم كفروا (5: 17 و72). ذلك أنّ النصارى لم يتلقّوا هذا التعليم من يسوع نفسه لأنّ يسوع، على حدّ ما ورد في القرآن، كان يبشّر قائلاً: "يا بني إسرائيلَ اعبدوا الله ربّي وربّكم" (5: 72 / را 5: 116 – 117). ويرى القرآن أنّ يسوع لو علّم تعليمًا خاطئًا عن نفسه وعن علاقته بالله، كما يدّعي النصارى في تعاليمهم التي يُشتَبه في أنّها مُشرِكة، لناقض رسالته النبويّة: "ما كان لبشر أن يؤتيَهُ الله الكتابَ والحُكمَ والنبوَّة ثمّ يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله" (3: 79). ويرى القرآن أنّ قول النصارى بألوهة يسوع المسيح لا بدَّ أن يكون تزويرًا لرسالة المسيح، فهو إذًا يُعزَى إليهم وإلى علمائهم. والقرآن يَعجَب من السهولة التي يرجعون فيها عن الحقّ ويقول: "اتّخذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا والمسيح ابنَ مريم وما أُمِروا إلاّ ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يُشركون" (9: 30-31).
ويرفض القرآن أيضًا الإيمان بالثالوث ويعتبره إيمانًا بثلاثة آلهة. (راجع 4: 171؛ 5: 73).
3-5. الله المتعالي
كم من مرّة يعود القرآن إلى إبراز تسامي الله عن خلقه: "هو العليّ" (2: 255 / را 20: 114 / 23: 116). "لا تُدركه الأبصار" (6: 103). "ليس كمِثله شيء" (42: 11).
4. أركان الإسلام
4-1. الشهادة
يدخل الإنسان الإسلامَ بالشهادة أي بقوله: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسول الله". وغالبًا ما يردِّد المؤمن هذه الشهادة تأكيدًا لإيمانه وتعزيزًا لطاعته لله ولتعلّقه بالرسول والإسلام وجماعة المسلمين.
4-2. الصلاة
الصلاة هي التعبير الأسمى عن الإيمان. فهي تعني ضمنًا الاعترافَ بسلطان الله المُطلق وبتبعيّة الإنسان لمشيئة الله.
ويميّز الإسلام الصلاة المفروضة من الصلاة الشخصيّة (الدّعاء) والصلاة الصوفيّة التي بها يتوجّه القلب إلى الله (الذِّكر).
الصلاة المفروضة على المسلم خمس مرّات في اليوم، وفي هذه الأوقات يدعو المؤذّن المؤمنين إلى الصلاة.
لا يجوز للمسلم أن ينتقل تَوًّا من أعماله اليوميّة إلى أداء الصلاة. بل عليه أن يتأهّب لها ليكون في حالة الطهارة اللازمة شرعًا. يكتسب المسلم حالة الطهارة بإحدى طريقتَين، بحسب ما يكون عليه من جَنابَة أي نجاسة: فإمّا الاغتسال الجُزئيّ (الوُضوء) وإمّا الاغتسال الكامل (الغُسل) في حالة الجنابة الجنسيّة ويتناول الغُسل جميع أعضاء الجسم.
علاوة على طهارة جسد المصلّي، ينبغي أيضًا أن تكون ملابسه نظيفة وكذلك المكان الذي يصلّى فيه. هذا المكان يُفَضَّل أن يكون المسجد (المعبد). إنّما يجوز استعمال مكان آخر بمدّ سجّادة أو قطعة من الثياب أو أيّ شيء مماثل آخر على الأرض.
تتألّف الصلاة الشرعيّة من عدد من الوحدات تسمّى ركعة. فصلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة العشاء تتألّف كلّ منها من أربع ركعات، فيما تنطوي كلٌّ من صلاة المغرب والصبح على ركعتين فقط.
علاوة على فريضة الصلاة الفرديّة، هنالك صلاة الجماعة التي تُقام يومَ الجمعة، ويوم عيد الفطر في ختام شهر رمضان، ويومَ عيد الأضحى في ختام الحجّ إلى مكّة، وكذلك في حالة وفاة أحد المؤمنين (صلاة الجنازة) أو في زمن الحرب (صلاة الخوف) أو في حالة القَحْط الشديد والجفاف (صلاة الاستسقاء).
إنّ القرآن يعتبر صلاةَ الجُمُعة أي صلاةَ الجماعة فريضةً إلزاميّة: "يا أيّها الذين آمنوا إذا نُوديَ للصلاة من يوم الجمعة فاسعَوا إلى ذكر الله وذَرُوا البيع. ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلّكم تُفلّحون" (62: 9 – 10).
يوم الجمعة في الإسلام ليس إذًا يومَ عطلة على غرار الأحد في المسيحيّة، إنّما هو اليوم الذي يتجمّع فيه المسلمون في المسجد عند الظهر، لأداء فريضة الصلاة بقيادة إمام. والملزمون بصلاة الجمعة هم الرجال (إذًا لا النساء ولا الأطفال) ما لم يحُلْ سببٌ كافٍ دون القيام بهذا الواجب.
وقبل صلاة الجمعة يستمع المؤمنون إلى تلاوة رسميّة من القرآن. وهي نوعٌ من التأمّل في نصّه المقدّس، يترك أثرًا بليغًا في قلوبهم ويحملهم على خشوع أعظم وخضوع أعمق لمشيئة الله.
ولمناسبة صلاة الجماعة تُلقَى في المصلّين خطبة تتناول شتّى المواضيع من دينيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، ممّا يهمّ الجماعة أو يتعلّق بمصالح الإسلام في العالم.
4-3. الزكاة
إضافة إلى الصّدقة الطوعيّة التي تُعطَى لصالح الفقراء، وإلى التبرّعات التي تُقدَّم لمساندة الجماعة في قيامها بالواجبات الاجتماعيّة والخيريّة، يعرف الإسلام تقدمةً ماليّة شرعيّة تُدعى الزّكاة. وهي مساهمة المؤمنين في تمويل المشاريع الملقاة عمومًا على كاهل الجماعة الإسلاميّة المتضامنة وكاهل الدولة الإسلاميّة. ويمتدح القرآن المؤمنين الأتقياء "الذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم" (70: 24 – 25). فمَن قام بواجب التضامن هذا، حقَّ له أن يرجو من الله المففرة وثواب الصالحين.
ويُحدَّد مبلغ الزكاة وَفْقًا لقيمة ما يخضع للضريبة من سِلَع وبضائعَ ودخل. أمّا المستفيدون من توزيع الأموال الناجمة عن الزّكاة، فكانوا في عهد النبيّ ينتمون إلى الفئات التالية كما أوردها القرآن: "إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرِّقابِ والغارمينَ (مَن عليهم دَيْن) وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم" (9: 60).
4-4. الصّوم
المكلّفون هم المؤمنون البالغون، الممتلكون قواهم العقليّة، القادرون فعلاً على إتمام فريضة الصّوم. ويُعفى من الصّوم الحوائض والحوامل والمُرضِعات وكذلك المرضى والمُسنّون والمسافرون الذين لا طاقة لهم به.
على مَن فاته الصوم، أن يصوم عددًا مماثلاً للأيّام التي لم يصُمها وعلاوة على ذلك، يجب أن يكفِّر عن تقصيره، مثلاً بإطعام المساكين (2: 184). كذلك المُعفَون من الصوم، يُنصَحون بأن يقوموا بصوم بديل، إن استطاعوا (2: 184-185).
زمن فريضة الصوم هو شهر رمضان القمريّ الذي يتنقّل مع مَرّ السنين، من فصل إلى فصل على مدار السنة الشمسيّة، ممّا يثقل أو يخفِّف من عبء الصوم. ذلك أنّ على المؤمن أن يمتنع عن الطعام والشراب وما شاكل، وعن التدخين والوِصال، من الفجر إلى غروب الشمس.
ولا يصحّ الصوم إلاّ إذا جدّد المسلم يوميًّا نيّته بأن يصوم، على أن يَتمّ تجديد النيّة قبل بزوغ النهار. وعلاوة على ذلك، لا يكتسب صومُه العمقَ الدينيّ، إلاّ إذا رافقته ممارسة عدد من الفضائل ومنها إلجامُ النظر وإلجام اللسان (تجنّب الكذب والافتراء والحَنَث…) وإلجام الأذُن والسيطرة على سائر أعضاء الجسم. أخيرًا، يحمل الصوم المؤمنين على الصبر ويقوّي إرادتهم للتغلّب على مصاعب الحياة، ويعزّز قواهم الروحيّة ويؤهّلهم للسعي إلى إرضاء الله وللخضوع لمشيئته. وعليه فإنّ القرآن يعتبر الصومَ سبيلاً إلى التقوى وتعبيرًا عنها (2: 183).
إنّ شهر رمضان هو في الإسلام زمن نعمة وبركة، إذ إنّ تنـزيل القرآن تمّ في إحدى لياليه، وفيه ليلة القدْر، التي تقع في السابع والعشرين منه (97: 1 / 44: 2-5). ويقول القرآن في هذه الليلة: "ليلةُ القدْرِ خيرٌ من ألفِ شهر. تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها من كلِّ أمر. سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر" (97: 3-5).