الخراب العربي
محمد أبو رمان
من الجميل أن نسمع آراء تقدميّة، على الصعيد الاجتماعي، من رئيس مجلس الأعيان د. فيصل الفايز، وهو ابن عشيرة كبيرة معروفة، عن ضرورة تغيير كثير من عاداتنا الاجتماعية التي لم تعد مجدية ومكلفة؛ في العزاءات، أو إطلاق العيارات النارية في الأعراس. والأهمّ من هذا وذاك "الجلوة العشائرية" التي أصبحت مشكلة حقيقية اليوم، ومن الضروري البحث عن بديل منها.
لكنّ ما شدّ انتباهي واهتمامي، كذلك، في لقاء د. الفايز مع برنامج "وسط البلد" (على التلفزيون الأردني)، هو الموقف الحادّ جداً من لحظة "الربيع العربي" والثورات الديمقراطية الشعبية التي تحققت، عندما وصفها بالخراب أو "الزفت العربي"!
وللأمانة، فإن كثيرا من المسؤولين الأردنيين (بالإضافة إلى نخبة مثقفة وسياسية أيديولوجية أخرى) لهم الموقف نفسه. فهناك حالة ارتداد وانقضاض على لحظة انتفاضة الشعوب السلمية بحثاً عن الديمقراطية والعدالة والحرية، والتحرر من الدكتاتورية والسلطوية، اللتين تحررت منهما أغلب شعوب الكرة الأرضية، إلاّ نحن العرب، حتى أصبحت الحالة العربية بمثابة حقل دراسي مستقل ونظرية خاصة تدرّس، من دون البشر، عنوانها "الاستثناء العربي"!
لا يمكن السماح لهذه "السمعة الظالمة" للربيع العربي بأن تتكرس سياسياً وإعلامياً. ففي النهاية، الثورات الشعبية السلمية كانت عملاً عظيماً، ولحظة تاريخية غير مسبوقة في تاريخنا القديم والمعاصر. وشهدت إجماعاً استثنائياً مذهلاً على أولوية الديمقراطية والحرية، وكسر قيود الخوف والخضوع والتجبّر الأمني، والانتفاضة على الفساد للمطالبة بحياة كريمة تتأسس على الحرية وقدر أكبر من العدالة والشفافية والكرامة الإنسانية. وهي الشعارات الحصرية التي رُفعت في أغلب الثورات الشعبية العربية.
لا يجوز "إدانة" تلك اللحظة، لأنّها إدانة لحقّ طبيعي لنا في الديمقراطية والتحرر. وعلينا التدقيق في أحكامنا ومواقفنا بصورة أعمق. فما حدث لاحقاً، بخاصة مع "استعصاء التغيير السلمي" الشعبي، في سورية واليمن وليبيا، وإصرار الأنظمة هناك على "عسكرة" الثورات الشعبية، ومن ثم انبثاق حملة "الثورة المضادة" لإيقاف مسار التغيير السلمي، وترميم النظام السلطوي؛ كل ذلك خوفاً من "الإسلام السياسي" الانتخابي، ليأتي لنا "إسلام سياسي" مرعب لا مثيل له، حتى في أوساط "القاعدة"، فأصبحت بمثابة الأمّ التي اضطرت أن تتبرأ من ابنها الذي وصل حداً غير مسبوق في التوحش والانفلات!
وإذا كانت "القاعدة" نتاج عقود من فشل الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية في العالم العربي، فإنّ تنظيم "داعش" هو نتاج أعوام قليلة من "الثورة المضادة" لاستعادة وترميم تلك الأنظمة، واستراتيجية "الخيارين: إما نحن أو الفوضى"! لكن "داعش" ليس -بحالٍ من الأحوال- نتاج "الربيع العربي" أو حق الشعوب في تقرير مصيرها والوصول إلى المسار الديمقراطي.
من الطبيعي أن نحمد الله أردنياً بأنّنا تجنّبنا الويلات التي مرّت بها الشعوب المحيطة، وبأنّنا عبرنا بسلام لحظات الاهتزاز التي ستؤدي إلى انشطار الدول المجاورة وإلى حروب أهلية. لكن لم يكن مصطلح الثورة مطروحاً هنا لدى أغلب القوى السياسية والمجتمعية في أيّ مرحلة من مراحل الحراك الشعبي، فالكل كان مجمعاً على موضوع الإصلاح عبر الوصول إلى مسار توافقي عميق، يحظى بالمصداقية، لنسير إلى الأمام نحو ترسيخ مفهوم الديمقراطية والدستورية والمواطنة والتعددية وتداول السلطة بين الحكومات، لكن تحت المظلة الملكية التي تحظى بالإجماع.
من الضروري أن يكون واضحاً بأنّ الخيار الأردني هو الإصلاح الشامل والعبور للأمام، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد لتجنب التجارب المرعبة المحيطة!