قيمة الحرية
د. محمد خازر المجالي
تقول الحكاية إن الثلج الجميل تساقط وغطى الأرض. وبعد أيام، سطعت الشمس، وخرج رجل من البيت يريد سطح المنزل ليستمتع بالمناظر الجميلة، حيث الهدوء والبياض وجمال الطبيعة الخلاب. وتذكر أن بلبله لم يغرد منذ يومين، فلعله أحس بالبرودة. فأحضر قفصه، وانتعش البلبل بالدفء وغرد من جديد ثم سكت.
ولما كان صاحبنا يستمتع بالمناظر الخلابة، سمع زقزقة وصوتا صاخبا، فالتفت فإذا بعصفور جهة المدخنة، فقال في نفسه: لعل العصفور يشعر الآن بالبرد. فعمد إلى قفص البلبل وفتح بابه، لعل العصفور يأتي ويشارك البلبل ويأكل الحب ويشرب الماء.
غرّد البلبل، ورد العصفور. تبادلا الحديث، وبعدها كانت المفاجأة، حين طار البلبل إلى طرف المدخنة حيث يقف العصفور، وأرسل الاثنان ألحانا عذبة، ثم طارا إلى السماء الصافية.
يعلمنا الحيوان أن حريته ولو صاحبها عنت ومشقة فهي خير من العبودية المذلة، ولو وجد فيها النعيم بأنواعه؛ خلق الله له جناحين ليطير في فضاء واسع ويكد ويعيش حياته، فما باله يوضع في قفص يحد من حركته ويُجبر على نمط من العيش ذليل؟!
الحرية قيمة سامية لا تعدلها أي نعمة. والإنسان في مفهوم الإسلام خُلق ليكون حرا عزيزا مكرَّما، وهو المحور الرئيس لهذا الدين، وهو المكلف بالعبادة، وهو الذي نيطت به مهمة الخلافة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"، (البقرة، الآية 30). وهو الذي هيأه الله لحمل أمانة الدين والمسؤولية عموما: "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا"، (الأحزاب، الآية 72). ولذلك احتل موضوع الإنسان حيزاً كبيراً في القرآن الكريم، وسميت سورة من القرآن باسمه، وتنوعت الموضوعات الفرعية التي ناقشت وعرضت وعرّفت بحقيقة الإنسان وموقعه وواجباته.
إن إنسانية الإنسان هي في الواقع مقياس لتقدمه وارتقائه، إنها تدعوه للتواضع في جنب الله تعالى، وتدعوه إلى العبادة الحقة له تعالى، وتدعوه لتحمل مسؤوليته، والشعور بالفخر والاعتزاز بعبوديته لله تعالى، وهذا كله يجعل الإنسان يعلو على مصالحه الشخصية ويضحي بها في سبيل الآخرين، وهنا مكمن الارتقاء الحقيقي، والتقدم الحقيقي.
ومن هنا نعلم أن الله تعالى قد قرر حقوقاً كاملة للإنسان، لا تستقيم إنسانيته، ولا يمكن أن يعد إنساناً إلا بها، وبهذا فالإسلام قد سبق الحضارات كلها في تقرير ما يسمى بحقوق الإنسان، وأعطاه الحقوق كاملة، حق العيش والحرية والتعبير والمسؤولية والتنقل والملكية والعمل والإرادة والاعتقاد والمشاركة في الحكم وغير ذلك. وقديما قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص في شأن الرجل القبطي وقد قسا عليه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وحقوق الإنسان في الإسلام جزء من إنسانيته، لا يجوز لأي سلطة في هذه الأرض أن تساومه عليها، وهي ليست منّة من الحكام يمتنون بها على الناس، فإن وجدت فهذا هو الأصل، وإن فقدت فهو اغتصاب لهذه الحقوق واعتداء على إنسانية الإنسان وكرامته، وما أكثر ما تتبجح به الدول والمدنيات والحضارات من إعطاء الإنسان حقه، وفي الواقع فهو الاستعباد الذي أذل الناس وأنقص من قيمهم الحقيقية، وخاصة العبودية لله تعالى.
إن التكليف الذي شرعه الله للإنسان يرتبط بشكل رئيس بحريته، ولا يمكن إجباره وقسره على تقبل الأفكار والمعتقدات، قال تعالى: "لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ"، (الغاشية، الآية 22)، فلا يمكن إكراههم على العقيدة، وقال مبينا حرية الاختيار وتحمل المسؤولية: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، (الكهف، الآية 29).وقال ناهيا نبيه عن التأسف على حالهم في الشرك والكفر: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، (يونس، الآية 99)، فمن البدهيات أن وجود الجبر يعني انتفاء وجود الاختيار، والعكس صحيح.
يقول الشيخ أبو زهرة: "الشخص الحر هو: الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية العالية الذي يعلو عن سفاسف الأمور، ويتجه إلى معاليها، ويضبط نفسه فلا تنطلق أهواؤه ولا يكون عبداً لشهوة معينة، بل يكون سيد نفسه، فالحر يبتدئ بالسيادة على نفسه، وإذا ساد نفسه وانضبطت أهواؤه وأحاسيسه أصبح لا يذل ولا يهون وبتلك يكون حراً بلا ريب"، ويقول: "والحر لا يمكن أن يكون معتدياً لأنه يسيطر على أهوائه ولأنه يعطي لغيره ما يعطيه لنفسه، ولأنه يحس بالمعاني الإنسانية التي يجب أن يلتزمها بالنسبة لغيره".
ويقول الطاهر بن عاشور: "ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: (الشارع متشوف إلى الحرية)"، فالحرية مقصد شرعي، وهذا استقراء من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، وهذا يؤكد أن أصل التشريع هو إقامة المصالح، والمقاصد الكلية لا تنخرم، والمصالح تابعة لها.
ولم يجعلها الفقهاء مقصداً شرعياً مستقلاً بذاته مع الضروريات الخمسة المعلومة، لأنها داخلة في ضمنها، كونها أساساً لحقوق الإنسان، وكون التشريع كله مرتبطا بالحرية شرطا للتكليف، فغاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والحرية فطرة بشرية لا تتحقق هذه المقاصد الخمسة الضرورية لحياة الانسان إلا بها.
فحفظ الدين: أساسه عدم الإكراه، إذ لا إكراه في الدين، وهذا دليل حرية الاعتقاد وهي المظهر الأهم لحرية الإنسان. وحفظ النفس: بحاجة إلى حريتها في التصرف بجميع شؤون الحياة بلا إكراه أو استعباد، فلا قيمة ولا معنى لحياة إنسان مقيد في تصرفاته. وحفظ العقل مرتبط بحرية الاختيار، فهو مناط التكليف، وشرط صحة لجميع التصرفات، ولا خلاف بين الفقهاء أن التكليف يسقط عن المكره وفاقد العقل. وحفظ النسل مرتبط بحرية الإنسان في اختيار الشريك الذي يحقق السعادة والاستقرار. وحفظ المال مرتبط بحرية الإنسان في التملك والتصرف في أمواله وأملاكه.
إن القرآن الكريم في مجمله دعوة لحرية الإنسان وتكريمه بالاستجابة لكل مقومات ارتقائه وسموه، به نهض العرب من قوم محصورين في جزيرة، يأكل بعضهم حقوق بعض، ويقتل بعضهم بعضا لأتفه الأسباب، ويعبدون أصناما لا تضر ولا تنفع، فأصبحوا بالقرآن والإسلام سادة الدنيا وأساتذتها، طليعة تقهر الاستبداد وتسمو بالإنسان، لتصبح له قيمة حقيقية ومسؤولية أخلاقية ودور في هذه الدنيا، فما بعد الدنيا دار آخرة يعتمد مصيره فيها على ما في هذه الدنيا، ومن هنا فلا بد من تحديد المصير بشكل واضح.