إن عجز الأمازيغ عن تنظيم أنفسهم ضمن دولة كبيرة
واحدة أمر واضح للعيان، ولذلك يصعب على الباحث تتبع تاريخ قبائل الأمازيغ إلا إذا
عمد إلى تقويم دور القبائل المختلفة، ولكن هذا العمل يبدو معقداً جداً نتيجة
للتطورات والانقلاب في الأوضاع إثر اجتياح بني هلال للبلاد. ففي السهوب والهضاب
اختلط الأمازيغ بالعرب، وتخلوا تدريجياً عن لغتهم وعاداتهم، بل استعاضوا عن اسمهم
القديم باسم شخص عربي مشهور لعقد صلة النسب معه، وبهذه الكيفية أصبحوا من
المستعربين، على أن هذا الانقلاب السكاني لم يمس بعض الفئات التي اجتمعت في الجبال
المنيعة، كالأوراس وجرجة بالجزائر، والريف وجبال الأطلس بمراكش. وانضمّ إليهم هناك
لاجئون كثر من مختلف الأجناس، كما نزحت بعض الفئات الأخرى منهم إلى الصحراء.
وابتداءً من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي أصبح الأمازيغ يشكلون في
المنطقة الواقعة على حدود السودان (الجنس الأسود) صفّاً من السكان يقابل الصفّ
الذي شكّله العرب على حدود المغرب الأدنى والأوسط والأقصى. وقد صاحب هذا التدهور
في الأوضاع تأخر حضاري حتى صار كثير من الأمازيغ أقرب إلى الهمجية، ولم يحتفظوا من
الإسلام إلا ببعض الجوانب السطحية، وكان رجوعهم إلى الإسلام في القرن التاسع
الهجري/الخامس عشر الميلادي بفضل المرابطين (أي المتمسكين بالدين من نزلاء الرباطات)،
الذين قيل إنهم وفدوا من جنوبي مراكش ومن الساقية الحمراء التي اشتهرت لدى العامة
بأنها موطن الأولياء الصالحين. وقد بلغ من تأثير هؤلاء أن طائفة من القبائل الأمازيغية
كانت جد حريصة على وصل نسبها بهم.
مواطنهم
يؤلف الأمازيغ في ماضيهم وحاضرهم العنصر السكاني
الغالب في الشمال الإفريقي، إلا أنهم قوم غير متجانسين، لأن معظمهم ليس لهم من الأمازيغية
سوى اللغة، وهؤلاء لا يزيد عددهم على ستة ملايين، علماً بأنه لم يجر إلى اليوم إيّ
إحصاء دقيق لهم. والأمازيغي ثنائي، بل أحياناً ثلاثي اللغة، لكن أكثرهم نسوا أصلهم
وتخلّوا عن لغتهم وعاداتهم، واصطنعوا لأنفسهم نسباً عربياً مع وجود فئة قليلة أخرى
تفتخر بأصلها الأمازيغي، مع أنها لا تتحدّث بلغة الأجداد. وبوجه عام فإن لغة الأمازيغ
ما فتئت تتقلّص أمام العربية، ولاسيما بعد انتزاع الاستقلال من المستعمر الدخيل،
فقد سارع هذا الأمر في تقلّص الرقعة الجغرافية الناطقة «بثامازيغث» (لغة الأمازيغ)
ومن الظواهر التي سجلها التاريخ السياسي المعاصر، زوال «ثامازيغث» تماماً في بعض
المناطق، لاسيما تلك الواقعة في شرقي البلاد، ومن المؤكد أن الوضع السياسي في شمالي
إفريقية سوف يكون في مصلحة انتشار اللغة العربية، على أن معظم الأحزاب السياسية
متفقة على الاعتراف بالثقافة الأمازيغية ولاسيما في الجزائر، عنصراً من عناصر
الشخصية الوطنية.
ومع ذلك فلا تزال جماعات كثيرة من الأمازيغ تعيش
في المناطق الجبلية وفي الصحراء حيث بقي التغلغل العربي ضعيفاً، مما ساعد الأمازيغ
على الحفاظ على لغتهم وتقاليدهم هناك لتكون شاهداً على الوضعية العرقية واللغوية
التي كانت سائدة في العصور القديمة. ومما قد يتعجب منه الإنسان، أن هناك من أبناء الأمازيغ
من لا يحسن العربية الدارجة، بل لا يتكلم بها إطلاقاً، لكنه يحفظ القرآن عن ظهر
قلب. وذلك أن المناطق الجبلية ظلّت أيام الاحتلال معقلاً للزوايا التي حافظت على
التراث الوطني الأصيل، وهذا هو السبب في أنّ «ثامازيغث» تزخر بالعشرات من المفردات
المعجمية التي أغفلت تماماً في اللهجات العربية حتى في الفصحى في الوقت الحاضر.
ويمكن القول إن كثافة التجمعات الأمازيغية
تتزايد من الشرق إلى الغرب. وهم منتشرون ضمن رقعة جغرافية مترامية الأطراف، تمتد
من الحدود المصرية (واحة سيوة وجربوب) شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن البحر
المتوسط شمالاً إلى حد انعطاف نهر النيجر (شاطئ همبوري style='font-size:12.0pt;font-family:"Times New Roman"'>Hambori الصخري) جنوباً.
في ليبية: style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> تقيم جماعات الأمازيغ
في جبال برقة وجبال غريان، ويَفْرَنْ، ونفوسة، كما تقيم أيضاً في واحات أَوجيلة، وسخنة،
وتمسّا وعلى الساحل في زوارة، وعلى الحدود المصرية ـ الليبية في واحة سيوة، وتزعم
بعض الجماعات التي تعيش في ضواحي طرابلس (أوجيلة وأورفلة) أنها أمازيغية الأصل مع
أن لغة التخاطب بينهم هي العربية، ومجموعهم نحو 23% من سكان البلاد.
في تونس: style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> تقيم جماعات الأمازيغ
في ست قرى من جزيرة جربة، وهي عجيم وجلالة وصد وبقش والماي ومحبوبين وصدغيان،
وتضاف إليها سبع قرى ببلاد تونس وهي: تماغورث وزراوة وتاوجوط وتامازيرث وشنيني ودويرة
وسند، فضلاً عن جماعة ذات شأن منهم في مطماطة، وقد نزح الكثير من هؤلاء الأمازيغ
إلى مدن الشمال، وخاصة تونس العاصمة، حيث يشغل بعضهم مناصب مرموقة، ومجموعهم نحو
1% من السكان.
في الجزائر: style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> إن منطقة القبائل
وجبال الأوراس هما معقل الأمازيغ حيث اتخذت حركة مقاومة الغزاة لها مركزاً. ولا تفصل
بين منطقتي القبائل والأوراس سوى رقعة ضيقة يقيم بها العرب (في سطيف وضواحيها).
أما في التل الجزائري والوهراني فالتجمعات الأمازيغية ضئيلة، باستثناء جبل البليدة
والمنطقة الواقعة شمالي نهر الشلف (الونشريس، جندل، بنو مناصر، شنوة)، كما توجد
جماعات أخرى على الحدود الجزائرية ـ المغربية (بنو سوس، قريباً من تلمسان)
ومجموعهم نحو 30% من السكان.
في المغرب: style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> ساعدت التضاريس
الجغرافية للمغرب كثيراً على احتفاظ الأمازيغ بخصوصيتهم، وهم يسمون الشلح، ومع أن
الكثير من القبائل تخلت عن استعمال الأمازيغية في التخاطب، إلا أن هذه اللغة ما تزال
متداولة في المناطق الجبلية التي تقيم بها زناتة ومصمودة وصنهاجة في الريف المراكشي،
وفي جبال الأطلس الشمالي والجنوبي، وفي سهول سوس style='font-size:12.0pt;font-family:"Times New Roman"'>Sous.
في الصحراء: style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> يقيم الأمازيغ اليوم
في المناطق الصحراوية بالجزائر والمغرب. وفي واحات وادي ريغ وورقلة (وركلان)،
ونفّوسة، وفي القرى السبع بمنطقة ميزاب الجزائرية العطف وغرداية ومليكة وبنورة
وبني يزفن والقرارة وبرّيّان، وفي قصور (قرى محصنة) قورارة وتوات وتيديكلت وفقّيق وتافيلالت
ودادس، وفي رقعة مثلّثة الشكل شاسعة الأرجاء، بين غدامس في الشمال وتمبكتو في
الجنوب الغربي وزندر في الجنوب الشرقي (غاط وجنّات والهفار)، حيث تعيش قبائل
الطوارق. ما تزال «ثامازيغث» مستعملة في زناتة بموريتانية (نحو 250000 من السكان،
منهم الترارزة)، وهي مستعملة أيضاً في ودّان، وإن كانت هذه اللهجة تختلط فيها «ثامازيغث»
باللغة المحليّة المسمّاة الآزر L'Azer lang=AR-SA style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'>.
في ديار الهجرة والغربة: lang=AR-SA style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> لا بدّ هنا
من التفريق بين الهجرة الداخلية للأمازيغ، أي النزوح من المناطق المذكورة آنفاً
إلى كبريات المدن بالمغرب كالدار البيضاء والرباط، أو بالجزائر كالعاصمة الجزائرية
ووهران، حيث يكثر عددهم، والهجرة خارج حدود وطنهم، كما هو شأنهم في لبنان، حيث
يعيش أحفاد من قبيلة كتامة، وفدوا إليه مع الفاطميين، وكما هو شأنهم في سورية
ولاسيما دمشق، حيث هاجر كثير منهم مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830)، أو
التحقوا بالأمير عبد القادر وأحفاده في ديار الغربة (1852). وقد استقرّ أكثرهم
هناك ولم يعودوا إلى الوطن بعد الاستقلال (1962). وكذلك هو الشأن في بعض البلدان
الأوربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لأن التجنيد الإجباري شملهم، فشاركوا
في معاركها واستقر كثير منهم في فرنسة وألمانية وإيطالية، كما أرغمتهم ظروف
المعيشة القاسية على الرحيل إلى بلدان أخرى ومنها القارّة الأمريكية، ولكن معظم الأمازيغ
المهاجرين قصد فرنسة التي استقطبت نحو المليونين من المغتربين الوافدين إليها من
شمالي إفريقية من الجزائر خاصة (أكثر من مليون)، وجُلّ هؤلاء من القبائليين
النازحين عن جبال جرجرة القاحلة طلباً للرزق أو طمعاً في تحسين أوضاعهم
الاجتماعية، مع كل ما يصحب ذلك من صعوبة في الاندماج ومن سوء التكيّف في بلد أخذ
يضيق ذرعاً بالجموع الغفيرة من المغتربين واللاجئين (نحو أربعة ملايين من مختلف
الأجناس).
معتقداتهم
كان الأمازيغ في العصور القديمة يدينون بعدد من
العقائد المحليّة المختلفة باختلاف القبائل، ولا تتوافر معلومات كافية عن
معتقداتهم، ويغلب على الظن أنهم كانوا يقدسون الكهوف والصخور والجبال والعيون
والأشجار والأنهار، وكذلك بعض الأجرام السماوية كالشمس والقمر والكواكب الأخرى،
وآثار ذلك باقية في الأساطير والاعتقادات والشعائر الدينية التي يمارسونها، وأكثر
ما تلاحظ في الطقوس والأعياد الخاصة بالفلاحة من أجل الاستسقاء والحصاد، ولدى
إقامة الأفراح في مناسبات معينة، وكما تبدو واضحة في احترامهم الأولياء الصالحين
والاعتقاد بأنهم يتمتعون بالبركة، فيقيمون على أضرحتهم قباباً يزورونها ويتقرّبون
إليها بالأضاحي ولا شك في أن الأمازيغ تأثروا منذ العهد البونيقي بالديانات
الأجنبية، فدخل الكثير منهم في اليهودية التي انتشرت في شمالي إفريقية، بحيث يمكن
القول إن أكثر الأهالي المتهوّدين، باستثناء المضطهدين الفارّين من الأندلس في
القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، هم من نسل الأمازيغ المعتنقين لليهودية
قبل دخول الإسلام. وقد مهدت اليهودية الطريق للنصرانية التي سرعان ما انتشرت على
كثرة العقبات التي واجهتها في مجتمع يدين بالوثنية ويميل إلى الثورة. وتجدر
الإشارة هنا إلى أن النصرانية أفسحت في المجال أمام الأمازيغ لتوحيد كلمتهم في
مواجهة الحكم الروماني، فاعتنقوا المذاهب المنشقّة عن الكنيسة في رومة (كالمذهب الأريوسي،
والمذهب الدوناتي) وغيرهما.
وكذلك وحد الأمازيغ كلمتهم في بدء الفتح
الإسلامي، لأنهم عدوا الفاتحين الجدد في البداية كغيرهم ممن سبقوهم. ولئن كانت
جميع التفاصيل المتعلّقة باعتناق الأمازيغ للإسلام نهائياً غير معروفة جيداً، إن
بعض المؤرخين كابن خلدون يؤكدون أنهم ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة، ولم يتم
إسلامهم جميعاً إلا في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، حين لم يبق أحد
منهم على دين المسيح، في حين ظلت بعض الطوائف القليلة العدد على دين اليهود إلى
يومنا هذا. ويقول المؤرّخ أبو إسحاق أطفيش في هذا الصدد: «لقد حصل امتزاج البربر
بالعرب منذ أذعنوا للإسلام ووقفوا على كمالاته الخلقية والدينية والاجتماعية بما
لم يقع منهم على أمة من الأمم التي استولت على شمالي إفريقية، وذلك لأمور: الأول
أنهم من أصل واحد وهو السامية. والثاني أنهم رأوا من جلال الهداية الإسلامية ما لم
يروه قبلها. الثالث أن العرب اتخذوا بلاد البربر وطناً لهم فكانوا مع البربر جنباً
إلى جنب: عملاً ومصاهرة واختلاطاً، بخلاف الروم والوندال والقرطاجيين والرومان،
فإنهم كانوا بمعزل عن أبناء البلاد. الرابع وجود التوافق في كثير من الشيم
والعادات بين العرب والبربر، كإكرام الضيف والغيرة على العرض والشمم والأنفة
وحماية الذمار وبساطة المعيشة، وكان من البربر فحول من العلماء والشعراء
والفلاسفة، ألفوا في العلوم العربية والشرعية كأنهم من أقحاح العرب».
إن هذا الامتزاج بين الأمازيغ والعرب هو الذي
جعل العلاّمة ابن خلدون يقول في الصفحات الأولى من «المقدمة»: «فأنشأت في التاريخ
كتاباً رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجاباً، وفصّلته في الأخبار والاعتبار
باباً باباً، وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار، وملؤوا أكناف
النواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سلف من الملوك
والأنصار، وهم العرب والبربر، إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما، وطال
فيه على الأحقاب مثواهما، حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما»، ولعل ابن خلدون كان
مبالغاً حين أضاف: «ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما» لأن أجناساً كثيرة
سبقت العرب واحتلت شمالي إفريقية. ولكن الذي يشفع لابن خلدون، هو أن تلك الأمم
الغابرة لم تتجاوب مع الأهالي، لا في الأخلاق ولا في التقاليد ولا في المعتقدات،
فكان مصيرها العبور بأرض رفضت أن تكون لهم مستقراً ومقاماً.
كان الأمازيغ في بداية الفتح على مذهب السّنة،
ولكنهم سرعان ما انقلبوا إلى الأخذ بآراء الشراة والخوارج من الصفرية والإباضية
التي بدت لهم أقرب إلى تحقيق المساواة من غيرها. ومنهم من انحاز إلى مذهب الشيعة
وإلى الأدارسة في فاس (المغرب الأقصى)، وانحاز بعضهم الآخر إلى الإسماعيلية
الفاطميين، وقدمت قبيلة كتامة الدعم الأساسي لعبيد الله المهدي. كما ظهر هذا الميل
إلى التطرف في اتجاه معاكس مع قبيلة لمتونة التي انتصرت لأهل السنة من المرابطين
في الصحراء، وكذلك مع قبيلة مصمودة في الأطلس التي أسست دولة الموحّدين وقضت على
من خالف معتقدها، باستثناء بعض الطوائف من الخوارج الذين اعتصموا بالجبال أو لاذوا
بالصحراء والسواحل المحاذية للبحر، استعداداً للهجرة إلى ما وراء البحر.
وقد وقعت محاولتان لإقامة دين جديد في القرن
الرابع الهجري/العاشر الميلادي بمنطقة الريف (شمالي المغرب) وعلى الساحل الأطلسي،
أما المحاولة الأولى فكانت على يد شخص يهودي الأصل من برباطة بالأندلس اسمه صالح
بن طريف، أظهر الإسلام فانخدعت به بعض قبائل البربر واتبعت تعاليمه الشبيهة بدين
المجوس فعرفوا باسم «البرغواطية» (وهو تحريف لبرباطية)، وأما المحاولة الثانية فقد
كانت على يد شخص عرف باسم حاميم المفتري. وفيما يخصّ المذاهب الإسلامية الأربعة،
فإن أكثرها انتشاراً بين الأمازيغ هو مذهب مالك ابن أنس، ويليه مذهب أبي حنيفة
النّعمان. وقد أنجب الأمازيغ قبل إسلامهم أحد أقطاب الفكر المسيحي، وهو القدّيس أُغسطينوس
(354- 430م)، أسقف بلدة هيبون التاريخية، القريبة من مدينة عنابة بالجزائر، وهو من
مواليد ثاغست Thagaste (تسمى اليوم سوق أهراس). كما ظهر منهم بعد إسلامهم مفكرون كبار في
علوم الشريعة وعلوم اللغة خاصة. كما اشتهرت بعض المناطق الأمازيغية باحتضانها
الكثير من الزوايا التي كان لها شأن كبير من الحفاظ على الشخصية الوطنية وعلى
التراث الثقافي الذي كان مهدداً بالزوال في عهد الاستعمار.
تقاليدهم ونظامهم الاجتماعي
استرعى انتباه الباحثين تقاليد الأمازيغ
المخالفة بعض الشيء لتقاليد العرب، ولاسيما فيما يتعلق بالمرأة التي تتمتع بمزيد
من الحرية لدى الطوارق في الهُغار Joggar lang=AR-SA style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'>، وبكثير من الاحترام لدى الشاوية في الأوراس، وهي لا تحتجب لدى
القبائليين، ما عدا نساء الطائفة التي تسمى المرابطين أي المشايخ ورجال الدين، لأن
كل قرية لها مرابطون يتكفلون بالشؤون الدينية (صلاة الجمعة والجنازة والأعياد)،
ويحلّون النزاعات، والزواج بينهم محصور في نطاق المرابطين، غير أنه يحق للمرابط أن
يتزوج امرأة غير مرابطة، وليس العكس. وعلى العموم فالزواج عندهم وسيلة للحفاظ على
صلات الدم وعلى العصبية، فالمصاهرة تتم في أغلب الأحيان بين الأقارب، ولاسيما بين
أبناء العم، لكن هذه العادات أخذت اليوم تزول تدريجياً، وخاصة في المدن، حيث لم
يبق ثمة فرق بين المرابط وغير المرابط، بسبب زوال الوظائف التي كان يقوم بها
المرابط في القرية، وحيث أصبح للزواج اعتبارات أخرى. على أنه لا ينبغي أن يفهم من
القرابة بالعَصَبة أن الأسرة الأمازيغية منغلقة، ولا تفسح في المجال للتضامن
والتآزر، بل على العكس، لأنَّ الجماعة «ثاجمايث» تقوم بدور أساسي في نسج خيوط
التآخي بين أفراد القرية، إذ لا بد من وجود «ثاجمايت» فيها، وهي كالنادي يتردد
عليه أفراد القرية في أوقات الراحة للتداول في مختلف الشؤون، فضلاً عن المسجد الذي
لا تكاد تخلو منه قرية، ويقوم هو كذلك بجمع الشمل وغرس القيم.
ترتكز معيشة الأمازيغ على تعاطي الفلاحة
والتجارة وممارسة مختلف الصنائع في نظام اجتماعي هو مزيج من النظامين البدوي
والحضري. ويتخذ بعضهم الخيام سكناً في الصحراء، في حين يشيد البعض الآخر داراً
متواضعة من الحجر والملاط، يؤلف مجموعها حومة (أذروم)، ومن مجموع الحومات تتألَّف
القرية (ثادّارت) في جبال جرجرة في منطقة القبائل. وثمة فريق ثالث يشيدون داراً
فاخرة يؤلف مجموعها حيّاً سكنياً يسمى القصبة، وهذه الديار (في جنوبي مراكش)، تشبه
بهندستها المعمارية المباني الموجودة في جنوبي الجزيرة العربية.
ومما استرعى انتباه الباحثين أيضاً بقاء
العادات، أي ما اتفق الناس على فعله وتوارثوه من جيل إلى آخر. وينطبق هذا الأمر في
بلاد القبائل على تحديد حقوق الفرد وميراثه، منها على سبيل المثال أن لا يكون للمرأة
نصيب في الأراضي والعقارات، مخافة أن تنتقل بالزواج إلى أسر أخرى، علماً بأن
إخوتها من الذكور يكفلونها إذا هي أصبحت مطلّقة أو أرملة. وهناك تقاليد أخرى تسمى
العرف، والفرق بين العادات والأعراف، أن العادات ملزمة للقبائل كلها ولا يجوز
تعديلها إلا بموافقتها. كأن تقضي العادة أن لا ينقل الفرد مكان إقامته من قرية إلى
أخرى، ويعد ذلك عاراً بسبب انسلاخه عن أبناء عشيرته وانتهاكه لقانون القرابة
بالعَصَبة، وانتقاله إلى قوم قد يحدث معهم صراع أو نزاع في المستقبل حول ملكية
الأراضي أو غير ذلك. أما الأعراف فهي ملزمة لأفراد القبيلة، ولهم الحق في تعديلها.
كأن تحدد مبلغ الغرامة التي يجب دفعها في حالة تغيب الفرد عن اجتماع أهالي القرية،
أو في حالة دخول قطيع جاره إلى حقله، إن هذه التقاليد style='font-size:12.0pt;font-family:"Times New Roman"'>traditions، المتمثلة في العادات usages lang=AR-SA style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> والأعرافcoutumes lang=AR-SA style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'> إنما هي شفاهية، وغير مكتوبة، وإن كان بعض أمناء القرية قد أخذوا
يدونون بالعربية وحتى بالفرنسية ـ ولكن ليس باللغة الأمازيغية ـ أنواع المخالفات
والمبلغ المستحق لكل منها، ويعدلونها كلما اقتضى الأمر ذلك، علماً بأن السجن غير
وارد في العقوبات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القضاء الفرنسي لم يكن مطبقاً في
المناطق النائية بالقبائل والأوراس، حيث توجد قرى لم تطأها أقدام المستعمرين إلا
إبّان الثورة الجزائرية (1954- 1962)، وكان يتولى القضاء فيها حكّام أو مشايخ من
المرابطين أو أعضاء الجماعة (ثاجمايث)، أي اللجنة المكلفة تسيير الشؤون العامة في
القرية والفصل في النزاعات وتحديد مبلغ الدّية. فهذه المحاكم الأهلية كانت سريّة
في الجزائر، ولكنها اكتست في المغرب صبغة قانونية بصدور الظهير البربري المؤرخ في
16 أيار 1930، وهو مرسوم تشريعي ملكي ينظم شؤون البربر في المغرب.
شؤون البربر في المغرب
وكما أن تقاليد الأمازيغ مختلفة بعض الاختلاف عن
تقاليد العرب، فكذلك الأمر في النظام الاجتماعي والسياسي القائم هناك على القرابة
بالعَصَبة. وأصغر وحدة اجتماعية عند الأمازيغ هي «الكانون» أي الموقد الذي يجتمع
حوله أفراد الأسرة الواحدة للتدفئة في الشتاء وانتظار الطعام (الكسكسي) الذي يقدم
في قصعة يتحلّق حولها الرجال، وقصعة أخرى تتحلق حولها النساء. وتسمى الدار التي
تضم أفراد الأسرة «الحارة»، وقد يصل عدد سكانها إلى أربعين، لأن
أحوال الأمن القاسية، واغتراب الرجال داخل الوطن أو خارجه، والظهور بمظهر القوة
كيلا يستضعفهم أحد، كل ذلك يقتضي التجمع في حارة واحدة، ومن هذه الحارات تتألّف
الحومة (أذروم)، ومن الحومات تتألّف (ثادرات)، ومن القرى تتألّف العشيرة (لارش)،
ومن العشائر تتألّف القبيلة (لَقْبايل).
إن مبدأ القرابة يندرج في نطاق الولاء التام
للجماعة، وهذا المبدأ الثاني المكمّل للأول يفرض على كل فرد واجب التضامن
والتعاون، كالسّخرة الجماعية (تيويزة) مجّاناً، مثل بناء الدار، وما يستلزمه من
نقل مواد البناء الثقيلة، على أكتاف الرجال أحياناً، من مكان بعيد، ومثل إيواء
المسافرين وإطعامهم في بيت مخصص لهذا الغرض، ومثل منح الحماية للمستضعفين، ومثل
الإنفاق على الفقراء والمساكين في مناسبة خاصة وتسمى عندهم ثيمشرط وتتميز بذبح
الثيران وتوزيع لحومها، على نفقة الأغنياء والمغتربين العائدين إلى الوطن.
ولئن كان النظام الاجتماعي يوحي لأوّل وهلة بأنه
قائم على مبادئ الإخاء والتعاون في الشدائد والتآزر في الملمّات، فإن النظام
السياسي يكشف عن وجود نسقين متعارضين تماماً ولكنهما قابلان للتوفيق، مما يشير إلى
تنوّع العناصر العرقية الملتئم شملها تحت شعار الأمازيغية، أولهما هو النسق
الأرستقراطي المتميز بالتعايش بين طبقة من الأعيان والأشراف، المستعدة دوماً لخوض
المعارك، وطبقة أخرى من رجال الدين، وطبقة من الأتباع، وجماعة من المأمورين أو
الخدم (يسمى الواحد منهم الخديم). إن هذا النسق من النظام السياسي موجود لدى
الطوارق الذين يحكمهم رئيس الجميع، ويسمى أمين العقل، وكل قبيلة يحكمها شخص
يلقبونه أمغار، أي الشيخ، وثانيهما هو النسق الديمقراطي الذي يعتمد على نوع من
الحكم الجمهوري، أو نوع من الشورى في سنّ القوانين. ومن ذلك: نظام القرى في بلاد
القبائل والأوراس (بالجزائر) وجبال الأطلس (بالمغرب). وفي الحقيقة ليس لهذا النظام
السياسي من الديمقراطية سوى الشكل، لأن القرار السياسي محصور في الأعيان والأغنياء
والمشايخ ورجال الدين.
لغات الأمازيغ
حاول المستشرق الفرنسي روني باسي، في النصف
الأول من القرن العشرين، أن يقدم نبذة تاريخية وافية عن لغة الأمازيغ. غير أن البحوث
التي قام بها هو وغيره طرحت الكثير من التساؤلات التي ظلت بلا جواب. ومع ذلك فإن
النتائج لم تكن سلبية تماماً لأن تلك البحوث مكنت من جمع المادة وتصنيفها
وتحليلها. وقد جرت محاولات لاستنباط محصلة ترقى إلى مستوى الحقائق اليقينية لدى
بعضهم، وتظلّ في مستوى الفرضيات الواهية لدى آخرين.
لكن الشيء المؤكّد، على أي حال، هو أن «ثامازيغث»
لغة سماعية شفوية بالدرجة الأولى، وأن تاريخها غير معروف بسبب افتقارها للوثائق
المكتوبة. وذلك أن الشروع في تدوين نصوصها لم يتم إلا في القرن التاسع عشر. أما
الكلمات التي وصلتنا عن طريق الدارسين (من مختلف الأجناس) فقد مسّها التحريف،
فأعطت صورة باهتة عن اللغة في واقعها. حتى الأمازيغية التي يتحدث بها أهالي جزر
الكناري (لغة الغوانش guanche style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'>)،
مع أنها بقيت على أصلها ولم تتأثر بلغات الغزاة الفاتحين، فهي لا تساعد كثيراً على
الكشف عن أسرارها: ما أصلها؟ ما طبيعتها؟ متى وضعت؟.
إن الباحث اللساني عندما يستقصي بحثه إلى ما
وراء عصر الموحدين، لا يعثر على أي وثيقة أمازيغية، ذلك أن القرون الأولى من الفتح
الإسلامي مظلمة له أكثر مما هي للباحث المؤرخ. أما العصور القديمة فإنها تضع
الباحث أمام مشكلات عويصة لكونها حافلة بالآثار والوثائق حول اللهجات الإفريقية،
إلا أنها ما تزال وستبقى في طيّ المجهول، لأن الأهالي لم يتكلّفوا باستنطاقها، وهم
بذلك أجدر، وعلى كشف أسرارها أقدر لو شاؤوا، لكنهم تركوا الأمر كله للمستشرقين
والمستكشفين الأجانب، حتى أصبحت وقفاً عليهم، لا ينازعهم في ذلك أحد.
والأغرب من هذا أنه، إذا أراد أحد من الأمازيغ
أن يبحث في أمثال هذه المسائل فإنه يصادف من بني قومه نوعاً من العداء والنفور،
وقد يعد من دعاة التفرقة بين السكان، ومن بقايا أعوان الاستعمار. وأكبر دليل على
ذلك أن كرسي اللغة والثقافة الأمازيغية ألغي في الكثير من الجامعات المغاربية،
والبحوث العلمية في هذا الميدان مفقودة أو تكاد، ولم تسترجع الأمازيغية بعض
الاعتبار إلا في عام 1990 بفتح دائرة لها في جامعة تيزي وزّو (الجزائر).
ولئن كان من المتعذر اليوم، بسبب قلة الباحثين،
إقامة البرهان على وجود صلات القرابة بين ثامازيغث واللهجات الإفريقية أو
انعدامها، فإن بعض الآثار والوثائق السابقة الذكر متوافرة في وطن الأمازيغ. فقد
كُشف ما يزيد على الألف من المنقوشات الليبية على الحجر، وحروف هجائها معروفة بقدر
كاف، إلا أن ترجمة العبارات المنقوشة متباينة إلى حد بعيد، ومعنى ذلك أن تلك
الكتابات ما تزال تحتفظ بسرّها. كذلك تم العثور في شرقي ليبية على كتابات بالحروف
اللاتينية لم تعرف معانيها ما عدا بعض الكلمات اللاتينية والبونيقية (البونية)
الواردة في النص الليبي. أضف إلى ذلك أن كثيراً من الألفاظ الإفريقية (ومعظمها
أسماء أعلام) مبثوثة في الكتابات البونيقية واليونانية واللاتينية خاصة، وقد تأكّد
أن بعضها بونيقية، أما الباقي فأصلها مجهول.
يستنتج من هذا كله أن مادة البحث، وإن كانت
وافرة، إلا أنها لم تعط النتائج المرجوّة، والسبب في ذلك أن الباحثين قلما يغامرون
في هذه المجاهل، ولا يقدمون على خوض هذا الميدان إلا عرضاً، لدى قيامهم بالتحقيق
في مجالات أخرى. ومن ناحية أخرى فإن هذه الكتابات الأثرية مبثوثة هنا وهناك عبر
الزمان والمكان، ولم يتوصّل الباحثون إلى تحديد تاريخها، ما عدا واحدة تحمل تاريخ
139ق.م.
أمام هذا البعد التاريخي الذي يمتد عبر القرون،
وأمام هذا البعد المكاني الذي يمتدّ هو الآخر من الحدود المصرية إلى موريتانية، بل
يمتدّ في بعض جوانبه الثقافية والحضارية واللغوية، من الخليج إلى المحيط، فإن
الباحث ينبغي أن يكون حذراً في إطلاق أحكامه فلا ينساق وراء الحلول السهلة، كأن
يظن أن المفتاح لمعرفة أصل «تامازيغث» يتمثّل في دراسة اللهجات الأمازيغية وتأليف
المعاجم لها، وإجراء المقارنات بين مفرداتها، واستخلاص وجوه التقارب والتباعد،
وكذلك عدم التسرع في وضع الفرضيات التي لا تتوافر لها البراهين الكافية. كأن يفترض
وجود ارتباط مباشر بين الليبية والأمازيغية وأن إحداهما مشتقّة من الأخرى، مع
التسليم بأن البربر هم أول من سكن شمالي إفريقية منذ أقدم العصور. وهنا يطرح
سؤالان: هل كانت توجد لغة أخرى غير الأمازيغية في هذه المنطقة؟ وهل هي اللغة التي
تتضمنها الكتابات الليبية؟ إن الشيء المؤكد هو وجود تشابه بين الكتابة الليبية
والكتابة الطوارقية إلا أن هذا لا يعني وجود قرابة بين اللغتين.
هناك محاولات كثيرة لإيجاد صلات القرابة بين «تامازيغث»
وغيرها من اللغات. قد بالغ بعضهم بمقارنتها بلغة الباسك ولغة الحوصة (الهوسا).
ويرى روسلر Rossler أن «تامازيغث» إنما هي لغة سامية قريبة من الأكدية. أما النظرية
الراجحة فهي التي تقول إن «تامازيغث» تنتمي إلى شجرة اللغات الحامية ـ السامية dir=LTR style='font-size:12.0pt;font-family:"Times New Roman"'>hamito semetic، وتندرج فيها مع اللغة المصرية القديمة واللغات الكوشية أو
الحامية المتداولة في الحبشة (إثيوبية)، وهي متفرعة عن اللغات السامية.
لكن الأهم من كل هذه المحاولات هو أن يعكف
الباحثون المتخصّصون في علم اللهجات في شمالي إفريقية، على دراسة مدى تأثير
العربية المغاربية في «ثامازيغث»، والعكس بالعكس. إذ تعد المفردات التي استعارتها
«ثامازيغث» الحديثة من العربية بالمئات، كما أن العربية استعارت هي أيضاً الكثير
من المفردات الأمازيغية، مثل: قلمونة (غطاء الرأس)، قندورة (عباءة)، برنوس (ثوب
فضفاض من الصوف)، كسكسي (نوع من الطعام).