ثورة البلقاء ... التوثيق والذاكرة
جاءتني الدعوة بالإلكترون ( قدّس الله سرّه ) من رابطة الكتاب الأردنيين . حفل إشهار كتاب ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية للباحث الدكتور عبدالله العساف ... للمتحدثين في حفل الإشهار وقع خاص في نفسي كمتابع للنشاط الفكري والسياسي في المملكة ... ليث شبيلات ... د. هشام غصيب ... د. مهند مبيضين ... د. فارس الفايز ... د. عصام السعدي ... وجدت مع غيري أن قاعة الرشيد حيث سيقام الحفل مغلقة . فمجلس النقباء لم يوافق على إشهار الكتاب فيها . أصرّ القوم على الحفل في أحد الممرات الكبيرة بمجمع النقابات العتيد ... بلا مايكروفونات ولا مقاعد ... الجميع وقوف لأكثر من ساعة ... جيء بخمسة مقاعد للمتحدثين ولكنهم أصروا على الوقوف ... أرهقتني هشاشة العظام فجلست على كرسي ... وزميل آخر كبير السن مثلي ... المقعد الثالث استعمله ليث شبيلات لثوان معدودة ... جاء متأخراً بعد أن انتهى المتحدثون وكان أولهم ... استعمل المقعد للجلوس حتى يربط حذاءه . مما يوحي أن الرجل احتذاه على عجل وهو يتذكر موعده مع الحفل ... في نهاية الكلام الكثير وزّع علينا الكتاب مقابل عشرة دنانير للنسخة ... حالة بيع لم يحلم بها حسن ابو علي وكشك ثقافته طوال حياته ... أكثر من خمسين نسخة في حوالي عشر دقائق ... ما لفت نظري ابتداء في الكتاب هو العنوان ... ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجديّة ... وهو في الشق الثاني يحمّل سلطان العلي العدوان وزراً كبيراً لم يكن في شخصيته كزعيم لقبائل البلقاء لحوالي ثلاثين عاماً . ويشكك في سياسته التي اختطها لاحتواء النظام العثماني في بدايات تأسيس أقضية البلقاء والكرك ثم متصرفياتها ... كانت كلمته مسموعة ابتداء من سنجق القدس وانتهاء بسرايا ولاية الشام الشريف ... أبعد القبائل الغازية لمراعي البلقاوية وبني حسن في واقعة البقعة الشهيرة ... أرضى الدولة بالضرائب دون أن يرهق قومه ... بقي على ولائه للدولة العثمانيّة حتى خروج آخر جنودها من درعا باتجاه الشمال ... في بدايات تأسيس الإمارة أزعجته الحكاية الشهيرة في التراث الشعبي الأردني ... محمد يرث ومحمد لا يرث ... أعفيت إحدى القبائل الكبيرة من الضرائب العموميّة ولم تعف البلقاء منها ... نسي الباحث أن إحدى حكومات الإمارة صدعت لأمر المقيم البريطاني الذي قلّص موازنة الدرك وسرح ثلثهم . بتغريم كل قرية أو قبيلة يحدث فيها إخلال بالأمن . كل نفقات الجنود القادمين لفرض السيطرة بما في ذلك علف الخيل وطعام الجنود ... ذبائح أو دجاج محمّر ... أضيف إلى ميراث محمد كثرة الموظفين العرب في الحكومة بما في ذلك الوزراء ... احتج خريجو مدرسة عنبر في دمشق ومدرسة العشائر في اسطنبول من الأردنيين ووجدوا الصدى في بيت ابن عدوان الذي جمع قبائل البلقاء في احتجاج سلمي في الأولى واحتجاج بالرصاص في الثانية ... واجهته السلطة الاستعماريّة الإنجليزية بمدرعتين وطائرة ... تفرق القوم كما حدث لثورة الكرك التي فرقها البوق أو البورزان قبل ان يصل الجيش الى المدينة .
ما يثير الاستغراب هو اعتماد الباحث على روايات شفهيّة كانت متداولة في المنطقة . أن تلك الأحداث كانت لإقامة دولة بديلة للإمارة باسم الدولة الماجديّة نسبة إلى الرجل الذي سيرأسها وهو ماجد العدوان . لا يمكن لعاقل مدرك مثل سلطان العلي وابنه ماجد أن يصدق حتى نفسه وهو يتحدث عن زعامة دولة من قبل رجل وتسمّى باسمه ... هو يعرف أكثر من غيره أن بقية القبائل والمدن والقرى الأردنية لن ترضى بدولة تسمى باسم زعيمها ... فكيف بالقبائل المنافسة للعدوان والبلقاويّة ... لا شك أن انتداب سلطان لابنه ماجد لقيادة الثورة أو التمرد أو الاحتجاج قد أطلق العنان لخيال الأصدقاء والمنافسين وحتى الأعداء لاختراع اسم الدولة من باب التفاخر أو التشنيع كما في لهجتنا هذه الأيام ... لا شك أن سلطان وماجد أبعد نظراً من تلك الإشاعة التي أخذ بها الباحث وجعلها ذيلا لعنوان كتابه الذي سأعود إليه في قابل الأيام . لأن هيزعة السادة المتحدثين أشعرتني أن حفل الإشهار كان ... “ضيف وافق نذر”.
اعتمد الباحث الدكتور عبد الله العساف في كتابه ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية على الروايات الشفهيّة لأشخاص عاصروا الثورة ... بعضهم في سن الفطام والبعض الاخر لم يبلغ الحلم ... لا شك انهم رووا عن اسلافهم وهذه الحالة شائعة في المجتمع العربي بتطوير الحكاية او الخبر بالزيادة حتى تصبح مثل كرة الثلج ... اينما تدحرجت في ديوان او منتدى تروى بشكل مختلف عن الرواية الأصليّة ... واجهها علي بن الحسين الأصبهاني في كتابه الاغاني فقابل او استمع الى رواية اكثر من عشرين شخصية لأثبات خبر لا يزيد على سطرين او ثلاثة ... وهو يفنّد بعض الروايات وينفيها ( رغم انه يدرجها ) لأنها غير صحيحة لان بعض الشخوص من ابطال الخبر ماتوا قبل الحادثة التي يرويها الخبر ... رحم الله الاصبهاني الذي سبق الباحثين الغربيين والعرب والفرس بوضع أسس البحث العلمي لتوثيق الأحداث بروايات من مصادر مختلفة حتى يتثبت القارىء من حدوثها او عدمه ... من الروايات الشفهيّة التي اعتمد عليها العساف شهادة مفلح الزوغة العجارمة الذي قابله محمد حمدان العدوان عام 1984 اي بعد ستين عاماً على انتهاء الأحداث ... وهي شهادة نسي الباحث ان يمحّصها ويستدل على صحتها بالوثائق التاريخيّة عن تلك الفترة ليستبعدها عن بحثه ... تقول الرواية ان الشاعر باجس ارحيّل العجارمة مثل بين يدي الامير عبد الله الاول بن الحسين بسبب قصيدة أبدعها بمدح الثوار ... طلب الشاعر كفيلاً على حياته لإنشاد القصيدة بحضور عدد من شيوخ القبائل ... اختار النوري ابن شعلان لان باجس له سابقة في الحفاظ على حياة النوري في غزوة الأخوان الاولى لأم العمد ... 22 آب 1922 ... يدعي الشاهد انه اعطى النوري خمس طلقات لبندقيته حينما نفذ منه الرصاص وهو يقاتل الاخوان مع بني صخر وبلقاوية عمان ... تصل الرواية الى حد كبير من المبالغة والتضليل بنداء ابن شعلان ... من يعطيني حشوة للبارود واعطيه بنتي ( ص283 من الكتاب ) ... يحلق الراوي بخياله الواسع ويذكر ان باجس رفض الزواج من ابنة النوري ابن شعلان ... يضيف ان النوري تذكر الحادثة ( مرّ عليها عامان ) وأعترف ان لباجس ( اوّله ) معروفاً برقبته ويكفله في مجلس الأمير ... تقول الوقائع التاريخيّة ان داهية السياسة البدوية النوري ابن شعلان كان يسكن قصر العظم في دمشق زمن غزوة الاخوان لأم العمد ....أشترى الحاكم الفرنسي القصر من اصحابه واهداه مكان اقامه لابن شعلان حينما يزور دمشق . كانت عربان الرولة في ذلك الحين تنتقل بين مثلث الحدود السعودي الاردني العراقي السوري حتى ان المنطقة شمالي الرويشد سُمّيت بفيضة الشعلان ... أشبع المؤرخون والباحثون في تاريخ الأردن غزوة الاخوان 1922 بحثاً ... ذكروا زعماء الغزاة ... عقاب ابن محيّا ... هويل ابن جبرين ... قعدان ابن الدويش ... نافل ابن محمد ... ذكروا مقاومة الغزوة من قبل بني صخر وشيوخهم مثقال الفايز وحديثة الخريشه ... وشيخ بلقاوية عمان منور ابن حديد ... وقوة من الجيش العربي كانت ذاهبة الى الكرك فأنثنت على ام العمد مع بهجت طباره وعارف سليم وصبحي العمري ... وأثبت المؤرخون قتلى الاردنيين 62 شخصاً بينهم امرأة وقتلى الغزاة 318 وأسر منهم 12 رجلاً عفى عنهم الأمير وأعادهم الى بلادهم ... لم يرد ذكر للنوري ابن شعلان في غزوة ام العمد الاولى بينما حدثت غزوة ابن نهيّر الثانية بعد انتهاء ثورة البلقاء ... لا شك ان استعانة الباحث بروايات شفهيّة مغلوطة قد افقد الكتاب مصداقيته ... خاصة حكاية عبد سلطان العلي ( جريبيع ) الذي صار علماً على أفق دراسة العساف . حينما اورد الرواه أخباره بصورة تدعو الى الشك والريبة خاصة عندما اصابه ( القعطيل ) جمود الحركة في منزل ضيف الله الدغمي جد النائب الحالي والوزير السابق عبد الكريم الدغمي ... مما سنستعرضه مع غيره من المغالطات في قادم الايام...
من المغالطات التي اوردها الدكتور عبد الله العساف في كتابه ... ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجديّة ... الصور التي نسبها لغير اصحابها في تلك الفترة ... من المؤسف ان يتأثر الرجل بتزوير ارتكبه شخص حاقد على الاردن مقيم في اميركا منذ عقود ويدير موقعاً الكترونياً ينشر فيه الكثير من التدليس والاكاذيب التي لا يصدقها عقل واعٍ ومطلع ... لا يشرفني ذكر اسمه هنا ... نشر ذلك المعتوه صورة للقاء الامير عبد الله الاول بن الحسين مع وزير المستعمرات البريطاني في حينه ( ونستون تشيرتشل ) وذكر ان السيدة على يمين الامير هي زوجته ... الباحث عبد الله العساف نقل الصورة الى كتابه ثورة البلقاء ولم يكذّب كذبة كاذب ... في الصفحة 98 من الكتاب يذكر شرح اسماء الظاهرين في الصورة انهم من اليمين ... زوجة تشرتشل ... ونستون تشيرتشل ... هيربرت صموئيل وزوجته ... الامير عبد الله وزوجته ... اللواء غالب الشعلان ... فؤاد سليم ... عارف الحسن ... انتهى شرح الصورة من قبل المؤلف ... اما شرحها من قبل دائرة الوثائق البريطانيّة فهي ان السيدة التي على يمين الامير بثوب انجليزي وقبعة هي السيدة ادوين صاموئيل زوجة هيربرت صاموئيل اول مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين بعد الانتداب البريطاني عليها ... والطريف ان وجه السيدة ادوين صاموئيل يبدو ببشاعة الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني في فلسطين ... وهذا ليس مستغرباً في بعض نساء بريطانيا .
فقد هدد الجاسوس البريطاني بيرغيس ( الذي يعمل لصالح الروس داخل المخابرات البريطانية ) بالاستقالة عندما طلبت منه المخابرات الروسية KGB التقرّب من لاريسا ابنة اخ تشرتشل تمهيداً للزواج منها كما يذكر صائد الجواسيس بيتر رايت ... فقد كان تشرتشل اجمل من ابنة اخيه ... ولكن السياسة اوجدت للاريسا زوجاً اصبح فيما بعد رئيس وزراء بريطانيا انتوني إيدن .
من المعروف جداً ان عقيلات عبد الله الاول بن الحسين ... مصباح ام طلال وهيا ... سوزدال ام نايف ومنيره ومقبولة ... لم يظهرن في اية صورة منشورة للعامة حتى عندما رعت الاميرة الملكة مصباح حفلا مسرحيا اقامته بنات مدرسة عمان الثانويّة عام 1930 بعنوان ( وفاء العرب ) عن رواية السمؤال ... ظهرت الطالبات الممثلات في صورة خبر الحفل ولم تظهر صورة الملكة ... رغم ان الحفل خيري رصد ريعه لمساعدة فقراء قبيلة بني حسن الذين اصابهم القحط ذلك العام وهو هدف نبيل لا يمنع ظهور صورة الاميرة بل يزيدها فخراً ... كذلك نشر الباحث ( ص230 ) صورة متداولة في أغلب مراجع الثورة السوريّة ضد الاستعمار الفرنسي لثائر متمنطق بمجاند الرصاص يحمل بندقيته بيده ويلف كوفيته حول رأسه على شكل عمامة بلا عقال ويبدو في الثلاثين من عمره حليق اللحية ... اما الشرح فيقول ان الصورة لسعيد خير رئيس بلدية عمان في مطلع القرن العشرين ... يبدو الثائر في الصورة غاضباً كأنه ذاهب الى أحد بساتين الغوطة للقتال او عائداً منها ... ويبدو ان اختياره بتلك الملامح كان مقصوداً ... فالكتاب يصف سعيد خير مع جماعة الاستقلاليين في عمان بأنهم من اعداء ثورة البلقاء والمحرضين على مجابهتها ... اما الواقع فأن سعيد خير زمن الاحداث كان في السابعة والخمسين من عمره ... ولأنه سلطي المولد والتربية فهو لا يمكن ان ينزع العقال عن رأسه كعادة جميع الاردنيين في ذلك الزمن ... الصورة المتوفرة له في جميع الوثائق الاردنية يبدو فيها بكوفية وعقال وشوارب ولحية تغطي وجهه ... ترى إذا كانت الصورتين من عشرات الصورة بهذا الإقواء والضعف من التوثيق ... ماذا نقول عن البقية - See more at