الأحاديث النبوية الطبية
قال تعالى: }وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{ [32].
الأحاديث النبوية في الطب الوقائي
الأحاديث الواردة في النظافة والحث عليها كثيرة، ومنها:
قال رسول الله r: النظافة من الإيمان.
وقال: تنظفوا فإن الإسلام نظيف، وإنه لا يدخل الجنة إلا نظيف وقال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. وقال: حق الله على كل مسلم أن يغتسل في سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده.
وقوله r: إذا أستيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الأكل حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده. وقوله r: من أحب أن يكثر الله خير بيته فليتوضأ إذا حضر غذاؤه وإذا رفع.
وهذه الأحاديث واضحة المعنى في أهمية النظافة والتنظيف بالماء ودور كل ذلك في الصحة الوقائية للفرد والمجتمع المسلم.
وقاية الموارد
قال رسول الله r: لا تبولوا في الماء الراكد ثم تتوضؤا فيه.
وقال: اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق.[33]
ويدعو النبي r الناس إلى حفظ الماء والأكل من التلوث والتعرض للجو، وذلك بأن يحفظ الماء في أوانيه والأكل في أوعيته وهي أهم موارد الإنسان حيث يقول: خمروا الآنية وأوكثوا الأسقية. فلقد دعا r بهذا الحديث إلى تغطية أواني الأكل.. وإلى ربط فم قربة الماء، وذلك حرصاً على نظافتها، وعملاً على سلامتها، وبعداً بها من أي تلوث قد يصيبها لو تركت الأواني مكشوفة والأسقية مفتوحة وهذا ما وصل إليه وأكده علم الطب الوقائي أخيراً.
وقال أيضاً توكيداً لنفس هذا التوجيه النبوي الصحي:
غطوا الإناء وأوكثوا السقاء فإنه في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء لم يغط ولا سقاء لم يول إلا وقع فيه ذلك الوباء.
أما غسل الإناء لا سيما الذي ولغ الكلب فيه، فيقول عنه r: إذا ولغ الكلب في أناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب.
وعدد السبعة المذكور هو لتحقيق تكرار الغسل مرات عديدة، وليس العدد مقصود لذاته تحديداً والله أعلم أما التراب فهو أقرب المواد المنظفة للإنسان وأيسرها وهي بلا مقابل، وذلك حتى لا يتأخر أي إنسان في غسل إنائه إذا ولغ فيه الكلب انتظارا لتوافر المنظف أو ما يشابهه.
ولا شك أن العلم الحديث قد أوضح أن لعاب الكلب يحمل من الميكروبات والجراثيم كميات لا تخطر على بال، ولعل ذلك يرجع إلى دوام شم الكلب لكل ما يعترضه على الأرض من طعام أو أشياء أخرى، لا سيما القمامة والفضلات بأشكالها وكذلك لدوام فتح فمه، وإخراج لسانه، فهو لا يغلق فمه أبداً مما يعرضه أكثر للميكروبات.. أما أخطر من ذلك كله فهو مرض الكلب، الذي ينقله الكلب للإنسان وهو أخطر الأمراض وأكثرها فتكاً بمن تصيبه وينتقل مرض الكلب عن طريق اللعاب سواء بواسطة العض أو بدونه، ولذلك فإن الوقاية من هذا المرض وغيره من الأمراض التي تنتقل عن طريق لعاب الكلب يمكن أن يتم بغسل كل ما يلعقه أو يقترب منه لعابه، غسلاً جيداً وهذا لا يتأتى إلا بتكرار الغسل، وباستعمال مطهر، وأرخصه وأكثره توافراً هو التراب، كما أن هناك رأي علمي يقول أيضاً أن هناك أنواع من الأتربة لها خاصية التغلب على بعض الميكروبات منها ميكروب داء الكلب، وذلك بتوليد مضادات حيوية تفتك بهذه الميكروبات كالبنسلين وأمثاله منها تراب المقابر.
الذباب ودوره في نقل الأمراض إلى الإنسان
أن الذباب هو ناقل جيد ووسط مهم في نقل العديد من الأمراض إلى الإنسان وهذا الشيء أصبح الآن معروفاً لدى الجميع، فهو ناقل جراثيم من النوع الممتاز، وهو ما لم يكن معروفاً قبل قرنين فقط وليس قبل أربعة عشر قرناً. حيث كان الناس يتصورون أن الأمراض تنتقل بواسطة الجن والأرواح الشريرة وتعتمد على ظاهرة السحر والشعوذة والكهنة والتنجيم الذي كان شائعاً في أوربا خلال العصور الوسطى، بينما حرم الإسلام تلك الأساليب ودعا إلى التداوي واستخدام الطب والأعشاب والأدوية المؤثرة على المرض والمعالجة له، كما يقول النبي r:
أن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام.
ولذلك فإن الكشف عن دور الذباب في نقل الأمراض يعد من معجزات النبي r ويعطي تصور دقيق عن التوجيهات النبوية والطب النبوي الذي نحن بصدده.
قال رسول الله r: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء[34].
وقد حاول البعض جهلاً أو عمداً التشكيك في هذا الحديث، رغم أنه من الأحاديث الصحيحة المشهورة المعتمدة في كتب الحديث.
والحديث إضافة إلى أشارته إلى دور الذباب في العدوى وأنه ناقل للجراثيم من النوع الممتاز وهي حقيقة علمية وطبية أضحت معروفة لدينا اليوم، فإنه يشير إلى حقيقة علمية ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أن الذباب يحمل مضادات للجراثيم، وهي ما تسمى طبياً الآن المضادات الحيوية المعروفة والتي انتشرت خلال النصف الثاني من هذا القرن. فإشارة الحديث إلى الجراثيم وإلى مضاداتها الحيوية هي من المعجزات النبوية العلمية والطبية، التي ينبغي أن نقف أمامها بكل تواضع أعجاباً وإجلالاً لهذا الدين ونبيه الكريم الذي لا ينطق عن الهوى، وإنما يستمد علمه من الوحي الصادق ومن الغيب الذي أكرمه الله تعالى به.
أما الآلية التي يذكرها الحديث في غمس الذباب في السائل ثم طرحه، والتي استشكلها البعض جهلاً وعناداً أمام الاستسلام لهذا النبي العظيم وتوجيهاته الرشيدة، فهو ما سنحاول أن نفصله لينجو من ينجو ويهلك من هلك عن بينة، وتطمئن النفس والفطرة إلى عظمة الإسلام وحكمته في كل تشريعاته وإرشاداته..
وهذا موجز لتحقيق كتبه الدكتور عز الدين جوالة حول هذا الموضوع ننقل منه ما يهمنا هنا:-
يقول الدكتور جوالة:
1. إن من المعروف أن بعض الحشرات والأحياء المؤذية يكون في سمها نفع ودواء كما في سم الحية والعقرب وغيرها، فقد يجتمع الضدان في حيوان واحد كما في النحل مثلاً، فلا عجب أنه يوجد في الذباب جراثيم خطرة ومضادات لهذه الجراثيم والميكروبات.
2. إن الطب الحديث استخرج من مواد مستقذرة أدوية حيوية قلبت فن المعالجة رأساً على عقب، فالبنسلين ومشتقاته أستخرج من العفن، والستربتومايسين من تراب المقابر.. الخ وحشرة الذباب ليست أكثر قذارة من هذه المواد المستقذرة فليس هناك ما يمنع أن يكون في الذباب طفيلي أو جرثوم يخرج منها أو يحمل دواء يقتل هذا الداء الذي تحمله؟.
وبعد هذا الكلام للدكتور عز الدين يستمر في تحقيقه حول الموضوع فينقل تحقيقاً للطبيبين محمود كمال ومحمد عبد المنعم في إثبات الحقائق العلمية التي وردت في الحديث الشريف، فيذكر نقلاً عنهما:- يقولان: في سنة 1891 وجد العالم (بريفلد) الألماني من جامعة هال بألمانيا أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس فطر (أميتوزا) وهو يعيش في جسم الذبابة على الدوام، ويقضي حياته في الطبقة الدهنية في بطن الذبابة، بشكل خلايا مستديرة فيها خميرة، ثم لا تلبث هذه الخلايا المستديرة أن تستطيل فتخرج من الفتحات أو من بين مفاصل حلقات بطن الذبابة فتصبح خارج جسم الذبابة. ودور الخروج هذا يمثل الدور التناسلي لهذا الفطر، وفي هذا الدور تتجمع بذور الفطر داخل الخلية فيزداد الضغط الداخلي للخلية من جراء ذلك، حتى إذا وصل الضغط إلى قوة معينة لا يحتملها جدار الخلية انفجرت الخلية وانطلقت البذور إلى خارجها بقوة دفع شديدة، تدفع البذور إلى مسافة 2 سم خارج الخلية على هيئة رشاش مصحوب بالسائل الخلوي فإذا أمعنا النظر في ذبابة ميتة متروكة على الزجاج نشاهد مجالاً من بذور هذا الفطر حول الذبابة المذكورة.
وقد جاءت مكتشفات العلماء الحديثة لتؤكد ما ذهب إليه (بريفلد) ومبينة خصائص عجيبة لهذا الفطر الذي يعيش في بطن الذبابة، ومن تلك الخصائص:-
1. في سنة 1945 أعلن أستاذ علم الفطريات (لابخرون) إن هذا الفطر الذي يعيش دوماً في بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة (أي أنزيم) قوية تحلل وتذيب بعض أجزاء الحشرة الحاملة للميكروبات.
2. وفي سنة 1948 تمكن عدد من العلماء وهم (بريان وكوريتس وهيمونغ وجيفري وماكجوان) من بريطانيا من عزل مادة دوائية (مضاد حيوي) أسمها (كولتيزين) وقد عزلوها عن فطريات تنتمي إلى نفس فصيلة الفطريات التي تعيش في الذبابة وتؤثر في جراثيم جرام السالبة (كالتيفوئيد والديزنتريا).
3. وفي سنة 1949 تمكن العالمان الإنكليزيان (كرمس وفارمر) وعلماء آخرون من سويسرا هم (جرمان وروث وبلاتز وانلنجر) من عزل مادة مضادة للحيوية أيضاً أسموها (ايتابتين) عزلوها من فطر ينتمي إلى فصيلة الفطر الذي يعيش في الذباب ووجدوا لها فعالية شديدة وتؤثر بقوة على جراثيم جرام موجب وسالب وعلى بعض مكروبات أخرى كالزحار والتيفوئيد والكوليرا.
والخلاصة التي نستدل بها مما سبق ذكره:-
1. يقع الذباب على الفضلات والمواد القذرة وما شابه ذلك فيحمل معه كثيراً من الجراثيم المرضية الخطيرة. ومما يجعلها وسط ناقل للأمراض.
2. فإذا سقط الذباب في إناء للطعام أو الشراب وحملت الذبابة وألقيت خارج الطعام دون غمس، بقيت هذه الجراثيم في مكان سقوط الذباب، فإذا تناولها شخص وهو لا يعلم (بالطبع) دخلت الجراثيم إليه، فإذا وجدت أسباباً مساعدة تكاثرت ثم أحدثت المرض، فلا يشعر الإنسان إلا وهو فريسة للحمى طريحاً للفراش.
3. أما إذا غمست الذبابة كلها ونحن نتكلم هنا فيما إذا كانت كمية الطعام كبيرة أو غالية الثمن لوليمة كبرى أو كان دواءاً ضروري لمريض أو أي طعام أو شراب يرجح المعني أو صاحبه تناوله على إتلافه، أما إذا كان طعام بسيط أو كمية محدودة من الماء المتوفر فهنا يكون الإتلاف أولى حسب قاعدة النظافة من الإيمان، وهكذا ينبغي أن نرجح في أمور الدين والدنيا أخف الضررين وأكبر المصلحتين في أي قضية فيها مقارنة واختيار –فإذا غمست الذبابة كلها، أحدثت هذه الحركة ضغطاً داخل الخلية الفطرية الموجودة في جسم الذبابة، حسب قاعدة توازن التركيز داخل وخارج الخلية، فيزداد توتر البروز والسائل داخلها زيادة تؤدي إلى انفجار وخروج الأنزيمات الحاملة للجراثيم والمضادات الحيوية والقاتلة للميكروبات المرضية، فتقع على الجراثيم التي تنقلها الذبابة الملوثة وتبيدها ويصبح الطعام، خالياً من الجراثيم المرضية.
وهكذا يكشف العلماء النقاب عن تفسير هذا الحديث الشريف الذي أكد على حقيقتين علميتين لم تعرف إلا في العصر الحديث بعد التقدم العلمي والاكتشافات الحديثة لعالم الميكروبات والمضادات الحيوية الموجودة في جسم الذبابة وآلية القضاء عليها، فأكد العلم الحديث التوجيه النبوي بضرورة غمس الذبابة في السائل والطعام ليخرج من بطنها الدواء الذي يكافح ما تحمله من داء إذا ما أراد الإنسان تناول ذلك الغذاء أو الدواء.
قال تعالى: } يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب {[35].
أنتم أعلم بأمور دنياكم
لقد فرق النبي الكريم والرحمة المهداة بين أقواله وأفعاله باعتباره نبي مرسل من الله سبحانه لا ينطق عن الهوى، وإنما وراءه الوحي الذي يعصمه من الخطأ، وبين كلامه كبشر له خبرات وقناعات شخصية ومزاج ورغبات قد تختلف بين إنسان وأخر فيما يخص أمور الدنيا والخبرات العامة التي لا تتعلق بتشريع أو توجيه نبوي. فرغم العلم النبوي وأثر الوحي والنبوة في توجيه أحاديثه r إلا أنه ترك للخبرة والتجربة البشرية الأفضلية حتى على آراءه وخبراته الشخصية فيما يخص أمور الحياة الدنيا الخاصة، حيث أن هناك الكثير من الأمور التي لا بد للتخصص والخبرة والتجربة البشرية أن يكون لها الرأي الأول، والتي قد تفوق خبرة النبي نفسه باعتباره بشر له من الخبرات البشرية بحسب الحياة التي كان يحياها والزمن الذي عاش فيه، والوسط الذي تأثر به فيما يخص أمور الحياة العامة كالزراعة والصناعة وغير ذلك.
إن حادث تأبير النخل (تلقيحه) يلقي الضوء ويوضح هذا الأمر المهم الذي يجب أن يستقر في ضمير المسلم للتمييز بين السنة النبوية المرادفة للقران وجزءاً من الوحي، وبين الخبرات الشخصية والرغبات والعادات التي كان يفضلها النبي r كإنسان أو يتصورها كفرد عاش في ذلك الزمان والمكان.
وفي ذلك يقول r: إذا أمرتم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. [36]
كما نقل الأمام السرخسي في أصوله قول النبي r: إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فأعملوا به، وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم.
وأصل قصة تأبير النخل هي: ورد في صحيح مسلم جـ/4 تحت عنوان (باب وجوب امتثال ما قاله r مشرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي: عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله r بقوم على رؤوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟
فقالوا يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح.
فقال رسول الله r: ما أظن يغني شيئاً.
قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله r بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فأني إنما ظننت ظناً: فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إن حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله U.
وفي رواية أخرى عن السيدة عائشة وعن ثابت وأنس رضي الله عنهم أن النبي r مر بقوم يلقحون فقال: لو لم يفعلوا لصلح.. قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ فقالوا: قلت كذا وكذا.
قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.
وهكذا نرى أن هذه الأحاديث النبوية توضح الفرق بين الوحي الإلهي في القران والسنة وبين خبرة النبي r الشخصية، ومن البديهي نسبة الأحاديث العلمية والطبية والتنبؤية إلى الوحي لأنها مرتبطة بحقائق لا يعلمها إلا الله وبالعقيدة والقناعة المطلقة بصحتها، كما أنها مرتبطة بمستقبل الإنسان وصحته والتطابق المعجز بينها وبين العلم المبني على التجربة والبراهين والأبحاث العلمية الدقيقة، وهي في ذلك شأنها شأن القران الكريم وأعجازه العلمي فهي من ذات المصدر الإلهي.
أنزل القران بشرط ثبوت صحة سندها إلى النبي r كما أن النبي r يذكرها لأصحابه على سبيل الجزم والأخبار وليس الظن كما في حالة خبراته الشخصية غير المرتبطة بالوحي.
الخسوف والكسوف
وفي حالة الكسوف الذي حدث في عصر الرسالة مثال آخر يوضح التمايز بين كلامهr كجزء من الوحي، وبين علمه الشخصي وخبرته من جهة أخرى، ورفضه مجارات الأفكار والعقائد السائدة في عصره والخرافات والأساطير التي كان الناس يتصورها عن الحوادث الكونية وربطها بالناس على الأرض كما في حادثة الكسوف.
ففي اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن النبي من السيدة مارية القبطية، وهو طفل صغير لا يتجاوز بضع سنين، حدث كسوف في الشمس فظن الناس أن الشمس كسفت لموت إبراهيم، وبلغ ذلك النبي r فجمع الناس في المسجد النبوي وصعد المنبر وقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله U لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فأفزعوا إلى الصلاة[37].
فالمسألة هنا إذن مسألة عقيدة وليست مسألة دنيوية عامة لكي يقول للناس: أنتم أعلم بأمور دينكم فليس للظن هنا مكان، ولكن يجب أن توضح التصورات والعقائد حول الشمس والقمر كآيتان لله لا دخل لهما بحياة الناس وموتهم، وإنما على المسلم حينما يرى الخسوف أو الكسوف أن يفزع إلى الصلاة والدعاء والتأمل واستشعار عظمة الخالق وبديع صنعه كما حدث في أيلول الماضي حينما كسفت الشمس كسوفاً كلياً في مدينة الموصل في العراق وفي أماكن أخرى من العالم فهب المسلمون للصلاة وعبادة الواحد الأحد خالق الشمس والقمر رب العالمين.
وقد كان بوسع النبي r أن يتساهل في ذلك ولا يرد الخبر ولا ينقض تفسير الناس للكسوف وربطه بموت إبراهيم ابن النبي r وفقيده العزيز فيكون نوع من التكريم للنبي ولأبنه وكان ذلك سيبقى دهراً طويلاً دون أن يكتشف خطأه بدل نقد الفكرة من أساسها وبهذه الشدة والوضوح لولا أن ذلك الذي فعله النبي r هو ما يستدعيه الوحي وأمانة النبوة التي لا تعرف الكذب أبداً. وما يحتمه الإسلام من ضرورة تصحيح أي خلل أو انحراف في العقائد وفي فهم الظواهر الكونية وفق ما أرسله الله I من تعاليم وعقائد في كتابه الكريم وهدي نبيه الأمين الذي أرسله رحمة للعالمين.
قال تعالى: } لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين { [38].
الإسلام وتقديس الأرقام
إن غير المسلمين يتفاءلون ويتشاءمون ويقدسون أعداداً وأرقاماً معينة، وقد جعلوا في عقائدهم جزءاً خاصاً بالأرقام يستجلون به مغاليق الغيب.
أما في الإسلام فليس الأمر كذلك وقد وردت أعداداً كثيرة في القران لمجرد أنها أعداد لا لقدسية خاصة تحملها كما لم يخصص القران الكريم ولا السنة النبوية الشريفة عدداً معيناً بذاته يحمل أسراراً خاصة. وكذا الأمر بالنسبة للحروف، فهي الأخرى لا تحمل دلالات غير دلالاتها اللفظية واللغوية أما ما وراء ذلك فليس من الإسلام في شيء، والموضوع الذي أثاره د. رشاد خليفة حول أهمية الرقم 19 في القرآن الكريم وتكراره في عدد من الكلمات والحروف ضمن بحثه الذي نشرته مجلة آخر ساعة قبل أكثر من عشرين عاماً وأحدثت ضجة حوله، موضوع خاطئ من أساسه لأن الأساس الذي بنا عليه هذا الرجل بحثه هو حروف البسملة التي ظن أنها (19) حرفاً بينما هي في الواقع واحد وعشرون حرفاً.
وإذا كان الأساس خطأ فمعنى ذلك أن الموضوع كله خطأ ومع ذلك كان بحث د. رشاد خليفة مليء بالمغالطات والكذب والتدجيل والاستنتاجات الخاطئة كما سنرى.
وكمقدمة لهذا الموضوع ينبغي أن نضع أمامنا تلك الحقائق:-
- اليهود يتفاءلون بالرقم (7).
- والنصارى يتشاءمون من العدد (13).
- والبابيون والبهائيون يقدسون الرقم (19).
- والمانويون والمجوس يقدسون الرقم (6).
- وليس في الإسلام تقديس للأعداد والأرقام.
- وإن البسملة تحتوي على (21) حرفاً لا (19).
- وإن الإسلام يعتمد على العقائد الراسخة ويحترم العقل البشري ولا يشجع الخرافة والشعوذة بشتى أنواعها ولا يعتمد التضليل العلمي في نشر مبادئه وعقائده ورسالته الإلهية الخالدة لبني البشر.
لقد نشرت مجلة أخر ساعة المصرية في عددها المرقم 2149 في 31/12/1975 تحقيقاً حول العدد (19) للمدعو د. رشاد خليفة عنوانه: في أمريكا يفسرون القرآن بالعقول الإلكترونية، ادّعت فيه وجود أسرار لهذا الرقم العجيب ذات علاقة بتفسير القران.
في الإسلام قلنا أنه ليس فيه تقديس للأرقام وليس فيه رقم معين له ميزة معينة أو قدسية خاصة يوقف عندها فمن أين جاء خليفة بهذا اللغو؟
في القران أعداد كثيرة وردت على سبيل العدد لا أكثر ولا اقل، فالله تعالى خلق السموات وجعلها سبعاً والأرض كذلك في ستة أيام وجعل للنار سبعة أبواب وللجنة ثمانية، وعدد حملة العرش ثمانية والطواف حول الكعبة سبعة أشواط وكذا السعي بين الصفا والمروة والتروية يوم الثامن من ذي الحجة والوقوف بعرفة يوم التاسع منه، والسنة أثنتا عشر شهراً في كتاب الله والشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، والأسبوع سبعة أيام، والصلوات خمس في اليوم، وهي بين ركعتين وثلاث وأربع، ومجموعهما سبعة عشرة ركعة، والزبانية الموكلون على جهنم (19) }عليها تسعة عشر{ [39]وردت أعداد المائة والألف وكسور العدد من النصف والثلث والربع والسدس والثمن في القران الخ.. ولم يشر القران إلى سر معين في عدد معين كما لم يشر في السنة الصحيحة إلى ذلك، ولم يرد في كتب الفقه وغيرها من الكتب العلمية الإسلامية المعتمدة ما يشير إلى ذلك.
وما يقال عن الأرقام والأعداد يقال عن الحروف أيضاً فمن أين جاءت هذه الأباطيل والخرافات وكيف دخلت في الفكر والتراث الإسلامي؟.
إسرائيليات اليهود، ما يزال التخريب الذي يزاوله اليهود تجاه التراث الإسلامي باقياً حتى الآن، وهو ما يعرف باسم الإسرائيليات فقد حاولوا عن هذا الطريق إدخال الكثير من آرائهم الباطلة في العقيدة الإسلامية وتفسير القران والسيرة والتاريخ والحديث وغيرها من العلوم.
وتقديس الأرقام أحد مكونات الدين اليهودي، فقد ورد تقديس الرقم (7) في التوراة لذلك فهم يتفاءلون به، وليس اليهود وحدهم ينفردون بهذا التقديس بل يشاركهم فيه السومريون والبابليون بينما تؤكده الديانة المانوية (المجوسية) على الرقم (6)([40]).
وقد أورد الأستاذ محمود شيت خطاب أمثلة حول تقديس اليهود لهذا الرقم (7) وتفاؤلهم به، من ذلك مثلاً وعد بلفور المشؤوم كان سنة 1917 وإعلان قيام إسرائيل كان سنة 1947 وهزيمة حزيران والعدوان الإسرائيلي سنة 1967([41]). وعن اليهود أخذ المسلمون حساب الجمل أو حساب أبي جاد.
أما النصارى فإنهم يتشاءمون من العدد (13) وسبب تشاؤمهم من هذا العدد راجع إلى كونه رقم يهوذا الأسخريوطي المنافق الذي وشى بالسيد المسيح، وكان ثالث عشر الحواريين الذين حضروا العشاء الرباني الأخير (المائدة التي أنزلت من السماء بناء على سؤال المسيح وحوارييه لربهم).
أما في الإسلام فإن فكرة تقديس بعض الأرقام دخلت عن طريق: الفلسفة والفاطميين واليهود (الإسرائيليات):
أما الفلسفة فلأنها مستوردة من اليونان، وقد ذكر ابن خلدون أن الحساب الذي يسمونه (النيم) مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب. وهو قائم على حساب الحروف وأعدادها([42]) وقد شرح ابن خلدون هذا الموضوع الذي يعتمد المنظور الخرافي الفلسفي والذي يحاول استكناه الغيب عن طريق التنجيم أو الرمل أو الأعداد أو الحروف، ولكنه سخر منها واعتبرها من المغالط التي تجعل وتوضع بشكل مرتب لتكون كالمصايد لأهل العقول المستضعفة، وهي لا تختلف كثيراً عن فكرة الأبراج وعلاقتها بأرقام وحروف معينة كتاريخ الميلاد وأسم الأم وغير ذلك من الخرافات الفنطازية التي تستميل من يستمع إليها.
ومع موقف ابن خلدون المتشدد من هذا الموضوع لم ينجو من نسبة كتاب بأكمله إليه، فيه فصل عن أسرار الأرقام والحروف وهو يخالف مذهبه المشار إليه في مقدمته، مما يؤكد تزويره واختراعه من قبل بعض خصومه ونسبته إليه زورا.
أما ابن سينا فإنه يذكر أن الحروف الهجائية كلها تتضمن أغراضاً خاصة وله تفسير في معاني الحروف الهجائية التي في فواتح السور القرآنية([43])، وتقوم هذه الفكرة على إعطاء الحروف الأبجدية أرقاماً بين الواحد إلى الألف.
ومن الأمور التي أعتمدها الفلاسفة المتأثرين بأرسطو في أسرار الأرقام والحروف وما أورده في كتاب (عجائب الخواص) وهو شكل مربع فيه تسع مربعات فيها رقوم مخصوصة يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر وهو يعطي النتيجة نفسها إذا جمع طولاً وعرضاً وزعم هؤلاء أنه يساعد الحامل على الوضع بسهولة. وقد حاول الغزالي أن يرد على الفلاسفة في كتابه (المنقذ من الضلال) بأسلوبهم نفسه، فذكر ذلك الشكل الهندسي وقال: فيا ليت شعري من يصدق بذلك ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين والظهر بأربع والمغرب بثلاث هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة([44])، وقد ظن البعض خطأً أن الغزالي يؤمن بالأرقام وأسرارها بناء على ما جاء في كتابه أعلاه، وهو غير صحيح.
ومن الفلاسفة وأهل الكلام الذين اعتمدوا على هذا الباب جماعة (أخوان الصفا)، وفي ذلك يقول أحمد أمين: وغلا أخوان الصفا فزعموا أن للحروف أسراراً دالة على معان وأن هذه الحروف يمكن أن يفهم منها ميعاد ظهور المهدي، واستدلوا على الآية: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وادعوا أن الله تجلى بعلمه على من يشاء من عباده. وقد نسب إلى الفيلسوف الكندي رسالة تتضمن دلالة الحروف وأسرار الأعداد، وقد ذكر أخوان الصفا (وهم من فلاسفة الغلاة والقرامطة والإسماعيلية كما يعتقد) أن ظهور المهدي يتوقف على حركات النجوم وقراناتها، مقلدين في ذلك اليهود في قولهم: إن موعد ظهور المسيح يتبع القيمة العددية لكلمتي (هستير استير) وقد شاع بين الباطنية وغيرهم ارتباط حركات الأرض وإحداث الكون بحركات النجوم، حتى أنه لا يحدث حدث بالأرض إلا بقراءات في نجوم السماء، ووضعوا في ذلك علماً سموه (علم البازرجة) فما يحدث للإنسان من سعادة وشقاء وغنى وفقر مرجعه إلى حركات النجوم والقرانات.
ولإخوان الصفا في عدد السبعة هيام وأوهام كما يقول الدكتور أحمد أمين([45]).
أما الفاطميون فقد أحاطوا فكرة ظهور المهدي بقدرته على الأخبار بالغيب والتنبؤ بالأحداث وإن ذلك جاء من كتاب (الجفر) الذي تركه الإمام علي، وزعموا أنه علم أسره النبي r إلى علي وأمره بتدوينه، فكتبه الإمام حروفاً متفرقة، وهو يحيط بكل شيء وفيه تفسير باطن كلمات القرآن وظاهر عباراتها كما يرتبط الجفر بعلوم الكيمياء وحساب الجمل وهو معادلة حروف أبجدية بأعداد حسابية ويطلق على العلوم الغيبية والحوادث المستقبلية وأشتق من كلمة الجفر (الذي هو لغة جلد الماعز). أسم الشفرة.
نظرة تحليلية لفكرة تقديس الأرقام
يقول الدكتور أحمد أمين في كتابه المهدي والمهدية عن موضوع أسرار الأرقام والحروف ما يلي: وعلى هذه العقائد (أي أسرار الأرقام والحروف) ظهر في البيئة الفارسية شاب متحمس أسمه (ميزرا، علي أحمد الشيرازي) ولد سنة 1820 .. وأعلن أنه المهدي المنتظر.. ولم يكن يؤمن بشعائر الإسلام كلها وتفاصيلها، ويرى أنها مرهقة، وأنها فوق طاقة البشر في الوقت الحاضر.. وقد أضاف مؤسس البابية هذا أيضاً، تعاليم تتعلق بالحروف والأعداد، وجعل للحروف جملاً لها دلالتها الرمزية، وكان مما قدسه وأمر أتباعه بتقديسه العدد (19) وأستند في ذلك ما جاء في القران الكريم: (عليها تسعة عشر) وأستند على هذا العدد في تنبؤاته وأفكاره.
وأدعى الميزرا على أحمد الشيرازي، أنه ولد في التاسع من الشهر، لهذا كانت السنة البهائية (وهم الذين ورثوا فرقة البابية) تسعة عشر شهراً، والشهر تسعة عشر يوماً ومجموع ذلك كله 361 يوماً، والبهائية مثل البابية يؤمنون أيضاً بتقديس الرقم (7) وقد أيدت الوقائع والأحداث والوثائق السرية التاريخية صلتهم بالدول الاستعمارية وبالصهيونية، فقد تسابق الإنكليز والفرنسيين وقياصرة روسيا في دعم الميرزا علي الباب ومحاولة إنقاذه من الإعدام قبل تنفيذه، ثم بعد ظهور البهائية انضمت الحركة اليهودية الصهيونية في فلسطين في دعم حركة البهاء وأبنه وخليفته من بعده عباس بن البهاء، وجعلت البهائية قبلتها في عكها متجه إلى قبر مؤسسها البهاء وأبنه من بعده، وتقوم إسرائيل اليوم بدعم الحركة البهائية بالمال والدعاية والخطط والبرامج على مستوى العالم الإسلامي وأوربا وأمريكا وغيرها وتنسق معها لنشر مبدأ وحدة الأديان الهدام ومحاولة نسخ رسالة الإسلام برسالة جديدة هي خليط بين عقائد ومفاهيم الديانات الثلاث وبلباس بهائي إباحي معاصر، ويحاول البهائيون جمع التوراة والإنجيل والقران في كتاب واحد يمثل العهد القديم والجديد الحالي مع القران الكريم: ولكن هذه المحاولات المشبوهة لم تلق من المسلمين إلا الاحتقار والرفض والتصدي الواعي مما أدى بتلك العلاقة المشبوهة بين البهائية والصهيونية أن تخنس بعد كل نشاط محموم للتآمر على الإسلام وأهله.
ولعل من أكثر من قاوم البهائية وحاربها باعتبارها فرقة منحرفة غالية خارجة عن الدين هم الشيعة ثم أهل السنة، وغالباً ما كان يتعاون الشيعة والسنة لفضح تآمرهم وزيفهم ودسهم في التراث والعقائد والأفكار، ومن ذلك شبهة تقديس الأرقام والحروف وبالذات الرقم (19) الذي هو موضوع هذا البحث.
ويشترك مع البهائية واليهود في تقديس الرقم (7) بعض الطوائف والفرق المنتشرة في زوايا العالم الإسلامي، من الغلاة والأقليات الدينية في الشرق، التي تؤمن بالخرافة والهرطقة والأساطير الدينية منهجاً ومسلكاً، للترويج والإقناع بين معتنقيها، وتدعيماً للعقائد القديمة المتجمدة والمتخلفة، التي عفا عليها الزمن، محاولين من منهج التقديس والتعصب والتقليد الأعمى، المحافظة على وجودهم الديني بين الأكثرية المنفتحة والمتحررة من العقد الدينية والأفكار الأسطورية، التي تنشأ عادة في الظلام والخفاء والتقوقع والانكفاء على الذات.
أما أثر الإسرائيليات في التراث الإسلامي فيما يخص موضوع تقديس الأرقام والحروف، فهو واضح في كتب التراث، والإسرائيليات هي القصص والأخبار التي دسها أهل الكتاب في التراث الإسلامي، فيما يخص تراث الأنبياء، وعقائد أهل الكتاب وأخبارهم، وقد امتلأت بها كتب التفسير والسير والرقائق والمواعظ وقد ورد في تفسير الطبري كما ورد في سيرة ابن هشام حديث حي بن أخطب اليهودي في المدينة مع النبي r عن سورة البقرة ففسر حيي بن أخطب الأحرف (ألم) بأن الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعين سنة، أفندخل في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟..
ثم يسأل النبي عن سور أخرى، ويحسب الحروف بحساب الجمل أو ما يسمونه (حساب أبي جاد) أي الأبجدية ويضيفها إلى عمر الإسلام في الأرض وهذه القصة واضحة الوضع والصناعة، وتهدف إلى الإيحاء إلى المسلمين بأن الإسلام سينتهي من الأرض بعد عدد من السنين طالت أو قصرت، وإذا سرت هذه النزعة في مشاعر المسلمين فستموت في نفوسهم روح المقاومة، معتقدين أن هذا قدر الله الذي لا يرد يستسلمون للأمر الواقع وكما نجد اليوم أصداء هذه الأفكار من تحديد عمر أمة الإسلام وتحديد عمر وجود إسرائيل بسنة 2023 أو غيرها من الأساطير التي يحاول اليهود بثها بين المسلمين وربما بأقلام عربية أو إسلامية.
وقد قال ابن حجر عن هذا الحديث هذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر والتنجيم، وليس ذلك ببعيد، فأنه لا أصل له في الشريعة، وفي الحديث الشريف الذي يذم التنجيم والتحدث عن الغيب والمستقبل: كذب المنجمون وأن صدقوا.
كلما رفض الحديث الذي حدد فيه حي بن أخطب اليهودي عمر الإسلام بالحساب الأبجدي للحروف، العلامة المؤرخ ابن كثير، قائلاً في تفسيره: وأما من زعم أنها (أي فواتح السور من الحروف) دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره.
وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه ابن إسحاق صاحب المغازي (ويعني به حديث اليهودي حيي المتقدم ذكره)
وفي ختام هذه الجولة وهذا الاستعراض يظهر بوضوح أن موضوع الأرقام والحروف وأسرارهما وما فيها من أخبار الغيب أو الاختصاص بقدسية خاصة، لا أصل له في الإسلام، وإنما هو دخيل على التراث الإسلامي.
وإذا كان هناك باب خاص عن الحروف والأرقام، فإنما هو من خصائص الأدب والشعر، فقد جعل بعض الشعراء والأدباء للحروف الأبجدية أرقاماً لغرض التاريخ واصطلحوا على أن حروف الهجاء العربية (28) حرفاً كما اصطلحوا على إعطاء كل حرف رقماً خاصاً بحيث يصل عدد هذه الحروف الثمانية والعشرين إلى الألف، فإذا أراد شاعر أن يؤرخ حادثة من الحوادث أورد بيتاً أو شطر بيت يكون مجموع حروفه بالأرقام هو التاريخ بالسنين ليسهل حفظه أما غير ذلك من تنبؤ بالغيب أو إيجاد صلة بين رقم وقضية أخرى غير التاريخ الشعري فهو لغو وعبث ينزه عنه الإسلام.
أما محاولة الدكتور رشاد خليفة البائسة فهي غير جديرة بالنظر والمتابعة لما أكتنفها من تكلف وزيف وكذب وتلاعب بالأعداد، أثبتها العلماء المختصين بعد أن قام هذا الرجل بنشر ادعاءاته الهزيلة، إن الخطر في بحث رشاد خليفة ليس في الضعف القاتل في التدليل على نوع جديد من الإعجاز للقرآن الكريم وهو الإعجاز العددي إن صح أن نطلق عليه، وإنما في جعل المسلم يؤمن بالقران على حرف، وعلى أساس رخو، حتى إذا أنهار ذلك الأساس أنهار إيمان المسلم بكتابه المقدس، فضلاً عن الدعاية والتطبيل للعقيدة البهائية وتقديسها للرقم (19) وأن القران الكريم يؤيد العقائد البهائية من خلال عمليات التكرار والقسمة المزعومة على الرقم (19) ويمكن أن نضيف أن مثل هذه الأفكار والبحوث القلقة قد تثير الفتن والخلافات وتثير الجدل بين المسلمين حين يستطيع أن يوجدوا بين المسلمين من يؤيد ذلك التوجه أو ما يعارضه في حين أن المسلم في غنى عن هذا الهراء وهذه الموجة البهائية الجديدة التي قد تتبعها موجات وأفكار عديدة ما دام التنسيق قائم بين هؤلاء اليهود وبقية أعداء الإسلام.
وللإنصاف نقول أن استخدام هذا الرجل للعقل الإلكتروني أو الكمبيوتر ليس فيه خطأ بل لقد أصبح الآن استخدام الحاسبة في علوم القران والسنة شائعاً وأساسياً بين المسلمين وأصبحت الحاسبة اليوم ومنها الانترنيت من العوامل المساعدة والمهمة لنشر رسالة الإسلام وحضارة القرآن إلى العالم أجمع، ولكن الذي أثار الضجة في حينها حول هذه النتائج هو تلاعب المسئول عن إعطاء المعلومات للحاسبة، وإعطائها معلومات خاطئة ثم ساق هذا التزوير في موكب صاخب وفرقعة قوية استهدفت إثارة الحماسة الدينية لدى القراء، بل بعض الكتاب المخلصين أيضاً، بحيث أغمضوا عيونهم عن سلبيات الموضوع ولم يحاولوا التفتيش عن صحة المعلومات وعن علامات الاستفهام التي فرضت نفسها على الموضوع بأكمله، وقد قام الأستاذ إدريس الكلاك يساعده السيد فيصل وفيق/ كلية العلوم في جامعة الموصل، بمتابعة وتدقيق النتائج التي نشرها رشاد خليفة فوجدا أن أغلب الأعداد التي أعطاها كانت خاطئة ومخالفة لما هي عليه في العقل الإلكتروني.
أن المعجزة القرآنية أصبحت من أبرز معالم القران الكريم وهناك عدة مجالات في مواضيع الإعجاز سواء البلاغي أو التنبؤي أو العلمي أو التشريعي وغيره بل حتى الإعجاز العددي نفسه ضمن أصول وضوابط لغوية ومنطقية وعلمية صحيحة، يمكن أن يستعين بها الباحث لإثبات المعجزة القرآنية وليس بالدجل والشعوذة والتلاعب والزيف الذي أقحم دعاة تقديس الرقم (19) أنفسهم به بدعوى خدمة القران وإظهار آياته الجلية، التي يظهرها الله دائماً بجهد المخلصين والمجاهدين من دعاة الإسلام، قال تعالى: }سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد{ [46].