عن الخليل و«الخلايلة»
لم تتأخر الخليل، كدأبها دوماً، عن الالتحاق بهبّة القدس الشعبية، كانت في طليعة المدن الفلسطينية التي أعلنت النفير العام، ونزل رجالاتها ونسائها إلى الشوارع والميادين، نصرة للقدس والأقصى والمقدسات ... وعندما “بردت” خطوط التماس في العاصمة الفلسطينية المحتلة إثر “تفاهمات جون كيري” في عمان، أبت الخليل إلا أن تواصل مشوار المقاومة الشعبية للاحتلال، لتصبح بؤرة الاشتباك الأكثر سخونة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ذات يوم سمعت الرئيس الراحل ياسر عرفات يتحدث في عمان أمام عدد حشدٍ من الشخصيات الفلسطينية، يومها قال: أن التاريخ سيحفظ للخليل و”الخلايلة” أنهم حموا القدس وحفظوها من الزحف الاستيطاني و”الأسرلة” و”التهويد”، إذ لولا الوجود الخليلي الكثيف في المدينة، لعانت فراغاً ما كان لأحدٍ غير المستوطنين أن يملأه.
نقول ذلك، وفي الذهن بعض الأرقام التي فاجأتني، وردت على لسان الدكتور جواد العناني في محاضرة له بمركز القدس للدراسات السياسية قبل أيام، ومنها أن الخليل تنتج وحدها حوالي 40 بالمائة من الناتج الإجمالي للضفة الغربية، وإذا أضفنا إلى ذلك انتاج “الخلايلة” في بقية المدن الفلسطينية، فإن النسبة قد ترتفع إلى قرابة الـ 60 بالمائة ... وهذا وجه آخر من وجوه حيوية المدينة وقدرة أهلها على الإبداع والابتكار في شتى الظروف وأكثرها صعوبة.
الخليل أكبر مدن الضفة الغربية وأكثرها كثافة من الناحية السكانية، فيها أزيد من مائتي ألف نسمة، ويستوطنها أقل من خمسمائة متطرف يهودي، هم بكل المقاييس والمعايير، سبب صداعها المزمن، فهؤلاء هم النواة الصلبة لـ “داعش اليهودية”، كانوا كذلك من قبل، وهم كذلك الآن، إلى أن يتمكن شعب فلسطين من اقتلاع الاستيطان من جذوره، ليس في الخليل وحدها، وإنما في عموم الأراضي الفلسطينية.
والخليل قبل القدس، تعرضت لمخطط تقسيم حرمها الإبراهيمي الشريف، بعد المجزرة الأبشع التي اقترفها باروخ جولدشتاين، في العام 1994 وأودت بحياة عشرات المصلين ركعاً سجوداً ... ومنذ ذلك التاريخ، تعلم “الخلايلة” الدرس جيداً، وقرروا جماعياً على ما يبدو، عدم السماح بتكرار تجربة تقسيم الحرم الإبراهيمي إلى الحرم الشريف في القدس ... ولهذا رأيناهم، مثل،بل أكثر من غيرهم من الفلسطينين، في المواقع الأمامية للدفاع عن مدينتهم الثانية، وعن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
تاريخياً، منحت الخليل تأييدها لحركة فتح، ومنها تخرجت أجيال متعاقبة من المناضلين والقادة الفلسطينية، في الحركة وغيرها من الفصائل الفلسطينية، لكن المدينة “المقاومة”، سئمت هزال الحركة وترهلها وفسادها، فنقلت تأييدها في آخر انتخابات تشريعية إلى حركة حماس، ومنها أيضاً تخرجت عشرات الكوادر والقيادات والشهداء من الحركة الإسلامية الفلسطينية.
أمس الأول، قرر غادي آيزنكوت إعادة نشر لواء كامل من المشاة في جيش الاحتلال في مدينة الخليل وحدها، اللواء “كفير” هو الأكبر في جيش الاحتلال، سيكون مسؤولاً بكتائبه الخمسة، عن ترويع أهل الخليل وإحكام الحصار على المدينة، وتقطيع أوصالها مع القرى والبلدات المحيطة بها، فضلاً عن توفير أعلى درجات الحماية للقطيع الاستيطاني الداعشي الأكثر تطرفاً، الذي اعتاد استهداف المدينة في أمنها ومعاشها وحياة أهلها اليومية.
منذ اندلاع “الهبّة الشعبية” الفلسطينية في الأول من أكتوبر الفائت، والخليل تتعرض أكثر من شقيقاتها الرازحات تحت نير الاحتلال، إلى عمليات دعم واستباحة واعتقالات وعقوبات جماعية ... ولم يستهدف “الجيش الذي لا يقهر”، النساء والأطفال الفتيان فحسب، بل سعى إلى تكميم أفواه أهل الخليل، وخلال أسبوعين فقط، أغلقت السلطات الإسرائيلية إذاعتين محليتين في المدينة، ودائماً بحجة التحريض والحض على العنف والكراهية، وهي التهمة الجاهزة للاستخدام، التي تشهرها إسرائيل في وجه كل صوت فلسطيني مقاوم، حتى أنها لم تتردد عن اتهام المناهج الفلسطينية ذات يوم، بالحث على الكراهية والعنف، مع أنها سبق وأن دمغتها بخاتم الموافقة والإقرار، بوصفها سلطة الاحتلال المسؤولة، كما سمعت للبروفيسور مصطفى أبو صوي يقول في محاضرة له في مدريد.
الخليل تميزت بتفوقها في ميدان الاقتصاد والأعمال، وفي المقاومة والسياسة، ولكنها مع ذلك ظلت الوجهة المفضلة لكل مطلقي النكات والمداعبات الذين اعتادوا وصف أهلها بخلاف ما هم فيه وعليه... فتحية للخليل و”الخلايلة”.