فتوحات الشام في عهد عمر بن الخطاب
عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في بلاد الشام
استهل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله في الشام بقرار عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه. وتتباين روايات المصادر حول سبب عزل عمر بن الخطاب خالدًا بن الوليد عن إمارة جيوش المسلمين في بلاد الشام، والواقع أن موضوعًا كهذا لا يجب أن يكون مثيرًا للجدل؛ لأن المسألة تتعلق بحدث منفرد لا يمس على نحو مباشر سوى ثلاث شخصيات، عمر وخالد وأبي عبيدة، ويبدو أن إثارة الجدل تكمن في فشل المؤرخين في التوفيق بين الأقوال المتباينة التي اصطنعوها هم أنفسهم خلال سردهم للأحداث، ويمكن إجمال دوافع العزل كما جاءت في المصادر في ثلاثة:
الدافع الأول: ضغينة قديمة من جانب عمر تجاه خالد: إن كثيرًا من المؤرخين يقتصرون على إيماءات ملتبسة كثيرة تبلغ ذروتها في قول عمر: أنه لو صارت إليه الخلافة لعزل خالد لا محالة، فإلى جانب ما تقدمه المصادر من قضية مالك بن نويرة، تبرز تأويلات خالد في أيام خلافة أبي بكر الصديق التي عدها عمر أخطاء، بالإضافة إلى كلام صدر عن خالد بحق عمر، أنه ألحق أذى جسديًا بعمر أيام صباه، وأنه أبقى عليه عن إرادة، وقصد في معركة أحد، ورما كان هذا يمثل الخلفية المتعلقة بمطلب عمر بأن يكذب خالد نفسه فقد روى الطبري عن ابن إسحاق: "إنما نزع عمر خالدًا في كلام كان خالد قد تكلم به -فيما يزعمون- ولم يزل عليه ساخطًا، ولأمره كارهًا في زمان أبي بكر كله لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل به في حربه، فلما استخلف عمر كان أول ما تكلم به عزله، فقال: لا يلي لي عملًا أبدًا، وكتب عمر إلى أبي عبيدة يقول: إن خالد أكذب نفسه، فهو أمير على ما هو عليه، وإن هو لم يكذب نفسه، فأنت الأمير على ما هو عليه" [1].
الدافع الثاني: قلق عمر من تعلق الناس بشخص خالد: ويظهر هذا الدافع في روايات متعددة، "لما ولي عمر قال: لأعزلن خالدًا حتى يعلم أن الله ينصر دينه". وقال: "إني لم أعزله والمثنى عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما"، وفي رواية: "إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعًا" [2].
الدافع الثالث: العناد والتصرف بالمال، وغنائم الحرب: اعتذر عمر إلى الناس بالجابية عن عزل خالد، فقال: "أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس والشرف واللسان، فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة"، وتجري رواية أنه قال: "ما كرهت ولاية خالد على المسلمين، إلا لأن خالدًا فيه تبذير المال، ويعطي الشاعر إذا مدحه، ويعطي للمجد والفارس بين يديه فوق ما يستحقه من حقه، ولا يبقي لفقراء المسلمين، ولا لضعفائهم شيئًا، وإني أريد عزله وولاية أبي عبيد مكانة"، وفي حوار جرى بين عمر وعلي بن أبي طالب ينتقد فيه الثاني الأول بسبب عزله خالدًا، فيدافع عمر عن نفسه قائلًا: "إن خالدًا أبى أن يعده بالكف عن صنوف عناده"، وكان عمر يدعوه إلى أن يستعمله، فيأبي إلا أن يخليه يعل ما يشاء، فيأبى عمر [3].
تعقيب على حادثة عزل خالد
- تبدو الأسباب المبنية على عداوة قديمة، واتهامات شخصية واهية، ولا تثبت أمام النقد البناء، ثم إن قضية عزل أقدر قادة المسلمين من منصبه بسبب أذى جسدي تبقى مدعاة للاستهزاء، ولا يسعنا الأخذ بها نظرًا لما اشتهر به عمر من عدالة ونزاهة وترفع عن الصغائر، وجرأة في قول الحق تنزهه عن الوقوع في حمأة الحقد والضغينة.
- تتسم الروايات التي تذكر قلق عمر من تعلق الناس بشخص خالد بالأهمية، مما قد ينعكس سلبًا على إيمان المجتمع الإسلامي بفعل ما قد ينسبه الناس إليه من أسباب النصر، وفي هذه الحالة، تغدو غيرة المسلمين على عقيدتهم، وثباتهم عليها بعد وفاة النبي موضعًا للتساؤل، والمعروف أن خالدًا لم يكن قد سجل كامل انتصاراته.
- لا تتصل المآخذ التي أخذت على خالد فيما يتعلق بتوزيع الغنائم بإثراء غير مشروع، وإنما نتيجة قراراته المتسمة بالعناد، سواء أكان ذلك عائدًا إلى إخلاله بمبدأ المساواة، أو لأنه خص الشخصيات المرموقة، أو المقاتلين ذوي الشجاعة أنصبة أعلى، أو لأنه تفرد باتخاذ قرارات مفصلية دون العودة إلى المدينة، وتوحي الروايات أن الخليفة كان هو القائد العام للمسلمين، وهو يدير العمليات العسكرية من المدينة، بواسطة تبادل الرسائل مع قادته في ميادين القتال، وجاءت عملية العزل كمحاولة جدية لعمر لكي ينهي المحلية السائدة في عمليات الفتوح، ولكي يحصر القرار، والقيادة الفعلية في يد الخليفة، أي في يد المركز السياسي، لكن هل كان القادة في بلاد الشام يضطرون قبل اتخاذ كل قرار إلى الحصول على موافقة الخليفة مع بعد المسافة بين الحجاز وأقصى بلاد الشام؟ قد يبدو ذلك واقعيًا بصدد القضايا الهامة، ولكن لا يبرر ذلك عزل خالد بسبب اتخاذه قرارات قبل العودة إلى الخليفة، ويستوقفنا هنا قرار خالد بالزحف نحو بطاح بني تميم بعد أن انتهى من معركة البزاخة دون العودة إلى الخليفة، واحتجاج الأنصار على تصرفه.
- لا يمكن الركون إلى أي من هذه الدوافع المذكورة، وبخاصة إذا علمنا بأن عمر ترحم على خالد بعد وفاته، وأثنى عليه بكلمات تدل على الاعتذار، فقال: "رحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أمورًا ما كانت"، وقال أيضًا: "رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات سعيدًا، وعاش حميدًا، ولكن رأيت الدهر ليس بقائل".
- ظلت مكانة خالد محفوظة من قبل عمر وأبي عبيدة، على الرغم من حادثة العزل، ففي الرسالة التي أرسلها الأول إلى الثاني عقب توليه الخلافة، أوصاه باحتباس خالد إلى جانبه: "فإنه لا غنى بك عنه"، وكان أبو عبيدة يستشيره في كل أمر، بل كان يأخذ برأيه، ويأتمر بأمره، ويقول له: "قل ما علمك الله" [4].
معركة فحل - بيسان
انسحبت فلول القوات البيزنطية بعد معركة أجنادين إلى دمشق، وتحصنت فيها، في حين عاد تيودور أخو هرقل إلى القسطنطينية، وكان الإمبراطور يتابع تطورات الموقف العسكري، فأمر بتجميع القوات البيزنطية المنتشرة في جنوبي بلاد الشام، في فحل - بيسان الواقعة على الطريق بين الأردن ودمشق، وأرسل في الوقت نفسه جيشًا من حمص يقدر بعشرة آلاف مقاتل بقيادة درنجارين (قائد ألف) باتجاه دمشق، وذلك بهدف الإطباق على المسلمين من الجنوب والشمال، والقضاء عليهم، وإنقاذ دمشق المحاصرة من قبلهم، ثم غادر حمص إلى أنطاكية. وصل الدرنجاران إلى بعلبك، وعلما وهما فيها بهزيمة البيزنطيين في مرج الصفر، فتوقفا عن الزحف وأقاما في المدينة، وكتبا بذلك إلى هرقل، وانتظرا تعليماته.
نتيجة لهذه التطورات العسكرية، عقد أبو عبيدة وخالد اجتماعًا تشاورا فيه بشأن كيفية الخروج من هذا المأزق، فتقرر أن يهاجم خالد القوة البيزنطية المتمركزة في بعلبك لمنعها من التقدم، ومساعدة القوى البيزنطية في جنوبي بلاد الشام، ومن جهة أخرى، تلقت قيادة الجيش البيزنطي في بعلبك أمرًا من هرقل بالتقدم إلى الجنوب، والانضمام إلى القوة المتمركزة في فحل - بيسان، وعندما وصل خالد إلى بعلبك على رأس خمسة آلاف مقاتل، لم يجد فيها الجيش البيزنطي، وأخبر بأن أفراده توجهوا إلى الأردن، فأغار على نواحي المدينة، وعاد إلى أبي عبيدة أمام دمشق فأخبره الخبر، وتشاور معه في الأمر، فتقرر أن يسير أبو عبيدة بجموع المسلمين إلى فحل - بيسان لضرب القوة البيزنطية المتمركزة هناك، وأن يتقدم خالد الجيش كطليعة، على أن يبقى يزيد بن أبي سفيان حول دمشق.
وتوافد المسلمون إلى فحل - بيسان، وانحاز إليهم بعض العرب المتنصرة من لخم وجذام وغسان وعاملة والقين وقضاعة، بعد أن أدركوا أن كفة الصراع بدأت تميل لصالح المسلمين، وتردد نصارى فحل، والواقع أن القبائل المتنصرة كانت تغير مواقفها من المسلمين كلما جمع البيزنطيون حشدًا جديدًا، وكانت أكثر القبائل التي كانت لها مصلحة بالارتباط بالبيزنطيين هم الغساسنة، ويبدو أن انتصار المسلمين في معركة أجنادين قد جعل القبائل المتنصرة تفكر جديًا في الانحياز إلى أحد الجانبين، فكان أن انقسمت في هذه المعركة إلى قسمين:
الأول: سارع بالانحياز إلى المسلمين.
الثاني: انتظر ما ينجلي عليه الموقف، وربما غير موقفه بعد أن وصلت إمدادات بيزنطية إلى فحل.
وحشد البيزنطيون زهاء ثمانين ألفًا بقيادة سقلار بن مخراق، ودمروا سدود الأنهار الغربية لعرقلة تقدم المسلمين، وخشية من أن يفاجئوهم، فامتلأت الأرض بالماء من بيسان إلى فحل. وعلى الرغم من ذلك، فقد تقدم المسلمون نحو البيزنطيين، ونفذوا غارات خاطفة وسريعة على القرى والرساتيق والزروع في وادي الأردن ومرج ابن عامر وراء بيسان ووادي نهر الجالود، فقطعوا بذلك مصادر التموين، والمدد عنهم، ويبدو أن عرب الأردن تضايقوا، وأرادوا أن يحموا أنفسهم، فاجتمع زعيمهم ابن الجعيد بأبي عبيدة، وصالحه على سواد الأردن.
وحاول البيزنطيون التفاهم مع المسلمين لتفادي وقوع اشتباك بينهم، فعرض القائد البيزنطي التناول عن إقليم البلقاء وتلك المنطقة من الأردن التي تتصل بالجزيرة العربية، مقابل انسحاب المسلمين، فرفض المسلمون هذا الاقتراح، لم ييأس سقلار من التوصل إلى تفاهم مع أبي عبيدة، فأرسل إليه رسولًا خاصًا عرض عليه منح كل جندي مسلم دينارين مقابل الرحيل، فرفض أبو عبيدة هذا العرض أيضًا؛ لأن القضية لا تتعلق ببضعة آلاف من الدنانير أو الدراهم، وإنما هي قضية مبدأ ديني اعتقادي، عندئذ كان لا بد من الاشتباك العسكري لتقرير مصير الصراع.
وعبأ الطرفان قواتهما استعدادًا للقتال، واشتبكا في رحى معركة ضارية انتهت بانتصار المسلمين، فقذفوا البيزنطيين في الوحول التي حاولوا هم قذفهم فيها، وهزم سقلار وجنوده، وقتل منهم ما يقارب العشرة آلاف مقاتل كان سقلار من بينهم، وتفرق من نجا في مدن الشام، ولحق بعضهم بهرقل في أنطاكية، وجرت المعركة في "28 ذي القعدة 13هـ / 23 يناير 635م".
فتحت هذه المعركة الطريق أمام المسلمين، فسيطروا على جميع مدن، وقرى إقليم الأردن بسهولة مثل بيسان وطبرية، وأضحوا في رغد من الخصب، والعيش واضطر السكان إلى طلب الأمان، وكتبت عهود الصلح في كل مكان بمنح الأمان على أرواح المغلوبين، وأموالهم وأرضهم وكنائسهم، وأماكن عبادتهم مقابل الجزية.
الواقع أن البيزنطيين تعرضوا لنكسة أخرى أمام المسلمين الذين رجحت كفاءة فرسانهم أمام فرسان هؤلاء، كما أن وعي القيادة الإسلامية أفشلت الخطة التي وضعوها على أساس إرباك المسلمين، ومفاجأتهم، وارتكب سقلار خطأ عسكريًا جسيمًا عندما أهل بث العيون في معسكر المسلمين، مما حرمه من الحصول على معلومات ضرورية مساعدة، بالإضافة إلى ذلك، فإنه فقد خط الرجعة إلى بيسان حين أسند ظهره إلى مستنقعات الوحول التي أحدثها بتدمير السدود، وعندما حاول التراجع تحت ضغط القتال وقع جنوده في الوحول، فتعذر عليهم السير فيها، فكانوا هدفًا سهلًا للمسلمين [5].
معركة مرج الروم (وهو سهل البقاع في لبنان)
عندما بلغت أخبار هزيمة الجيش البيزنطي في فحل - بيسان مسامع هرقل، عقد مجلسًا عسكريًا ضم معظم قادته للتشاور، ووفد عليه أثناء الاجتماع وفد من أهل قيسارية، وإيلياء (بيت المقدس) يخبرونه بتمسكهم بأمره، وبإقامتهم على طاعته وبخلافهم للمسلمين وكراهيتهم لهم، ويطلبون منه المدد والمساعدة، فقرر حينئذ أن يستمر في الحربق، وأرسل جيشين لوقف الزحف الإسلامي إلى دمشق، وحماية حمص، وعين عليهما اثنين من خيرة قادته هما توذر وشنس، وقد سارا في طريقين منفصلين، وصل الأول إلى مرج دمشق وغربها، وعسكر هناك، في حين عسكر الثاني في مرج الروم.
وكان أبو عبيدة بن الجراح قد وصل إلى مرج دمشق في طريقه إليها قادمًا من فحل، فقسم جيشه إلى قسمين قاد هو القسم الأول على أن يصطدم بجيش شنس، وعين خالدًا على القسم الثاني على أن يصطدم بنوذر، وعندما وصل خالد إلى مكان جيش توذر لم يجده، إذ كان قد غادر المكان تحت جنح الظلام، ويبدو أن هذا الانسحاب كان وفق خطة عسكرية مبيتة تقتضي بأن ينهمك المسلمون بقتال جيش شنس في مرج الروم في الوقت الذي ينطلق فيه جيش توذر إلى دمشق لفك الحصار عنها.
فطن خالد لهذه الخطة، فطلب من أبي عبيدة أن يسمح له بمطاردة توذر الذي كان يتقدم مسرعًا على طريق دمشق ليباغت القوة الإسلامية، استعد للقائها، واشتبك معها، وصل خالد والمعركة دائرة، فوقع الجيش البيزنطي بين فكي الكماشة، ودارت الدائرة على أفراده، وقتل خالد توذر، وغنم المسلمون دوابهم، وركائبهم وأدواتهم، وثيابهم.
عاد يزيد بعد انتهاء المعركة إلى دمشق ليستأنف حصارها، في حين عاد خالد إلى أبي عبيدة، فألفاه قد اشتبك مع جيش شنس بمرج الروم، وانتصر عليه، وقتل شنس، وفر من نجا إلى حمص، فطاردهم أبو عبيدة [6].
فتح دمشق
استأنف المسلمون حصار دمشق [*] بعد عودتهم من الأردن، ويذكر البلاذري أنه "لما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع منهم بالمرج أقاموا خمس عشرة ليلة، ثم رجعوا إلى مدينة دمشق لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة 14هـ، فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة، وتحصن أهل المدينة وأغلقوا بابها"، وقد أملوا بوصول نجدة من الشمال على وجه السرعة تفك الحصار عن المدينة، وتوزعت مهام الحصار كما يلي:
- عسكر أبو عبيدة على باب الجابية غربي المدينة.
- نزل خالد بن الوليد أمام الباب الشرقي تجاه دير صليبا.
- أقام يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير إلى باب كيسان جنوبي المدينة.
- نزل عمرو بن العاص على باب توما شمالًا بشرق.
- عسكر شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس.
وعمد أبو عبيدة إلى عزل المدينة عمن حولها، وقطع اتصالاتها مع العالم الخارجي حتى يجبر حاميتها، وسكانها على الاستسلام، فأرسل ثلاث فرق عسكرية تمركزت:
- على سفح جبل قاسيون، على مسافة خمس كيلومترات إلى الشمال من المدينة عند قرية برزة (من غوطة دمشق).
- على طريق حمص، للحئول دون وصول الإمدادات من الشمال، وقطع الاتصالات بينها، وبين القيادة البيزنطية.
- على الطريق بين دمشق، وفلسطين لقطع طريق الجنوب.
وطال أمد الحصار على الدمشقيين، الذي دام سبعين يومًا، وازداد التوتر بينهم، وبخاصة بعد أن انسحبت الحامية البيزنطية من مواقعها تاركة للدمشقيين تدبر أمرهم بأنفسهم، ولما يئسوا من حصول نجدة تنقذهم، وتجلي المسلمين عن مدينتهم؛ وهنت عزيمتهم، ومالوا إلى الاستسلام.
تتباين روايات المصادر في وصف أيام دمشق الأخيرة قبل دخول المسلمين إليها، وفي تحديد كيفية هذا الدخول، فقد ذكر البلاذري أن أبا عبيدة دخل المدينة عنوة من باب الجابية، ولما رأى الأسقف منصور بن سرجون أنه قارب الدخول، بادر إلى خالد فصالحه، وفتح له الباب الشرقي، فدخل الأسقف معه ناشرًا كتاب الصلح والتقى خالد مع أبي عبيدة بالمقسلاط، وهو موضع النحاسين بدمشق، فتحدث بعض المسلمين في ذلك، وقالوا: والله ما خالد بأمير، فكيف يجوز صلحه، فقال أبو عبيدة: إنه يجيز على المسلمين أدناهم، وأجاز صلحه، وأمضاه ولم يلتفت إلى ما فتح عنوة، فصارت دمشق صلحًا كلها"، وكتب بذلك إلى عمر وأنفذه.
وروى الطبري أن خالدًا اقتحم المدينة، فاستيقظ السكان مذعورين على جند المسلمين يلجونها، ويمعنون في جندها تقتيلًا، ففتحوا أبواب مدينتهم للفرق الإسلامية الأخرى، والتجأوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه الصلح، فقبل عرضهم، ودخل كل قائد من الباب الذي هو عليه صلحًا باستثناء خالد، فقد دخل عنوة، واجتمعت الفرق الإسلامية الخمس في وسط المدينة، وكان صلح دمشق على المقاسمة على الدينار، والعقار وعلى جزية دينار عن كل رأس؛ لأن جانبًا من المدينة فتح عنوة، فكان كله حقًا للمسلمين، في حين فتح جانب منها صلحًا، فوجبت عليه الجزية دون سواها، لذلك أخذ المسلمون نصف ما في المدينة من كنائس، ومنازل وأموال بحكم الفتح عنوة، وفرضوا الجزية بحكم الفتح صلحًا. وأخذ المسلمون سبع كنائس من أصل أربع عشرة القائمة بدمشق، كما اقتسموا الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس يوحنا المعمدان، مع الدمشقيين، فتركوا نصفها للنصارى يقيمون فيه صلواتهم، وجعلوا النصف الآخر مسجدًا للمسلمين [7].
فتح بعلبك
أمضى المسلمون فصل الشتاء في دمشق، وكانت الخطوة التالية فتح حمص، فقد كان هرقل مقيمًا فيها أثناء حصار دمشق، فلما رأى أن قواته لا تستطيع الوصول إلى عاصمة الشام للدفاع عنها جلا عن حمص إلى أنطاكية.
ويربط دمشق وحمص طريقان، أحدهما شرقي خارجي لصحراء السماوة، ويمر بدومة وقطيف والنبك وقارا وشمسين وصولًا إلى حمص، والآخر غربي ويمر في وادي البقاع إلى بعلبك وجوسية وحمص، ويشكل أحد فروع طرق التجارة الشرقية الذي يمر بوادي العاصي، وكانت تسلكه الفرق العسكرية والبريد، وهذا يعني أنه كان الأكثر استعمالًا، ويبدو أنه كان الأكثر إيناسًا.
واختار خالد، بعد مشاورات مع أبي عبيدة، أن يسلك المسلمون الطريق الثاني، بهدف السيطرة عليه نظرًا لأهميته العسكرية، والمعروف أن المسلمين كانوا يتحركون سابقًا على الطريق الأول مع توفر الطريق الثاني.
استخلف أبو عبيدة، قبل أن ينطلق إلى حمص، يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وعمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيلًا بن حسنة على الأردن، وسار إلى سهل البقاع يتقدمه خالد، ولما اقترب من بعلبك تصدت له قوة عسكرية لعلها كانت طليعة لجيش أكبر، فتغلب خالد عليها، وأجبر أفرادها على الارتداد، والاحتماء داخل الحصن.
وضرب المسلمون الحصار على بعلبك، ولما رأى سكانها ألا أمل لهم في الانتصار استسلموا في "25 ربيع الأول 15هـ/ 6 مايو 636م"، فأعطاهم أبو عبيدة الأمان على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وكتب لهم كتابًا بذلك ومنحهم مدة شهرين، فمن أراد المغادرة سار إلى حيث شاء، ومن أقام فعليه الجزية.
وهذا نص الكتاب:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب أمان لفلان بن فلان، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم ودورهم داخل المدينة وخارجها، وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم، وبين خمسة عشر ميلًا، ولا ينزلوا قرية عامرة، فإذا مضى شهر ربيع، وجمادى الأولى ساروا حيث شاءوا، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى ما أقام منهم الجزية والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدًا".
الملفت في كتاب الصلح مع أهل بعلبك تنوع سكانها النصارى من دون تحديد معتقداتهم المذهبية، ونسبة توزعهم عليها، ولمضمون العهد دلالة جديرة بالانتباه، إذ يوضح أن العرب يشكلون العنصر السامي الغالب، فيدعو للمحافظة عليهم، ولا يأمر بإجلاء أحد منهم، أما البيزنطيون، فإنه أمر بإجلائهم في ظل شروط ميسرة، وتزداد دلالة هذا العهد أهمية من حيث صيرورته نموذجًا أمام أنظار أهل حمص، المدينة المجاورة لبعلبك، وهذه العناصر هي:
- الروم: وهم رعاة الإمبراطورية البيزنطية الحاكمة.
- الفرس: وهم من بقايا الفرس الذين أخضعوا بلاد الشام لحكمهم أثناء صراعهم مع البيزنطيين، وقد استقر الكثير منهم، وانتشروا في عدة أماكن من بلاد العرب والشام، ثم انتقلوا إلى السواحل فيما بعد.
- العرب: وكانوا يستوطنون بعلبك قبل الفتح الإسلامي، مما يدل على قدم الوجود العربي في هذه المنطقة من بلاد الشام.
- النصارى: وهم السكان الوطنيون من أهل بعلبك، ومنهم النبط [8].
فتح حمص
كانت مدينة حمص في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، أي قبل فتح المسلمين لها، مركزًا إداريًا هامًا، كما كانت قاعدة هرقل، يرسل منها الجيوش لمحاربة المسلمين في الجنوب، ويدبر منها العمليات العسكرية.
سار أبو عبيدة بعد فتح بعلبك إلى حمص، ولما وصل إلى ضواحيها تصدت له قوة عسكرية في جوسية، على بعد ستة فراسخ منها بين جبل لبنان، وجبل سنير، فوجه إليها خالدًا، فاشتبك مع أفرادها وهزمهم، فولوا الأدبار ودخلوا المدينة. وكما امتنعت دمشق على المسلمين، فاضطروا لحصارها، كذلك كان حالهم مع حمص التي أغلقت أبوابها في وجههم. كانت القوة المدافعة عن المدينة تأمل في تلقي دعم سريع من جيوش الإمبراطورية، والواقع أن هرقل أرسل إلى أفراد الحامية بعدهم بالمساعدة، ويشجعهم على المقاومة، لكن هذه الوعود لم تتحقق حيث كان من الصعب على الإمبراطور البيزنطي أن يجمع جيشًا على وجه السرعة، ويقذف به في المعركة نجدة لحمص، عند ذلك أمل هؤلاء أن يجبر البرد وقساوة الطقس المسلمين على التراجع، ويبدو أنهم انقسموا إلى فئتين: مالت الأولى إلى التفاهم مع المسلمين بفعل قوتهم التي لا تقهر، وعجز البيزنطيين عن إمدادهم بالمساعدة، وأصرت الثانية على الاستمرار في المقاومة والصمود.
وطال أمد الحصار على أهل حمص، وساءت حالتهم، وخشوا على أنفسهم من السبي إن فتحت مدينتهم عنوة، ووقع في هذه الأثناء، زلزال في المدينة أدى إلى تدمير بعض البيوت والمنشآت، وألحق أضرارًا أخرى بالسكان، في الوقت الذي تجاوز فيه المسلمون الأوضاع المناخية؛ الأمر الذي أدى إلى التوافق بين الحامية البيزنطية والسكان إلى طلب الصلح، فنالوه حسب الشروط التي باتت معروفة، والتي تتضمن دفع الجزية، والحفاظ على حياة الناس، وأملاكهم ودورهم وأماكن عبادتهم، وساير المسلمون مشاعر الحمصيين إلى حد بعيد، فلم يدخلوا المدينة بل نصبوا خيامهم بالقرب منه على ضفاف نهر العاصي.
يعد فتح حمص من بين أهم الفتوح التي حققها المسلمون في بلاد الشام، وكتب أبو عبيدة إلى عمر في المدينة بهذا المعنى: "أما بعد، فالحمد لله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة في الشام أهلًا وقلاعًا، وأكثرهم عددًا وجمعًا وخراجًا، وأكبثهم للمشركين كبثًا، وأيسرهم على المسلمين فتحًا".
ولعل هذا الوصف من أبي عبيدة يعطينا صورة واضحة للمدينة من الناحية السكانية، والعسكرية والاقتصادية، ويتابع أبو عبيدة كلامه قائلًا: "أخبرك يا أمير المؤمنين أنا قدمنا بلاد حمص، وبها من المشركين عدد كبير"، ثم يصف كيف طلبوا الصلح من المسلمين: "وأذعنوا بأداء الجزية"، ويتابع "فقبلنا منهم وكففنا عنهم، وفتحوا لنا الحصون، واكتتبوا منا الأمان"، كما أخبره بأن الجيش الإسلامي سيتوجه نحو الشمال لمطاردة هرقل.
والواقع أن أبا عبيدة خطط لاستئناف التوسع نحو الشمال حيث بات الطريق مفتوحًا أمامه، وتشاور مع خالد في ذلك، فاستقر الرأي على فتح منطقة شمالي بلاد الشام بما فيها أنطاكية وحلب ومطاردة الإمبراطور البيزنطي، فأرسل ميسرة بن مسروق العبسي إلى حلب، في حين خرج هو من حمص لاستكمال فتح قطاعها، واصطحب معه خالدًا، واستخلف عبادة بن الصامت على المدينة، فوصل إلى حماة، فصالحه أهلها على الجزية في رءوسهم، والخراج على أرضهم. ومضى نحو شيزر، فخرج أهلها وصالحوه على ما صالح به أهل حماة، وتابع تقدمه حتى بلغ معرة النعمان ففتحها، ثم أتى أفامية فأذعن له أهلها بالجزية والخراج، وبهذه الفتوح أتم المسلمون فتح بلاد الشام الوسطى [9].
كان من رأي عمر أن يستقر المسلمون في حمص حتى نهاية الحول قبل أن ينطلقوا نحو الشمال، لذلك استدعى أبو عبيدة ميسرة، ووزع قواته على مختلف نواحي بلاد الشام لضبط أمورها بعد أن استتب الوضع الميداني للمسلمين، وليعطوا سكان البلاد طابع الدولة الجديدة، واستقر هو في حمص وأرسل خالدًا إلى دمشق ليقيم بها، وكلف عمرو بن العاص أن يقيم في فلسطين.
وهكذا أمر عمر أن تتوقف حركة الفتوح في بلاد الشام ذلك العام، ولعل ذلك علاقة بالمدى الذي وصلت إليه الأوضاع العسكرية على الجبهة الفارسية، حيث كان سعد بن أبي وقاص يستعد للاصطدام بالفرس في القادسية، فرأى عمر أن يركز جهوده على هذه الجبهة، ثم يرى رأيه بعد ذلك [9].
[1] كلير: ص294، 309. الطبري: ج3 ص436، 437.
[2] تاريخ خليفة بن خياط: ص65. ابن كثير: ج7 ص115.
[3] ابن عساكر: ج16 ص264. البلاذري: أنساب الأشراف: ج10 ص210، الواقدي: ج1 ص96.
[4] ابن كثير: ج7 ص117 – 118.
[5] الأزدي: ص105. البلاذري: ص122 – 123. الطبري: ج3 ص434، 438 - 448، ابن الأثير: ج2 ص270. كمال: ص318.
[6] الطبري: ج3 ص598، 599.
[*]يرى بعض المؤرخين أن فتح دمشق تم قبل اليرموك "البلاذري"، ويرى البعض الآخر أنه تم بعدها "الطبري"، ويرى البعض الثالث "معظمه من المستشرقين، والمؤرخين الأجانب" أن العرب فتحوا دمشق مرتين: الأولى قبل اليرموك والثانية بعدها، وقد اعتمدنا رواية البلاذري؛ لأنها أقرب إلى واقع الأحداث مع الملاحظة بأن دمشق فتحت مرة واحدة فقط.
[7] فتوح البلدان: ص127 – 128. الواقدي: ج1 ص70. الطبري: ج3 ص438 – 440. ابن كثير: البداية والنهاية ج7 ص71.
[8] البلاذري: ص136، 137. تدمري، عمر عبد السلام: لبنان من الفتح الإسلامي حتى سقوط الدولة الأموية ص30. تردد ذكر الفرس في مدن أخرى لا سيما حمص التي ذكر البلاذري أن معاوية نقل قومًا من فرسها إلى صور وعكا، البلاذري: ص124.
[9] الأزدي: ص146. الطبري: ج3 ص599، 600. البلاذري: ص136، 137، كمال: ص398-400. يروي الطبري أن بعض الحمصيين صالح على صلح دمشق على دينار، وطعام على كل جريب أبدًا أيسروا أو أعسروا، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد حاله زيد عليه، وإن نقص نقص، وهذا من عدل المسلمين، المصدر نفسه: ص600.