منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Empty
مُساهمةموضوع: الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة   الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Emptyالسبت 02 يناير 2016, 7:45 am

الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة (1)
معاذ بني عامر


خارج إطار الهلوسات، لن نجد إنساناً يدّعي امتلاك الحقيقة كاملة من مبتداها إلى منتهاها، بصفتها متموضعة في منظومته المعرفية، وحالّة فيه حلولاً اندماجياً، مما يجعله يعتلي اعتلاءً عمودياً على الآخرين، بطريقة تفضي إلى دكتاتوريات من شأنها الإضرار بحركة العمران البشري، والتعقيب سلباً على الحركة الحضارية. فالمهلوس إذ تتضخّم مقتنياته الداخلية وتتعاظم حجماً، فإنها تضغط باتجاه الانبثاق ناحية الخارج، والاندفاع اندفاعة غير عقلانية قادرة على التدمير أكثر منها قدرة على البناء والإعمار.
المهلوس دينياً، مثلاً، يفترض أن معارفه الدينية هي خلاصة إلهية حلّت في ذاته، لذا لا بدّ أن تتحوّل -طوعاً أو كرهاً- إلى خشبِ خلاصٍ للآخرين. وما تلك الاندفاعات الشرسة لبعض المتدينين في إثبات أحقّية معارفهم مقابل زيف وبطلان معارف الآخرين، وخوض غمار حروب ضارية تطال الرؤوس وما حوت، لإثبات تلك الأحقية اللّدنية، إلا تجسيد عملي لهلوسات دينية غائرة في أعماق بعض المتدينين، تجعلهم يستشعرون -كمرحلة أولى- عظمة ما هم عليه، بصفتهم جُنداً للعلي القدير، ووضاعة ما عليه الآخرون، بصفتهم جُنداً للشيطان الرجيم. فنظام المرايا الداخلي يشتغل على نظام التقعير والتحديب، ليس إلا. لذا ينبغي عليهم -كمرحلةٍ ثانية- بصفتهم رُسل الله، إجراء عملية خِتان كبيرة لأتباع الشيطان، تستلزم في أحيان كثيرة بتراً للرؤوس، لكي تكون عملية الطهارة عملية مكتملة الطقوسية القُربانية والتقرّبية إلى الإله العظيم. 
والمهلوس السياسي، كمثالٍ آخر، يفترض أن معارفه السياسية التي تأطرّت في نموذج سياسي بعينه، هي خلاصة حياتية، ينبغي عليها أن تتحوّل إلى خشب خلاص للآخرين، تحت وطأة النبذ والتعذيب والترهيب والتشنيع بالآخرين، وصولاً إلى مرحلة الإبادات الجماعية. وما تلك الاندفاعات العنيفة التي خاض غمارها سياسيون على مدار التاريخ الإنساني، وراح ضحيتها ملايين من البشر، إلا اجتراح عملي عنيف لداخل مُشوّه، أناني، إكراهي يسعى إلى تدمير البنى السياسية الأخرى وإحالتها وإحالة القائمين عليها إلى العدم، بصفتها بنى مضادة للحالة السياسية السوية والمتمثلة تحديداً في شخص المهلوس والمصاب بعُصاب سياسي شديد.
والمهلوس الثقافي، كمثالٍ ثالث وأخير، يفترض أن حالته الثقافية تحديداً هي الخلاصة الأخيرة، التي ينبغي تعميمها لتكون المثال المُحتذى من قبل الآخرين. فهو -أعني المهلوس- سادن الحقيقة والقابض على جمرها الأخير، وكلما تعاظمت قيمة حقائق المثقّف من قبل ذاته، زادت هلوساته على المستوى الداخلي، وانعكست سلباً على المستوى الخارجي. فهو الشاعر الأوحد، المفكّر الوحيد، المطرب الذي لا يتكرّر، حبر الأمة، العلّامة، العارف بأسرار الله، المُطلع على العلم الإلهي... إلخ.
ولما للهلوسة الثقافية من خطورة كبيرة، نظراً لقدرتها على التموضع في سياقات دينية أو سياسية مختلفة، فإنها قد تأخذ صبغة جمعية، بحيث تدخل أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، في حِراك هستيري لغاية إثبات أحقية نموذجه الديني أو السياسي، بحيث يتحوّل أفراد الشعب إلى عُصابيين، مُهلوسين، يدفعهم شعور غرائزي، غير عقلاني، بضرورة تصفية العالَم من شوائب وزوائد الشعوب الأخرى -سواء أكانت شوائب دينية أو سياسية- بصفتهم شعباً نقياً يمثّل قيمة الحقيقة العليا، مقابل شعوب أخرى تمثّل قيماً سُفلى، تضرّ أكثر مما تنفع، لذا لا بد من اجتثاثها وإراحة العالم منها.
إذن، امتلاك الحقيقة التي يمكن أن تتجسد في نماذج بعينها، لناحية أنها التجسيد الأخير لتلك الحقيقة، ولا يمكن للتاريخ أن يجود بأحسن منها على الإطلاق، والدفاع الشرس الذي يرافقها، والذي يصل -التاريخ حتى القريب جداً منه، ضاجّ بالأمثلة على ذلك- في أحيان كثيرة إلى تصفيات فردية تطال الأجساد وإبادات جماعية تطال الأجساد والمقتنيات الحضارية أيضاً، رَهنٌ بإنسان -قد يتخذ هذا الإنسان صفة فردية أو جمعية- مُهلوس، عُصابي، يتمثّل الوجود عبر حركةٍ لمرايا مقعرة ومحدبة، من شأنها الإضرار إضراراً مدمّراً على رؤيته الوجودية، فهو لا يرى إلا ما هو كبير وصغير بشكلٍ ثابت ودائم، نظراً لرؤاه الهستيرية التي ترى في الداخل شيئاً كبيراً، ينبغي عليه الانقذاف إلى الخارج، وإسعاد العالَم بولادته؛ وانعكاس هذه الرؤى انعكاساً سلبياً مميتاً، على الخارج الصغير دائماً أبداً.
وإذا كان لإنسان ما إن يتأكّد في نسقٍ معرفي مغلق ابتداءً، فإنه لا يعود يرى نوراً خارج صدفته الداخلية، وعندما يشقشق لغاية شقّ تلك الصدفة، فإنه يواجه العالَم باندفاعةٍ هستيرية، فنموذجه الأحادي سيصطدم بنماذج متعدّدة، ولأنه لم يطلّع عليها أصلاً فإنه يواجهها مواجهة غير عقلانية، لأنه سيخسر على جبهة العقل حتماً. فهو لا يقيم وزناً للحِجاج المنطقي، بقدر ما يقيم وزناً لاندفاعات سيكولوجية تعبّر عن ذاتٍ غير سوية، ينبغي علاجها علاجاً أنطولوجياً كما اصطلحُ عليه، وذلك بتمديده على الأريكة الكونية وفتح المجال أمامه لكي يندمج في المنظومة المعرفية الإنسانية، قديمها وحديثها، بحيث لا يعود مُرتهناً لنسق مغلق، من شأنه أن يرهنه لإشكالات سيكولوجية من جهة الداخل، ولمشكلات وجودية من جهة الخارج. فالحقيقة أوسع من أن تضيق، فهي رَحِم كبير، وكما حقائقه المجتزأة جزء متموقع في هذا الرحم، فمعارف الآخرين متموقع هو الآخر في هذا الرحم، بطريقة تقود إلى البناء والإعمار، لا إلى الهدم والاحتراب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة   الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Emptyالسبت 02 يناير 2016, 7:46 am

الحقيقة.. في مديح الجهل المعرفي (2)

(أ)
سنموتُ قبل أن نفهم!
(ب)
ثلاث مآثر لسقراط: واحدة صغرى، متعلقة بقدرته على نقل أعقد المسائل الفلسفية من الجماجم الفردية والصالونات الأكاديمية والغرف المغلقة، إلى الشارع والناس العاديين، بصفتهم شركاء في الهمّ المعرفي، مما عزّز فكرة إنسانية الفلسفة وتواصليتها المباشرة مع أولئك الناس، أياً كانت توجهاتهم الحياتية.
الأخرى وسطى، متعلقة بمقولته العظيمة: "الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً".
الثالثة كبرى، متعلقة بقدرته على التوليف بين مأثرتيه الصغرى والوسطى؛ فهو إذ يجنح إلى وضع معرفته بإزاء الآخرين، فإنه يعي أن بناء العالَم والدفع قدما بعجلة الحضارة الإنسانية، بحاجةٍ إلى معارف ذواتٍ كثيرة، من شأنها المساهمة في الإعلاء من هذا المعمار الكبير، لذا جعل من معرفته لبنةً من لبنات المعمار الكبير، الذي لا يمكن له أن يكتمل إلا بلبناتِ الآخرين ومساهماتهم المعرفية.
ضمن خطٍ موازٍ، يقول شاعر ألمانيا العظيم غوته: "لن يصل المرء إلى الحقيقة إلا إذا انتحر"؛ في تأكيد ضمني على استحالة حلول المعرفة الكلية في شخص واحد طالما هو خاضع لشرطي الزمن والمكان. فالمعرفة غير متناهية، في حين أن الشرط الحياتي للإنسان شرط متناهٍ، لذا من مواصفات الإنسان السليم دخوله في حِراك حِبِّي مع معارف الآخرين، لغاية إتمام النقص الحاصل في الذات على المستوى المعرفي، بما هو موجود عند الآخرين.وفي النص القرآني: "لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" (ق، الآية 22)، دلالة واضحة على استحالة الاكتمال المعرفي عند الإنسان الواحد طالما هو على قيد الحياة. لذا تصير التشاركية مأثرة إنسانية عظيمة على المستوى المعرفي؛ فما نقص عند الفيلسوف يُكمله الموسيقي، وما فاتَ الهندوسي يُكمله البوذي، وما انثلم عند الرجل تسِنّه المرأة، وما احتاجه إنسان العصور الحديثة استعاره من إنسان العصور القديمة، وما عجز عنه الحدّاد يقوم به النجّار... وهلم جرّا.
وفي معرض إجابته عن سؤال بيلاطس البنطي: ما الحقيقة؟ أجاب المسيح: أنا شاهدٌ على الحقيقة! لم يقل أنا الحقيقة بصفته نبياً ويمتلك معارف لدّنية، بل محض شاهد عليها، كما أي إنسان آخر هو شاهد عليها، في تناغم كبيرٍ بين الإنسان في وجوده الفردي، وعلاقته التواصلية والتشاركية مع ذواتٍ إنسانية أخرى.
ثمة سؤال مُلحّ هَهُنا: أينها حدود المعرفة البشرية؟ حقيقةً، لا حدّ لها. لذا من موجبات الاستحقاق المعرفي أن يتواضع الإنسان على المستوى الفردي بإزاء المعرفة الكُلّية، فهي مستحيلة كمّياً، لأنها مناط الإنسان المُطْلَق، اللانهائي، المُفتّت في الزمن والمكان؛ ابتداءً من أول إنسان وُجد في الزمن والمكان وإلى آخر إنسان سيوجد هنا والآن. فما يعرفه إنسان يعيش في موسكو عن الثلوج، سيستعصي على بدوي يعيش في صحراء الربع الخالي. وما يعرفه هنيبعال عن الخطط العسكرية، سيستعصي على كانط المهتم بالقضايا الفلسفية المجرّدة. وما يعرفه الناقد باختين عن أدب دوستويفسكي، سيكون صعباً على مزارع من فلاحي بابل القديمة. واستغراق عالِم البيولوجيا استغراقاً كاملاً بأبحاثه حول الخلايا الجذعية، سيجعله منشغلاً عن آخر نتاجات النقد الأدبي. وتأليف ول ديورانت كتاباً يختصر قصة الفلسفة، لن يمنع بول فيري من تأليف كتاب عن أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. وتجربة بوذا التنويرية تحت الشجرة الشبيهة بشجرة التين، ستختلف يقيناً عن التجربة الروحية للنبي موسى في جبل سيناء. كما أن اعترافات القديس أوغسيطينوس، ستختلف عن اعترافات جان جاك روسو. وتحدّث أزولد أشبنغلر عن تدهور الحضارة الغربية، لن يمنع فرانسيس فوكوياما من الحديث عن نهاية التاريخ إذ يتجّلى تجليه الأكبر في الحضارة الغربية.
لقد تفتّت الإنسان المُطْلَق إلى ذواتٍ لا حصر لها، وبموجب هذا التفتّت تموضعت المعرفة الكُلّية سابقاً -وتتموضع الآن وستتموضع لاحقاً- في كل الذوات الإنسانية.
بدءاً، كان ثمة ذكر وأنثى؛ وكل واحد يحمل رؤيته الخاصة بهذا العالَم. انقدحت شرارة الودّ بينهما، فسطع نور في جسديهما، وبالتقادم شقشقت شمس الحضارة الإنسانية على هذه الأرض. 
اليوم، نتحدّث عن عدّة مليارات من بني البشر. من قبل كان ثمة مليارات كثيرة وعديدة من بني البشر أيضاً، والدراسات المستقبلية تتنبأ بازدياد متسارع لعدد سكان الأرض.
كُلّ واحد منهم له اهتماماته الخاصة على المستوى المعرفي، لذا ستكون حماقة كبيرة لأي شخص أن يدّعي امتلاكاً لكل المعارف البشرية من أول الخلق إلى لحظة وجوده في هذا العالَم، لما سينطوي على هذه الحماقة من هلوسات، تقود إلى كوارث جمّة، كنت قد أشرتُ إليها في المقال السابق.
ومثلما تفتّت الإنسان المُطْلَق إلى ذوات كثيرة، كذلك تفتّتت المعرفة الكلية إلى معارف جزئية كثيرة، بحيث أصحبت مستعصية على إنسان واحد حتى لو كان خالداً على طول الزمن. لذا من الأولى أن تندمج معارف المرء مع معارف الآخرين، بطريقة تفضي إلى البناء والإعمار، لا إلى الدمار والخراب على طريقة المهلوسين وأتباع المعارف المُطْلَقة المغلقة.
(ج)
إن الجهل المعرفي ليس نقيصةً في الذات الباحثة بدأبٍ ونشاطٍ كبيرين، عن المعرفة أنّى تواجدت؛ بل هو إشهارٌ لأعظم إنجاز إنساني على هذه الأرض؛ أعني الإنجاز الأخلاقي، بصفته نقصاً معرفياً داخلياً يستشعره المرء دائماً أبداً بإزاء المعرفة الكاملة، لكي يبقى على تواصل رحماني مع معارف الآخرين، لغاية التشارك في إنجاز المعمار الحضاري. ففي النهاية سيبقى ما توصّل إليه الإنسان من معارف ناقصاً، حتى يكتمل بمعارف الآخرين، على أن تكون عملية النقص والاكتمال عملية لا نهائية، لأن أي توقّف لهذه السيرورة هو إيذان بخراب كبير، لن ينتج عنه إلا ذوات مهلوسة ومتعصبة تدعّي امتلاكاً أخيراً للحقيقة مُجسدّة في معارفها المغلقة، وتحاول تعميمها تحت وطأة القضاء على الآخرين ومنجزهم الحضاري.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة   الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Emptyالسبت 02 يناير 2016, 7:47 am

الحقيقة.. المعرفة النوعية (3)

(1)
إن صيغة الاستحالة التي تفرضها الطبيعة الكمِّية للمعرفة الإنسانية بالنسبة للذات الواحدة، والحدّ الفولاذي الذي يمكن أن تصطدم به رأس هذه الذات، وتعريضها بالتالي إلى صدعٍ وجودي كبير؛ سيجعلها تبحث عمّا تردم به هذه الهوّة السحيقة.
هنا لا بد من استحضار المعارف النوعية كنوعٍ من الطبابة الوجودية، لمرض النقص المعرفي على المستوى الكمِّي، والتي أمكن اختصارها في ثلاثة حقول كبيرة، هي بمثابة الينابيع التي يمكن أن تنبثق عنها سواقٍ كثيرة وعديدة:
الحقل الأول: الله
الله بصفته جزءاً من الخبرة الروحية للذات الإنسانية، منذ بداية تشكّل وعيها الديني في زمن غابر وحتى لحظتنا هذه؛ على أن تتجمّع هذه الخبرات بطريقة تصالحية لا بطريقةٍ تصادمية تقود إلى التنابذ والتذابح بين بني البشر، بعد أن يدّعي كل واحد منها أنه الأقرب إليه من دون الآخرين. فالتشظيات الكثيرة والعديدة لمفهوم الله في العقل البشري، ستدخل إلى عقل الذات الواحدة بصفتها تشظيات تساهم في بلورة منمنمة التعدّد الروحي عند الإنسان، فالخبرة المعرفية لديها حول الله تشتمل على التطور الديني الذي مرّت به الإنسانية منذ بواكير هواجسها الماورائية وخوفها مما هو خارج عن حدود عالمها المرئي، وصولاً إلى الأديان الكبرى الوضعية منها والسماوية. وهذا بطبيعة الحال بحاجة إلى الإطلاع على أبرز النقاط المفصلية التي تخلخلت على إرثها علاقة الإنسان بالإله، وانتقلت من طور إلى طور. فالله بالنسبة لإنسان العصور الغابرة ليس هو بالنسبة لأجيال الهواتف الذكية، والله بالنسبة للهندوسي هو غيره بالنسبة للبوذي، وبالنسبة للكنفوشوسي غيره بالنسبة لليهودي، وللمسيحي غيره بالنسبة للمسلم، وللكاثوليكي غيره بالنسبة للبروتستانتي، وللمعتزلي غيره بالنسبة للأشعري، وللسُنِّي غيره بالنسبة للشيعي، وللفيلسوف غيره بالنسبة للمتدين، وللملحد غيره بالنسبة للشكَّاك، وهلم جرّا.
وعليه، أمكن تحويل مفهوم الله في ذهن الذات الإنسانية الفردية إلى شجرة وافرة الظلال، بما يقطع الطريق على سياقات الاحتراب بين الجنس البشري انطلاقاً من يقينيات دينية تفترض خضاراً في رؤيتها لله ويابساً يستوجب الاجتثاث في رؤية الغير؛ ويعزّز -من جهة ثانية- ثقافة الحب الإنساني على المستوى الروحي بين الناس، فهم شُركاء في تعزيز رؤاهم الروحية ناحية المَلَكوت، أياً كانت المواضعات التي تتموضع بها هذه الرؤى.
الحقل الثاني: الذات
الذات بصفتها حاوية لـِ"مُدخلات" و"مُخرجات" هذا الوجود؛ فمعارف الذات حول نفسها لمِّمَّا يُحقِّق شرطها الوجودي بالدرجة الأولى، لناحية أنها ذات واعية، ولديها القدرة على الابتكار والاجتراح ومناهزة المستحيلات، فوجودها -ابتداء-  وجود أقنومي، يتنامى تباعاً في علاقته بالله من جهة وبالعالم من جهة ثانية.
وأعتقد أن المفاهيم الكبرى هي حجر الرحى بالنسبةِ للذات هَهُنا، بما يؤكد فاعليتها؛ فهي بحاجةٍ إلى الإلمام بما هو أصيل وخالد، كالحُبِّ والخير والحق والجمال؛ إذ تصيرُ الذات رمزاً فاعلاً في علاقاتها الوجودية، عبر آليات معرفية تنفتحُ على خيارات إبداعية، تُؤكد هذا الحضور وتدفع به ناحية التفاعل الإيجابي مع عناصر الكون على اختلافها، مما تحت الذرة إلى ما فوق المجرة، في سبيل تحقيق نوع من التساوق الوجودي مع الله والعالَم، بحيث يُصار إلى تأكيد معرفتها حضارياً، من حيث هي قوة هائلة تتفاعل ويُتفَاعل معها. فهي مُلِمةٌ بالأساسات التي تجمع في جِرابها الداخلي كل عناصر الكون معرفياً، فتلك الأساسات هي بمثابة الروافد الأصيلة التي تصبُّ في بحر الذات العظيم، إذ تشعر هذي الذات بحالةٍ من الصفاء والامتلاء المُتجَذِّر في الداخل، والمُمتد إلى الخارج! فمن جهةٍ تتمظهر خارجياً بعمارة الكون وفتح آفاق جديدة لا يمكن لأيّ ذاتٍ أخرى أن تقوم بها، ومن جهة ثانية تنتشي داخلياً بغبطةٍ مقدّسة ساعة تتمظهر وتتجلّى، لأنَّ القوة الهائلة التي تدفعها إلى اجتراح المعجزات قوة كبيرة ومتنامية بشكل لا نهائي، بما يقطع الطريق على أي محدودية يمكن أن تَسِم الوجود الفردي
 هُنا والآن.
الحقل الثالث: العالَم
العالَم بصفته مساحة غير مُكتشفة، واكتشافه برسم الإنجاز من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت، مع ما يحتمله هذا الاكتشاف التراكمي من تحقّق في دهشتين متواشجتين: عقلية وقلبية.
العقلية: لناحية عدم الاكتفاء بالمادة الخام للكون كما هي موجودة، بل الاطلاع على التعديلات الإنسانية على هذه المادة، بما يشتمل على أبرز المحطات الفكرية التي تجلّت فيها المقدرة الإنسانية على إجراء تلك التعديلات، فنقلتها نقلات كبيرة على المستوى الحضاري، والدهشة المتحصلة إثر ذلك، سواء لحظة الحدث الحقيقي وقدرة الإنسان على اجتراح ابتكار كبير، أو لحظة تلقّي المعرفة التي أرخّت لمثل تلك الابتكارات الكبيرة.
القلبية: لناحية الدخول في حِراك حِبِّي مع هذا العالَم، عبر تفعيل قنوات الاتصال بين الحواس والكون، بطريقة تجعل المرء في دهشة دائمة، تُبرز له المقدرة الذاتية على الاندهاش المُتكرّر ساعة الدخول في علاقة اكتشافية مع حوادث هذا الكون وحادثاته من جهة، والإمكان الجمالي الذي تنطوي عليه تلك الحوادث وهاتيك الحادثات من جهة ثانية، فخفقان القلب متطلب ضروري لغاية الصحة الوجودية، ووضع الذات في علاقة تنمية مستدامة مع العالَم.
(2)
وهكذا، فنحنُ أمام معارف نوعية، من شأنها التأسيس لانطلاقة جديدة في الحِراك الحضاري للإنسانية جمعاء. فالذات وهي تُرمّز وجودها وتحوّله إلى وجود تأسيسي في هذا العالَم، عبر اكتساب لمعارف نوعية وزحزحة منظومات تلك المعارف إزاحات معرفية وجمالية، فإنها تضع نفسها في سياقات الفاعل الحضاري القادر على اجتراح فعل حضاري ليس لذاتٍ أخرى أن تجترحه، وبالوقت نفسه تنأى بنفسها عن سياقات المفعول به، الذي لا يفتأ يُكرّر ويجترّ ما تراكم في ذهنه من معارف حول الله والذات والعالم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة   الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة Emptyالسبت 02 يناير 2016, 7:48 am

الحقيقة: فاتحة الشكّ خاتمة لليقين (4)

إذا كان من خاتمة لسلسلة مقالات الحقيقة، فهي فاتحةُ الشكّ، بصفتها مُنجزاً إنسانياً هائلاً. إذ ما كان للإنسان أن يتقدّم ناحية الأمام، ويُنجز مشروعه الحضاري، لولا تعاظم شكوكياته تجاه مقتنياته الوجودية. فلو ثبتَ على ما هو عليه من لحظة الميلاد -سواء أتجسّد هذا الثبات في إنسان واحد أو في أمة من الأمم- إلى لحظة الموت، دونما مراجعات وتعديلات، لأسِنَ وتعفّن ومات بالتقادم؛ لكنه يتقدّم إذ يتأكّد في المتضادات. وهو إذ يفعل ذلك، فإنه يُحقّق إنجازين كبيرين:
أولهما، وجودي مُتعلق بالفرق الأنطولوجي بينه وبين الله. فالله قارّ في وضع كينوني غير قابل للزحزحة المعرفية أياً كانت قوتها، فهو "اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ..." (البقرة، الآية 255) بحسب مقتضيات النص القرآني، أو "المحرّك الذي لا يُحرّك" بحسب التعبير الأرسطي. فالإنسان متموضع في المتضادّات، وغير قارّ بالمرة في أي كينونة، فلا هو بالثابت في الأعلى أو في الأسفل؛ في الفوق أو في التحت، في اليمين أو في الشمال؛ في السالب أو في الموجب؛ في الذكورة أو في الأنوثة، بل هو حصيلة متضادّات تطبعه بطابعها من البداية إلى النهاية.
وثانيهما، حضاري. فالاحتكاك بين المتضادّات يقدح جذوة النار المتوارية بين شحنتين مختلفين، وتنطلق من ثمّ شعلة الحضارة الإنسانية. فالإنسان بدءاً بحاجةٍ إلى شطري تكوينه البيولوجي، أعني الذكورة والأنوثة، لكي تنشطر النواة التأسيسية وتدفق على هيئة ذواتٍ بشرية كثيرة وعديدة. ولا يمكن للحضارة -بتجلياتها المختلفة- أن تقوم إلا على أكتاف إنسان ثنائي الشحنة، سواء أتجسّد في ذكر أو أنثى، بما يمنح كل واحد منهما دوراً لا يمكن إنجازه بغياب الطرف الآخر. لذا دائماً ما نرى اختلالات حضارية في البنى الثقافية التي تُقدّم دور الذكر على الأنثى أو دور الأنثى على الذكر، بل لا بد من توازن بين الشحنتين البيولوجيتين التأسيسيتين، لأن ما بعدهما معتمد عليها اعتماداً تكوينياً.
ومن ثم، الإنسان بحاجةٍ إلى تابعات ذكورته وأنوثته، فهو بحاجةٍ لمفهومي الليل والنهار، الأعلى والأسفل، السماء والأرض، السالب والموجب، الحار والبارد، الحلو والمر، النوم واليقظة، الإيمان والشكّ، اليقين والقلق، الضدّ وضدّه؛ كتجلٍّ أول وأخير لمسيرته الحياتية في هذا العالم.
وإذا كان للتقدّم الإنساني التضادّي أن يتأكدّ في المنجزين الوجودي والحضاري، فأولى بالإنسان أن لا يثبت على حالٍ ويستسلم له على المستوى المعرفي، بل الأجدى أن يُعمل مبضع شكّه في يقينياته المعرفية، ولا يركن إلى هدوئها ويتطامن إلى حركتها الانسيابية، فالسكّين الحادّة القادرة على فصد الدمّ الفاسد وإخراجه من الجسد المريض، بعد جرحه وإحداث ثقوب فيه، أفضل بما لا يقارن مع سكّين بادح لا يفعل شيئاً سوى إطالة أمد الألم دونما جدوى تذكر.
ولقد أثبتت التجربة التاريخية أن التقهقر والاندثار والخروج من سياقات الفعل المعرفي، والدخول في سبات حضاري طويل، هو مصير أتباع المعارف اليقينية، الذين يؤمنون بها إيماناً غير قابل لأي زحزحة معرفية، بصفتها معارف مقدّسة ولا يمكن أن تطولها -تحت وطأة الترغيب والترهيب- يد الدناسة التعديلية. فهم ثابتون على معارفهم وكأنهم على ثغر من ثغور الهوية الأصلية، ويدافعون عنها دفاعا انتحارياً لا طائل منه أو جدوى، إلا نفي الذات وإحالتها إلى العدم، لأنها غير قادرة -أمام ما يصلها من دفقات الآخرين المعرفية لاسيما تلك التي لا يهدأ لها بال وهي تعمل على تطوير معارفها- على الصمود وإثبات الجدوى، لذا لا بُدّ من الموت والانتحار.
ومثلما الشكّ خاتمة لليقين، حتى لا يؤول إلى نوعٍ من الفلكلور المعرفي، ويُحال إلى المتاحف؛ فهو أيضاً -أعني الشكّ- فاتحةٌ لليقين، إذ تُتلى آناء الليل وأطراف النهار، على مسامع الإنسان، لكي لا يقرّ أو يثبت، سواء فيما توارثه من معارف أو تحصّل عليه بجهدٍ شخصي. فلازمة الشكّ إذ تُلازمه في حياته، فإنها تدفع بإمكاناته المعرفية ناحية آفاق جديدة، ما كان له أن يصلها لو بقي على يقينياته، معتبراً إياها آخر أطوار المعرفة البشرية، ولا يمكن تجاوزها بأيّ حال من الأحوال.
ومثلما الشكّ ضرورة لازمة للصحة المعرفية على المستوى الفردي، فهو ضرورة لازمة أيضاً للصحة المعرفية على المستوى الجمعي؛ فالأمم التي لا تفتتح يقينياتها بشكّ مُنظّم وممنهج، تحول بالتقادم إلى الأرشيف، ولا يعود ثمة معنى لها في السياق العمراني للحضارة الإنسانية. وتلك التي لا تختم يقينياتها بشكّ آخر، تُورِّث أبناءها نُدباً حضارية لا تندمل جراحها، إلا عبر عملية إفناء ذاتي، تُحيل الإخوة إلى أعداء، كل واحد منهم يدعّي قداسةً لمعارفه مقابل دناسة لمعارف الآخرين، لذا يتقاتلون -ويجري الدم بينهم مدراراً، يرافقه نزيف حادّ في مآقي القلوب- حول ما ثبت وترسّخ، وحالَ بالتقادم إلى صخورٍ صمَّاء.
وعليه، ثمة يقين يتموضع بين سورتين من الشكّ: سورة البداية وسورة النهاية. الأولى تحول دون فساد المعارف في عقول الناس، وانعكاس ذلك سلباً على منجزاتهم الحضارية. والثانية تُساهم في تسليم الكتاب الحضاري للأجيال القادمة، ليس لغاية تقديسه وتحويله إلى حيوان طوطمي يُعبد كما هو، بل لغاية نقد متونه وتشذيبها وتعديلها بما يتلاءم مع الشرط الوجودي الجديد، الذي لم يكن ملائماً للأجيال السابقة.
وهكذا، فالإنسان إذ يبتدئ بسورة الشك ويختتم بها رحلته المعرفية، فإنه يُساهم مساهمة فاعلة في تحقّق الإنسان على المستويين الوجودي والحضاري، ويدفع باتجاه مزيد من الإبداعات الإنسانية التي لا يمكن لها أن تنفجر من ينبوع العقل، إلا إذا كان قلقاً بإزاء معارفه ومُخضعاً إياهاً لعمليات مراجعة دائمة ودائبة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: الدين والحياة-
انتقل الى: