«الرئيس الضِّلّيل» في عصر «الإنحتات»
عماد شقور
FEBRUARY 11, 2016
لست معجبا، بامرئ القيس، حتى لا اقول اكثر من ذلك. شِعر امرئ القيس شيء، وامرؤ القيس شيء آخر. فلأول شعراء العربية، الذين عرّفهم التاريخ المدوّن، ولأشهَر اصحاب المُعلّقات، (سواء اعتُبرت عشر معلّقات او كانت سبعاً عند بعض مؤرخي الادب العربي)، ابيات شِعرٍ وقصائدَ واقوال مأثورة احبها، مثل ملايين غيري من العرب، وتعودت منذ ايام الدراسة الابتدائية على ترديدها، اعجابا.
اذ عندما بلغ امرؤ القيس نبأ قتل «بني اسد» لأبيه حُجر بن الحارث، ملك قبيلة كندة، قال ما اصبح مأثوراً عنه: «ضيّعني ابي صغيرا، وحمّلني دمه كبيرا. لا صَحوَ اليوم، ولا سُكْرَ غدا. اليوم خمر، وغدا امر». وله قصائد رائعة، وابيات شِعر جميلة خالدة، مثل قوله واصفا حصانه: «مِكَرِّ مِفَرِّ مُقبلٍ مُدبرٍ معاً // كجلمود صخرٍ حطّه السّيلُ من علِ»، في معلقته التي مطلعها: «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ // بسقط اللوى بين الدَّخول فحوملِ»، دون ان تُنقصه، او تُنقصَ جمالية معلّقته، دعابة ابو نواس الطريفة له بعد قرون، معرِّضاً بمطلع معلّقته بقوله: «قُل لمن يبكي على رسمٍ درس، // واقفاً (!) ما ضرَّ لو كان جلس».
هذا هو شِعر امرئ القيس الجميل، ونثره الجميل، الذي يسعدني تذكُّره وترديده. اما امرؤ القيس الشخص، فذلك شيء مختلف تماماً. أُدينه، ومعي كثيرون في ذلك، بل ربما الغالبية العظمى من العرب. ذلك انه حاول ان يرث عرش ابيه، ولكنه رغم كونه مُحِّقا بذلك، حسب مقاييس ذلك العصر على الاقل، ارتكب الخطيئة التي لا تُغتفر، وهي الإستعانة بالأجنبي، في محاولات الإنتقام لدم ابيه وعرشه، وفي صراعه وحربه مع بعض من اهله وقبيلته وشعبه. بل وأدهى من ذلك، ان الإستعانة ببعض اقاربه كانت متوفرة له، باعترافه الصريح، حيث يقول، متحدّثا عن نفسه بصفة الغائب وضميره: «ولو شاء كان الغزو من ارض حِميَرٍ // ولكنه عمداً إلى الروم انفرا».
فضّل امرؤ القيس الإستعانة بالروم، الأجانب، لاستعادة ما اعتقد انه حق له ،على الاستعانة بانصاره من عشيرته واقاربه من قبيلة حِميَر. وعندما استهجن رفيق دربه ذلك التصرف الأخرق وغير الوطني ولا القومي منه، ظل مُصرَّاً على ضلاله وخيانته، وثبّت ذلك في قصيدته تلك بقوله: «بكى صاحبي لما رأى الدرب دوننا // وايقن انّا لاحقانِ بقيصرا،… فقلت له: لا تبكِ عينُك إنّنا // نحاول مُلكاً، او نموت، فنُعذرا». ولكنه مات عند سفح جبل عسيب، قرب انقرة، ودُفن هناك، قبل وصوله إلى القيصر في القسطنطينية،… ولم «يُعذرا». لكن، يُسجّلُ له كشاعر، انه ابدع حتى في لحظاته الاخيرة قبل وفاته، حين قيل له ردّا على سؤاله عمّن يشغل القبر إلى جوار القبر الذي أُعدّ له، «انه قبر امرأة غريبة»، فقال. «اجارتنا إن المزارَ قريبُ // وإني لَباقٍ ما أقام عسيبُ،… أجارتنا إنّا غريبان ها هنا // وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ».
امرؤ القيس شاعر عظيم، وانسان سيّئ. حتى انه عندما سعى لأن يكون ملكاً على قبيلته، حاز من اهله وعشيرته وكل العرب، على ما زال لقبا له، ملتصقا بسيرته ويعرف به حتى اليوم، هو لقب/شتيمة «الملك الضِّلّيل»، كثير الضلال.
من الملك الضليل في التاريخ العربي، قبل نحو الف وخمسمئة عام، إلى «الرئيس الضِّليل» في ايامنا هذه. فهل سيأتي بعد خمسة عشر قرنا من الزمان، مَن يذكر ويُدين ويشتم «ضِلّيل» هذا الزمان الكئيب، الذي غيروا له الدستور ليحكُم، ثم ليبطش، ثم ليدسّ في مدن الوطن واريافه مهووسين، شُذّاذ آفاق، ليلطّخ سمعة الشرفاء الاحرار الثائرين على طغيانه، وليستعين اخيراً في حربه ضد شعبه، لا بـ»قيصر» فقط، بل وبـ»كسرى» ايضا؟؟.
اكثر من ذلك: أن هذا «الرئيس الضليل»، لم يُلحق الضرر باهله وشعبه فقط، بل إنه يُلحق الضرر بأُمته العربية كلها. فلمصلحة من خلقُ هذه المشاكل والعداوات، بين شعوب الامة العربية، والشعب الروسي الصديق التاريخي للعرب؟؟. ولمصلحة من اعادة نكء جراحات التاريخ، بين شعوب الامة العربية، وجارها الشعب الفارسي؟؟.
بناء تحالفات مع الأجنبي للتصدي لأجنبي آخر، ومواجهته وصد عدوانه، هو امر منطقي، وقرار حكيم، وسياسة عاقلة. اما استقدام الأجنبي، كائنا من كان، لحفظ «العرش» فوق جماجم ابناء شعبه، وسيول جارفة من دماء ودموع ابناء شعبه، فانه ليس تحالفا، ولا هو تلاقٍ للمصالح. انه فعل سيىء ومشين ومُدان.
شتّان ما بين التحالف مع القيصر خدمة لمصلحة الشعب والوطن والأُمة، تحالف الند للند، وبين «اللحاق» بقيصر للإستعانة بعصاه وبعموده الفقري. ويوم يستغني كسرى وقيصر عن الصورة والدُّمية، لن تعني لـ»الرئيس الضِّليل»، ولن تفيده ولا تحميه، لا ابتسامة ظريف المتواصلة، ولا عبوس وكشْرة لافروف الدائمة.
لا تنتصب قامة الزعيم والقائد والرئيس، مستندة إلى غير عموده الفقري الخاص به: شعبه وحِكمته وقبول جماهيره به حاكما. اما الاستناد إلى عمود فقري مستورد فهو الشلل الكامل المعلن الصريح، وهو التحول طواعية إلى رقم في معادلة الآخرين، دمية يحركها او يثبتها او يلقي بها كسرى او قيصر، في أي وقت شاء، وفي أي سلّة مهملات شاء.
لا يستقيم الكلام، موضوعيا، دون تسجيل ثلاث ملاحظات:
اولى هذه الملاحظات، هي ان «الرئيس الضِّليل» مسؤول أول، عما وصلت اليه الحال في سوريا. فعلى مدى سنة كاملة، ويزيد، منذ اندلاع احداث درعا، ولغاية ما بعد انتفاضة حمص وغيرها، كان هناك رفض سوري شعبي وطني صادق، ضد رمز السلطة واعوانها، جابهه الضليل بقمع ودموية واجرام.
وثاني هذه الملاحظات، انه عندما فشل «الضّليل» و»شبيحته» في اخماد روح جماهير سوريا، استعان بعصابات اجنبية لدعم «شبّيحة» النظام، والحق ذلك بالافراج عن مجرمين وشذّاذ آفاق، استقطبوا اعوانهم وامثالهم، واستعان هؤلاء بمموليهم الاجانب، ليبدأوا بما لم نشهده من قبل: حرق احياء وقطع رقاب في مشاهد مقززة مرفوضة كريهة، تسيء للإسلام وللمسلمين وللبشرية. واصبح للصراع، بتخطيط ومبادرة «الضليل» نفسه، ثلاثة أوجه: وجه نظام دموي مجرم؛ ووجه شُذّاذ آفاق ثبّتوا (كاذبين) فوق رؤوسهم اسم الله ونبيه، ولطّخوه بقماش اسود، ووجه مناضلين شرفاء عصريين قليلي حيلة، ومعدومي امكانيات مادية وتسليحية. ونجح النظام في اشاعة صورة ان الصراع بين طرفين: نظام قاسٍ غير ديمقراطي وعنيف، وميليشيات متخلفة مجرمة، تحرق البشر احياء، وتقطع الرقاب تحت اعين وعدسات احدث وادق اجهزة التصوير، و»تسبي» النساء والصبايا وتعرضها للبيع وللمِتَع، باسم الله ورسوله. واصبح هو، «الضليل»، الخيار الأقل سوءا، حسب هذه المعادلة المزيفة.
وثالثة هذه الملاحظات، هي ان الاستعانة المشينة بالأجنبي، لم تعد مقتصرة على «الرئيس الضليل» وحده؛ حيث فعل ويفعل مثلها شذاذ الآفاق، الذين هم في غالبيتهم اساسا من غير السوريين، وحيث يقلده ويسير على نهجه ومنواله، من بدأوا تحركا وطنيا شريفا للخلاص من الطاغية وموبقاته، مستعينين بالأجنبي مباشرة حينا، وبوساطة طرف عربي موجود وقائم حينا آخر، او بوساطة طرف عربي ميكروسكوبي، يذكِّرنا من خلال سياسته ومواقفه و»ضيوفه»، بافلام الميكي ماوس و»مقالبها» المثيرة للضحك، لولا ما فيها من دموية دونيّة مُبكية.
لمواكبة حالات سياسية او اجتماعية او اخلاقية غير مسبوقة، لا بد من تعابير لغوية يجب استحداثها ونحتها. ذلك ما تستدعيه الحاجة لايصال المعنى المقصود بشكل دقيق وواضح. فليتَ القيِّمين على ضبط كلمات اللغة العربية وقواعدها، في اي مجمع من مجامع اللغة العربية الاثني عشر، يُقرّون مبادرتي وطلبي لنحت كلمة عربية فصيحة جديدة: كلمة «الإنحتات»، نضيفها إلى معجم اللغة، لندلل بها على حالتنا العربية غير المسبوقة،هي حالة «إنحطاط الإنحطاط»، نُعبّر بها بدقة عن حال العرب اليوم، ولنطلقها على عصرنا الذي نعيش، ليصبح له إسماً يميزه ويليق به، هو: عصر»الإنحتات» العربي.
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور