ما هي مصادر المعرفة التي نكتسب من خلالها الأفكار؟
عماد عبد الرحمن
إن من أهم الأمور التي ركز عليها الفلاسفة مسألة مصدر المعرفة، هذه العلوم وهذه الأفكار والتصورات كيف نحصل عليها؟ من أين نحكم على شيء ما بأنه حقيقي أو لا؟ أو أن هذا التصديق مطابق أو غير مطابق؟
إننا ما لم نحدد مصادر المعرفة فلن نستطيع بناء نظام معرفي متماسك قائم على ركائز قوية، من أجل ذلك أهتم الفلاسفة بمصادر المعرفة وخاصة الفلسفات الحديثة، وقد سبقهم علماء الإسلام المتكلمون في ذلك، فنجد عندهم الكلام عن مصادر المعرفة في المبحث الأول من كتبهم شيء أساسي، فهم يبدؤون بذكر مصادر المعرفة والتدليل عليها؛ ليبنوا نظاما معرفيا متكاملا عليها.
ونبدأ فنقول إن عمليات الإدراك التي يقوم بها العقل البشري تنقسم إلى قسمين:
الأول: وهو التصور، ونقصد به إدراك المعنى البسيط غير المركب، كإدراكنا لزيد كشخص مثلا وللقيام كفعل مثلا، فهذه الإدراكات بسيطة وغير مركبة وتعطي الذهن معنى يدرك بمجرد وروده الذهن دون أي عمليات أخرى عقلية.
الثاني: التصديق، ونقصد به إدراك معنى مركب أي إدراك نسبة بين معنيين بسيطين أو أكثر، ففي الأمثلة السابقة نحن أدركنا معنى زيد وأدركنا معنى القيام وهذه معاني بسيطة، ولكننا إذا نسبنا هذيين المعنيين إلى بعضهما حصلنا على معنى مركب وهو زيد قائم، فهذا معنى مركب ويسمى تصديقا.
ونحن هنا نريد أن نعرف كيف حصلت في أذهاننا هذه المعاني المفردة البسيطة (التصورات)، فإن لهذه المسألة تاريخا فلسفيا عميقا في القدم.
أولاً: نظرية الإستذكار الأفلاطونية
وهي نظرية تقول أن الإدراك هو عملية استذكار فقط، فالنفس كانت موجودة في عالمها قبل نزولها إلى العالم الأرضي وارتباطها بالجسد، وهي في ذلك العالم تكون متحرر من الجسد وتطوف في العوالم الأخرى، وقد استطاعت النفس الاتصال بعالم المُثُل وهو عالم الحقائق المجردة، فتكونت لديها أي النفس معلومات كلية عن الأشياء، ولكنها عندما نزلت إلى عالم الأرض وارتبطت بالجسد نسيت كل ما تعلمته من عالم المثل، ولكنها عندما ترى الأمور الجزئية في هذا الكون تستذكر المعلومات الكلية التي تخص هذا الأمر الجزئي، فالتصورات سابقة على الإحساس، والإحساس يمهد لعملية الاستذكار أو منشط لها، وبذلك تكون عملية الإدراك والمعرفة هي عملية استذكار لا غير.
وهذه النظرية المعرفية قائمة على ركائز فلسفية:
الأولى: أن النفس الإنسانية موجودة قبل البدن في عالم أسمى من عالم المادة.
الثانية: أن الإدراك العقلي عبارة عن استذكار الحقائق المجردة الثابتة في ذلك العالم والتي يسميها أفلاطون بالمثل.
الثالثة: ثبوت عالم يسمى عالم المثل.
الرابعة: قدم النفس الإنسانية.
إن الذين قاموا بنقد الفلسفة الأفلاطونية من الفلاسفة أنفسهم قالوا إن النفس ليست شيئا مجردا موجودا قبل المادة، بل النفس هي عبارة عن نتاج حركة جوهرية في المادة، فتبدأ النفس مادية ثم تتجرد شيئا فشيئا عن المادة بسبب الحركة في المادة.
ولكن بغض النظر عن هذه التفسيرات للنفس، نحن نسأل أفلاطون ما الذي جعل النفس تهبط من عالمها العلوي المجرد إلى عالم المادة؟ ما الشيء الذي جعل النفس ترتبط بهذه المادة دون تلك؟ ثم ما الدليل على وجود النفس قبل البدن؟ وما الدليل على وجود عالم المثل العليا؟
ثم إننا يمكن أن نشرح قضية الإدراك والتفكير دون اللجوء إلى افتراض عالم المثل الأفلاطونية، فهذا أرسطو يفسر هذه العملية بمنطقية أكثر من أفلاطون فهو يقول إن المفاهيم الكلية هي عبارة عن معنى عام جرده العقل من المعاني الجزئية، فمثلا نحن نرى زيد وعمر وخالد ومحمد وغيرهم، ثم نرى أنهم كلهم متحركون ففيهم حياة وكلهم ناطقون أي مفكرون، ثم يقوم العقل بتجريد معنى كلي لهؤلاء الأفراد ويطلق عليه لفظ الإنسان ويعرفه بأنه الحيوان الناطق، ولا داعي لأن نقول كأفلاطون أن هذا المعنى الكلي موجود في عالم مُثُل.
ثانيا: النظرية العقلية "ديكارت" و"كانت"
وهي نظرية لكثير من الفلاسفة منهم "ديكارت" و"كانت"، وهذه النظرية العقلية تنقسم إلى تصورين بينهما اشتراك:
فالتصور الأول وهو "لديكارت"، يقول إن الإدراكات التصورية تأتي من مصدرين أولهما الحس؛ فنحن نشعر بالنور والحرارة وغيرها من الأمور، والمصدر الثاني هو الفطرة؛ فالعقل الإنساني مركب فيه صور لم يكتسبها من الحس، مثل تصور الله والنفس والحركة وغيرها.
والتصور الثاني وهو لـــ"كانت" ويقول إن مصدر التصورات كله من الفطرة والحس يساعد على فهم هذه التصورات، وهذا المصدر يعطينا تصور الزمان والمكان والمقولات الاثني عشر عند كانت.
والذي اضطر العقليين لهذه النتيجة هو أنهم وجدوا أن مجموعة من التصورات لا يمكن أن يدركها العقل البشري من الحس، فإذن لا بد أن تكون من داخل النفس ومركبة في صميمها.
ويمكن الرد على هؤلاء العقليين بإرجاع كل التصورات إلى الحس وذلك بتحليل عملية الحس، وجعل كل التصورات ناتجة عنها من غير الحاجة إلى القول بوجود تصورات فطرية، وبمثل هذا التحليل رد "جون لوك" على "ديكارت" وكذلك الفلاسفة الحسسين مثل "باركلي" و "دايفد هيوم" بعد ذلك.
ويمكن الرد عليهم أيضا بالقول الفلسفي بأن النفس بسيطة والبسيط لا يصدر عنه الكثرة فكيف تكون النفس بسيطة وفي نفس الوقت هي مصدر لأفكار وتصورات كثيرة، هذا لا يتفق مع القاعدة؛ إذن فلا بد من وجود مصدر لهذه التصورات غير النفس البسيطة وهو الحس لأنه متكثر.
ويمكن أن نستخدم نفس الدليل الذي استخدمه أرسطو في الرد على أفلاطون وهو أقواها.
ثالثا: النظرية الحسية
إن أول من تكلم بهذه النظرية هو "جون لوك" الفيلسوف الإنكليزي الذي ظهر في عصر الكل يؤمن فيه بأفكار "ديكارت" عن الفطرة، فألف كتابا يفند فيه فكرة "ديكارت" ويثبت النظرية الحسية، ولكن لم يقف الأمر إلى هذا الحد بل تطور الأمر حتى وصلنا إلى فلسفة حسية خطيرة عند باركلي ودايفد هيوم.
وهي نظرية قائلة بأن المصدر الوحيد للتصورات هو الحس، والشيء الذي لا نحسه لا نستطيع إدراكه، فهو غير قابل للتصور، وبناء على هذه النظرية فليس للذهن أن يكشف تصورا من غير الحس، بل الذهن فقط يستطيع أن يقسم ويركب ويطرح الأفكار ويميزها عن بعض.
فالحس أعطانا تصورا عن الجبل ثم أعطانا تصورا عن الذهب ثم ركب الذهن تصورا آخر من هاتين الصورتين وهو جبل من ذهب، ويستطيع الذهن أي يركب صورتين مثلا كتركيب رأس إنسان على جسم أسد أو جناحين لحصان، ويستطيع العقل أن يجرد من عمرو وزيد صورة كلية فيطرح كل ما يميزهما كشخصين في الخارج ويعطينا صورة كلية لهما.
وقد تبنا هذه الفكرة المذهب الماركسي؛ حيث قالوا أن التصورات هي انعكاس لما في الواقع عن طريق الحس وما لا ينعكس عن طريق الحس فلا يمكن أن نتصوره لأنه خارج عن حدود الانعكاسات الحسية.
وأصحاب النظرية الحسية يقولون أن من يفقد نوعا من أنواع الحس فهو يفقد إدراكا لمجموعة من التصورات، وترتكز النظرية الحسية على التجربة فالتجربة تعطينا مجموعة من التصورات عن طريق الحس، وهذا لا يعني أن العقل الإنساني لا يقوم بأي عملية بل له بعض العمليات الإدراكية كما بينا سابقا كالتقسيم والتركيب والطرح.
ويمكن أن نرد على هذه النظرية ونوضح فشلها عن طريق السؤال في كيفية ارجاع بعض المفاهيم إلى الحس كالعلة والمعلول والوجوب والإمكان والجوهر والعرض والوحدة والكثرة، ونحن نتكلم عليها كمفاهيم لا كأمور جزئية مشخصة في الخارج.
فنحن في الواقع نرى الماء إذا وضع على النار يسخن ثم يغلي ولكن لن نستطيع أن نشاهد أو نحس بالعلاقة العليّة بين الماء والنار أي أن الثاني وهو النار سبب في غليان الأول وهو الماء، فهذه العلاقة غير مشاهدة بل المشاهد هو مثال وتطبيق لهذه القاعدة العقلية.
وقد انكر "دايفد هيوم" مبدأ العليّة، وقال بتداعي المعاني أي أن النار وحرارتها هي من استدعت معنى تسخين الماء لا أن الحرارة هي علة في تسخين الماء؛ أي أننا مهما رأينا الحرارة فيجب أن يتسخن الماء بالضرورة، بل الأمر مجرد أن هذا المعنى ارتبط بهذا من غير عليّة، ولكن هذا الانكار لن يفيد دايفد هيوم لأنه عندما انكر مبدأ العلية كان متصورا له وإلا فماذا انكر، إذن فهو قد تصور معنى لم يكتسبه عن طريق الحس وبذلك تبطل نظريته.
ولنا وقفة أخرى مع هذا الموضوع نكمل فيه ما بدأنا من الحديث عن نظريات مصادر التصورات، ونتكلم فيه عن نظرية علماء الإسلام المتكلمين.