ما الذي حصل داخل "إخوان" الأردن؟
م. غيث هاني القضاة
لا أتذكر شيئا أجمل في حياتي من تلك اللحظات التي أصبحتُ فيها عضوا في جماعة الإخوان المسلمين. إذ كنت حينها في السادسة عشرة من عمري، وأصبحتُ أنتظم في "الأُسَر" الإخوانية، وألتزم بالدروس المختلفة والواجبات الدينية التي كنت أستمتع بها.
كنت أشعر أنني أُحلق في السماء؛ كيف لا وأنا أحفظ باستمرار سور القرآن الكريم، وأحافظ على معظم صلواتي في المسجد، وأجد من يدلني على طيب الأخلاق وحسنها. كما أقف أمام زملائي في المدرسة لأحدثهم عن محنة "الإخوان" في مصر، وعن سجون عبدالناصر، وعن نظرتي للمستقبل وأملي الكبير حينها بالخلافة وعودة خليفة المسلمين، وأستاذية العالم واستعادة الأندلس، وغيرها من الأحلام الوردية التي كنا نرددها!
أصبحتُ طالبا في الجامعة، وانتقلتُ للعمل مع الإخوان في كلية الهندسة. حينها فازت القائمة الإسلامية في انتخابات اتحاد الطلبة الأول باكتساح! وتبعها بعض الانتصارات الطلابية هنا وهناك، وكذا في النقابات المختلفة. ثم حصلت الحركة على مقاعد عديدة في الانتخابات البرلمانية، وعلى ثقة كبيرة بين الناس، فازدادت لدينا القناعة بالمشروع. واغتررنا بالتعاظم الكبير للصحوة وانتشار روح التدين في المجتمع، فدفعنا ذلك إلى الإيمان بحتمية النصر والغلبة! ونسينا في غمرة الأحداث -كما ذكر الدكتور حسن مكي في بعض أفكاره- أنه "قد تصح القابلية في المجتمع، ولا يوجد الاستعداد في الحركة. كما قد تنضج الظروف (في الحركة)، ثم لا توجد القيادة التي تقود".
ليس سهلا أن تحيط بأزمة الإخوان في مقال بسيط، فهذا العمل يحتاج دراسات مُعمقة نفتقرُ لها. لكن شاءت الأقدار أن أطّلع على بعض الوثائق والرسائل المتبادلة بين طرفين رئيسيين داخل الحركة، وأن أطّلع أيضا على بعض أفكارهما وأن أناقشهما أحيانا. وكذلك أن أطلع على بعض القصص والوقائع التي تعطي مؤشرا، باعتقادي، يدل على مكان الخلل وأصله. فقد أدركتُ بعد كل ذاك أن لدينا أزمة أساسية عميقة في فهم "المشروع" الذي نحمله وطبيعته، ولدينا أزمة في "المنهج" الذي نؤمن به، أدتا إلى "أزمة ثقة" حقيقية متبادلة في أسوأ أشكالها بين الطرفين، لتُحدث شرخا رئيسا في المستويات التنظيمية كافة، ولتنعكس سلبا -باعتقادي- على النفوس. وقد باتت هذه الأزمة تتدحرج ككرة الثلج يوما بعد يوم، وتجلت نتيجتها النهائية في الانقسامات؛ بظهور مبادرة "زمزم" ثم جمعية الجماعة، كرد فعل طبيعي -يمكن تفسيره وتبريره- على عبث كبير أيضا تم ارتكابه داخل الجماعة.
روى لي أحد المؤلفين، وهو من الذين يؤرخون للحركة الإسلامية منذ زمن طويل، وله بحوث وكتابات متعددة في هذا المجال، أنه كان ذات يوم يركب أحد باصات النقل العام بين منطقتين في عمان، وصادف وجود أحد قياديي الحركة في الباص ذاته. وعندما همّ هذا القيادي بالنزول، وقف أمام الناس الذين لا يعرفهم وقال مخاطبا: هناك شخص اسمه (فلان الفلاني) من الإخوان، أصبح وزيرا في هذه الحكومة (الكذا والكذا). وهذا الوزير هو عميل للأمريكان والصهيونية وغير ذلك من الألفاظ والاتهامات. ثم غادر صاحبنا الباص!
وبرغم عمر القصة الطويل -إذ وقعت في نهاية الستينيات، عند دخول أحد أفراد الإخوان الوزارة في حكومة وصفي التل رحمه الله، من دون استشارة الجماعة- إلا أنها مؤشر مهم على طبيعة أزمة "المنهج والمشروع" بين فريقين، والتي تشكل بموجبها، عبر الزمن، فريق يؤمن بضرورة دولة الخلافة والدولة الإسلامية وحتميتها، ويعمل بمبدأ "تخوين واتهام الآخر" الذي يسلك نهجا سياسيا يؤمن بمدنية الدولة. فقاد ذاك التيار، للأسف، صراعا خفيا بمختلف الوسائل، ليؤدي -كما ذكرت- إلى أزمة ثقة غير مسبوقة، تعاظمت مع الأيام، وليصبح الشك والتخوين واغتيال الشخوص والعبث المنظم إحدى أهم وسائلها.
يبدو من دراسات مختلفة، أن معظم أزمات "الإخوان" في قيادتها بالدرجة الأولى، وليس في قواعدها. وهذه المشكلة بالمناسبة هي انعكاس طبيعي لنفس مشاكل المجتمع لدينا، والذي نفتقر فيه أيضا إلى قيادات حقيقية واعية وقابلة للتطور. فالقيادي يجب أن يكون على مستوى الحدث وعلى قدر المسؤولية، يقود المبادرات وينجحها، ويجعل من الفشل والتشرذم خيارا غير مقبول لديه وفي عهده. وقد أعجبتني مقولة زعيم حزب حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، عندما قال أثناء الأزمة السياسية الأخيرة في بلاده: "على من يمتلك القوة الأكبر، أن يُقدم دائما التنازل الأكبر"؛ في إشارة منه إلى الدور المأمول من القيادة الواعية عند اشتداد الأزمات. ولكننا، للأسف، افتقدنا هذه الممارسة القيادية الواعية التي لم تبادر ولم تستطع الإمساك بزمام الأمور!
كان على "الإخوان" -كما يقول أيضا بعض المفكرين- أن يقرأوا بعناية "مبررات النشوء" ويفهموها حسب الواقع الذي كان في زمن التأسيس، للاستفادة منها لأجل فهم "مبررات الاستمرار"؛ بمعنى أن الحاجة ماسة إلى البناء على فكر حسن البنّا رحمه الله وتطويره ونقده، لا تقديسه والتوقف عنده، كي تستمر الحركة وتتطور لا أن تتكلس في مكانها وتقف جامدة أمام النصوص أو تتمترس خلفها، فنبقى ننادي بـ"الخلافة" مثلا، والتي هي شكل سياسي للدولة غير مقدس، من دون أن نفهم حركة التاريخ والطموح السياسي المطلوب.
لست مع من يقول بأن مسألة الخلاف داخل الجماعة شخصية ابتداء. لكن الخلاف الشخصي هو عرض لمرض مزمن لم نستطع التخلص منه؛ بدأ بمشكلة إسقاط مفاهيم قرآنية وقصص السيرة النبوية على الواقع، فتشكلت ملامح استخدام قسري لبعض النصوص الدينية كسلاح لتحريم سلوك سياسي أو تجريم فعل شخصي معين، أو لاغتيال شخوص داخل الحركة وتخوينهم سياسيا. وتم استخدام نصوص البيعة والطاعة "الدينية" في قضايا "سياسية"، فتم إخضاع الكثير من الأعضاء على السمع والطاعة التامة، حتى وإن أدى ذلك إلى أزمات وتنافر وإغفال للوعي الجمعي للأفراد! وتعاظمت مشكلة أخرى أيضا عند قيام طرف أو أطراف بتشكيل تيار "غير معلن" يوجه الحركة من الداخل نحو التناحر مع طرف أو الاصطفاف مع فئة دون أخرى، للحصول على مكاسب مختلفة داخل الحركة (وقد كان هدف أفراد هذا التيار، كما يكررون، وقف تلاعب فريق بالدعوة يريد أن يحيدها عن المسار الصحيح الذي اختطه البنا)، فانهار داخل الحركة بعض من منظومة القيم والأخلاقيات السامية المتفق عليها أدبيا، وأصبحت كل الوسائل متاحة من أجل هذا الهدف النبيل باعتقادهم! ما شكّل رد فعل عكسيا عبر الزمن، ونفورا شخصيا، أديا إلى حالة "الفصام النكد" التي تعاني منها الحركة في الأردن الآن.
هناك مشكلة أيضا نشأت من عدم قدرة الحركة على حمل المشروع الوطني بشكل واضح، أو قدرتها على صياغة مشروع وطني حقيقي يحمله أبناء الحركة؛ وهذه بالمناسبة يتحمل وزرها كل من أدار دفة القيادة داخل الحركة عبر السنين الطوال. إذ من الواضح أن خللا أصاب الحركة في تنظيم العلاقة بين "المحلية والعالمية الإسلامية". والأصل أن تترافق الفكرة الإسلامية مع الفكرة المحلية، فلا تضاد بينهما اطلاقا، ولم تدرك الحركة أنها بعيدة نسبيا عن المشروع الوطني الحقيقي إلا بعد أن فات الأوان، وبدأت الجماعة تفقد خيرة أبنائها أحيانا لخلاف على هذه القضية بالذات، وبدأ النقد والتشكيك والتجريح بالألفاظ والأوصاف يظهر داخل التنظيم من أجل "محاربة" من يقول بغير قول القيادة في هذا الشأن! غير مغفلين أن "الربيع العربي" أنقذ "الإخوان" في الأردن في هذه القضية بالذات، فتشكلت عندهم أساسيات لمشروع وطني طالما افتقدوه، فتبلورت النقاط السبع في الخطاب السياسي للحركة مؤخرا، وأصبحت مطلبا شعبيا يتم المناداة به في المسيرات والاعتصامات، بعد أن كان مطلبا نخبويا في أدبيات الحركة.
لكن "الربيع العربي" خلّف وراءه مشكلة أخرى عميقة، تتعلق بحالة التمرد والنقد غير المسبوقة التي تشكلت في الذهن العربي تجاه الأنظمة والحكومات، وكذلك تجاه قيادة التنظيمات والحركات.
هل بقي مجال بعد كل هذا لأن نبقى نكرر ونقول إن الخلاف داخل "إخوان" الأردن هو خلاف شخصي؟ هل بقي مجال أن يبقى بعض "القيادات" والأنصار يكُررون بأن النزاع في حقيقته هو نزاع على الكراسي والمناصب؟ هل يجب على الجيل القديم من "الإخوان" أن يكتب مذكراته بكل تفصيل -وهذا ما يحصل الآن- حتى يطلّع الجميع على حقيقة الخلاف وجوهره؟ هل يمكن أن ننظر لما تم من انقسام داخل الحركة على أنه إيجابي، قد يؤدي إلى نشوء كيانات سياسية تستفيد من أخطاء "الإخوان"، وتستفيد من تجارب حركات الاسلام السياسي المتقدمة، لتُقدم نموذجا مختلفا؟ هل جاء "الربيع العربي" لينقذنا، بأن نستفيق من سُبات عميق؟ هل سيتم فصلي من الإخوان بسبب هذا النقد؟