فتح بيت المقدس والعهدة العمرية
لا شك بأن استسلام بيت المقدس (إيلياء) للمسلمين له علاقة بالمدى الذي وصلت إليه التطورات السياسية والعسكرية والاجتماعية في بلاد الشام آنذاك في ظل الصراع الفارسي البيزنطي الإسلامي، وعلى ضوء نجاح المسلمين في السيطرة على معظم المنطقة، والجدير بالذكر في صراع القوة الثلاثي هذا، أن البيزنطيين كانوا الطرف الأضعف، على الأقل في نظر المسلمين، والمعروف أن هؤلاء لم يهاجموا بيت المقدس في بادئ الأمر، ففي حروب الصحراء يسعى البدو عادة إلى مهاجمة الحواضر التجارية التي يترددون عليها، للسيطرة عليها أولًا.
مكانة بيت المقدس عند المسلمين
ومهما يكن من أمر، فقد عرف العرب بيت المقدس منذ العصر الجاهلي، وقرن الإسلام نفسه، عند ظهوره، بها، إذ إن حرمتها وأهميتها البالغة عند المسلمين، أمر لا يرقى إليه الشك، إنها مدينة الرسل وأولى القبلتين، والمدينة التي أسري إليها النبي محمد صل الله عليه وسلم، وصعد منها إلى السماء في حادثة المعراج، فكانت مركز جذب روحي كبير، وإن فتحها كان هدفًا يحمل في طياته تحديًا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى.
شكلت بين المقدس القاعدة البيزنطية الهامة، ومركز تجمع البيزنطيين الذين فروا من الواقع التي هزمت فيها جيوشهم مثل أجنادين وحمص وقنسرين واليرموك وغيرها، كما كانت ملجأ للذين خرجوا من المدن التي فتحها المسلمون ورفضوا البقاء فيها مثل دمشق، وكان الأرطبون وهو أحد القادة البيزنطيين، من بين الذين التجأوا إليها، وقاد عملية المقاومة ضد المسلمين [1] (الأرطبون: رتبة عسكرية، ولقب للقائد الأعلى للجيش البيزنطي الذي يلي هرقل في المكانة).
أحداث حصار بيت المقدس ونتائجه
قاد عمرو بن العاصعملية حصار مدينة القدس بوصفه قائد الجبهة الفلسطينية في الوقت الذي كان فيه أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد يفتحان شمالي بلاد الشام، وقد واجه مقاومة ضارية من جانب حاميتها وسكانها، ووجد مشقة بالغة في امتصاص الهجمات البيزنطية، فأرسل إلى الأرطبون يطلب منه التسليم مثل بقية المدن، ووعده بالأمان.
واستعمل البيزنطيون المجانيق من فوق الأسوار لضرب المواقع الإسلامية، فسببت أضرارًا بالأرواح والمعدات، وعانى المسلمون من مصاعب طبيعية قاسية، فقد بدأ الحصار في شتاء عام "636 - 637م"، وكان البرد قارسًا، وكثر انهمار المطر، وتساقط الثلج، فاستغل الأرطبون سوء الأحوال الطبيعية التي لم يتعود عليها المسلمون، ورفض الدخول في الصلح، وأطال أمد الحرب، وشدد ضرباته ضدهم وهو يأمل أن يلحق بهم الهزيمة، أو يضطرهم إلى فك الحصار عن بيت المقدس.
اضطر عمرو بن العاص، في هذه الظروف القتالية الصعبة، أن يكتب إلى عمر في المدينة يطلب منه المساعدة، ويستعين برأيه: "إني أعالج حربًا كئودًا صدومًا، وبلادًا أدخرت لك، فرأيك".
استجاب عمر بن الخطاب لطلب المساعدة، وتصرف على ثلاثة محاور:
الأول: فقد أمده بمدد من عنده، وأرسل إلى أبي عبيدة لينجده، وكان قد فرغ لتوه من تطهير شمالي بلاد الشام، فغادر المنطقة ونزل في الجابية، وقد صحبه خالد بن الوليد.
الثاني: قرر المجيء إلى بلاد الشام ليكون قريبًا من مجرى الأحداث، وهذا يعني أنه أولى فتح بيت المقدس عناية خاصة نظرًا لأهميتها الدينية والروحية عند المسلمين.
الثالث: فقد أرسل إلى يزيد بأن يبعث أخاه معاوية قيسارية، وتبدو خطة عمر واضحة في أن يستغل البيزنطيين في أكثر من جبهة في وقت واحد لإضعافهم، وحتى لا يمدوا يد العون لأهل بيت المقدس، فنزل معاوية بن أبي سفيان بجنوده على قيسارية وحاصرها.
تسلم أبو عبيدة بن الجراح فور وصوله قيادة القوات الإسلامية، فارتفعت معنويات الجند، وتسرب في المقابل الخوف والقلق إلى قلوب المدافعين، وبخاصة بعد أن فشلوا في إلحاق هزيمة مؤكدة بقوات عمرو، كما أن سقوط المدن المحيطة ببيت المقدس كان له أثره السلبي على معنوياتهم؛ لأنهم حرموا من الإمدادات، ولو أتتهم نجدة من هرقل، وعلموا أن عمر في طريقه إلى المنطقة، فأدركوا عندئذ أن مدينتهم لن تستطيع الاستمرار بالمقاومة، وأن سقوطها أضحى مسألة وقت، فانسحب الأرطبون مستخفيًا في قوة من الجند إلى مصر، وتسلم البطريك العجوز صفرونيوس مقاليد الأمور في المدينة، فأصلح استحكاماتها، وشحذ همم سكانها في محاولة أخيرة للصمود، وأجبرهم الحصار الطويل الذي استمر أربعة أشهر على البقاء داخل أسوار مدينتهم، لكن القتال بين الطرفين لم يتوقف خلال تلك المدة.
وعرض أبو عبيدة على البطريك ثلاثة شروط هي: اعتناق الإسلام، أو استسلام المدينة ودفع الجزية، أو تدمير المدينة. كان اعتناق الإسلام بالنسبة إلى سكان بيت المقدس آنذاك أمرًا صعبًا بل مستحيلًا، كما أن التجربة التي مرت بها المدينة قبل نحو خمسة وعشرين عامًا حين دمرها الفرس، جعلت المقاومة للقوات الإسلامية المحاصرة ومن ثم تعريض الأماكن المقدسية للدمار أمرًا مرفوضًا أيضًا، لذلك اختار البطريرك استيلام المدينة على أن يسلمها إلى عمر بن الخطاب، وكان قد علم بنزوله في الجابية، وقد رأى في الاستسلام حماية للمدينةولأماكنها المقدسة من الدمار من ناحية، ومنع سقوطها في أيدي اليهود المناوئين له من ناحية أخرى [2].
العهدة العمرية وصلح بيت المقدس
تتباين روايات المصادر التاريخية التي تتحدث عن اتفاق، ولا بد لنا من أن نذكر شيئًا عن الأسلوب الذي يختاره المرء لكي يفسر تلك الروايات؛ لأن البحث فيها هو جزء مهم في فهم مضمون العهدة العمرية، وهي وثيقة الصلح التي أعطيت إلى سكان بيت المقدس، والعصر الذي دونت فيه، ويمكن تصنيف روايات المصادر إلى قسمين: قسم لا يذكر نصًا للمعاهدة وإنما يذكر فحواها بالأسلوب السردي، وقسم يذكر نص المعاهدة.
القسم الأول: إن أسبق روايات هذا القسم ما رواه الواقدي والبلاذري ثم ابن الأثير وأبو الفدا
فقد روى الأول (الواقدي) روايتين بشأن الصلح، فقال في الأولى: إنه لما قدم عمر إلى بيت المقدس، ونظر إليه أهلها، وتأكدوا أنه هو "وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق، والذمة ويقرون له بالجزية، ثم نزل إليهم وقال: ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة، والعهد إذ سألتمونا وأقررتم بالجزية"، وروى في الثانية: "وارتحل عمر من بيت المقدس بعد أن كتب لأهلها كتابا أي عهدًا، وأقرهم في بلادهم على الجزية".
وروى الثاني (البلاذري) أيضًا روايتين، ذكر في الأولى: "ثم طلب أهل إيلياء من أبي عبيدة الأمان، والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية، والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء فأنفذ صلح أهلها، وكتب لهم به".
وذكر في الرواية الثانية أن بيت المقدس سلمت إلى ابن ثابت الفهمي، وهو قائد مغمور، بشرط صريح وهو أن تكون المناطق الواقعة خارج المدينة في أيدي المسلمين، أما المدينة نفسها فلا يطالها أذى ما دام أهلوها يدفعون الجزية المفروضة عليهم، ويضيف أن عمر كان في المدينة المنورة وقت سقوط بيت المقدس، وأنه زارها بعد وقت قصير من فتحها عندما جاء إلى الجابية.
وأشار كل من الثالث (ابن الأثير) والرابع (أبو الفدا) إشارة عابرة إلى فحوى الصلح.
القسم الثاني: تنقسم روايات هذا القسم إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: روت مصادرها نصوص المعاهدة بين عمر بن الخطاب وأهل بيت المقدس، لكنها جاءت مختصرة، ولا تختلف في مضمونها عن روايات القسم الأول اختلافًا جوهريًا، وهي على مثل صلح دمشق والمدن الشامية الكبرى. ويذكر في هذه الفئة كلًا من اليعقوبي وسعيد بن البطريق.
فقد ذكر الأول (اليعقوبي) أن عمر كتب إلى أهل إيلياء كتابًا جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تسكن ولا تخرب إلا أن تحدثوا حدثًا عامًا، وأشهد شهودًا".
وروى الثاني (سعيد بن البطريق): "بسم الله، من عمر بن الخطاب لأهل مدينة إيلياء، أنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم، وكنائسهم ألا تهدم ولا تسكن، وأشهد شهودًا".
الفئة الثانية: إن روايات هذه الفئة طويلة، وذات قيود جديدة وتتناول الوجود اليهودي في بيت المقدس، وتمثل هذه الفئة رواية الطبري، أما النص فهو: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم؛ ومن أقام منهم فهو آمن؛ وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى وبيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم؛ ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل أيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم؛ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذين عليهم من الجزية، يشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة".
الواضح أن نص الطبري يتوافق مع نصوص روايات الفئة الأولى في إعطاء أهل بيت المقدس الأمان لأنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، إلا أنه يزيد المعنى إيضاحًا وتفصيلًا بعبارات، وقيود جديدة لم ترد في النصوص السابقة، ويمكن رصد القيود الجديدة التالية:
1- اشتراط أهل بيت المقدس على عمر ألا يسكن معهم في القدس أحد من اليهود.
2- تنظيم إقامة الموجودين في بيت المقدس، أو خروجهم منها، وقد تمثل هذا في:
أ- اشتراط المسلمين على أهل بيت المقدس الأصليين أن يخرجوا منها الروم واللصوص.
ب- منح أهل بيت المقدس حرية البقاء فيها، أو الخروج منها مع الروم.
ج- منح بقية الموجودين في بيت المقدس من سائر الأجناس حرية البقاء فيها بحيث يطبق عليهم ما يطبق على غيرهم من شروط الصلح، أو الخروج منها.
3- جاء نص الصلح عند الطبري مؤرخًا بسنة خمس عشرة.
إن قراءة متأنية لهذه الزيادات، والقيود تطلعنا على المعلومات التالية:
- إن اشتراط أهل بيت المقدس ألا يسكن معهم بها أحد من اليهود لم يتأيد بروايات أخرى، ويبدو أنه مناف للواقع، إذ لم يؤثر عن عمر بن الخطاب أنه أخرج اليهود من بيت المقدس، أو منعهم من السكن فيها، وأن الإشارة الواضحة إلى إقصاء اليهود عنها في الاتفاق تدل على أن النصارى أرادوا أن تظل بيت المقدس مدينة نصرانية، وتذكر معظم المصادر أن أهالي بيت المقدس -والمفهوم أنهم نصارى لعدم وجود حضور يهودي فاعل آنذاك في بيت المقدس- قد عقدوا اتفاقًا مع المسلمين.
ويذكر اليعقوبي في هذا الصدد: "واختلف القوم في صلح بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: صالح النصارى، والمجمع عليه النصارى"، والراجح أن روايات يهودية دخلت في أخبار التاريخ الإسلامي قادها كعب الأحبار لإثبات الحضور اليهودي ليس في فتح بيت المقدس فحسب، بل وفي فتوح بلاد الشام أيضًا، ويفهم من مواقف الطرفين أن كلًا منهما نظر إلى المسلمين على أنهم وسطاء بينهما، فحاول استغلال الفتح الإسلامي، ونظر إليه، وكأنه خير وفرصة يستغلها، ويستخدمها لحماية نفسه ولخلاصه، فخلاص النصارى الوطنيين من الروم البيزنطيين، واليهود من النصارى بعامة، الشرقيين منهم والغربيين، والمعروف أن اليهود في بلاد الشام يكنون البغضاء للبيزنطيين، وقد بلغت ذروة التباغض بينهما في عهد هرقل الذي حرم على اليهود السكن في بيت المقدس، وثار هؤلاء ضد الحكم البيزنطي في عدة أماكن، منها أنطاكية وصور؛ لذلك تعاون اليهود مع الفرس في الماضي، واتفقوا مع الأرمن والنساطرة القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، على التعاون معهم أيضًا وتسليم المنطقة للفرس، وقد حققوا هذا الأمر، لقد كان رد الفعل اليهودي تجاه الفتح الإسلامي إيجابيًا من حيث أنه قضى على حكم البيزنطيين في فلسطين، وأن ما ورد في بعض نصوص النبوءات اليهودية يكشف عن ذلك بجلاء.
- إن اشتراط عمر على أهل بيت المقدس أن يخرجوا منها الروم واللصوص، جاء بعبارة يكاد ينفي آخرها أولها، إذ إن أول الرواية يفيد بوجود إخراج الروم، إلا أنها تخيرهم بعد ذلك بين الخروج أو الإقامة مع أداء الجزية.
- إن إعطاء الأجناس الأخرى حرية البقاء ودفع الجزية أو مغادرة المدينة، جاء بعبارة لا يمكن معها التنفيذ، إذ قال: "ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان"، هكذا بصيغة المجهول دون ذكر اسم فلان هذا، أو ما يدل عليه أو تاريخ مقتله، ولما لا يمكن تحديد من ينطبق عليهم هذا الوصف، فلا يمكن التنفيذ، ويستحيل أن يكون هذا نصًا في معاهدة ملزمة.
- إن تحديد تاريخ الصلح بسنة خمس عشرة أمر لو صح لقطع الخلاف في تاريخ فتح بيت المقدس، والمعروف أن الخلاف في تاريخ الفتح كان قبل الطبري واستمر بعده، والمعروف أيضًا أن المسلمين لم يبدأوا التاريخ الهجري إلا سنة ست عشرة، وبناء عليه فلا يمكن أن تؤرخ وثيقة قبل هذه السنة بالتاريخ الهجري مما يدل على أن هذا التاريخ ملحق بالوثيقة، وليس أصليًا فيها.
والجدير بالذكر أن جميع روايات المصادر السابقة تتفق على تحديد طرفي العقد بـ عمر بن الخطاب، وأهالي بيت المقدس، وأن العهد بين الطرفين عقد في الجانبية مكان نزول عمر رضي الله عنه.
الفئة الثالثة: رواية المصادر اليونانية التي نشرتها البطريركية الأرثوذكسية في القدس في عام 1952م
وهي مؤرخة في العشرين من شهر ربيع الأول عام 15هـ، تعد هذه الوثيقة من أبرز النصوص التي تناولها التغيير والزيادة، وهي على طولها تعكس الأسلوب الكنسي في الكتابة الذي يبدو واضحًا، وتركز على الصلة الشخصية بين عمر بن الخطاب والبطريرك صفرونيوس، وكلاهما رجل تقوى وصلاح، وأن لهذه الصلة ارتباطًا كبيرًا باستسلام المدينة، وتسليمها والمسلك الذي رافق التسليم، إذ عندما قرر البطريرك الاستسلام وتسليم المدينة إلى عمر نفسه، أرسل إليه رسالة بهذا المعنى، وكان في الجابية، ودعاه للقدوم، وعندما تسلم عمر الرسالة توجه من فوره إلى بيت المقدس، وخيم عند جبل الزيتون، وهناك اجتمع بالبطريرك حيث وقعت وثيقة استسلام بيت المقدس، وتقدم عمر بعدها لدخول المدينة.
سأكتفي بعض أهم نقاط الصلح كما وردت في النص، مستشهدًا بالكثير من عباراته:
- أعطى عمر بن الخطاب عهدًا للبطريرك صفرونيوس بالأمان "للرعايا، والقسوس، والرهبان والراهبات حيث كانوا، وأين وجدوا"، والواقع أن هذا ما جرى عليه المسلمون في معاملتهم لأهل الذمة.
- أعطى عمر بن الخطاب الأمان "عليهم، وعلى كنائسهم، ودياراتهم، وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلًا وخارجًا، وهي القمامة وبيت لحم، ومولد عيسى عليه السلام كنيسة الكبرا، والمغارة ذات الثلاثة أبواب، قبلي وشمالي وغربي"، وهذا أيضًا ما جرى عليه المسلمون في معاملتهم لأهل الذمة.
- يكون "بقية أجناس النصارى الموجودين هناك، وهم الكرج والحبش، والذين يأتون للزيارة من الإفرنج والقبط، والسريان، والأرمن، والنساطرة، واليعاقبة والموارنة، تابعين للبطريرك المذكور، ويكون هو متقدمًا عليهم". ويعد هذا النص بالغ الإيجابية، والقوة في يد صفرونيوس ومن يأتي بعده؛ لأنه أعطى بطريرك بيت المقدس الرسولي اليد العليا على سائر النصارى من مقيمين وزوار، وجعل له السلطان عليهم، وقد يلقي ذلك ضوءًا على أنه وضع لاحقًا لوضع حد للخلافات المذهبية على الرئاسة الروحية لكنيسة القيامة، ثم نسب إلى عمر بن الخطاب لإكسابه أهمية، واستعماله حجة على أن الرئاسة للطائفة الأرثوذكسية على مر الأيام.
- إعفاء نصارى بيت المقدس من دفع "الجزية، والغفر، والواجب من كافة البلايا في البر والبحور، وفي دخلوهم للقمامة وبقية زياراتهم لا يؤخذ منهم شيء"، ويعد هذا النص وثيقة مهمة في يد سكان بيت المقدس الأصليين، لقد استثناهم من دفع الجزية، ذلك الحكم الذي جرى عليه عمل المسلمين في سائر فتوحهم، والملاحظ أننا لم نجد أي رواية تاريخية تستثني نصارى فلسطين بعامة وبيت المقدس بخاصة من دفع الجزية، مما يفسر على أنه وضع لاحقًا لتمييز سكان بيت المقدس عن النصارى بعامة.
- "وأما الذين يقبلون إلى الزيارة إلى القمامة، يؤدي النصراني إلى البطرك درهم وثلث من الفضة"، لقد أعطي هذا النص البطريرك ومن خلاله نصارى بيت المقدس الملكية المطلقة للأماكن المقدسة في المدينة وما يجاورها، وأذن لهم بجبابة درهم وثلث من الفضة من كل نصراني يزور كنيسة القيامة، والراجح أن هذا النص وضع لاحقًا أيضًا لقطع الخلافات المذهبية على الرئاسة الروحية لكنيسة القيامة.
ويذكر بأن هذه الرواية خالية من أي إشارة إلى اليهود، أما تاريخ توقيع العهدة العمرية، فهو شهر "محرم 17هـ/ فبراير 638م".
هل تدل هذه الامتيازات على أن عمر بن الخطاب ائتمن النصارى للحفاظ على حرمة الأماكن المقدسة؛ لأنهم كانوا الأكثر عددًا بين سكان المدينة والأكثر تجانسًا؟
لا شك بأن العهدة العمرية أظهرت كرمًا بالغًا مع النصارى لم يتهيأ لهم في التاريخ، ولم يكن لهم رجاء في مثله، وهي في حد ذاتها ظاهرة ملفتة، ومميزة في العلاقات المتبادلة بين الأديان، وتكشف لنا جوانب مهمة عن طبيعة التفاهم بين المسلمين والنصارى، ونوع العلاقات بينهما في تلك الحقبة من الزمن.
وأيًا كان أمر العهدة العمرية، وعلى الرغم من التباين في نصوص روايات المصادر وألفاظها، فمن المؤكد أن لها صلبًا تاريخيًا، وأن فحوى الروايات تتفق على سماحة المسلمين ورعايتهم للحرمات الدينية، بما يتفق مع السياق العام للمعاهدات الإسلامية مع أهل الذمة [3].
دخول عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس
دخل عمر بن الخطاب وأصحابه إلى بيت المقدس بعد عقد الصلح، ورافقهم البطريرك صفرونيوس يدلهم على آثارها، وأماكن الحج فيها، ثم دخلوا كنيسة القيامة، وجلسوا في رواقها، وهو ردهة مسقوفة أمام مدخلها الرئيسي، وأدرك عمر وقت الصلاة، فطلب البطريرك منه أن يصلي بها فهي من مساجد الله. والواضح أن البطريرك فهم حاجة عمر إلى الصلاة، ورأى وهو المتزهد، أن أي مكان يصلح للصلاة، لذلك عرض عليه أن يصلي في رواق الكنيسة حيث كانا يجلسان، أو في داخل الكنيسة نفسها، لكن عمر اعتذر بأنه إن يفعل سوف يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا فإنهم سوف يضعون يدهم عليها، ويحرمون النصارى منها، ويخالفون عهد الأمان. واعتذر عن الصلاة في كنيسة قسطنطين المجاورة للسبب نفسه.
ثم خرج إلى درجات بوابة الجهة الشرقية من هذه الكنيسة الثانية، إلى جانب طريق "كاردو مكسيموس" المزدحم وصلى منفردًا، ثم أعطى عهدًا للنصارى ألا يصلي المسلمون على عتاب الكنائس جماعة، ولكن فرادى وألا يجتمعوا هنا لصلاة جماعية، وألا يدعوهم إلى صلاة الجماعة مؤذن، كانت هذه البادرة تعبر عن رغبة كريمة، وجدت في ظروف خاصة، ومهما يكن من أمر، فقد بنى المسلمون لاحقًا مسجدًا في المكان الذي صلى فيه عمر، وسموه باسمه، فهو "مسجد عمر" أو "جامع عمر"، ولما كانت ظروف الاستسلام قد أعطت النصارى عهد أمان في أداء صلواتهم في كنائسهم، فإنه من المحتمل أن منطقة الهيكل كانت تستعمل كمكان يؤدي فيه المسلمون صلواتهم عند البداية، وشيد المسلمون في هذا المكان من بعد.
وتذكر بعض المصادر أن عمر اصطحب معه اليهود الذين دلوه على المكان الحقيقي للهيكل الذي كان النصارى قد طمسوه عن قصد، فأمر بإزارة ما عليه، واقترح كعب الأخبار، وكان يهوديًا فأسلم، على عمر أن يصلي خلف الصخرة المقدسة، حتى يكون بوضعه هذا مستقبلًا القبلتين، فرفض عمر ما أشار عليه حتى يتجه المسلمون في صلاتهم نحو الكعبة فقط؛ لأنها قبلة المسلمين في كتاب الله، ولعل إبراز دور اليهود هنا جرى من واقع محاولاتهم التدخل في روايات التاريخ الإسلامي بعامة، وروايات فتوح بلاد الشام بخاصة، وإعادة إحياء معالمهم الدينية في بيت المقدس بعد أن طمسها النصارى.
وزار عمر بعد ذلك كنيسة المهد في بيت لحم، ولما أدركه وقت الصلاة صلى بها، ثم إنه خشي أن يتخذ المسلمون من صلاته سنة فيخرجوا أصحابها منها، فكتب للبطريرك عهدًا خاصًا يجعل هذه الكنيسة للنصارى، ويحدد دخول المسلمين إليها بشخص واحد في كل مرة. وبعد أن مكث في بيت المقدس عشر أيام، عاد عمر مع قادة جيشه إلى الجابية لاستكمال مناقشاته ومشاوراته في شئون المسلمين، وتنظيم ما تم فتحه من بلاد الشام.
صلح اللد
انتشر صلح بيت المقدس في المناطق المجاورة، وبفعل ما حصل عليه النصارى بموجبه من امتيازات، تسابقت قرى المناطق في الحصول على صلح مماثل في شروطه، وقد ظفر أهل اللد من عمر بكتاب جرى عليهم، وعلى البلاد التي دخلت من بعد معهم فيه، فأعطاهم أمانًا على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم وصلبهم سقيمهم، وبريئهم وسائر ملتهم، وألا يكرهوا على دينهم، ولا يضار أحد منهم على أن يعطوا من الجزية ما يعطي أهل مدائن الشام [4].
فتح قيسارية
الواقع أن عمليات فتح قيسارية، بدأت حين حاصرها عمرو بن العاص في "جمادى الأولى 13هـ/ يوليو 634م"، لكنه لم يتمكن من فتحها؛ لأن الحصار كان متقطعًا، فكان عمرو يقيم عليها ما أقام، فإذا كان المسلمين اجتماع في أمر عدوهم سار إليهم، فشهد أجنادين وفحل - بيسان، ومرج الصفر ودمشق واليرموك، ثم عاد إلى فلسطين واشترك في فتح بيت المقدس، ثم ذهب إلى مصر بعد ذلك.
وأرسل عمر بن الخطاب إلى يزيد بن أبي سفيان بأن يبعث أخاه معاوية لفتح قيسارية بهدف إضعاف الجبهة البيزنطية، ومنع البيزنطيين من مساعدة سكان بيت المقدس المحاصرين آنذاك، وتولى يزيد حصار المدينة بعد فتح بيت المقدس لكنه مرض أثناء الحصار، فاستخلف عليها أخاه معاوية، وعاد إلى دمشق حيث توفي بها في عام "18هـ/ 639م" متأثرًا بإصابته بطاعون عمواس.
وشدد معاوية الحصار عليها، وجرت مناوشات بين الجيش الإسلامي وحاميتها، لم تسفر عن أي تغيير في الوضع الميداني، ويبدو أن البيزنطيين أرادوا الاحتفاظ بهذه المدينة موطئ قدم لهم على ساحل بلاد الشام الجنوبي، لذلك استماتوا في الدفاع عنها، ولم يتمكن معاوية من فتحها إلا بمساعدة اليهود، ففي إحدى ثوراتهم على الحكم البيزنطي، ثار اليهود في قيسارية، فأرسل هرقل أخاه ثاودووس، فأخضع الثورة وقتل معظم من فيها من اليهود وفر من نجا، كان لهذه الحادثة أثرها الإيجابي على عملية الفتح، فبفعل العداء التقليدي بين اليهود والبيزنطيين، جاء رجل يهودي يدعى يوسف إلى معسكر معاوية، ودله على نفق يصل إلى بوابة القلعة داخل المدينة، فتسللت مجموعة من المقاتلين عبر ذلك النفق، وفتحوا البوابة فدخل منها الجيش الإسلامي، فوجئ البيزنطيون عندما رأوا الجنود المسلمين داخل المدينة، وتولاهم الذعر، ولما أرادوا الفرار عبر النفق، وجدوا جنود المسلمين عليه، فقتل معظمهم، وكان فتحها في شهر "شوال 19هـ/ أكتوبر 640م".
استكمال فتح الأردن
استكمل شرحبيل بن حسنة فتح الأردن، وكان قد دخل أكثره في طاعة المسلمين إثر معركة فحل -بيسان، ففتح سوسية وأنيق وجرش، وبيت رأس والجولان وغلب على سواده وجميع أرضه [5].
[1] دانيال، ساهاس: البطريك صفرونيوس والخليفة عمر بن الخطاب وفتح المقدس، ص56، 57، 59، مقال في كتاب الصراع الإسلامي - الفرنجي على فلسطين في القرون الوسطى.
[2] الطبري: ج3 ص604 - 608. الواقدي: ج1 ص229 – 231.
[3] الواقدي: ج1 ص242 - 244. البلاذري: ص144 - 145. الطبري: ج3 ص609. ابن الأثير: ج2 ص330، أبو الفداء: المختصر في تاريخ البشر ج1 ص160. التاريخ اليعقوبي: ج2 ص37. التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق ص16.
[4] الطبري: ج3 ص608، 611، الواقدي: ج1 ص242.
[5] البلاذري: ص146 – 147.