الإنسان كائن مزدوج التكوين
سأبدأ ببيان طبيعة الإنسان المزدوجة في تكوينه الأصلي الذي جمع الله فيه بين المادة والروح، أو الجانب العلوي والسفلي، وفي استعداده للخير والشر، والفجور والتقوى، والشكر والكفر، والسمو إلى مدارج الكمال البشري، والانحدار إلى أدنى المستويات، ثم أنتقل إلى الحديث عن العقيدة، وبعض آثارها النفسية، ثم أختم بإبراز الآثار النفسية والروحية للعبادة.
الحديث عن الآثار الطيبة للعبادة، وفضلها على حياة الإنسان النفسية والروحية، يقتضى معرفة طبيعة تكوينه، لأننا إذا علمنا أنه مخلوق مزدوج التكوين والاستعداد، علمنا أن حاجته إلى العبادة لا تقل حيوية عن حاجته إلى الماء والطعام وسائر الحاجات الحيوية. وبعبارة أوضح، علمنا أن حاجته إلى التغذية الروحية لا تقل عن حاجته إلى التغذية المادية الجسدية.
إن الإنسان كائن مزدوج التكوين، خلقه الله من طين الأرض، نفخ فيه من روحه قال الله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [1] أي: كل مخلوق خلقه الله، فإن الله أحسن خلقه، وخلقه خلقًا يليق به، ويوافقه، فهذا عام، ثم خص الآدمي لشرفه وفضله فقال: ﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ وذلك بخلق آدم عليه السلام، أبي البشر. ﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ﴾ أي: ذرية آدم ناشئة ﴿ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ وهو النطفة المستقذرة الضعيفة. ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ ﴾ بلحمه، وأعضائه، وأعصابه، وعروقه، وأحسن خلقته، ووضع كل عضو منه، بالمحل الذي لا يليق به غيره، ﴿ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾ بأن أرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، فيعود بإذن الله، حيوانا، بعد أن كان جمادًا[2]. لقد خلق الله الإنسان من عناصر طين الأرض، وهي عناصر مادية يستوى فيها الإنسان مع غيره، ثم نفخ فيه من روحه، والروح عنصر نوراني علوي، صادر عن نور الله، هذا العنصر هو الذي منح الإنسان خصائصه الإنسانية، وهو الذي جعله مستعداً للسمو الروحاني، والارتقاء في مدارج الطاهرين، وجعله قادرا ًعلى أن يعيش بجسده على الأرض، وأن ينطلق بروحه إلى آفاق الملإ الأعلى.
لكن هناك موانع تمنع الإنسان من السمو الروحي، منها الانسلاخ من آيات الله والإخلاد إلى الأرض ومتاعها المادي، واتباع الهوى وحرمان النفس من الغذاء الروحي. قال الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [3] ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي على قومك أو على اليهود ﴿ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ ﴾ أي علم الكتاب، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني، وصار عالما بها ﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ بأن نزع العلم عنه فكفر بها، وخرج منها خروج الحية من جلدها ﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ أي فلحقه وأدركه وصار قرينا له حتى أضله ﴿ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾. ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ أي لعظمناه بالعمل بها ﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ أي مال إلى الدنيا، ورغب فيها ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ﴾ وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات، والتكليف بها، والتعظيم من أجلها، وعدم ذلك. كالكلب يدلع لسانه بكل حال، إن تحمل عليه، أي تشدّ عليه وتهيجه، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه، فلهثه موجود في الحالتين جميعا ﴿ لِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾ أي من التوراة أو غيرها ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [4]. فقد نصت الآية على أن الانسلاخ من آيات الله، والإخلاد إلى الأرض ومتاعها المادي، واتباع الهوى، هي الموانع التي حالت دون ارتفاع هذا الإنسان، فمثَّله الله بالكلب، وهو في حالة العطش الشديد، أو السعر، فهو لا يدري شيئاً من حوله، ولا يرد بالاً إلى صاحبه، سواء حمل عليه، أم لم يحمل، إنما هو اللهث المستمر، ولا يوقفه عن ذلك إلا أن يروي عطشه بالماء. فالإيمان للإنسان لا غنى عنه، فإذا انقطع، ضل الإنسان وقصـرت بصيرته، وخرج عن كل ما هو مألوف فيه من صفات حميدة.
والقرآن يسوي بين الإنسان الذي ينغمس في الحياة المادية ويكفر بآيات الله، وبين الأنعام. بل يجعله أدنى منها. قال تعالى: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [5] ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هلاكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء، فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضلال أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه[6]. وقال عز وجلّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [7] أي: في دنياهم، يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام، خضما وقضما وليس لهم همة إلا في ذلك. ولهذا ثبت في الصحيح: ((المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء))، ثم قال: ﴿ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ أي: يوم جزائهم[8]. ومثل الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا، كمثل الأنعام من البهائم التي لا همَّ لها إلا في الاعتلاف دون غيره، ونار جهنم مسكن لهم ومأوى، ويستفاد من كل هذا، أن الإيمان بالله والاهتداء بآياته واتباع منهجه وامتثال أمره، هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للإنسان للانعتاق من قيود المادة وجاذبيتها، ولإيجاد التوازن في حياته وكيانه بين مطالب الجسد ومطالب الروح.
[1] [السجدة: 6 - 9].[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(ج1 - ص 653).[3] سورة الأعراف:175-176.[4] محاسن التأويل (ج 5 - ص 223).[5] سورة الفرقان:44.[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ج1 - ص 584).[7] سورة محمد:12.[8] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ج7 - ص 311).