فتح الأنبار ومعركة ذات العيون
انتهى خالد بن الوليد من تنفيذ الشق الأول من خطة أبي بكر الصديق بغزو العراق من جهة الجنوب، وأقام في الحيرة ينتظر أن يفرغ عياض بن غنم من أمر دومة الجندل، وكانت أول موقع عليه إخضاعه قبل أن يدخل إلى العراق من شماله وصولًا إلى الجنوب، لكنه فشل في اقتحامها، وبالتالي فإنه تأخر في الزحف نحو هدفه، وهو الوصول إلى الحيرة، وكانت أوامر الخليفة صريحة بألا يقتحم المسلمون أرض الفرس، وخلفهم حاميات لهم متحصنين، والمعروف أنه ما زال للفرس حاميات في عين التمر (بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة)، والأنبار والفراض تشكل جميعها خطرًا على ميسرة ومؤخرة أي جيش يتقدم من الحيرة إلى داخل العراق.
دفعت هذه التطورات السلبية خالد بن الوليد على أن يقوم بنفسه بعمل عياض، بعد أن حصل على إذن من الخليفة، فاستخلف القعقاع بن عمرو التميمي على الحيرة، وخرج منها على رأس الجيش متوجهًا إلى الأنبار، وقد تحصن بها أهلها، وحفروا حولها خندقًا، استعدادًا للمقاومة, ولما وصل إليها طاف بالخندق متفحصًا، ثم أمر جنود ببدء القتال، وأوصاهم قائلًا: "إني أرى أقوامًا لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم لا توخوا غيرها"، فرموهم فأصابوا ألف عين، ولذلك سميت المعركة بـ"ذات العيون".
ودبت الفوضى داخل الحصن، وشغل أهله بمن أصيب منهم، فاضطر حاكم الأنبار شيرزاد إلى الاستسلام بعد أن فشل في المقاومة، وكان المسلمون قد طمروا الخندق، واقتحموا الحصن، ووافق شيرزاد على شروط خالد لعقد الصلح لكنه طلب بالمقابل السماح له بالخروج مع مفرزة من الفرسان، فوافق خالد، فخرج إلى المدائن حيث اجتمع ببهمن جاذويه، وشرح له صعوبة الموقف، وكان فتح الأنبار في "4 رجب 12هـ/ 11 سبتمبر 633م" [1]. واستقر خالد في الأنبار، وقدمت عليه وفود من العرب والفرس، ممن يقيمون في الجوار، يطلبون الصلح، فصالحهم.
معركة عين التمر
كان هدف خالد بعد الأنبار حصن عين التمر، حيث اجتمعت فيه قوات فارسية وعربية بقيادة مهران بن بهرام جوبين وعقة بن أبي عقة، فخرج من الأنبار متوجهًا إليه، ولما علم من بداخل الحصن بقدوم المسلمين قرروا بعد مشاورات بينهم أن يتفرد العرب بخوض المعركة على أساس أنها ستجري مع طرف عربي، وأنهم أعلم بأساليب العرب القتالية، فخرجت القوة العربية بقيادة عقة من الحصن، وعسكرت على طريق الكرخ بانتظار وصول القوات الإسلامية في حين بقيت القوة الفارسية داخل الحصن.
ووصل المسلمون إلى المكان، وعقة يعبئ قواته، فقرر خالد مباغتته منفردًا، فاندفع نحوه واحتضنه وأسره، فأثر ذلك على معنويات قواته، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء، ولما رأى مهران ما حل بعقة، وجنوده خشي على نفسه، فغادر الحصن هاربًا مع أتباعه، وتوجه نحو الشمال، واقتحم المسلمون الحصن واستسلم من به، وقتل خالدٌ عقةَ، وقد حدث ذلك في "11 رجب 12هـ/ سبتمبر 633م" [2].
فتح دومة الجندل
تعد دومة الجندل موقعًا حصينًا بين المدينة ودمشق، ولها أهمية تجارية وعسكرية تحث المسلمين على فتحها. ففي ما يتعلق بأهميتها التجارية، فهي بحكم موقعها الجغرافي عند ملتقى الطرق مع المدينة، والكوفة ودمشق، تستطيع أن تتحكم بسير القوافل التجارية. وفي ما يتعلق بأهميتها العسكرية، فهي موقع حصين على الطرف الجنوبي لبلاد الشام المحاذي لمناطق الحدود الشمالية للجزيرة العربية، في الوقت الذي كان فيه للمسلمين وجود عسكري في العراق وبلاد الشام، يتطلب حماية جنوبية قبل توغل جيوشهم في عمق بلاد الشام بخاصة.
كان عياض بن غنم في طريقه إلى دومة الجندل، ولما وصل إليها واجه تكتلًا قبليًا من بهراء، وتنوخ وغسان، وكلب، والضجاعم، فطلب مددًا من الخليفة، فأمده بالوليد بن عقبة الذي جاء من العراق موفدًا من قبل خالد، وضرب المسلمون الحصار على الحصن، وتمكنت قوة عربية من الحلفاء الخروج من الحصن، وحاصرت المسلمين من الخلف، فوقع هؤلاء بين فكي الكماشة، وتخرج موقفهم، فعقدوا مجلسًا للمشورة، وتقرر الاستعانة بخالد، فطلبوا منه القدوم لمساعدتهم، فاستجاب لنداء الاستغاثة.
وصل خالد إلى دومة الجندل في غضون عشرة أيام، فتسلم إمرة الجيش الإسلامي، واشتبك مع قوى التحالف خارج الحصن، وأسفر الاشتباك عن انتصار المسلمين، والواقع أن الخطة العسكرية التي فرضها خالد على المتحالفين، والتي أدت إلى توزيع قواتهم في اتجاهين متعاكسين ومتباعدين، بالإضافة إلى انسحاب أكيدر بن عبد الملك صاحب الحصن من قوى التحالف، بسبب اختلاف وجهات النظر حول التعامل مع المسلمين قد أثر على نتيجة المعركة، واقتحم المسلمون الحصن، وقتلوا من بداخله من المقاتلين، وتم هذا الفتح في "24 رجب 12هـ/ 4 أكتوبر 633م" [3].
معركة الحصيد
أقام خالد في دومة الجندل، وأرسل الأقرع بن حابس إلى الأنبار، فتراجع اندفاع المسلمين في العراق، وقد لاحظ الفرس ذلك، فنهضوا لاستعادة ما فقدوه من مدن وقرى، وطرد المسلمين من المنطقة، وقد نسقوا مع القبائل العربية الموالية لهم، وهكذا خرج جيشان فارسيان من بغداد (كانت بغداد آنذاك قرية في شمال المدائن) باتجاه الأنبار. الأول بقيادة زرمهر، وقد توجه إلى الخنافس (قرب الأنبار)، والثاني بقيادة روزبة، وقد سار إلى الحصيد (واد بين الكوفة والشام).
كان الزبرقان بن بدر حاكم الأنبار (كان الأقرع بن حابس لم يصل إليها بعد) يتتبع تحركات الفرس، وحلفائهم من العرب، فكتب إلى القعقاع بن عمرو في الحيرة، يشرح له الوضع الميداني، فأرسل هذا قوتين عسكريتين إلى الحصيد بقيادة أعبد بن فدكي السعدي، وإلى الخنافس بقيادة عروة بن الجعد؛ لقطع الطريق على الفرس.
لم ير الفرس ما يستوجب الدخول فورًا في معركة، وإنما انتظروا قدوم حلفائهم من عرب ربيعة، فأعطى هذا التباطؤ في التحرك فرصة للمسلمين استغلوها بنجاح، وكان خالد قد عاد في غضون ذلك إلى الحيرة مع عياض بن غنم، فأرسل قوة عسكرية بقيادة أبي ليلى بن فدكي السعدي إلى الخنافس للاصطدام بزرمهر، وأخرى بقيادة القعقاع إلى الحصيد للاصطدام بروزبة، وخرج هو على رأس قوة عسكرية إلى عين التمر تمهيدًا للتدخل عند الضرورة.
فوجئ روزبة بزحف المسلمين، فاستغاث بزرمهر، فأنجده؛ وخاضا معًا معركة خاسرة ضد القوات الإسلامية حيث لقيا مصرعهما، وجرت المعركة في "10 شعبان 12هـ/ 20 أكتوبر 633م" [4].
معركة الخنافس
لجأت فلول الفرس الناجية من معركة الحصيد إلى الخنافس (قرب الأنبار)، فأدى ذلك إلى إلقاء الرعب في قلوب سكانها، ووهنت نفوسهم، وفر بعضهم إلى المصيخ للاحتماء بها، مما سهل مهمة أبي ليلى، فدخلها دون قتال في "11 شعبان 12هـ/ 21 أكتوبر 633م"
فتح المصيخ
أتيح لخالد بن الوليد بعد هذه الانتصارات أن يهاجم المصيخ في محاولة لمنع الحلفاء من الفرس، والعرب من إعادة تنظيم صفوفهم، فاستدعى قادته، وهاجموا البلدة من ثلاثة محاور، وفاجأوا خصومهم وهم نائمون، وذلك في "19 شعبان 12هـ/ 29 أكتوبر 633م".
فتح الثني والزميل (بالجزيرة شرقي الرصافة)
كانتا الهدف التالي بعد المصيخ، فاقتحمهما المسلمون من ثلاثة محاور، ونجحوا في دخولهما، كما وقعت الرضاب (موضع الرصافة قبل بنائها) في أيديهم، وذلك في "23 شعبان 12هـ/ 2 نوفمبر 633م" [5].
معركة الفراض
كانت معركة الفراض آخر أعمال خالد بن الوليد الكبيرة في العراق، فبعد أن بسط سلطان المسلمين على سواد العراق، أراد أن يؤمن حماية مؤخرة جيشه، حتى إذا اجتاز السواد إلى فارس، كان مطمئنًا لما يخلف وراءه، وتقع الفراض على الحدود المشتركة بين البيزنطيين والفرس وعرب الجزيرة، وكان اندفاعه حتى الفراض، توغلًا في أرض يحكمها البيزنطيون مما أثار هؤلاء، كما حقد الفرس والعرب الموالون لهم على المسلمين، فتنادوا للثأر مما حل بهم، وبخاصة تغلب وإياد والنمر، وزحفوا نحو الفراض، وجرى بين الجانبين قتال دموي رهيب في "15 ذي القعدة 12هـ/ 21 يناير 634م"، انتهى بهزيمة الحلفاء [6].
رحيل خالد للشام وقيادة المثني
حتى وفاة أبي بكر جرت في سواد العراق غارات ومناوشات عديدة بين المسلمين وبين الفرس ومن ساندهم من العرب المتنصرة القاطنين هناك، لكن هؤلاء عجزوا عن وقف هجمات المسلمين كما كان عليه الحال مثلًا في معركة عين التمر، وكانت الفرق الإسلامية تجوب أراضي السواد مغيرة على هذه القرية أو تلك.
لكن في المدة، بين رحيل خالد بن الوليد ووفاة أبي بكر لم تحدث إلا اصطدامات محدودة، بفعل أن جيش العراق ضعف بغياب خالد (الذي توجه لنجدة المسلمين في اليرموك ببلاد الشام)، وبخاصة أنه فصل معه أكثر من نصف القوات، وانهمك الفرس في المقابل في الصراعات الداخلية، والتنافس على الحكم، مما أدى إلى ركود الجبهة العراقية، واضطر المثنى بن حارثة (القائد الجديد) على الرغم من براعته القتالية، أن ينكفئ إلى الحيرة، وتحصن بها، إلا أنه احتفظ بكل ما غنمه المسلمون من سواد العراق.
صحيح أن المثني انتصر على جيش فارسي في بابل، وجهه شهربراز بن أردشير بقيادة هرمز جاذويه في "أواخر ربيع الأول 13هـ/ أواخر مايو 634م"، إلا أنه تحصن بعد انتصاره في مواقعه الأولى خشية أن يباغت مدركًا في أنه لن يستطيع التقدم، وإن استطاع المقاومة، بل تصبح المقاومة مستحيلة إذا تكتل الفرس، والعرب الموالون لهم مرة أخرى، فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يحتفظ بالإنجازات المحققة، فكيف إذا قرر التقدم؟!
لذلك كان لا بد من تعزيز القوة الإسلامية الموجودة تحت تصرفه، فغادر العراق إلى المدينة ليبحث مع أبي بكر في الوضع الميداني على الجبهة العراقية، ويقدم له مشروعًا جديدًا للتعبئة العامة من واقع تجنيد من ظهرت توبته من أهل الردة، وعندما وصل إليها وجد أبا بكر مريضًا، ولما أفضى إليه ما جاء من أجله، استدعى أبو بكر عمر وأوصاه بندب الناس مع المثنى إذا توفي [7].
وما كاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرغ من دفن أبي بكر بعد وفاته رضي الله عنه حتى دعا الناس إلى التطوع لحرب الفرس مع المثنى بن حارثة رضي الله عنه.
[1] البلاذري: ص247، الطبري: ج3 ص373 - 375.
[2] الطبري: ج3 ص376، 377.
[3] الطبري: ج3 ص378 - 379.
[4] الطبري: ج3 ص380.
[5] الطبري: ج3 380 - 383.
[6] الطبري: ج3 ص383 - 384.
[7] الطبري: ج3 ص411.