الدين والحياة
في غمرة الصراع بين المعسكرين الإسلامي والعلماني الذي تشهده دول "الربيع العربي"، برزت أصوات نشاز تطالب بإخضاع الدين لواقع الحياة ومستنقعها، وهذا مطلب فاسد؛ لأن الدين يجب أن يحكم الحياة وينظم شئونها لا أن تحكمه، وأن يخضعها لـمُـثُـله ومبادئه وأخلاقياته لا أن تُخضعه لمعطياتها وصراعاتها. وعلى حين أخذت المجتمعات الأخرى الراكدة، التي طالما تتلمذت على المجتمع الإسلامي، والثـقافة الإسلاميّـة، تستيقظ وتنهض وتتطوّر، ثم تنمو وتـتقدّم، ثم تزحف غازية مستعمرة، والمسلمون في غمرة ساهون، نرى أن بعض أبناء المجتمع الإسلامي يحاولون إخضاع ما من شأنه الثبات والدوام والاستقرار للتطـوّر والتغيّـر، في محاولة يائسة لخلع الأمة من دينها، وعزلها عن تراثها كله، باسم "التطوّر" يريدون أن يفتحوا الباب للإلحاد في العقيدة، والانسلاخ من الشريعة، والتحلل من الفضيلة. إن هناك حاجة ماسة إلى وجود تصورٍ ثابتٍ للمقوِّمات والقيم، يتمثّـل في ضبط الحركة البشريّـة، والتطوّرات الحيويّـة، فلا تمشي شاردةً على غير هدى، كما وقع في الحياة الماديّـة البحتة عندما أفلتـت من عروة العقيدة.. فانـتهت إلى نهاية بائسة ذات بريـق خادع، يُخفي في طيّـاته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس.
الدين هو الميزان الثابـت الذي يرجع إليه "الإنسان" بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكارٍ وتصورات، وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات.. فيزنها بهذا الميزان الثابت، ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، ومن ثم يظل دائماً في الدائرة المأمونة، ولا يشرد في التّـيه، الذي لا دليل عليه من نجم ثاقب، ولا من معالم هاديـة في الطريق.
وبين الثبات والخلـود، والمرونة والتطوّر، تتراوح الشريعة، حيث يتمثل الثبات في العقائد الأساسيّـة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفي الأركان من الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.. وفي المُحرَّمات اليقينيّـة، من السِّـحر، وقتل النفس، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولِّي يوم الزحف، والسرقة، والغيـبة، والنميمة.. مما ثبت بقطعيِّ القرآن والسُّنة.. وفي أمهات الفضائل من الصدق، والأمانة، والعـفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء.. وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها "الدّيـن القيّم" من شُعب الإيمان. وفي شرائع الإسلام القطعيّـة في شئون الزواج، والطلاق، والميراث والحدود، والقصاص.. ونحوها من نظم الإسلام التي تـثبت بنصوص قطعيّـة الثبوت قطعيّـة الدلالة، فهذه أمورٌ ثابـتة، ونجد في مقابل ذلك القسم الآخر الذي تتمثـل فيه المرونة، وهو ما يتعلق بجزئيّـات الأحكام وفروعها، وخصوصاً في مجال السياسة الشرعيّة. ابن القيِّـم: يقسم الأحكام إلى نوعين: نوع لا يتغيّـر عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرّمات، والحدود المقـدّرة بالشرع على الجرائم.. ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيـيرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وُضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغيّـر بحسب اقتضاء المصلحة له، زماناً ومكاناً، وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة. وضرب لذلك عدة أمثلة من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسُنة خلفائه الراشدين المهديِّـين من بعده، ثم قال: وهذا بابٌ واسع، اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابـتة اللازمة التي لا تتغيّـر بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماً. وتصوِّر لنا الثبات والمرونة في هدي القرآن الكريم.. ويتمثـل الثبات في مثل قول الله تعالى في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى:38]، وفي قوله جل شأنه لرسوله صل الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران:159]، فلا يجوز لحاكم، ولا لمجتمع أن يُلغي الشورى من حياته السياسيّـة والاجتماعيّـة، ولا يحل لسلطان أن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون، بالتسلِّط والجبروت.
وتـتمثّـل المرونة، في عدم تحديد شكل معيّـن للشورى، يلتزم به الناس في كل زمان ومكان، فيتضرر المجتمع بهذا التـقليد الأبدي، إذا تغيّـرت الظروف بتغيّـر البيئات أو الأمصار أو الأحوال.
إن المجتمع الإسلامي إذا اتخذ الثبات المطلق مبدأً له في كل الأمور: الدينيّـة والدنيويّـة.. المعنويّـة والماديّـة.. الكليّـة والجزئيّـة.. الأصليّـة والفرعيّـة.. وثبتَ على الوسائل ثباته على الأهداف، تجمّـدت الحياة وتحجّـرت، ولم يستفد الناس من الملاحظة والتجربة التي هي أساس العلم الكوني، وهي أمر واقعي حتمي في حياتهم.. وهذا ضد قوانين الكون، وضد قوانين الفطرة. كما أنه لو اتخذ المرونة مبدأ له، وشعاراً لحياته، لتطوّر على طول الزمن إلى مجتمع بلا قيم ولا ضوابط، وأفلت زمامُه من التصوّر الإسلامي.. أو يصبح التصوّر الإسلامي خاضعاً لظروفه، وتابعاً لحياته.. يستقيم إذا استقامت، وينحرف إذا انحرفت. إن نعمة الله عظيمة على المجتمع الإسلامي الذي حفظ له الإسلام توازنه بين الثبات والتطوّر.. حين ننظر إلى مجتمعات أخرى - كالمجتمعات الغربيّـة اليوم - كيف فتحت الباب على مصراعيه للتطوّر المطلق في كل شيء، فلم يبق في حياتها شيءٌ ثابت تستـند إليه، وترتكز عليه، فلا عقيدة، ولا فضيلة، ولا تشريع، ولا أي قيمة من القيم العليا التي ورثتها الإنسانيّـة من كتب السماء، وتعلمتها على أيدي الهداة من رسل الله وورثـتهم بحق. وكانت ثمرة هذا التطرّف اضطراب الحياة كلها: من قلق نفسي.. إلى تخبّط فكري.. إلى تحلّل خلقي.. إلى تفسّخ أسري.. إلى تفكّك اجتماعي. وقد قابل هذا التطرّف تطرف مضادٌ، يتمثّـل في أولئك الشباب الذين رفضوا تطـوّر مجتمعهم إلى ما صار إليه من ماديّـة فاختاروا حياة غريبةً شاذةً.. هي حياة "الهيبيّين" ومن على شاكلتهم، وفي ذلك خطر مُحدق.. حين نجمد ما من شأنه التغيّـر والتطـوّر والحركة، فتصاب الحياة بالعقم والجمود، وتصبح كالماء الراكد الآسن الذي يجعله الركود مرتعاً للجراثيم والميكروبات. وهذا ما حدث في عصور الانحطاط والشـرود عن هـدي الإسـلام الصحيح، فرأينا كيف توقف الاجتهاد في الفقه، وتوقف الإبـداع في العلم، وتوقفت الأصالة في الأدب، وتوقف الابتكار في الصناعة، وتوقف الإعداد فيما يتطلّـبه الدفاع عن الدّين.. وضربت الحياة بالخمود والتقليد في كل شيء.