الحقيقة: في نقد الأنساق المعرفية المغلقة (1)
معاذ بني عامر
خارج إطار الهلوسات، لن نجد إنساناً يدّعي امتلاك الحقيقة كاملة من مبتداها إلى منتهاها، بصفتها متموضعة في منظومته المعرفية، وحالّة فيه حلولاً اندماجياً، مما يجعله يعتلي اعتلاءً عمودياً على الآخرين، بطريقة تفضي إلى دكتاتوريات من شأنها الإضرار بحركة العمران البشري، والتعقيب سلباً على الحركة الحضارية. فالمهلوس إذ تتضخّم مقتنياته الداخلية وتتعاظم حجماً، فإنها تضغط باتجاه الانبثاق ناحية الخارج، والاندفاع اندفاعة غير عقلانية قادرة على التدمير أكثر منها قدرة على البناء والإعمار.
المهلوس دينياً، مثلاً، يفترض أن معارفه الدينية هي خلاصة إلهية حلّت في ذاته، لذا لا بدّ أن تتحوّل -طوعاً أو كرهاً- إلى خشبِ خلاصٍ للآخرين. وما تلك الاندفاعات الشرسة لبعض المتدينين في إثبات أحقّية معارفهم مقابل زيف وبطلان معارف الآخرين، وخوض غمار حروب ضارية تطال الرؤوس وما حوت، لإثبات تلك الأحقية اللّدنية، إلا تجسيد عملي لهلوسات دينية غائرة في أعماق بعض المتدينين، تجعلهم يستشعرون -كمرحلة أولى- عظمة ما هم عليه، بصفتهم جُنداً للعلي القدير، ووضاعة ما عليه الآخرون، بصفتهم جُنداً للشيطان الرجيم. فنظام المرايا الداخلي يشتغل على نظام التقعير والتحديب، ليس إلا. لذا ينبغي عليهم -كمرحلةٍ ثانية- بصفتهم رُسل الله، إجراء عملية خِتان كبيرة لأتباع الشيطان، تستلزم في أحيان كثيرة بتراً للرؤوس، لكي تكون عملية الطهارة عملية مكتملة الطقوسية القُربانية والتقرّبية إلى الإله العظيم.
والمهلوس السياسي، كمثالٍ آخر، يفترض أن معارفه السياسية التي تأطرّت في نموذج سياسي بعينه، هي خلاصة حياتية، ينبغي عليها أن تتحوّل إلى خشب خلاص للآخرين، تحت وطأة النبذ والتعذيب والترهيب والتشنيع بالآخرين، وصولاً إلى مرحلة الإبادات الجماعية. وما تلك الاندفاعات العنيفة التي خاض غمارها سياسيون على مدار التاريخ الإنساني، وراح ضحيتها ملايين من البشر، إلا اجتراح عملي عنيف لداخل مُشوّه، أناني، إكراهي يسعى إلى تدمير البنى السياسية الأخرى وإحالتها وإحالة القائمين عليها إلى العدم، بصفتها بنى مضادة للحالة السياسية السوية والمتمثلة تحديداً في شخص المهلوس والمصاب بعُصاب سياسي شديد.
والمهلوس الثقافي، كمثالٍ ثالث وأخير، يفترض أن حالته الثقافية تحديداً هي الخلاصة الأخيرة، التي ينبغي تعميمها لتكون المثال المُحتذى من قبل الآخرين. فهو -أعني المهلوس- سادن الحقيقة والقابض على جمرها الأخير، وكلما تعاظمت قيمة حقائق المثقّف من قبل ذاته، زادت هلوساته على المستوى الداخلي، وانعكست سلباً على المستوى الخارجي. فهو الشاعر الأوحد، المفكّر الوحيد، المطرب الذي لا يتكرّر، حبر الأمة، العلّامة، العارف بأسرار الله، المُطلع على العلم الإلهي... إلخ.
ولما للهلوسة الثقافية من خطورة كبيرة، نظراً لقدرتها على التموضع في سياقات دينية أو سياسية مختلفة، فإنها قد تأخذ صبغة جمعية، بحيث تدخل أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، في حِراك هستيري لغاية إثبات أحقية نموذجه الديني أو السياسي، بحيث يتحوّل أفراد الشعب إلى عُصابيين، مُهلوسين، يدفعهم شعور غرائزي، غير عقلاني، بضرورة تصفية العالَم من شوائب وزوائد الشعوب الأخرى -سواء أكانت شوائب دينية أو سياسية- بصفتهم شعباً نقياً يمثّل قيمة الحقيقة العليا، مقابل شعوب أخرى تمثّل قيماً سُفلى، تضرّ أكثر مما تنفع، لذا لا بد من اجتثاثها وإراحة العالم منها.
إذن، امتلاك الحقيقة التي يمكن أن تتجسد في نماذج بعينها، لناحية أنها التجسيد الأخير لتلك الحقيقة، ولا يمكن للتاريخ أن يجود بأحسن منها على الإطلاق، والدفاع الشرس الذي يرافقها، والذي يصل -التاريخ حتى القريب جداً منه، ضاجّ بالأمثلة على ذلك- في أحيان كثيرة إلى تصفيات فردية تطال الأجساد وإبادات جماعية تطال الأجساد والمقتنيات الحضارية أيضاً، رَهنٌ بإنسان -قد يتخذ هذا الإنسان صفة فردية أو جمعية- مُهلوس، عُصابي، يتمثّل الوجود عبر حركةٍ لمرايا مقعرة ومحدبة، من شأنها الإضرار إضراراً مدمّراً على رؤيته الوجودية، فهو لا يرى إلا ما هو كبير وصغير بشكلٍ ثابت ودائم، نظراً لرؤاه الهستيرية التي ترى في الداخل شيئاً كبيراً، ينبغي عليه الانقذاف إلى الخارج، وإسعاد العالَم بولادته؛ وانعكاس هذه الرؤى انعكاساً سلبياً مميتاً، على الخارج الصغير دائماً أبداً.
وإذا كان لإنسان ما إن يتأكّد في نسقٍ معرفي مغلق ابتداءً، فإنه لا يعود يرى نوراً خارج صدفته الداخلية، وعندما يشقشق لغاية شقّ تلك الصدفة، فإنه يواجه العالَم باندفاعةٍ هستيرية، فنموذجه الأحادي سيصطدم بنماذج متعدّدة، ولأنه لم يطلّع عليها أصلاً فإنه يواجهها مواجهة غير عقلانية، لأنه سيخسر على جبهة العقل حتماً. فهو لا يقيم وزناً للحِجاج المنطقي، بقدر ما يقيم وزناً لاندفاعات سيكولوجية تعبّر عن ذاتٍ غير سوية، ينبغي علاجها علاجاً أنطولوجياً كما اصطلحُ عليه، وذلك بتمديده على الأريكة الكونية وفتح المجال أمامه لكي يندمج في المنظومة المعرفية الإنسانية، قديمها وحديثها، بحيث لا يعود مُرتهناً لنسق مغلق، من شأنه أن يرهنه لإشكالات سيكولوجية من جهة الداخل، ولمشكلات وجودية من جهة الخارج. فالحقيقة أوسع من أن تضيق، فهي رَحِم كبير، وكما حقائقه المجتزأة جزء متموقع في هذا الرحم، فمعارف الآخرين متموقع هو الآخر في هذا الرحم، بطريقة تقود إلى البناء والإعمار، لا إلى الهدم والاحتراب.